منذ مطلع القرن العشرين طرحت قضية الاستعمار الصهيوني لأرض فلسطين وما رافقها من عنف وجرائم ودوس للحقوق على البشرية، إحدى أهمّ التحدّيات للضمير والوعي والقناعات. وقد شكل النقد الأخلاقي والقِيَمي للصهيونية أحد أوّل ردود الفعل التي واجهت من خلالها بعض الأوساط الفكرية والدينية «ولادة الوحش». وكان للمفكر والروائي الروسي ليون تولستوي دور رائد في بعث ذلك التيار النقدي الذي اعتمد فلسفة اللاعنف كمنطلق فكري حلل من خلاله مبادئ الصهيونية مستشرفا المآلات المحتملة لعملها.
وقد تبنى المهاتما غاندي بعض أفكار تولستوي وأقحمها في منظومة نظرية وعملية قارب من خلالها مسألة مقاومة الاستعمار. فقد كانت المنهجية الفكرية التي حلل من خلالها تولستوي الحركة الصهيونية متفاعلة مع ظروف نشأتها وتطورها الأول أما منهجية غاندي فقد برزت عن ظروف تحوّل حركة الاستعمار الاستيطاني إلى دولة استعمارية عنصرية في خدمة مشروع إمبريالي كوني. وقد عرفت فلسفة اللاعنف اهتماما آخر بالقضيّة الصهيونية / الفلسطينيّة (أو الصراع العربي / الفلسطيني – الصهيوني) عبر اهتمام مفكرين وزعماء سياسيين جدد مثل القس مارتن لوثر كينغ، وكان ذلك في ظروف تقدّم المشروع الصهيوني وتجذر انتصاراته في الواقع الجغراسياسي لمنطقة الشرق الأدنى.
ودون الخوض في الجوانب السياسية والاستراتيجيات المتناقضة بخصوص المسألة الصهيونية، يقتصر هذا العرض على إشارات مختزلة إلى صيغ تمثل كلا من المفكر الروسي والزعيم الهندي للمسألة الصهيونية وفق فلسفة اللاعنف.
ليون تولستوي ومسألة اللاعنف
وافقت نهاية حياة ليون تولستوي (1828- 1910) المرحلة التاريخية التي تحوّلت خلالها الحركة الصهيونية من حركة أيديولوجية إلى حركة اجتماعية – سياسية تسعى إلى الالتحام بأجهزة وقوى الاستعمار العالمي من أجل تحقيق أهدافها. وإن لم ينكب صاحب رواية «الحرب والسلم» على دراسة الحركة الصهيونية في جوانبها الفكريّة والسياسية فهو سريعا ما حدّد موقفه النقدي منها معتبرا مشروعها متاهة فكرية وانحرافا سياسيا، وتحريفا دينيّا لروح الديانة اليهودية.
لا يستقيم أن نختزل أثر ليون تولستوي في جانبه الأدبي أو الروحاني أو الاجتماعي أو الديني، بل انه حاصل لكل تلك الجوانب ممزوجة ومتشابكة بصيغ غير متنافرة وإن طغت إحداها على الأخرى في مرحلة ما في حياة المفكر الروسي. وقد كتبت روزا لوكسمبورج أن المنحى النقدي الذي هيمن على فكر وكتابة ليون تولتسوي جعل منه مفكرا اجتماعيا في المقام الأوّل حيث ان القضايا الأساسية للوجود الإنساني والعلاقات بين البشر شكلت محور همومه وإنتاجه وذلك في سياق بحثه عن «الحقيقة» وعن معنى ذلك الوجود (1). وإن أكدت روزا لوكسمبورج على الطابع النقدي وعلى المنحى الاجتماعي في فكر ليون تولتسوى فهي تقرّ بنزعته المثالية التي ما برح يؤكدها في كل كتاباته والمتمثلة في تصوّر التغيير الاجتماعي الضروري كنتيجة لإحياء معنوي متمحور حول المبادئ الدينية والأخلاقية مؤكدة في النهاية أن المثل الاشتراكية هي الملهمة الأولى لفلسفته. وكان نيكولا وإيسباين قد ذهب إجمالا إلى ذات الاستنتاج مؤكدا أن تلك الفلسفة تنهل من منهلين : المسيحية والإشتراكية (2). وإن كان مفهوم صاحب رواية «الحرب والسلم» لكل من ذينك المنهلين مفهوما خاصا وغير تقليدي، فقد اعتبر تولستوي أن «الإشتراكية هي تطبيق المسيحية في المجال الإقتصادي» رغم أنه كان رافضا قطعيا لفلسفة «الاشتراكية العلمية» الماركسية بسبب ميلها للعنف ونفيها للروحانيات. وهو لم يكن مناهضا للثورة مبدئيا، بل انه كان من الدعاة إليها لكن ميله الرئيسي كان لمفهوم الثورة الروحية على أساس مبادئ المسيح وليس الثورة الاجتماعية والسياسية، وذلك هدف ممكن الإنجاز بالنسبة إليه بمجرّد الاحترام الصارم لتعاليم المسيح الذي يتبوّأ – معنويّا – مركزا أعلى من الحاكم والدولة (3).
في مؤلفيه : «ماذا يجب أن نفعل ؟» و«مملكة الرب في ضمائركم» اعتبر تولتسوي الممارسة الصارمة والنزيهة مبادئ المسيح في كلّ جوانب الحياة الفردية والجماعية وبشكل يومي كفيلة بتحقيق السعادة الاجتماعية دون الحاجة إلى وسائل أخرى للتغيير، وهو لا يقحم تلك المقاربة في خانة صهر العامل الديني في مقتضيات الشأن العام، بل انه تمثل ذلك كبحث براغماتي عن حلول للمشاكل الإجتماعية المؤلمة.
من جهة أخرى، تكتسي المسألة الدينية عند ليون تولستوي طابعا خاصا ينجم عن تشابك عناصر مقاربتها حيث انها وإن كانت تطرح في جوهرها مسألة المعرفة، فإنّ الروائي لا يقتنع بآليات العقلانية لفهم وشرح العالم وتقلبات الحياة الفردية والجماعية وعلاقات البشر بينهم – بل انه – في صميم تفكيره – يميل إلى إيلاء العناصر الروحية والنفسية والأخلاقيّة مكانة محدّدة دون أن تكون متعارضة مع النشاط العقلي لذلك نعثر في أدب تولتسوي وبخاصة في رواياته الكبرى على بعض التأملات الفلسفية والنفسية المبثوثة هنا وهناك والتي تعكس في جوهرها رأيه في قضايا حاسمة فكريا ووجوديا (4).
اعتبر تولستوي أن العلم التجريبي هو في جوهره نصف علم لأنه عاجز على تفسير كل الظواهر الموضوعية وأن الفلسفة (علم تأمل) تعرف ذات العجز بسبب مناهجها وموضوعاتها وبسبب يسر سقوطها في المتاهات أو الجزئيات. لذلك استخلص صاحب «الحرب والسلم» أن ملاذ البشر هو الحكمة النابعة من الاستبصار القلبي والتي جسد بعض وجوهها حكماء قدامى مثل سقراط، وسليمان، وبوذا، وشوبنهاور الذين جهدوا في تحديد معنى الوجود والحياة 5 مما يؤكد المأزق الذي تخبط فيه تولتسوي طويلا والذي جسده مؤلفه «نقد الفقه الدغمائي» والذي تأرجح من خلاله بين قطبين جاذبين ومتناقضين : العقلانية الجافة والميل العاطفي الجارف حتى انه وبسبب تلك الثنائية أضفى تولستوي «على اللاهوت طابع الحياة والتجربة وتوجه الروح الحقيقي نحو الحب»(6) محوّلا مدلول مفهوم شوبنهاور المتعلق بـ«إرادة الحياة» إلى مفهوم «الحب» الجارف نحو الرب ونحو الآخر والقادر على إنقاذ العالم، كما جاء في أقوال وأفعال المسيح التي يجب فهمها – حسب تولستوي – في معناها المباشر ودون تأويلات فقهية مركبة تمحو بساطتها وتأثيرها على حياة البشر. لذلك إختار تولستوى القطيعة مع زخرف الحياة المادية وزيفها جاعلا من البساطة المطلقة نمطا لحياته على أساس «الحقيقة» (7) المستوحى من مفهوم «الحقيقة السامية» والدائمة (8) والمجسد لرغبة اللقاء مع الله – حسب رأيه – والذي يختلف جوهريا مع أي نشاط فكري أو علمي تجريبي توهمت العلماوية الحديثة أنه سبيل إنقاذ البشرية من مصائبها (الفقر، الظلم، الحرب، والجهل …) والحال أن كنه ذلك المسعى الإنقاذي يتمثل في ترجيح كفة الخير في كل جوانب ومفارقات الحياة (9). وعلى أساس تلك الاعتبارات (المبسطة والمختزلة) توجه الفكر الاجتماعي والديني لدى ليون تولتسوي نحو معتقد إنسانوي مفتوح على التزهد الروحاني والمتمحور حول مسألة الاقتراب من فهم عميق وشامل للإرادة الربانية ولخبايا مشيئة الله في إدارة حياة البشر ومصيرهم كما تؤكدها صفحات «مذكرات تولستوي الشخصية».
