ليلى مراد..
من يقول منا انه نجا بعيدا عن الوقوع في سحر صوتها الآسر.
من يجرؤ على القول أنه ابتعد عن تأثيرها المهول حتى بعد أن اعتزلت الغناء لسنوات طويلة.
عن نفسي لم استمع في حياتي الى صوت فيه كل هذا الشجن سوى صوت ليلى مراد. صوت فيه فرحة بالحياة من الصعب أن تصفها الكلمات. وعذوبة تستعصي على الوصف.
وعندما كانت تظهر على الشاشة في افلامها المعادة والمكررة الاف المرات. كان الانسان يجد ما يمكن أن يمتعه في كل مرة يشاهد فيها هذه الأفلام مهما كان عدد المرات.
لقد كان صوتها ينبوع أحلام.
وكان حضورها أمام أعيننا وعدا بلحظات سعادة مسروقة من زماننا العصيب والصعب.
أذكر أنني في كل مرة كنت أمر فيها أمام بيتها في جاردن سيتي. كانت تحدث لي رجفة حب من إحساسي أن ثمة جدارا واحدا وأكثر من دور تفصل بيني وبين صاحبة الحنجرة الذهبية وذلك الوجه الملائكي. صاحبة أكبر حضور جميل لجو العذوبة في فن تاريخ السينما العربية. مع أنها لم تعتمد في الأداء سواء كان تمثيلا أم غناء سوى على البساطة.
ليقل الانسان: عبقرية البساطة حتى يكون منصفا في زمن مليء بكل ما هو ظلم.
يعرف الانسان بطريقة أو بأخرى أنه في الطريق الى النهاية لأنه ثمة رسائل غير مدونة لا تقال من كلمات تؤكد أن الانسان يلقي النظرة الأخيرة. التي لا توجد بعدها نظرة أخرى على الدنيا ومن فيها وما فيها.
طلبت ليلى مراد في وصيتها الأخيرة من ابنها أن تشيع جنازتها دون اعلان مسبق، وأن ينشر النعي التقليدي بحد أن يكون الدفن قد تم. وان تكون الصلاة عليها في مسجد السيدة نفيسة في القلعة. والا يحضر أحد من الغرباء تشييع جنازتها الى مثواها الأخير. لدرجة اننا نحن الذين نعيش في القاهرة. نتغذى على الأخبار. ومن يقابل صديقا يكون سؤاله الأول له: إيه الأخبار؟!
الحكاية الأول الاعتزال
عندما مرضت ليلى مراد مرضها الأخير ونزلت من بيتها في حي جاردن سيتي الهاديء والفاخر بصحبة ابنيها أشرف وجيه أباظة الذي يعمل مسؤولا في أحد فنادق القاهرة الكبرى وزكي فطين عبدالوهاب المخرج السينمائي الذي يخطو أولى خطواته في عالم الفن.
أصرت ليلى مراد قبل أن تنزل من شقتها. أن تضع على وجهها ملاءة غامقة تخفي ما تحتها حتى لا يتمكن أحد من التعرف عليها وهي في هذا الظرف العصيب.
وفي المستشفى كانت لا ترفع هذه الملاءة عن وجهها. الا عندما تكون الغرفة خالية تماما من الأغراب. والغرباء لم يكونوا أكثر من العاملين في المستشفى. من أطباء وممرضات وإداريين. فقد طلبت ليلى مراد من ابنيها أن يكون دخولها المستشفى وبقاؤها فيه سرا من الأسرار
وعندما ذهبت لكي أعزي فيها مساء اليوم التالي لدفنها في مسجد عمر مكرم صدمت بندرة الحاضرين. مع أنها امتعت أجيالا من المصريين والعرب. متعة توشك أن تصبح من مستحيلات العمر وما أكثرها.
قلت لنفسي وأنا جالس وسط الفراغ المؤلم. ان البطل الغائب من الصعب أن يكون له حضور يدفع الانسان الى النزول من بيته الى قلب المدينة المثقلة بالزحام والضوضاء والغبار لكي يقدم العزاء فيه.
تصورت ساعتها أن أزمة ليلى مراد الحقيقية أنها لم تحسب بدقة، الى أي مدى – زمنيا ومكانيا – يمكنها الابتعاد عن الآخرين.