و تولستوي الذي بدأ حياته المهمة في سلك الجيش أصبح في كهولته مناهضا للعنف وللحرب وداعية سلام بين البشر والأمم والدول على أساس عقيدته الدينية (المسيحية غير المحرّفة) حيث أصبحت عقيدة اللاعنف لديه بمثابة المعتقد الديني المؤسس على أرضيّة حماسة أخلاقيّة (10) تنامت لديه على مرّ السنين لتشمل رؤيته لكلّ المسائل الاجتماعية والدينية والسياسية (11) ولتتلخص في النهاية في رفض مقاومة الشر إذا كان مقابل إلحاق الضرر بالآخر …
بعد السنوات التي قضاها تولستوي في تحرير «الحرب والسلم» (1863-1869) و«آنا كرينين» (1873)، تفرغ إلى تحرير «الاعترافات» التي كانت بمثابة التجربة التأملية في فلسفة الدين، ودور الكنيسة ومعنى حياة المؤمن، مكثفا دراسته لكانت وشوبنهاور قبل التوجه إلى فلاسفة أوحكماء شرقيين آخرين مثل باسكال وكونفيسيوس، وبوذا ولاوتسو ليحرّر على أساس تلك المطالعات كتابه التأملي : «في الحياة» (1878) وفيما بعد كتاب «مملكة الرب موجودة فيكم» (1893) الذي شكل أحد أهم روافد تشكل فلسفة اللاعنف لدى غاندي.
وقد أطلق كتاب «مملكة الرب …» أزمة في حياة تولتسوي انتهت بصدور قرار طرده من الكنيسة الأرثوذكسية، ومن صفوف المؤمنين (12) وهو قرار مدعوم من قبل السلطة التي بدأت تخشى نزعة التمرّد (السلمي) التي يلهمها صاحب «الحرب والسلم» وهو الذي كتب : «الدولة هي العنف، والمسيحية هي الخشوع ورفض مقاومة العنف بالعنف، وهي المحبة، لذلك لا يمكن للدولة أن تكون مسيحية، والإنسان الذي يريد أن يكون مسيحيا لا يمكن أن يقبل بخدمة الدولة»(13).
وبعد أن أصدر تولتسوي إعلانين صارمين (14) قادته الأحداث السياسية والعسكرية المتعلقة بشؤون بلاده أو مجتمعه أن يخوض معارك فكرية خطيرة عبر الصحافة انقسم إزاءها الرأي العام الروسي والأوروبي. ويمكن اختزال تلك الأحداث في الحرب الروسية – اليابانية، وثورة 1905، وتنامي دور ونشاط الحركة الصهيونية.
ففي سنة 1904 وبعد اندلاع الحرب بين اليابان وروسيا (والتي انتهت بهزيمة الروس) كتب تولتسوى «أني لست مع روسيا أو مع اليابان، إني أقف مع شعب الشغالين في البلدين المخدوعين من قبل حكومتيهما والمجبورين على خوض حرب ضد ازدهارهما وضمير ودين كل منهما»(15).
ذلك الموقف المناهض للحرب والذي اعتبرته السلطات تخاذلا في شأن وطني مصيري، يتجدّد في مضمونه بخصوص تطوّر إحداث الثورة الروسية لسنة 1905 حيث كتب تولتسوي ما يفيد حياده إزاء القوى المتصارعة ورفضه منطق العنف الذي ساد المجتمع وأقحم البلاد في دوامة الدمار المادّي والمعنوي للإنسان الروسي : «لقد اندلعت الثورة والقتل من الجانبين. والتناقض ينشأ من أنه، كما العادة، نريد مقاومة العنف بواسطة العنف»(16). كما أنه حاول عبر عدد من الرسائل المفتوحة الموجهة إلى كل من القيصر نيقولا الثاني والثوريين أن ينزع فتيل الصدام العنيف بينهما وأن يبيّن أن الثورة الوحيدة التي تحتاجها روسيا هي ثورة روحانية.
والثورة الروحانية تستوجب مقاطعة كل عنف مهما كان مصدره وهدفه، كما أنها تستوجب الانحياز إلى التعامل السلمي مع الأوضاع والتناقضات المصلحية والنزعات الصدامية الناجمة عنها. وقد عمق تولتسوي ذلك الرأي بمناسبة تحليله للحالة (الاستعمارية) في الهند الذي ثبته في نصّ «رسالة إلى هندي» الذي كان مناسبة لانطلاق مراسلة بين غاندي و تولستوى وتبني الأوّل للأفكار التي طوّرها الثاني كفلسفة عامّة للحياة والعمل السياسي والإجتماعي : ففي خصوص مقاومة الوضع الاستعماري في الهند اعتبر تولتسوي أن الهنود مسؤولون عمّا حلّ بهم من إستعباد لأنهم لا يعترفون سوى «بقانون العنف» مقترحا عليهم عدم المشاركة «في أي شكل من أشكال العنف بما في ذلك عنف الإدارة، وعنف المحاكم العدلية وجمع الأداءات وخصوصا عنف الجنود». لأنه على يقين أن إستراتيجية المقاطعة وعدم المشاركة (السلمية) سوف تقود «إلى إستحالة أن يستعبد بعض المئات من الأنفار الملايين من البشر كما أنه سوف يكون من المستحيل أن يستعبد ملايين البشر شخص واحد»(17). وقد أثرت هذه النظرة على غاندي الذي بلور على أساسها خطأ سياسيا لمقاومة الاستعمار البريطاني في الهند بالوسائل السلمية (كما سوف نشير إلى ذلك لاحقا).
أردنا من كل هذه الإشارات المختصرة (والطويلة نسبيا في بعض جوانيها) التوطئة لمقاربة ليون تولستوي مسألة الصهيونية على أساس فلسفته المتحورة حول اللاعنف.
تولستوي والمسألة الصهيونية
عرف التراث الفكري الديني والإجتماعي والسياسي الأوروبي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأوّل من القرن العشرين اهتماما مكثفا بالمسألة اليهودية. ونحن لن نتعرّض لذلك الجانب في حدود هذا النص، بل اننا نودّ أن نلاحظ أن مقاربة ليون تولستوى للمسألة الصهيونية تتنزل في سياق اهتمام واسع الإنتشار صلب النخبة الروسية بموقع اليهود في المجتمع كأقليّة دينية وبدورهم ومستقبلهم (18). وقد تطوّر صلب الأنتلجنسيا الروسية الليبرالية والاشتراكية في نهاية القرن التاسع عشر تيار فكري – سياسي صهيوني تميّز لينين في مقاومته فكريّا وسياسيّا وتنظيميّا. وإن كان حزب البوند أهمّ تنظيم حزبي يعمل على تحرير العمال اليهود من الاستغلال الرأسمالي في روسيا ضمن نشاط «حزب الإشتراكي الديمقراطي»(19) فإنّ بير بوروخوف كان أهمّ مفكر صهيوني (يساري) تجاوز تأثيره حدود بلاده وجيله. فقد اعتبر بوروخوف (بمقتضى معتقده الماركسي وزعيم حركة البوند) أن اليهود يمثلون استثناء مقارنة مع باقي شعوب وأمم العالم حيث انهم غير خاضعين لمنطق الصراع الطبقي بسبب إنعدام قاعدة أرضية لوجودهم القومي من ناحية وبسبب تشتتهم عبر مختلف بلدان العالم من ناحية ثانية. واليهود، حسب بوروخوف، أمّة مقلوبة على رأسها تتكوّن الأقليّة فيها من العمال والفقراء والحال أنّ جمهور فقرائها وعمالها (وهم أغلبيتها) يشكلون أقلية في المجتمعات التي يعيشون فيها، في حين يكون أغنياؤها وهم أقليّة قطاعا كثير العدد (بالإرتباط بعدد اليهود نسبيا) في المجتمع الذي يعيشون فيه وبالإرتباط مع البورجوازية المحلية. وعلى أساس ذلك يصبح اليهود في محتلف المجتمعات كمثل الهرم المقلوب الذي لا يمكن أن يجعل منهم قوّة نضال من أجل الإشتراكية حيث أن أغلبيتهم (العمال) تمثل أقليّة إجتماعية، وأقليتهم (البرجوازيون) تمثل أغلبيّة بالمقارنة لنظرائهم من غير اليهود. وحتى يستوي أمر اليهود ويصبحون أمة عادية خاضعة لمنطق الصراع الطبقي (بالمنظار الماركسي) وجب ترحيل اليهود وتجميعهم في أرض واحدة ومشتركة (فلسطين) فينقلب الهرم كذلك ويصبح ذا قاعدة إجتماعية واسعة تمثلها أغلبية عمالية وشعبية وقمة تمثلها الأقلية الغنية والبرجوازية في نطاق الاقتصاد الرأسمالي مما يفتح آفاقا أمام النضال من أجل الإشتراكية في ظروف عادية وفي مجتمع عادي تكون فيه القاعدة أوسع من القمة. وقد أثـّرت أفكار بوروخوف على قطاعات هامّة من الأوساط الإشتراكيّة اليهودية في أوروبا واعتمدها بعض الصهاينة كمحرّك أيديولوجي لتعزيز حركة الاستيطان في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين.
تناول دوستيفسكي المسألة اليهودية من منظار قومي وثقافي وديني حيث كان شديد الوطأة ضدهم، أما تولستوي، فهو تخلص بشكل يكاد أن يكون مطلقا من الاعتبارات السياسية والإجتماعية في مقاربته للمسألة الصهيونية التي ضمنها في كتاب أصدره سنة 1906 (20). وقد انطلق ليون تولستوي من اعترافه من أنه كان دائم الاهتمام بالموضوع الصهيوني مبيّنا أسباب ذلك بشكل يضع الإطار المعرفي الذي اعتمده في تحليل أبعاده. فالصهيونية – حسب رأيه – لا تمنح شعبها حلا لحالتها المضنية بل انها مثال ساطع للتأثير الهائل الذي يحصل لدى الناس الذين يعيشون طويلا في عناء أباطيل المغامرة»(21). فالصهيونية بالنسبة إليه داء وليست علاجا، بل انها تبدو وكأنها ترفيع في نسبة الداء التي تضاف إلى المريض المحتاج إلى دواء حقيقي إذ كتب تولتسوى : «لنا، أمام أنصارنا، شعب قديم، ذكي وصاحب تجربة ثرية، تعذب طويلا من جراء الشرور المرعبة للبشرية، يسقط عليلا من جديد من جراء ذات الشرور». و«الشرور» التي أشار إليها تولستوى ناجمة عن رغبة الربط بين الدين والسياسة، أي بين قيم اليهودية (التوراتية) والعمل السياسي من أجل حكم أو دولة خاصة باليهود الذين «ولد من جديد فيهم عطش الحصول على حكومة، والرغبة الفاسدة لممارسة الحكم وللعب دور. فهم يرغبون من جديد في التزين بمظاهر الوطنية، بجيوشها وإعلامها وشعاراتها المثبتة في أعلى صفحات قرارات المحاكم …».
اعتبر تولستوي أن ربط الدين بالسياسة – في الحالة اليهودية خطأ وانحرافا خطيرا في حق الدين مؤكدا أن السياسة لا تفتح آفاق التحرّر الروحاني للبشر حتى وإن كانت السياسة المعنية ذات أبعاد إنسانية وعادلة مثل الإختيار الإشتراكي الذي مال إليه المفكر الروسي. لذلك لم يتفاعل تولستوي إيجابيا مع نظريات بير بورخوف التي كانت تعلن إنحيازها للمبدإ الإشتراكي. وينجم ربط الدين بالسياسة – بصفة عامّة حسب تولستوي – عن «غواية دكناء تقود الناس إلى الخسارة والخراب والإنهاك». وتنمو تلك الغواية عند «شريحة ضعيفة» من المجتمع سريعة التأثر والإنصياع، والمقصود هنا هم المثقفون الذين يرومون التفلسف والمنبهرين «بالإشراق الكاذب للأمم الأوروبية». ويذهب نقد تولستوي للمثقفين الصهاينة إلى أبعد من ذلك حيث اعتبرهم أداة لتعفين الدين اليهودي تحت تأثير الأوهام التي تملكت بأذهانهم مثل «مرض البعث المزعوم والذي ليس في الحقيقة سوى إنحطاط». ويؤكد تولستوى على الطابع الإنحلالي لفكرة الصهيونية على ضوء تعاليم الدين اليهودي كما توضحها التلمودية الأصيلة حيث ان «اليهودية التلمودية تتخذ موقفا طريفا إزاء فلسطين. فالتلمود لا يكترث أبدا بالطقس الصوفي حول الأرض والتراب والشعب، هذا الطقس الذي يستهوي الكثيرين من إخواننا في الدين. والتأكيد الديني في التلمود انصب على التوراة وعلى تلك التبصرات الأخلاقية والمناقبية لدى اليهودية. لذا فإنّ (قيادة التلمود الدينية …) يركز على التوراة واليهودية، وليس على الأرض»(22).
واعتقد تولستوي أن الديانة اليهودية – مثل كل الديانات السماوية – هي مجموعة من القيم العليا الموجهة لعامّة النـّاس – عبر الرسالة النبوية – لتكون قاعدة لسلوك وممارسات البشر، وليست قائمة من المهمات السياسية لمجموعة بشرية دون أخرى مما يجعله يرفض قطعيا منطق الربط بين الديني والسياسي والمزج بينهما مستخلصا بوضوح جلي : «إن الروح الإسرائيلية الحقيقية مناقضة لفكرة وطن منحصر في أرض ما». أي أن الهدف الصهيوني المتمثل في تنظيم هجرة اليهود إلى أرض فلسطين واستعمارها والإستيطان بها قصد تأسيس وطن لليهود فكرة مناهضة لمضمون الديانة اليهودية ورسالتها كما تمثلها المفكر الروسي.
وقد أقرّ تولستوي بأن ربط الدين بالسياسة في المشروع الصهيوني يشكل إفسادا لمضمون الديانة اليهودية ولرسالتها الروحية على أساس ما لمسه من تشويه لاهوتي لبعض فقرات أسفار العهد القديم مثل أسطورة «خلق آدم من تراب أرض إسرائيل» و«وعد الرب إلى يعقوب»(23)، ومقولة «الميراث الأبدي» في عبارة «لكم وليس للكنعانيين»(24) … ويضيف تولستوي أن الأرثوذكسية اليهودية الرافضة للصهيونية هي الممثلة الأصلية لرجال الدين اليهود لأنهم الرافضون لربط الدين بالسياسة ولإخضاع العقيدة لمشيئة الأحزاب والزعماء والمصالح الدولية.
وإذا ذهب بير بوروخوف إلى اعتبار أن الحلّ الحقيقي للمسألة اليهودية هو الاشتراكية التي يمكن تحقيقها على أرض إسرائيل (بعد هجرة اليهود إليها) وإعادة وضع الهرم المقلوب على قاعدته عبر تنمية عدد العمال فيه وعبر النضال ضد الرأسمالية فإنّ إبراهم ليون (وهو مفكر يهودي ماركسي بولوني)، أكد أن الاشتراكية هي بالفعل حلا للمسألة اليهودية لكن ذلك لا يتحقق سوى عبر إنصهار العمال اليهود في أوطانهم الأصلية والمشاركة في الصراعات الطبقية فيها. ورفض مبدإ الهجرة إلى فلسطين كصيغة لاكتمال شروط تكوّن «الأمّة اليهوديّة» المزعومة (25) وبناء دولتها الخاصة. وإذا كان المفكر الصهيوني الروسي (بوروخوف) يوهم بتوظيف القومية الصهيونية من أجل خدمة الهدف الإشتراكي، فإن المفكر البولوني يؤكد عكس ذلك، ليجعل من نفي الطابع القومي عن اليهود (المنتمين إلى أمم وقوميات مختلفة في العالم) مقدّمة لانصهارهم في أوطانهم وفي النضالات من أجل الاشتراكية فيها، وذلك ما يؤكد أن ماركسية بوروخوف لم تكن سوى «مكر عقلي» لخدمة الفكرة الصهيونية. أما تولتسوي فهو، وإن لم يربط بين حالة اليهود (الروس) وبين النضال من أجل الاشتراكية في روسيا، وكما أنه أنكر وجود أي علاقة بين الصهيونية وبين الشعور القومي (أكان ذلك من خلال الواقع الروسي أو غيره) حيث كتب : «إن الرأي العام القائل ان الصهيونية تساعد على السمو بالروح القومية (…) لا مبرّر له في الواقع إذ أنها خالية من كل قومية»، بل أنه يذهب أبعد من ذلك ليشير إلى أن الصهيونية تتزيّن بصلف الوطنية …» وأنها مبنيّة على أساس الخداع … (اليهود)، والعدوانية (ضد غير اليهود : العرب الفلسطينيين)، الأمر الذي يلغي من كيانها ومن مشاريعها وأهدافها أي طابع تقدّمي الذي يكثر الحديث حوله في المؤتمرات …»، ويواصل تولستوي، عبر ذلك النقد اللاذع للطابع القومي الكاذب للصهيونية، تحديد هويّة الحركة بربطها بتيّار الشوفينية الأوروبية المتنامية في مطلع القرن العشرين في أوروبا والمعبرة في نهاية التحليل على تعاظم التناقضات الداخلية في النظام الاستعماري الدولي (الأوروبي) حيث أنه اعتبر أن الصهيونية جزء من ذلك النظام ونتيجة له من ناحية، وأنها من ناحية أخرى مقلدة له في أفسد جوانبه : «(الصهيونية) … هي نخاع العظم، ومن صميم جسد الأوروباوية المعاصرة، هي ابنها الضعيف والكسيح، الذي يقلد إخوته الكبار ويشيد قصرا من ورق الحكومات ويتوشح بغشاوة تحمل كتابة بالأحرف العبرية …».