على أن ليلى مراد عاشت ورحلت ومعها لغز عمرها. الذي لم أتوصل الى حل له. ودفن معها سؤال عمرها الكبير دون أن تخلف لنا اجابة محددة وقاطعه. السؤال هو: لماذا اعتزلت الفن
خاصة وأن هذا الاعتزال قد تم وهي في السابعة والثلاثين من عمرها وكانت في قمة تألقها الفني. وفي وقت كان استمرارها فيه هو الممكن الوحيد.
لقد تم الاعتزال سنة 1955 وكانت مصر على مشارف عصر جديد زمن يوليو. ولم تكن هي ضد الثورة كانت معها. تبرعت لها بالمال وغنت لمعانيها وعبرت عن حبها لرجالها في أكثر من حديث صحفي لها بل وارتبطت بزواج غير معلن مع أحد نجوم هذا العصر الا وهو وجيه أباظة. الذي ظل زواجها منه سرا حتى بعد رحيلها. فعندما نشر نعيها. ذكر فيه اسم إبنها أشرف دون اسم أبيه. وخلا عزاؤها من أي شخص من طرفه.وكان هو نفسه قد سبقها في الرحيل عن عالمنا بعدة شهور.
بعد رحيلها قرأت ثلاثة كتب صادرة عنها. كتابان صدرا في حياتها، والثالث بعد وفاتها بحث عن اجابة للسؤال الكبير ولكن دون جدوى.
الكتابان الصادران عنها وهي على قيد الحياة هما: رحلة حب مع ليلى مراد لمؤلفه صلاح طنطاوي. الذي نشرته مؤسسة روز اليوسف ضمن سلسلة الكتاب الذهبي سنة 1979 والثاني هو كتاب: يا مسافر وناسي هواك. ليلى مراد من تأليف: عادل حسنين الصادر سنة 1973 وهو كتاب يعتمد على الصور بشكل أساسي.
أما الكتاب الثالث فهو ليلى مراد من تأليف الكاتب الروائي صالح مرسي. الصادر في سلسلة كتاب الهلال، ديسمبر 1995 بعد رحيلها بأيام. والكتاب عبارة عن حوار طويل أجراه الكاتب معها في يوليو 1970 ونشره على شكل حلقات مسلسلة في مجلة "الكواكب" ولم يجمع في كتاب الا بعد وفاتها. وقد آثر صالح مرسي الا يكتب على هذه الحلقات العبارة التقليدية المشهورة: مذكرات ليلى مراد أو ليلى مراد تتذكر.
وان كان كتاب صالح مرسي يخلو من أي ذكر لحكاية الاعتزال بل إن الكتاب ينتهي ويتوقف عند خلاف ليلى مراد مع أنور وجدي. وكل التطورات اللاحقة بعده لا ذكر لها. والاعتزال أهم هذه الأحداث كلها. إما لأنها – أي ليلى مراد – لم تتكلم معه عن هذا الأمر. أو لأن المؤلف لم يكن مهتما به مع أنه حجر الزاوية في غياب ليلى مراد.
الكتابان القديمان يتحدثان عن قضية الاعتزال. وقد نشرا في حياتها. ولا أعرف ان كانت قد قرأتهما أم لا. في كتاب صلاح طنطاوي فصل بعنوان: أحزان ليلى مراد عن فترة الاعتزال. وان كان يحاول القفز على قرار الاعتزال بسرد محاولاته شخصيا استعادتها من أجل أن تعمل معه في مسلسل إذاعي مأخوذ عن رواية "انا كارنينا" لتولستوي وحصوله على موافقتها المبدئية. ثم رفضها بعد ذلك. وقال ان الرفض سببه تدني أجور المتعاملين مع الاذاعة. وعدم الموافقة على طلبات ليلى مراد المالية. وان كان المؤلف يهمه التأكيد على معنى أن ليلى مراد لم ينسها أحد قط.
أما كتاب عادل حسنين. فالفصل الأخير فيه عنوانه: ليلى ايتها الأسطورة: لماذا نأيت؟! وفي هذا النص محاولة للاجابة على سؤال لماذا اعتزلت؟ والاجابات كلها من اجتهاد الكاتب فهو يرى أولا أن زواجها من المخرج فطين عبدالوهاب هو السبب. وان كان هذا الكلام مردودا عليه. فقد قدمت بعد هذا الزواج فيلميها الرائعين "الحياة الحب" و"الحبيب المجهول ".
وأيضا فقد قامت ليلى مراد بأداء مقدمة مسلسل إذاعي كان من بطولة نجلاء فتحي ومحمود يس ومن ألحان بليغ حمدي. وعندما قررت جمعية نقاد وكتاب السينما أن تكرم ليلى مراد سنة 1977 وقدمت لها شهادة تقدير عن جهدها في عالم الفن. وحضرت ليلى مراد بنفسها حفل التكريم وظهرت بعد 23 سنة من الغياب والاختفاء والعزلة وسط الناس وتكلمت وضحكت وتسلمت جائزتها.
وفي نفس هذا العام –1977- قالت ليلى مراد في حديث إذاعي مع الإذاعية آمال العمدة. نصه منشور في كتاب عادل حسنين عن حكاية الاعتزال. وهذا الكلام يوشك أن يكون هو الوحيد عن الاعتزال على لسانها. ولذلك أورده كاملا بنصه. تقول ليلى مراد عن سبب اعتزالها.
"غلطة المسؤولين بلا شك سواء في الاذاعة أو مؤسسة السينما. أنا كنت احتجبت لفترة خمس أو ست سنوات لأنني كنت فقدت رشاقتي. كما أن أولادي كانوا في سن الطفولة. وأنا باحب الأطفال وباحب أولادي. أخذتني الأمومة خمس سنوات. وبعد كده الأولاد ابتدرا يكبروا ويروحوا المدارس فقمت بتخسيس نفسي ورجعت زي ما كنت.
حاولت -تكمل ليلى مراد حكايتها- عند المسؤولين عن الفن في مصر وفشلت. مش بس فشلت. ده أنا سقطت في الامتحان.ده كان فاضل شوية ويقولوا لي ابقي تعالي بكرة. مش فاضيين النهارده.. الى هذه الدرجة.
بعدما خسست نفسي وبقيت تمام. رحت لهم بنفسي مش همه اللي طلبوني. أخذت موعدا مع المرحوم عبدالحميد جودة السمار وقابلته "كان عبدالحميد جودة السمار رئيسا لهيئة السينما في ذلك الوقت ".
وبعد أن قابلته رحب بي طبعا. وقال لي: أنا تحت أمرك. وتعالي في اليوم الفلاني. ذهبت اليه في الموعد وعرضت عليه الفكرة في أني عايزة أرجع للسينما من تأني. وأطلب موعدا ثانيا وأقول أحنا اتكلمنا من أربع خمس شهور وأنا عايزة أرجع للفن من تاني. وبعد خمس شهور يوعدوني ثاني وما فيش حاجة أكثر من هذا".
وفي صيف 1984 -أي قبل رحيلها عن عالمنا بأحد عشر عاما أقنعتها شركة انتاج تليفزيون عربية بالظهور على شاشتها مقابل خمسة آلاف جنيه وكان ظهورها بعد 30 سنة من الغياب وكان بالألوان الطبيعية مع أن الناس لم ترها من قبل سوى بالأبيض والأسود. ولهذا كانت صدمة من شاهدوها عنيفة.
ظهرت ليلى مراد مرة أخرى بعد أن أصبحت ممتلئة وجهها ملطخ بالأصباغ وهو ما يناقض صورتها الرومانسية الجميلة التي أحبها حتى الذين لم يؤثر صوتها فيهم. كان المصريون والعرب في تلك الأيام -أيام سينما الابيض والأسود حزبين- حزب فاتن حمامة وحزب ليلى مراد. وان كانت ليلى مراد قد تفوقت على فاتن مرحليا بالفنانة الشاملة. فإن فاتن قد انتصرت في النهاية على ليلى مراد بتلك القدرة الفريدة على الاستمرار.
يقول عادل حسنين في كتابه عن اعتزال ليلى مراد: أن ليلى مراد لم تستطع أن تتأقلم مع الجديد. ذلك أنها كانت قد اعتادت ان تعيش وسط البشوات. ففضلت الابتعاد عن هذا الجو الثوري.