انه من الثابت تاريخيا وعلميا أن الحركة الصهيونية سعت بكل قواها وبصيغ منهجية ومدروسة إلى الإلتحام بالإستراتيجية الاستعمارية في البلدان الغربية (وذلك قصد تبادل التعاون معها لتحقيق أهداف كل منهما وضمن مصالحهما المشتركة والخصوصية) … وقد نجحت الصهيونية في ذلك المسعى وحققت أهدافها المرسومة في فلسطين (بعد أن تخلت عن بدائل أخرى : أوغندا، جنوب إفريقيا، الأرجنتين …)، وأن ذلك الإنجاز تحقق عبر بأبشع أنواع الجرائم والانتهاكات والوحشية التي عرفتها البشرية. تلك بديهيات ثابتة وموثقة ولا يرفضها إلا خادع أو مخدوع … (26). وقد استشرف تولستوي ذلك التطوّر للحركة الصهيونية وفق تقييمات أخلاقية وقيمية (وليس وفق قراءة سياسية أو إستراتيجية) معتبرا أن هدف بناء «الدولة اليهودية» التي تروم تحقيقه الحركة الصهيونية هو لبنة إضافية في البناء الاستعماري والاضطهادي التي تعاني منه البشريّة ومتوقعا أنها لن تشارك في «وحدة البشر الواسعة الهادفة إلى التحطيم التام للمدافع والمتفجرات والتجمعات التي لا تقام إلا على أساس القوة والسلاح والتي من جراء ذلك تخرب حياة البشر …». إن النقد الأخلاقي الذي بلوره ليون تولستوي إزاء الصهيونية في مطلع القرن العشرين (1906) يشكل قاعدة مثبتة ودائمة لنقدها راهنا بعد أن تأكد تاريخيا أنها حركة استعمارية وعنصرية مفتقدة لأي سند أخلاقي أو قيمي إيجابي.
تدحض الصهيونية الجانب الروحاني في اليهودية، كما أنها تسقط طابعها المسالم الأصلي كما تصورهما تولستوي لذلك أقرّ بأنها حركة رجعية في التاريخ لأنها تلغي جوانب التقدّم والسمو في الدين اليهودي حيث ان الصهيونية تمثلت الدين كمطية من اجل السياسة ومصالحها، واختارت العنف كصيغة لفرض الأهداف التي اختارتها. «…فالصهيونية – حسب تولستوى – تريد إحياء خرقة قديمة مدعية أن ذلك الطموح البدائي يشكل تقدّما. إنّ الصهيونية هي نفي لكل ما هو مقدّس في حياتنا. ونحن (كبشر) لا نحتاج دولا جديدة، بل يلزمنا رجال محبون يرون في محبتهم موهبة حياتهم وخدمة للرب» وما يقترفه الصهاينة ليس سوى «صنع لسيوف جديدة وزرع الكراهية والكذب بين الناس. لذلك إنه إثم مضاعف بأن نمنح إلى هؤلاء الحدادين المحمرين بلون الدم صفة خادمي التقدّم …»
كان رفض ليون تولستوى للصهيونية رفضا مطلقا ومبدئيا لأنه لم ينطلق من أرضية ظرفية أو من قراءة مصلحية لنزاع ديني وفئوي، بل كانت مقاربة المفكر الروسي متجذرة في أرضية قيمية وفلسفية حيث عارض تولستوي الربط الذي أقامته النزعة الصهيونية بين السياسة والدين اليهودي معتبرا ذلك انحرافا عن المنهج القويم في فهم وتأويل تعاليم الديانة اليهودية، كما أنه انتقــد النزعة العدوانية التي صبغت الفكر والممارسة لدى الصهيونيين وميلهم الفكري والسياسي لممارسة العنف الحربي في كل أشكاله وهو ما رفضه تولستوي بمقتضى قناعاته الفلسفية اللاعنفية.
أما الجانب الثالث من مناهضة تولستوي للفكرة الصهيونية ومشروعها هو الذي خصّ اختلافه معها في مسألة مكانة الروحانيات في الديانة اليهودية حيث اعتبر تولتسوى أن الروحانية هي صميم الرسالة الدينية لدى اليهود وليس السعي إلى بناء دولة عبر سرقة وطن من أهله بعد تشريدهم وإغتصاب حقوقهم.
إن نقد تولستوي للصهيونية هو نقد أخلاقي وقيمي في أساسه، وقد رفض المفكر الروسي أن يقحم مقاربته مجال السجال السياسي لأن ذلك يخدم – حسب تولستوي – أهداف وإستراتيجيات الحركة الصهيونية في روسيا وفي العالم كما أنه أقرّ بأنّ كل تعاطف ديني مع النزعة الصهيونية هو نتيجة لخطأ في فهم كنه الدين اليهودي وتحريف له. وما من شك أن الظرف التاريخي الذي بلور خلاله تولستوي مقاربته للمسألة الصهيونية لم يكن قد سمح بالكشف على كل ملامح وجه حركة الصهاينة ومشروعها وممارستها اللاإنسانية. وقد كان نقد تولستوي للصهيونية المتمحور حول فلسفة اللاعنف وحول الروحانية من ناحية والمكثف سهامه ضد الميل إلى العنف فيها، منخرطا في حدود المعرفة المتاحة عن تلك الحركة وعن مشاريعها من ناحية ثانية كما كان ذلك النقد منخرطا في حدود النقاش الفكري والديني لأن الصهيونية لم تكن قد تبوأت المكانة الحيوية في الجهاز الاستعماري العالمي التي حصلت عليها بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية ثالثة. وقد انجرّ عن حصر دائرة النقد ضد الحركة الصهيونية في مجال القيم الأخلاقية والفلسفية والدينية الذي اختاره ليون تولستوى، أن تغافل هذا الأخير عن التفكير في مصير الشعب العربي الفلسطيني كضحية للمشروع الاستعماري والاستبدادي الصهيوني، واكتفى ببلورة نقد إنسانوي مسيحي ضدّ انحراف لتيار فكري – سياسي عن مغازي ومعاني الرسالة الدينية لليهودية.
غاندي والصهيونية
أشار كلود ماركوفيتس في دراسته لفكر ومواقف غاندي (27) إلى أن هذا الأخير لم يبلور نظرية فلسفية – سياسية متكاملة ولا حتى نظرة للعالم متجانسة الجوانب، ولكن وبعد وفاة غاندي بعشرات السنين، ترسخت ملامح شخصيته كداعية لتحرّر المستضعفين والمقهورين عبر المقاومة السلمية التي تزيح مبدأ الكراهية وصيغ العنف من العلاقات الإجتماعية والدولية (28).
ولم يكن غاندي منظرا عميقا بل انه لم يكتب نصوصا فكرية متينة تؤسس نظرة سياسية متكاملة الجوانب بإستثناء نص «هندي سواراج» (إستقلال الهند) سنة 1909. أما بخصوص إنتاجه النظري فكان عبارة عن مجموعة مقالات صحفية وتصريحات سياسية وكتابات سجالية مرتبطة بتطوّر أحوال السياسة الهندية والبريطانية. ولم تبرز «الغاندية» كمفهوم خصوصي في مجال الفكر السياسي الهندي إلا بعد أن أطلق ذلك فيليب سبرات (وهو شيوعي بريطاني سابق) سنة 1909 إثر نشر كتابه «الغاندية : محاولة في التحليل» والذي اتبعه في ذلك ما نشره أحد أصدقاء (المهاتما) نيرمال كومار بوز الذي أصدر كتابا دعائيا تحت عنوان «أبحاث في الغاندية». وقد شكل كل من الكتابين قاعدة للتأويلات اللاحقة والمعاصرة لفكر غاندي والتي جعلته من روافد تيار حماية البيئة، ونزعة الحوار بين الحضارات، وجهود البحث عن وسائل تحقيق السلم العالمي الدائم.
ويمكن اختزال نظرية غاندي السياسية العامّة في خمسة مفاهيم تلخصها كلمات إنتقاها المهاتما من اللغة الهندية (أو من اللغات الهندية المختلفة) وهي : أشيما، ساتياغراها، سارفودايا، سواديشي – وأخيرا – سفارجي … تعني هذه الأخيرة استقلال (الهند) والكلمة الرابعة تعني استقلالا اقتصاديا أما الثالثة فهي تلخص نظرية غاندي الاقتصادية، في حين تتعلق الأولى والثانية بمسألة اللاعنف.
حرّر غاندي نص «هندي سوراج» في شكل حوار بينه وبين شخص يخالفه الرأي في كل عناصر النظرة السياسية والاجتماعية وخاصة فيما يتعلق بمسألة العنف (الفصل الرابع عشر). وقد أكد غاندي أن العنف غير قادر على تحرير الهند من السيطرة الاستعمارية البريطانية، بسبب صعوبة تسليح الشعب الهندي وذلك لاعتبارات مادية وثقافية وأخلاقية حيث أن توفير السلاح يستوجب إمكانيات مالية غير متوفرة وأن القتل والاغتيال سلوك غير أخلاقي، فضلا على أنه لا يتماشى مع الذهنية الهندية (الشرقية والمتسامحة) ولا ينطلق إلا من النظرة الغربية والمادية للوجود التي يرفضها جمهور الهنود. وبصدد مناقشة رأي مخالفه، أضاف غاندي ان الوسائل لا يمكن أن تكون في تعارض مع الأهداف وأنهما خاضعان لذات المقياس الأخلاقي والمعنوي لذلك فإن تحرير الهند لا يمكن أن يكون عبر قوّة السلاح بل عبر قوّة العواطف الإيجابية (المحبة) التي تستوجب «قوة الروح» أو «قوّة روحية» (ساتيا غراها). وذلك القانون لا يخص شأن الهند فحسب – حسب غاندي – بل أنه جوهر الشرط الإنساني والعلاقات البشرية في الوجود إذ أن ذلك هو ما جعل العالم لم ينفجر ولم ينقرض في كل مناسبة ظهر فيها اختلاف وتناقض في الرأي أو في المصلحة بين مختلف أجزاء البشرية على مر الزمان.