في حين أن الناقد الفني ومؤرخ الغناء العربي كمال النجمي يقول
كانت ليلى مراد قد ضعفت كثيرا وأصابها السأم من تقلبات الحياة وتقلبات الفن. فلم تستفد المطربة الكبيرة من نضج صوتها. وانصرف عنها المستمعون قائلين: ماذا جرى لليلى مراد؟
هنا اجتهادان في سياق محاولة تفسير قرار الاعتزال الذي اتخذته ليلى مراد، في الوقت الذي لم يكن متوقعا منها. لكن يبقى السؤال في حاجة الى إجابة: لماذا اعتزلت ليل مراد الفن في الظروف التي حدث هذا فيه ؟!
هل من حقي أن أجتهد ل محاولة الاجابة على السؤال الكبير؟ أعتقد أن مفتاح الاجابة يكمن في تفسير توصلت اليه الكاتبة والزميلة "صافي ناز كاظم" في مقال لها. عن ليلى مراد بعد الوفاة. قالت فيه: "إن ليلى مراد لم تغن جيدا في السينما الا أمام عبدالوهاب. وأنها لم تمثل بكامل لياقتها الفنية الا عندما كانت تمثل أمام أنور وجدي.
في هذا الوقت بالذات كان عبدالوهاب قد اعتزل الغناء في السينما. وفي الحفلات العامة. وأصبح ملحنا أكثر منه مطربا وحتى عندما كان يغني فإن هذا كان يجري في الاستديو بعيدا عن الجماهير وكان قد توقف تماما عن تقديم الأفلام الغنائية وهذا معناه انتهاء عبدالوهاب المطرب. فأمام من كان يمكن أن تغني؟!
من ناحية أنور وجدي كانت العلاقة بينهما قد أصابتها حالة من الخشونة القاسية بعد التطورات التي جرت بينهما. وبعد أن تأكدت أن أنور وجدي ينظر اليها باعتبارها مصدرا من مصادر الحصول على المال. ومن المعروف أن أنور وجدي كان يحب المال أكثر من أي شيء أخر في الحياة.
ماذا يبقى لها بعد الغناء والتمثيل لكي تستمر؟! من المؤكد أنه لم يبق لها أي شيء. سوى الاعتزال. ثم والأهم من كل هذا هل يستطيع فنان اعتزل الفن ثلاثين عاما أن يعود الى الفن من جديد. عابرا هذه السنوات كأنها لم تكن أساسا؟
من الطبيعي أن يعاودها الحنين بعد سنوات. ولكن هل معاودة الحنين تكفي للاستمرار في رحلة الفن بعد ذلك، مشكلة ليلى مراد إن السنوات التي تقع بين الاعتزال والعودة كان قد تغير كل شيء فيها. إن الزمان لا يتوقف أبدا عن حركته الدائبة والمستمرة بدون أي توقف.
أنا ضد قرار الاعتزال من قبل أي فنان مهما كانت المبررات والأسباب والذرائع التي تقف وراء هذا القرار. ولكني ضد – وبنفس القدر – ان يقرر المعتزل العودة في أي وقت يشاء.
الفنان دائما يحب الانسحاب والابتعاد في بعض الأوقات لسبب أو لآخر. ولكن القضية التي لابد من حسمها هي أن الفنان لابد وأن يحسب الى أي مدى يمكنه الابتعاد دون أن يكون هذا الابتعاد ضارا به. الابتعاد مطلوب ولكن الابتعاد المحسوب بكل الدقة الممكنة. واعتقد أن ليلى مراد لم تحسب الأمر بالدقة المطلوبة أبدا. وتصورت أن الفن يمكن أن ينتظر فنانة اعتزلت في الوقت الذي رأته مناسبا. دون أن تحدد الوقت المناسب للعودة.
وأتصور أن ليلى مراد في سنوات عمرها الأخيرة. كانت عينا في الجنة وأخرى في النار. عين على الاعتزال وأخرى على العودة. وفي هذه الظروف عاشت ما بعد الاعتزال.
اعتقد رغم هذا الاجتهاد البسيط أن قرار ليلى مراد بالاعتزال ومحاولات العودة سيظلان في حاجة الى المزيد من الاجتهاد الآخر الذي يكمل ما ذهبت اليه. ان كان هذا الذي ذهبت اليه يقوى ويصمد في مواجهة المناقشات والتحليلات.