وبيّن غاندي لمخاطبه (الخيالي) أن الابتعاد الواعي عن ممارسة العنف يستوجب شروطا وصفات معنوية وروحية عالية الصفاء والقيمة لأنها تجعل الخصم في موقف لا أخلاقي ومناقض لكل القيم البشرية والحضارية وتلحق به هزيمة طويلة المدى ومتعدّدة الجوانب. وقد حاول غاندي تجسيد أفكاره في منطقة ترانسفال (جنوب إفريقيا) عبر تنظيم صفوف الهنود في ذلك البلد وترشيد مقاومتهم لنزعة الهيمنة والتمييز العنصري لسلطة البيض (البوير). لكن مفهوم «الستياغراها» حمل قسمات الظروف التي ظهر فيها (أي جنوب إفريقيا) في مطلع القرن العشرين حيث لم يكن يوجد فيها حزب يدعو إلى ممارسة العنف من ناحية وحيث كان الهنود أقلية عرقية متواضعة لم يكن في وسعها مقاومة الاضطهاد والقهر إلا عبر الوسائل السلمية والروحية التي تستوجب انخراط أصحاب النفوذ المعنوي والتأثير التعبوي في منطقها من ناحية أخرى.
وعلى ضوء ذلك، كان المفهوم الذي ابتدعه غاندي «ساتيا غراها» نتيجة ظروف تاريخية قاسية أجبرت من خلاله قوة إجتماعية أقليّة (هنود جنوب إفريقيا المساندين لحكم البيض البوير الذين شرعوا منذ سنة 1909 (قانون السود) في بناء نظام عنصري على إعلاء مبدأ الخضوع للقيم الروحية في وجه السلطة المتجبرة ورفض القهر سلميا قصد ترشيده، الأمر الذي جعل المفهوم يكتسي طابعا هلاميا – نسبيا – منذ بدايته. وقد ذهب كلود ماركوفيتس إلى اعتبار أن غاندي أضعف تأثير تلك النظرة السياسية في أوضاع جنوب إفريقيا التاريخية بسبب عدم التمسك بمفهوم محدّد ونهائي لها، حيث انه وضع مسارين متناقضين في ذات المستوى : «ويمكن القول ان منذ سنة 1909 كان لغاندي خطاب مزدوج بخصوص «الساتياغراها» مما انجرّ عنه سوء فهم متعدّد الوجوه : خطاب «إيجابي» يقدم المفهوم كترجمة عملية للقوّة المعنويّة، وخطاب «سلبي» يقدمه كبديل للعنف»(29).
إذن لم تكن مسألة اللاعنف – كما ترسخت في الأذهان – لب الإشكالية الأساسية لمفهوم «الساتياغراها»، حيث أن هذا الأخير يحيل إلى أسلوب نضالي يهدف أساسا إلى تفادي القمع الفاحش من قبل الخصوم (أو الأعداء !!) وإلى إثارة عناية كل القوى المعنية بقضية النضال التي تخوضه القوة الأقلية (الضعيفة) وطنيا ودوليا. ويقود ذلك المنطق إلى تحقيق نتيجتين مهمتين أولاهما توحيد القوة الضعيفة (اجتماعيا وسياسيا) وعزل القوة المتجبرة وتقليص المساندة لممارساتها وطنيا ودوليا.
منذ نهاية السنوات العشرين من القرن العشرين، تحوّلت مضامين مفهوم «الساتياغراها» وانفتحت إلى عناصر جديدة نابعة من التراث الثقافي والديني الهندي وبالخصوص مفهوم «أشيما» الديني الأصل والمتمحور حول معنى الحقيقة. وقد اعترف غاندي أن فهمه لمفهوم «أشيما» استحضره تحت تأثيره المفكر الروسي ليون تولستوي، وهو أنقذ نظرته السياسية حينما قرن ين «أشيما» و«ساتياغراها» حيث ان الجمهور الهندي لم يستوعب من هذا الأخير سوى مبدأ رفض الحضارة الغربية وقيمها مما دفع غاندي إلى صياغة رؤيته لمسألة المقاومة السلمية على أسس جديدة تجعل منها موقفا أخلاقيا متساميا وأرفع شأنا من مواقف خصومها وأكثر مشروعية وشرعية منها باعتباره مستند إلى الحق والدفاع عنه والإرشاد إلى سبيله. كذلك تحوّل مبدأ المقاومة السلمية إلى نظرة أخلاقية وثقافية متكاملة وإن كان غاندي قد أهمل مسألة تجذيرها الفكري والنظري مما جعل منها مقاربة سياسية تهدف في المقام الأوّل إلى إقناع الخصم (أو العدو) بتغيير رأيه واختياراته ومواقفه دون أن تتحوّل إلى آلية ناجعة في الصّراع الذي يهدف إلى إلغائه.
لكن مقاربة المقاومة السلمية ضدّ خصم تستوجب طول النفس، والوعي الصامد، والتعبئة الجماهيرية الغفيرة والمتواصلة حتى تتمكن من تحقيق أهدافها وفق الوسائل المستوجبة والمتناغمة مع تلك الأهداف على الصعيد القيمي والأخلاقي.
وقد كان غاندي على وعي دقيق بتلك المستلزمات لذلك أقحم تعديلا على مفهوم « الساتياغراها « بربطه بمقتضيات «أشيما» (العقيدة الدينية) من ناحية أولى، وإلى بلورة مسألة « الساتياغراها الجماهيرية» من ناحية أخرى. وكانت السنوات الثلاثون هي المرحلة التي شهدت تلك التعديلات النظرية حيث كتب غاندي (25/3/1939) : «في خصوص الساتياغراها ليس العدد مهما بل النوعية خاصة عندما تنفلت قوى العنف من عقالها. نحن نغفل دائما أن الساتياراغي لا يسعى أبدا إلى إحراج من يمارس العنف ضده، وهو لا يتوجه إلى مخاوفه بل إلى قلبه …
1- وهو مطالب بأن يكون على ثقة لا تتزعزع في الله لأنه صخرته الوحيدة
2- تشكل الحقيقة واللاعنف شعاره الوحيد لذلك من الضروري أن يكون معتقدا في نبل الطبيعة البشرية، وأن يأمل في إقامة الحقيقة والمحبّة التي يعبّر عنها عذابه.
3- يجب عليه أن يحيا حياة عفيفة ومستعدّا لمنح حياته وأملاكه، اختياريا، من أجل مصلحة القضية.
4- يجب عليه أن يغزل ويخيط «الخادي» ذلك أمر مهم بالنسبة للهند.
5- يجب عليه تجنب الخمر والمخدرات حتى يحتفظ دائما بصفاء عقله واتزان ذهنه.
6- يجب عليه أن يطبق، عن طواعية، كل أحكام الانضباط المستوجبة أحيانا.
7- يجب عليه أن يحترم قوانين الاعتقال باستثناء الحالات التي تكون فيها موضوعة من أجل الإهانة.
وليست تلك المواصفات شاملة، بل أنها أمثلة فحسب»30.
حدّد غاندي مواصفات المناضل والمقاوم السلمي ضد القهر والاستبداد والظلم (مهما كان مأتاه …)، دون أن يحدّد المواصفات أو الشروط التي تجعل بعض القوى (على الصعيد الوطني أو الدولي) تساند أو تنخرط في اختيارات الظلم والاستبداد والقهر، حتى يمكن فتح آفاق النجاح لإستراتيجية المقاومة السلمية، بل انه اعتبر أن تعثر تلك الإستراتيجية يعود إلى تقاعس الجماهير في ممارستها حسب المقتضيات التي أشار إليها، والتي تستوجب تجذيرا عميقا للوعي المدني والسياسي والديني مع التأكيد على هذا العنصر الأخير («ضعف وإنعدام الأشيما»)31. وقد ذهب غاندي في تحليله إلى حدّ التساؤل حول أهلية «الاشتراكيين الملحدين» أو غيرهم «ممن لا يؤمنون بالله» لممارسة «المقاومة السلمية» وحتى «المقاومة عبر عدم التعاون» بسبب ضعف الوازع والمعتقد الدينيين لديهم مؤكدا بذلك دور الدين في تشكيل الوعي المسالم والمقاوم سلميا وروحيا ضد كل مظاهر الفساد البشري !!