لدى قصة انهي بها هذا المشروع للاجابة على السؤال الكبير وجدتها في ثنايا الكتب الثلاثة عن ليلى مراد. وهي قصة حقيقية. وتؤكد العديد من المعاني التي نجد أنفسنا في أمس الحاجة اليها الآن. تقول هذه القصة:
كان نجيب الريحاني يسكن في نفس العمارة التي كانت تسكن فيها ليلى مراد. وذات مساء جمع المصعد بين ليلى مراد ونجيب الريحاني. فكان من نجيب الريحاني أن نظر الى ليلى مراد. وقال لها في استعطاف: نفسي أمثل فيلم معاكي قبل ما أموت يا بنتي.
طارت ليلى مراد من الفرح وجرت على شقتها. وكان فيها أنور وجدي.. زوجها وقالت له الخبر وهي سعيدة بدون حدود. وهنا ظهر التاجر في أعماق أنور وجدي الذي التقط فورا الجانب النفعي في المسألة. وبدأ يتكلم عن مشروع الفيلم. ولم يعطها حتى الفرصة من أجل التقاط الأنفاس وهكذا خرج الى الوجود فيلم "غزل البنات ".
الغريب والعجيب ان موقف نجيب الريحاني يرقى الى مستوى النبوءة. فقد مرض في نهاية الفيلم. وأكمله بصعوبة بالغة. ومات بعده مباشرة وكان "غزل البنات " هو هذا الفيلم الأخير بالنسبة لأنور وجدي. وهو الذروة التي ما بعدها ذروة أخرى بالنسبة لليلى مراد.
هل رأيت معي كل هذا القدر من التواضع من قبل نجيب الريحاني: مع فنانة أقل منه كثيرا. لقد ودعنا التواضع مع رحيل نجيب الريحاني فلم نعرف بعده سوى الذوات المتضخمة والأنات الوارمة. ومازال هذا مستمرا حتى إشعار آخر.
الحكاية الثانية الاغتصاب:
وذلك بدلا من السؤال عن الصحة والحال. أقول أننا لم نعرف بوفاتها الا بعد دفنها. وهذا ما دفع بعض الخبثاء وما أكثرهم في المشهد المصري الراهن أن يقول ان السبب في هذا التكتم الشديد من جانبها. وإشرافها بنفسها على مشهد نهايتها وعدم تركه لاجتهادات ابنيها، أنها لم تكن ترغب في أن يعرف أحد أنها دفنت في مقابر البساتين وهي مقابر اليهود في مصر.
ذلك أنه منذ أن كانت في مصر جالية يهودية ومقابرها كانت ومازالت في منطقة البساتين وحكاية دفنها فيها كلام أقرب الى الشائعات. لأن من توصي أن يصلى عليها في مسجد وأن يكون هذا المسجد هو جامع السيدة نفيسة. ومن توصي بذلك لابد وان تكون مسلمة رغم أنف المغرضين أصحاب الشائعات إياها.
ومشكلة ليلى مراد بين اليهودية والسلام لم تثر بعد رحيلها فحسب. ولكن اثارتها عاصرت حياتها.
فما أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل. حتى تذكر المصريون أن ليلى مراد يهودية الأصل والنشأة. وبدأ الكل يثير هذا الموضوع الغريب.
كان موقف ليلى مراد في حياتها وحتى اللحظة الأخيرة من عمرها شديد الوضوح وهو أنها أسلمت في النصف الثاني من الأربعينات عن قناعة واقتناع تامين وأنها مسلمة قولا وفعلا.
قبل أن تترك ليلى مراد بيتها الى المستشفى في مرضها الأخير كان بجوار سريرها مصحف القرآن الكريم. وكانت في وسطه علامة تشير الى المكان الذي وصلت اليه. وقال ابناها إنها كانت تنوي أن تختم القرآن الكريم. وان كان الأجل قد وافاها قبل أن يتم ذلك. وعموما فقد ختمت القرآن الكريم قبل ذلك أكثر من مرة في حياتها.
على أن اسرائيل سببت لليلى مراد الكثير من المشاكل من قبل وكانت السبب الجوهري في اطلاق العديد من المشاكل والشائعات عنها. وأخطر هذه الشائعات تلك التي انطلقت مع الأيام الأولى لثورة يوليو1952 وقد دارت هذه الشائعة حول أن ليلى مراد قد زارت اسرائيل سرا. بل وتبرعت لها بـ 50 ألف جنيه.