تبنى غاندي موقفا نقديّا إزاء الصهيونية بالرّغم من تعاطفه المعلن مع اليهود. وبالتوازي مع موقف غاندي الفكري بخصوص اليهود والصهيونية وعلاقتهم بالعرب أو بالأحرى فيما يتعلـّق بمشاريع الاستيطان الاستعماري (الصهيوني) بأرض فلسطين (الواقعة تحت النفوذ البريطاني) فإن حزب المؤتمر الهندي تبنى سنة 1938 موقفا صريحا يدين مشروع تقسيم الأرض الفلسطينية. وما من شك أن المحددات الرئيسية لذلك الموقف تكمن في اعتبارات سياسية أولها معارضة الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية بصفة عامّة، وثانيهما رفض أن تكون لبريطانيا موقع قدم في منطقة اعتبرها الغرب الاستعماري منذ نابليون بوابة لغزو الشرق ولتأمين خطوط الإمداد إلى الهند. وقد تبنى حزب المؤتمر الهندي في سبتمبر 1938 لائحة تضمنت مطالبة بريطانيا «بالتخلي عن سياستها وترك الأمر لليهود والعرب لإصلاح ما بينهم من مشكلات كما ناشد الغرب اليهود» بألا يتخذوا من الإمبريالية البريطانية ملاذا لهم».
فقد تناغم موقف حزب المؤتمر مع آراء زعيمه الذي اعتبر منذ جويلية 1938 أن الدعوة إلى إنشاء وطن قومي لليهود سيقدم مبرّرا قويا لطرد اليهود من ألمانيا مضيفا إلى ذلك إشارة إلى تناقض في المنطق اليهودي (الصهيوني) : إذا لم يكن لليهود أي وطن آخر غير فلسطين كما يدعون، فهل يمكنهم أن يتقبلوا فكرة طردهم من بقية أرجاء العالم» أي أنه أكد أن «الحل الصهيوني» للمسألة اليهودية هو في صميمه تعميقا لأبعادها اللاإنسانية والعنصرية مما يقلب المعادلة التقليدية الصهيونية والقائلة أن معاداة السامية هي التي ولـّدت الفكرة الصهيونية وذلك أمر جعل من هذه الأخيرة عنصر تقوية للعداء لليهود في مختلف أنحاء العالم. وقد ذهب غاندي أبعد من ذلك في نقد أسس الفكرة الصهيونية حيث انه رفض الربط بين الجوانب الدينية والسياسية صلبها معتبرا أن «الفعل الديني لا يمكن أن يتمّ عن طريق السلاح أو العنف» كما فعل الصهاينة بمساعدة بديهية من الأوساط الاستعمارية البريطانية، وهو كتب : «لقد تآمر اليهود (أي الصهاينة) مع البريطانيين على نهب أناس لم يلحقوا بهم أي أذى»32.
وبطبيعة الحال، اقترح غاندي حلا سلميا لكل من الأزمتين التي يواجههما اليهود في البلدان التي يعيشون فيها وفي البلاد الفلسطينية (إزاء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني)، وذلك الاقتراح لم يعرف طريقه إلى الواقع إلى حدّ قرار التقسيم والنكبة في 1948، وهو أقرّ قبيل وفاته بقليل بأن القضية الفلسطينية أصبحت قضيّة لا حلّ لها مبينا رأيه : «لو كنت يهوديا لقلت للصهاينة : كفاكم سخفا ولا تلجأوا للإرهاب لأنكم بذلك تضرون بقضيتكم التي كان من الممكن أن تصبح قضيّة عادلة دون اللجوء لمثل هذه الوسائل»33.
رفض غاندي الرّبط بين الديني والسياسي في مقاربة الأزمة الناجمة عن الاستعمار الصهيوني في فلسطين، مبينا أن العالم المسيحي تحامل على اليهود على ضوء قراءة خاطئة للعهد القديم، لكن الصهيونية انخرطت في ذات الخطإ عبر تأصيل أهدافها في النصّ الديني وتوجيه عدائهم ضد العرب (المسيحيين والمسلمين) وعبر التحالف مع قوى الاستعمار «إذ يحاول اليهود فرض أنفسهم على فلسطين بمساعدة الأسلحة البريطانية والأموال الأمريكية، ومؤخرا عن طريق الإرهاب المباشر»34.
ورغم محاولات الاحتواء التي مارستها الشبكة الدعائية والصهيونية إزاء غاندي عبر توظيف تأثير بعض علاقاته الشخصية مثل صديقه اليهودي هرمان كالنباخ أو الفيلسوف الروحاني اليهودي مارتان بوبر، فإن الزعيم الهندي المناصر لمبدأ اللاعنف والحلول السلمية للأزمات السياسية، بقي رافضا أخلاقيا وإيتيقيا الفكرة الصهيونية ومشاريعها وممارساتها السياسية في مرحلة ما قبل التقسيم والنكبة (1948) وهو موقف لم يؤثر فكريا ومعنويا على الحركة الصهيونية وعلى سياساتها، بل ان هذه الأخيرة قاومت النقد الغاندي بعملية دعائية متمحورة حول اتهام (كاذب) غاندي بمعاداة السامية لم تفتر – إعلاميا وأكاديميا – إلا بعد أن انخرطت السياسة الخارجية لدولة الهند في مراجعات كبرى اقتربت بمقتضاها من الكيان الصهيوني.
بطبيعة الحال، كانت نظرة غاندي المتعلقة بالمقاومة السلمية ذات تأثير هام على تحاليله في خصوص الشؤون العالمية والعلاقات الدولية، لكنه لم يصرف جهودا مهمة في تحليل ظاهرة الاستعمار (الذي عرفه في جنوب إفريقيا وفي الهند) بل اكتفى ببلورة إستراتيجية عملية حول مسألة مقاومة إفرازاته بالصيغ السلمية مؤكدا على بعض الأبعاد الثقافية والروحية السلبية في الواقع الاستعماري.
وما من شك أن غاندي، المفكر والمناضل السياسي، هو احد وجوه مقاومة الإستعمار في القرن العشرين لكن مقاربته للمسألة الاستعمارية كانت متميزة عن غيرها من المقاربات بسبب خصوصية منطلقاته الفكرية والسياسية ومثاليتها كما تبيّن ذلك بعض مواقفه : ففي خصوص إحتلال إيطاليا للحبشة (1936) كتب غاندي : إن الحبشة اللاعنيفة لا تحتاج إلى أسلحة أو إلى مساندة عصبة الأمم. فعلى كل حبشي رجلا كان أو امرأة، أن يرفض التعاون مع الإيطاليين : سوف يجد هؤلاء أنفسهم يمشون نحو النصر على أجساد ضحاياهم وسوف يحتلون بلادا بدون سكان»35. كما اعتبر أن على التشيكيين أن يقاوموا احتلال بلادهم من قبل النازيين بالصبر ودون مرارة حتى يعود الرشد إلى الغزاة»36. وقد اقترح غاندي، بعد اتفاقية مونيخ (29/9/1938) بين الحلفاء وألمانيا وإيطاليا أن تتواصل جهود التحاور مع هتلر وموسليني وإقناعهما بفضائل السلام لأنه «إذا اقتنع العدو أنكم لا تنوون أبدا رفع أياديكم في وجهه حتى وإن كان ذلك من اجل الدفاع عن حياتكم، فهو سوف يتخلى عن رغبة اغتيالكم، كل الصيادين اختبروا تلك التجربة. ولم يسمح لأحد بأن يطلق الرصاص على البقر …»37.
وإن كانت أفكار غاندي المنادية بالمقاومة السلمية قد استهوت بعض الأوساط الإعلامية والفكرية في أوروبا فهو تعرّض إلى استنكار ونقد لاذع بسبب فتور مشاعره إزاء فكرة التصدّي للمشاريع النازية ولهتلر. وكانت الأوساط الصهيونية واليهودية الداعمة الأولى لتلك الانتقادات خصوصا وأنها كانت لها مآخذ أخرى على المهاتما غاندي تتعلق بموقفه من المسألة الصهيونية. لكن المهاتما إستمرّ على رأيه الذي استدعى الاعتبارات الدينية (المسيحية) ليعززه في خصوص تحليل الأوضاع الدولية قبيل الحرب العالمية الثانية حيث كتب في مقال لاحق (سبتمبر 1938) : «بالتأكيد، لا أرى أي حل للحضارة الغربية سوى إشعال لهيب كبير للحب المسيحي. يجب الاختيار بين ذلك وبين إبادة يرعب مداها القلوب»38.
ورغم المقاربة الساعية إلى عدم الانخراط في منطق الحرب على الصعيد الدولي (خاصة في أوروبا وآسيا) التي أصرّ غاندي على الدفاع عنها فهو وافق على اللائحة العامة التي تبناها حزب المؤتمر الهندي في مؤتمره (دلهي 10/8/1939) والتي جاء فيها تعلقه بالديمقراطية والحرية وتنديده بسياسة الدول الفاشية في أوروبا وتعجيلها بإقامة مناخ حرب في العالم وشجبه لخيانة بريطانيا لقيم الحرية في إسبانيا وتشكوسلوفاكيا بعد سقوطهما تحت النفوذ الفاشي والنازي، مجدّدا مطلبه بعدم إقحام الهند في دائرة الحرب القادمة. لكن ذلك الموقف لا ينفي وجود بعض المتعاطفين الهنود (الهندوسيين) مع السياسة النازية إزاء الأعراق الأقلية.