كان لهذه الشائعة ولمحاولة نفيها من قبل ليلى مراد أكبر الأثر في حياتها بعد ذلك.
وسأروي هذه القصة معتمدا على الفصل الخامس من كتاب على حسنين عن ليلى مراد والفصل عنوانه: "أقوى من الحب وأكبر من الشائعات ".
وكانت هذه القصة – الشائعة قد بدأت عندما نشرت جريدة الأهرام يوم 12 سبتمبر سنة 1952 خبرا هاما اختارت له مكانا بارزا بالصفحة الرابعة. قالت فيها على لسان مراسلها في دمشق:
إن الحكومة السورية قررت منع أغاني ليلى مراد وأفلامها في سوريا لأنها قد تبرعت لإسرائيل بمبلغ 50 ألف جنيه.
وقد أثار الخبر ردود فعل هائلة وصلت الى حدود الصدمة لدى عشاق ليلى مراد ومعجبيها.
في اليوم التالي صرحت ليلى مراد لوكالة الأسوشيتدبرس أنها تكذب تماما الخبر الذي يقول انها تبرعت بـ50 الف جنيه لاسرائيل. وأكدت أن هذه الرواية مردها هو حقد بعض المشتغلين بشؤون السينما.
وأضافت انها موقنة أن الشعب المصري يعرفها حق المعرفة كذلك الحكومة المصرية. وانهما لا يصدقان مثل هذه المزاعم.
كانت ليلى مراد في ذلك الوقت قد سافرت الى باريس عندما علمت أن أنور وجدي – زوجها السابق – ستجرى له عملية في الكبد في العاصمة الفرنسية. فقررت الوقوف بجانبه ومن باريس قالت ليلى للصحف:
انها ليست المرة الأولى التي تحاول فيها الدعاية السيئة ان تنال مني وقد يكون سببها أني ممثلة ممتازة وقد سبق أن أشاعوا اني صدمت في حادث سيارة بايطاليا. والواقع انني لم أزر إيطاليا قط. وأكدت أن كل أموالها مودعة في بنوك مصرية. وأنها لم تملك في يوم من الأيام مبلغا يزيد على 50 الف جنيه.
وكانت إحدى الصحف الفنية اللبنانية قد اختلقت هذا الشائعة عندما بدت بوادر الطلاق بين ليلى مراد وأنور وجدي وتلقفت الصحف السورية هذا الكلام ونشرته. وكان ما كان.
وحتى بعد أن كذبت ليلى مراد ما نشر. طلبت منها الاذاعة السورية أن تقدم المستندات التي تثبت صحة ما قالته في التكذيب. وقد تعبت كثيرا من أجل تدبير هذه المستندات. وسافر مدير أعمالها محمود شافعي الى دمشق.
وكانت الوثائق التي قدمتها على النحو التالي:
1- شهادة بحسابات ليلى مراد لدى البنك العثماني وكان قدره 36149 جنيها و8252 مليما. وفي البنك العربي وكان قدره 30710 جنيهات و622 مليما. وشهادات من البنوك الأخرى أن ليلى مراد ليس لها فيها حسابات إطلاقا.
2- شهادة من القنصلية المصرية العامة في باريس. ومعها وثيقة من الأمن العام الفرنسي. تثبت فيها أنها لم تغادر فرنسا فقد وصلتها قادمة من مصر.
3- شهادة من أنور وجدي يثبت فيها ان طلاقه من ليلى هانم مراد لم يكن بسبب خلاف ديني لأن السيدة ليلى مسلمة وموحدة بالله سبحانه وتعالى منذ حوالي سبع سنوات وان الطلاق لم يكن بسبب خلاف سياسي أو ميول وطنية لأن السيدة ليل مراد لم يكن لها في يوم من الأيام لون سياسي أو ميول وطنية من أي نوع وانما هي عربية مسلمة صميمة يحبها العرب جميعا وهي تبادلهم الحب.
وبعد تقديم هذا الوثائق. قام الفنان سراج منير بصفته نقيب الفنانين في ذلك الوقت بكتابة خطاب الى الشؤون العامة الادارة الجيش المصري. طلب فيه من الجيش أن يفيدهم عن ثبوت أو انتفاء ما أشيع عن ليلى مراد.
وكان الجيش في ذلك الوقت – بعد ثورة يوليو بشهور – يشكل المرجعية التي تطو أي مرجعية أخرى في مصر.
كان قائد الجناح وجيه أباظة مدير الشؤون العامة في الجيش في ذلك الوقت. الذي رد على الخطاب قائلا:
– إنه بد تحريات جهات الاختصاص في هذا الموضوع. تبين لنا أن السيدة ليلى مراد لم تسافر الى اسرائيل ولا صحة لما نشر عن تبرعها للحكومة الاسرائيلية بأي مبلغ من المال.
وفي نوفمبر 1952 تعود ليلى مراد وتقول لمجلة الفن عن هذا الشائعة:
إنني مظلومة وبريئة من جميع ما نسب الي. انني مصرية عربية مسلمة ومتزوجة من مصري مسلم وأحب العرب والاسلام. وان الله لن يظلم مخلوقا بريئة. ان براءتي ستظهر للجميع وسيزداد حب الناس لي في جميع البلاد العربية. وعلى الرغم من شعوري بأن ليس لي أعداء. إلا أنه يوجد من يغيرون من شهرتي. فنكاية بي أشاعوا عني هذه الأكاذيب التي ليس لها ذرة من الصحة والحقيقة والتي ليس لها أي دليل لأنني قد وهبت نفسي وحياتي للفن والعرب والاسلام وهذه حقيقة يعلمها الجميع بل ويعلمها الذين أشاعوا هذه الفرية الكاذبة. لقد ظلموني وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وفي إطار هذه الحكاية. أعلنت ليلى مراد من جديد تأييدها لثورة يوليو وشاركت في الهجوم على الملك السابق فاروق وتحدثت عن محمد نجيب باعتباره والدها. وقالت عنه انه "الرجل العظيم".
ولأنها أرادت أن تربط الأفعال بالأقوال قامت ليلى مراد بزيارة لمجلس الوزراء وقابلت الصاغ مجدي حسين مدير مكتب الرئيس محمد نجيب. وقدمت شيكا بملغ ألف جنيه تبرعا ومساهمة منها في مشروع تقوية الجيش المصري.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تساهم فيها ليلى مراد للمجهود الحربي. ففي مايو سنة 1948. تبرعت ليلى مراد وأنور وجدي بمبلغ مائة جنيه مصري وذلك للترفيه عن جنود الدول العربية التي تقاتل في فلسطين فكانت ليلى مراد تريد أن تشارك بنفسها في الترفيه عن الجنود لولا ظروف وفاة والدها.
ولم تكتف ليلى مراد بتقديم المبلغ المالي تبرعا للجيش المصري بل غنت الأغنية الوطنية الوحيدة في حياتها كلها:"على الاله القوي الاعتماد" وتقول ليلى مراد عن هذه الأغنية. كان وراء الأغنية أكثر من قصة، كان هناك الملحن الذي كتب كلماتها ولحنها فعاش مع سطورها وأنغامها. لقد قرأت كلماتها قبل أن أسمع لحنها. فخيل الي أن الكلمات لحن وحده وان اللحن سطور تروي هذه الأغنية. وهذا الفنان هو الاستاذ مدحت عاصم فقد عاش بدوره في هذا العمل الوطني الناجح. لقد غنيت كثيرا. ولكن قلبي لم يخفق من أعماقه كما فعل مع هذا اللحن وأسي هذا تجاوبا فنيا وروحيا مع عمل فني ناجح كان اللحن فيه دعاء وأمل وقوة وعزيمة وايمان بمصر.
يبقى السؤال: من الذي أطلق الشائعة ضد ليلى مراد؟! يجيب عادل حسنين في كتابه بقوله: إن أنور وجدي وبالاتفاق مع أحد الصحفيين هو الذي أطلق الحكاية الا أن أنور وجدي ما كان يعرف أبعادها. ويعلم أنها لن تؤثر على ليلى مراد فقط. بل عليه أيضا بوصفه شريكا في البطولة لأغلب أفلام ليلى مراد.