وقد كانت آخر جهود غاندي ضد منطق الحرب الذي خيّم على أوروبا (وعلى العالم) مبادرته (غير الاختيارية …) ببعث رسالة إلى أدولف هتلر 39 جاء فيها : «لقد شجعني بعض أصدقائي على مراسلتكم حبا في البشرية. لكنني قاومت رغبتهم بسبب شعوري بأن رسالة مني إليكم يمكن أن تكون غير مناسبة (…) من الواضح اليوم أنكم الشخص الوحيد في العالم القادر على منع وقوع حرب قادرة على إعادة البشرية إلى حالة التوحش. فهل وجب تسديد ذلك الثمن من اجل أي هدف مهما كانت وجاهته بالنسبة لكم ؟ هل لكم أن تستمعوا إلى نداء من شخص رفض اختياريا منهج الحرب، وإن كان ذلك دون نجاح يذكر ؟ (…) ومهما يكن من أمر، فإني اطلب عفوكم إن كنت أخطأت بمكاتبتكم وأبقى صديقكم المخلص»40 …
تلك الرسالة التي أصبحت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إحدى محاور الحملات الدعائية الصهيونية ضد غاندي وتراثه الفكري والسياسي وإن كانت علاقات غاندي في الأوساط الصهيونية (هرمان كالنباخ) هي الدافع الأول لإرسال ذلك الخطاب الذي حرره بعد أن حاول كالنباخ (منذ جانفي 1939) إقناع غاندي بالإعلان عن مساندته للحركة الصهيونية وهو أمر رفضه المهاتما مطلقا بعد أن بيّن جوهر نظرته للمسألة في ثلاثة عناصر وإستنتاج عام مثلما يلي :
1- أصدر غاندي في 25/11/1938 مقالا (في جريدة هاريجان) حدّد فيه موقفه من المسألة اليهودية والحركة الصهيونية مؤكدا تعاطفه مع الشعب اليهودي ومعاناته عبر التاريخ : «يتجة عطفي كليا نحو اليهود. لقد تعرفت عليهم في جنوب إفريقيا وأصبح بعضهم أصدقائي مدى الحياة. وبفضل أولئك الأصدقاء اطلعت كثيرا على الاضطهاد الذي تعرضوا إليه عبر العصور حيث كانوا منبوذي المسيحية. لكن ذلك التعاطف لا يعمي بصيرتي فيما يتعلق بقرارات العدل»41، فالمسألة اليهودية هي مسألة أنتجها التاريخ الغربي والمسيحي وهي كانت تستوجب معالجة سياسية ودينية وثقافية تأخذ بعين الاعتبار ما لحق أتباع تلك الديانة من قهر وعذابات، لكن ذلك لا يمكن أن يكون خارج منطق «وقرارات العدل … وعلى حساب شعوب وأمم أخرى غير تلك التي صنعت المأساة …».
2- وبخصوص مشروع الحركة الصهيونية والأوساط الإستعمارية المساندة لها في إقامة دولة لليهود (الصهاينة) على أرض فلسطين كان موقف غاندي شديد الوضوح في رفضه للفكرة وللمشروع حيث كتب : «إن فلسطين للعرب مثلما انجلترا للانجليز أو فرنسا للفرنسيين. إنه خطأ جسيم كما انه من غير الإنساني أن نفرض اليهود على العرب. إن فلسطين الإنجيل ليست منطقة جغرافية بل هي في القلوب. وإذا كانوا قد اعتبروا فلسطين الجغرافية بلادهم فمن الخطإ أن يقتحمونها في ظل البنادق البريطانية. إن الشأن الديني لا يتحقق عبر الرشاشات والقنابل ولن يتمكنوا من الإنتصاب في فلسطين إلا بموافقة العرب (…). ولست بصدد الدّفاع عن التجاوزات التي يقترفها العرب، كنت أودّ لو اختاروا نهج اللاعنف في مقاومتهم لما يعتبرون عن حق اعتداء غير شرعي على بلادهم (…) إن أكثر الطرق نبلا هو المطالبة بإلحاح بمعاملة عادلة لليهود في البلدان التي ولدوا وتربوا فيها …»42.
أعاد غاندي طرح «المسألة اليهودية» التي كانت موضوعا فكريا وسياسيا وتاريخيا ودينيا مهما وخطيرا في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر والذي ساهم فيه رموز النخبة الفلسفية والسياسيون والمؤرخون وعلماء الاجتماع سعيا وراء حل لإحدى الأزمات التي كانت تمزق وحدة الكيانات القومية في أوروبا 43. وكان الإطار المرجعي الأوّل لحلّ المسألة اليهوديّة والذي دشنه كل من ماركس وأتباعه – على اختلاف توجهاتهم – متمحورا حول مبدأ إدماج الأقليات اليهودية في المجتمعات التي يعيشون فيها على أساس ضمان كل الحريات التي يتمتع بها غيرهم من المواطنين.
لا يمكن حل المسألة اليهودية – بالنسبة لغاندي – إلا في إطار الحرية (الديمقراطية) والمواطنة الكاملة، كما تمثل ذلك منذ قارب مسألة الأقليات العرقية في جنوب إفريقيا في مطلع العشرينات من القرن العشرين على أساس مبدأين هامين في نظره : المساواة بين كل البشر من ناحية وأفضلية اللاعنف في تأسيس العلاقة بينهم من ناحية أخرى 44. ولم تحجب قناعات غاندي الفكرية والدينية خطورة الحالة السياسية في أوروبا من جراء المشروع السياسي النازي وإفرازاته المحتملة على جمهور اليهود (إلى جانب باقي الشعوب والقوميات المستهدفة) لكنه أصرّ على اعتبار أن المقاومة السلمية للنازية هي أنجع السبل الكفاحية التي يجب على اليهود الألمان (والأوروبيين) اتباعها. وذلك أمر لم تغفره له كل الأوساط الفكرية والإعلامية والسياسية المتصهينة إلى حدّ اليوم. وقد أوضح غاندي رأيه : «لو كنت يهوديا مولودا في ألمانيا، ومكتسبا حياتي فيها، سوف أعلن أن ألمانيا هي وطني (…) وسوف يكون ذلك تحدّيا لإرادة اغتيالي أو اعتقالي. وسوف أرفض طردي أو إخضاعي لمعاملة إقصائية. ويمكن أن ينجرّ عن سياسة العنف الممنهج لهتلر إبادة جماعية لليهود كرد فعل أولى على إعلان المناهضة له. ولكن، هل كانت الذهنية اليهودية مهيأة للعذاب الإختياري بما في ذلك الإبادة …»45.
ومنذ محاولات هرمان كالنباخ (الصهيوني الذي غادر جنوب إفريقيا لينشط في المستعمرات الصهيونية في فلسطين) لاستصدار إعلان مساندة غاندي للحركة الصهيونية، وصولا إلى الكتابات التاريخية والتحليلية النقدية لفكر ومواقف غاندي السياسية من قبل المفكرين المناصرين (بشكل من الأشكال) للمشروع الصهيوني، بقي الزعيم الهندي هدفا للنقد في مقاربته الأصلية للحركة الصهيونية.
كان لفكر غاندي تأثير مهمّ على ماسينيون. وقد كان المستشرق الفرنسي قد أعجب بسعي المهاتما إلى أن تكون مواقفه مطابقة لحقيقة الأشياء ولحقيقة معنى القيم والمبادئ». وكان ماسينيون قد ترجم (سنة 1921) مقاطع من نص «الساتياغراها» معتبرا إياها «مطلبا مدنيا للحقيقة» … وبعد أن تخلى ماسينيون عن مواقفه المناصرة للحركة الصهيونية إثر اكتشافه الميداني لحقيقة وسائلها وأهدافها اعتبر أن الأسس الفكرية والسياسية التي بلورها غاندي يمكن أن تكون أرضية لحل النزاع حول فلسطين والبقاع المقدّسة بالنسبة للأديان السماوية الثلاثة الموجودة فيها. وإلى جانب انبهار ماسينيون بدعوة غاندي إلى الربط بين القيم الأخلاقية والممارسات السياسية، فهو أكد على موافقة مقاربته القائلة بضرورة التطابق بين الأهداف والوسائل في العمل السياسي. كما أن دعوة غاندي إلى التقريب بين الدينات على أساس قيمها المشتركة وعلى صياغة العلاقة بينها على قاعدة التعايش السلمي أثارت اهتمام ماسينيون 46 الذي انخرط في محاولة دفع الحوار والتفاعل الإيجابي بين «أبناء إبراهيم». وقد تبنى ماسنيون منهج غاندي للمقاومة سلمية كصيغة للنضال في فلسطين كما سعى إلى حماية حقوق العرب إزاء الآلة الاستعمارية والصهيونية في منطقة الشرق الأوسط. وأصبح المستشرق الفرنسي منذ سنة 1953 رئيسا لجميعة أصدقاء غاندي التي وظفها كمنبر للمطالبة بحلّ سلمي للأزمات في الشرق ولصياغة علاقات دولية جديدة 47.
وإن لم يكتب غاندي كثيرا عن مسألة اللاعنف كمفهوم 48 فإنها كانت المادّة الأساسية لدارسي فكره ونضاله مثل الكاتب الأمريكي ريشارد غراك في مؤلفه «سلطة اللاعنف» (1934) والذي عاش في الهند فيما بين 1925 و1930 حيث تأثر بأفكار الماهاتما التي حاول مقاربتها وفق مناهج التحليل الإجتماعي والنفساني والثقافي مؤكدا نجاعة الوسائل السلمية للمقاومة في إرباك الخصم حتى وإن كان أضخم قوّة وقدرة. وقد عمقت جون بوندورانت مقاربة غراك في تحليل فكر غاندي السياسي 49، معتبرة أن المنهج اللاعنفي هو – بالنسبة لغاندي – أهمّ «امتحان لحقيقة الأشياء والعلاقات»، ومؤكدة على ما أضافه من مفاهيم إلى التراث الثقافي الهندي التي كانت تعتبره الأساس الأول لنظرية المهاتما السياسية. وقد أشارت بوندورانت الى أن «الجدلية» الغاندية» لا تهدف إلى تقليص العنف بل إلى إلحاق الهزيمة بالخصم الأمر الذي يجعل منها «طوباوية معقلنة» يمكن أن تدعم كل حركات الإنشقاقية والمقاومة للحكومات «الشمولية» التي عرفها القرن العشرين. وقد اتسع تأثير فكر غاندي في الولايات المتحدة الأمريكية (والغرب عامة) خلال السنوات الستين من القرن العشرين وما بعدها وبعد كتابات جون بوندورانت عبر أعمال جان شارب 50 ومارك جيور جنسماير 51 ودنيس دالتون 52 الذين جعلوا من مسألة اللاعنف أساس الفعل المقاوم للقهر وللإستبداد العرقي والديني والسياسي والإيديولوجي على الصعيد الوطني أو العالمي. وكانت حركة تحرير السود في أمريكا الأكثر انفتاحا على أفكار غاندي المتعلقة بالكفاح السلمي ضد التمييز العنصري كما عبر عن ذلك القس مارتان لوثر كينغ في مذكراته الشخصية 53 والذي كانت نظرته السياسية والفكرية مزدوجة المصدر : القيم العقائدية المسيحية والمنهج السلمي لدى المهاتما غاندي كما شخص ذلك بقوله «كانت المقاومة اللاعنفية قد انبثقت كتقنية للحركة في حين كانت المحبّة المثال الذي يقودها. بعبارة أخرى، كان المسيح يوفر الروح والدوافع، في حين كان غاندي يوفر المنهج»54.
د. زهيـــر الذوادي
1 Rosa Luxembourg : Tolstoï, comme penseur social.
www.marxits.org/français/Luxemburg/works/1908/09.
2 Nicolas Weisbein : Les deux sources de la pensée tolstoïenne : Christianisme et socialisme. In. Cahiers du monde russe et soviétique. Vol. 5. N°2. Avril-Juin. 1964. P 229-233.
3 المصدر السابق : ص 232.
4 مثل قول الأمير أندري في روايته «الحرب والسلم» : «الحب هو الحياة الحب هو الله …» (الجزء الأول. الفصل 16).
5 Nicolas Weisbein : Le problème religieux de Tolstoï. In. Revue de l’histoire des religions. Tome 159. N°2. 1961. P 13.
6 المصدر السابق : ص 215.
7 Pravda.
8 Istina.
9 Edouard. Le Roy : Introduction à Etude du problème religieux. Ch VIII : l’expérience de vie spirituelle. Ed. Aubier. Paris 1944. P 211.
10 S.B. Gass : Tolstoï and the doctrine of peace. In. mid-West quarterly (1913-1918) paper 4. P 1-17.
11 المصدر السابق : ص 7.
12 قرار بتاريخ 22-2-1901.
13 Alain Refal : Tolstoï, pionnier de la non-violence.
www.alternatives-non-violentes.org/p.11.
14 هما : «لم يعد بإمكاني أن أصمت» !! و»هذا لا يمكن أن يستمرّ والحياة أصبحت مستحيلة» !!
15 أورده آلان ريفال : مصدر مذكور.
16 مذكرات تولستوي : بتاريخ 23/10/1905 في المصدر السابق : ص 14.
17 المصدر السابق : ص 16.
18 كانت أغلب قطاعات النخبة الروسية منشغلة بتنامي ظاهرة معاداة اليهود التي اكتسحت المجتمع الروسي.
19 شكل العمال والاشتراكيون اليهود تيارات مستقلة في كل فروع الحزب في جميع المقاطعات الروسية. ثم أسسوا منظمة البوند فيما بينهم حتى أوشكوا أن يكونوا حزبا داخل الحزب.
20 ورد النص الذي يحدد تولستوى فهمه للصهيونة في :
Emmanuel Levyne : Judaîsme contre sionisme. Ed. Cufas. Paris 1969. P 283-290.
21 سوف نعتمد في كل الحالات لنص تولستوي : الصهيونة المنشور على موقع :
Leon Toslstoï : Le sionisme : www.ujfp.org/spip.php/article 2815.
22 Rabbin Richard Singer : ACJ. Issues. Spring. 1959. P. 43.
23 جاء في سفر التكوين : 28 : 13 ما يلي : «الأرض التي أنت مضطجع عليها لك ولنسلك».
24 جاء في «سفرا» : 22. 20 ما يلي : «سوف أعطيكم إياها لكي تمتلكوها» …
25 Abraham Leon : La conception matérialiste de la question juive. Ed. F. Maspero. Paris. 1968. 203 p.
26 إن قائمة الأبحاث والدراسات العلمية حول تلك الجوانب من الحركة الصهيونية طويلة ومتنوّعة ومعلومة.
27 Claude Markovits : Ghandi. Ed. Presses de sciences Po. Paris. Zooo. 279.
28 J. Attali : Ghandi, ou l’éveil des humiliés. Ed. Fayard. Paris. 2007. 600 p.
29 Claude Markovits : Ghandi. Ed. Sciences Po. Paris. 2000. P 241.
30 أورده جاك أتالي في مصدر ذكرناه.
J. Attali : Ghandi ou l’éveil des humilies. Ed. Fayard. Paris 2007. P 386-387.
31 المصدر السابق : ص 387.
32 عبد الوهاب المسيري : غاندي والصهيونية، مقال منشور على موقع www.aljazeera.net/print.htm
33 المصدر السابق.
34 المصدر السابق.
35 أورده جاك أتالي في المصدر السابق. ص 379.
Nanda Bel Ham : Mahatma Ghandi : New Delhi. Oxford. University Press.
36 المصدر السابق.
37 المصدر السابق.
38 المصدر السابق. ص 380.
39 قبل غاندي – على مضض – بعث تلك الرسالة التي حررها في 23/7/1939 وصدرت يوم 9/9/1939 في جريدة «هاريجان» والحال أن الحرب انطلقت يوم 3/9/1939 بإعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا التي احتلت بولونيا يوم 1/9/1939. وكان صديق قديم لغاندي يدعى هرمان كالنباخ (وهو يهودي صهيوني) الذي دفع غاندي إلى تحرير تلك الرسالة سعيا منه لاستدراجه إلى مناصرة الحركة الصهيونية. ويظهر من فحوى الرسالة تردّد غاندي في ذلك وعدم قبوله الانصياع لمشيئة صديقه القديم (عرفه أيام إقامته في جنوب إفريقيا) الذي هاجر واستقرّ في هستدروت في الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة منذ بداية السنوات الثلاثين.
40 المصدر السابق : ص 394.
41 أورده جاك أتالي : مصدر مذكور. ص 380.
42 أورد في المصدر السابق : ض 381.
43 شارك في تلك الحوارات الفكرية كل من هيغل، وبرونو باور، وكارل ماركس، ومارتن هديغير وجان بول سارتر وإبراهم ليون … (على سبيل المثال …)
44 Ghandi : – La voie de la non violence. Ed. Gallimard. Folio. Paris 2013.
– Tous les hommes sont frères. Ed. Gallimard. Folio. Essais. N°130. Paris.
45 أورده حاك أتالي، المصدر المذكور، ص 381.
46 Christian Destreman, Jean Moncelon : Louis Massignon. Ed. Perrin. Call. Tempers. P. 361-369. Paris 2011.
47 المصدر السابق، ص 398.
48 M. K. Ghandi : Résistance non violente : Ed. Buchet. Chastel. Paris. 1997.
49 Jean. V. Bondurant : Conquest of violence : The Ghandian Philosophy of conflict. Princeton. Princeton University. Press. 1958 (1e ed).
50 Gene Sharp : The politics of non violent action. Boston. Porter Sargent. 1973.
51 Mark Juergensmeyer : Fighting with Gandhi. New York. Harper and Row. 1984.
52 Denis Dalton : Mahatma Ghandi : non violent Power in action. New York. Columbia. University Press. 1993.
53 Martin Luther King : Autobiography. Londres. Little Brown. 1999. P 24.
54 المصدر السابق: ص 67.
زهيـــر الذوادي *