وهكذا أسرع أنور وجدي الى باريس يخطط لأبعاد هذه الشائعة وينفيها ويعود مع ليلى مراد من فرنسا الى القاهرة على ظهر الباخرة إينوزيا رغم أنهما كانا مطلقين وتدخل الأصدقاء مرة ثالثة لإعادة الحياة الزوجية بين ليلى مراد وأنور وجدي الى سابق عهدها. وان كان الكاتب يتساءل
هل شعرت ليلى مراد أن وراء هذه الشائعة التي كان من الممكن أن تقضي عليها.. أنور وجدي؟!
ويجيب على سؤاله
لا أحد يدري. فقد كان عمر الطلاق بينهما قصيرا. ولكنهما بعد هذه الشائعة عادا الى بعضهما. بعد أن وقف أنور وجدي بجانبها يساعدها في تكذيب هذه الشائعة.
تبقى شهادتي الشخصية حول هذه القضية.
عندما وقع السادات معاهدة كامب ديفيد. وبدأ الاسرائيليون يتحدثون عن ليلى مراد. كنت في ذلك الوقت مسؤولا عن مكتب القاهرة لمجلة "سيدتي" التي تصدر من لندن. وقد طلبت من المرحوم حسين عثمان -أنقى من عمل في التحرير الفني في مصر-ان يذهب الى ليلى مراد ويتحدث معها عن التطبيع مع اسرائيل وكانت هذه الكلمة غريبة على الأذن المصرية في ذلك الزمان البعيد.
بعد ساعة كان يتصل بي من منزل ليلى مراد ويقول أنها لا تحب أن تتكلم في هذه الظروف بعد ملابسات ووقائع اشهار اسلامها وانها ستقدم له صورا لم تنشر من قبل وهي تشهر اسلامها بين يدي شيخ الأزهر الشيخ حسين مخلوف. وأن ذلك أبلغ رد على ما يقال في هذه الأيام عن يهوديتها واسرائيل.
وكان هذا الحديث في وقته حدثا هاما..
أشهد أن ليلى مراد رفضت بعد ذلك كل محاولات إقامة أي صلة بينها وبين الاسرائيليين. وكان لها موقف شديد المبدئية من هذه المسألة. وقد وصلت عروض اسرائيل لها. إقامة مهرجان كامل للأغنية العربية تكون هي سيدته الأولى. وصاحبة الصوت الأول والأخير فيه.
الذين كانوا يعرفونها عن قرب أكدوا لي أن من الأمور التي سببت لها أكبر قدر من الغضب والكدر والحزن في السنة الأخيرة من عمرها. عندما نشرت جريدة اسرائيلية أن أقرباء ليلى مراد في اسرائيل يعيشون في انتظار زيارتها القريبة اليهم في اسرائيل.
كانت المسافة طويلة بين العنوان ومضمون الخبر. فليس في صلب الخبر ما يفيد امكانية تنفيذ هذه الزيارة أبدا ولكن ليلى مراد قالت وهي في قمة غضبها أن الناس في هذه الأيام. ربما قرأ الواحد منهم العنوان ولا يتوقف لمتابعة ما في الخبر بعد ذلك.
وحتى لحظة رحيلها عن هذا العالم حافظت على هذا الموقف المبدئي من قضية إقامة أية علاقة من أي نوع بإسرائيل.
أما كون اسرائيل قد أعلنت بعد رحيلها عن انتاج فيلم عن حياتها فليست مسؤولة عن ذلك. ذلك لأنه نوع من اغتصاب ارادتها بعد رحيلها عن عالمنا. انها لا تملك الموافقة ولا تملك الرفض لأنها لم تعد موجودة. ان اسرائيل مازالت تلوح لها بمنديل التطبيع حتى وهي ميتة لا تملك حتى أن يكون لها موقف فيه. واسرائيل تحاول اغتصاب ذكراها أو العطر الذي يفوح من اسمها عند من أسعدهم صوتها وهم يعدون بالملايين في مصر والوطن العربي. لست في حاجة الى القول أن ليلى مراد ليست مسؤولة عما يمكن أن تقوم به اسرائيل تجاد ذكراها وتراثها. واسرائيل التي قامت بالعدوان على كل ما في الامة العربية حاضرا وماضيا ومستقبلا ليس بغريب عليها محاولة اغتصاب تاريخ ليلى مراد..
يوسف القعيد (كاتب من مصر)