لم أمت رغم أنني شربت ما يكفي لقتل عشرين فأرا على الأقل..
– سألت عم الناصر العطار ” كم يلزم لقتل فأر؟” فقال لي: جرام واحد…
– وكم يلزم لقتل بشر؟ ..
– “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اتصبح هالصباح.. ” أخذت كيس سم الفئران ومضيت.
يومها وضعت عشرين جراما وربما أكثر .. خلطتها جيدا في كوب الماء حتى صار لونه “كالباستيس”… لا أنكر أنني ترددت قليلا قبل شربها ولكن لم أتراجع عن قراري.
أنا واثق أنني وضعت ما يكفي لقتل عشرين فأرا.. ورغم ذلك لم أمت.
لا أدري هل ذكرت لك هذه التفاصيل من قبل أم لا .. ؟
المهم..
لم يكن مشرّفا لي أن أقارن نفسي بأربعة أو خمسة فئران.. فلو وضعت جراما أو جرامين سأموت فعلا كفأر وآخذ وقتي الكافي كي أموت. لم أشأ أن آخذ وقتي الكافي لأموت أردت أن أموت على نحو بطولي وسريع. يشبه الموت بالرصاص في حرب خاسرة..
كان مقززا رؤية فأر يموت لذلك لم أشأ أن يكون مصيري كمصير الفأر. فوضعت ما يقتل عشرين أو أكثر.
عندما كنت صغيرا ارتبطت صورة الفأر في ذهني بصورة ذلك الجبن الأصفر المائل إلى البُنّي والمرصّع بثقوب دائرية.. لم أره يوما إلا في كتب المدرسة ولم أتذوقه ولكن بقيت صورة الجبن الأصفر المثقوب المائل إلى البنّي تلمع في ذهني كلما رأيت فأرا..
لم يجْر الجبن في لغتي وأنا صبي وحتى في الحالات النادرة التي كنا نأكل فيها جبنا كان جبنا أصفر بلا ثقوب تقطّعه أمي كما تقطّع أي شيء خشن وقاس.. لا يذوب في الخبز الساخن ويظل مكورا فنلتهمه كما هو ونتركه يستقر في أمعائنا. فلم نكن مستعجلين على هضمه…
لم أمت لكنني رأيت ما يسمونه الموت الذي كنت أبحث عنه.. رأيته في وجع يقطّع أمعائي. رأيته عندما انطفأ النور الكهربائي في رأسي فجأة. ولم أعد أرى إلا ظلام نفسي وأشياء غامضة وموحشة يصعب علي استرجاعها الآن.. رأيت الموت عندما أفقت منه. رأيته في عيون الناس المحيطين بي في تلك الغرفة البيضاء الهادئة. رأيته في استغفارات عمي وتعوّذه من الشيطان الرجيم.
– تلبّسه شيطان وإلا ماذا ينقصه.. شباب يموت من الشبع..
أذكر أنه كان يوما عاديا. خرجت صباحا واشتريت جريدة “لابراس” ثم شربت قهوتي “الكابوسان” عند عم علي وعدت إلى البيت في آخر النهج. خلطت دواء الفئران في الماء. ودخلت غرفتي كان فراشي على الأرض. فرشت جريدة بجانبي ووضعت فوقها الكأس مملوءة سما وماء وأخذت أتصفح الجريدة. لم أشأ أن أموت قبل أن أتصفح ملحقها الثقافي. قليل من المسرح قبل الموت بدا لي مهما جدا. نظرت إلى الكأس أكثر من مرة تحوّل لون الماء إلى خليط أبيض بياضا غير مريح.
أكملت مقالا نقديا عن مسرحية “عشاق المقهى المهجور”. تفنن الكاتب في التخفي وراء الفن ليطمس الفكرة ويرفسها بشقشقة لفظية ساذجة. نظرت إلى الكأس مرة أخرى. طويت الجريدة طيا محكما وضعتها على يساري وبدت صورة الرئيس المفدى المطوية كما اتفق، ناتئة من جهة الأنف فلم تبد إلا عيناه تحدق في السقف.
التفتُّ يمينا ..اتكأت على مرفقي. وعببت الكأس دفعة واحدة. ثم قلبته فوق الجريدة. فارتسمت دائرة ندية على ورق الجريدة اتسعت قليلا ثم لم أر بعدها شيئا.
أذكر أنني قبل أن أخلط السم قرأت على الكيس “عبارة صنع في الهند”. استغربت وتبسمت بخبث أو سخرية لا أدري.. سحقا.. حتى السم نستورده.؟؟؟ وتذكرت طفولتي مع العقارب في تلك الشعاب الموحشة.
“صنع في الهند” مكتوبة بأحرف أنجليزية صغيرة فيما كلمة دواء الفئران مكتوبة باللغة العربية. لكن السم سم سواء في الهند أو في الصحراء الكبرى..
تذكرت العقارب التي كنا نصطادها ونبيعها “لحوّاس”. وهو تاجر مراب يأتي يوم السوق إلى القرية يبيع كل شيء ويشتري كل شيء.. يحزم ما يشتريه في عربته المهترئة ويختفي مع المساء.. كان أيضا يشتري العقارب والأفاعي. قيل أنه يحنّطها ويبيعها للسياح وقيل أنه يبيعها للمختبرات.
تذكرته وقلت في نفسي لابد من أن لنا احتياطيا من السموم في هذه البلاد. فمن مقبرتنا وحدها كنا كل صيف نصطاد عشرات العقارب نبيعها “لحوّاس” وحواس يبيع جزءا منها إلى المخابر. فلماذا نستورد سموما هندية. على الأقل نحن نعرف عقاربنا وهي تعرفنا فما أدرانا بعقارب الهند.
كان يمكن أن أحول مسألة استيراد السم من الهند إلى قضية إيديولوجية أنفخها بمصطلحات السيادة الوطنية والرأسمال الوطني وغيرها. لم يكن لدي الوقت. كنت أريد أن أموت، حبذا كان السم وطنيا ولكن أما وقد كان هنديا فلا يهم.
عندما أفقت زاد حنقي لأنني لم أمت رغم أنني شربت سما مستوردا من الهند.
بعد أشهر عدت إلى العاصمة بعدما أقسمت كل الأيمان الغليظة والرقيقة لأمي بأن لا أقرب سم الفئران أبدا. لاحظت أن عم الناصر صار يحترمني أو يخشاني ولكنه لم يبدل عاداته تجاهي. سألني يوما وأنا أهمّ بالخروج من متجره وهو يفرك أسنانه بعود..
– اسمع يا انتحاري.. أتذكّر عندما سألتني عن الكمية الكافية لقتل بشر؟ لم أطمئن لسؤالك حينها.. (ثم بصق)..عندما سمعت الخبر شعرت بأنني أتحمل شيئا من المسؤولية؟؟ ولكن قلت “طز فيه” أنا بعته دواء فئران.
– لكنني لم أمت يا عم الطاهر ليتك أخبرتني عن الكمية.
– والله أنت حقير وشيطان .. ونكاية فيك يبدو أنني بعتك سما مغشوشا أو منتهي الصلاحية
بدأ عم الطاهر ضحكة مصحوبة بأصوات من صدره تشبه الرعد قطعها ببصقة ثم واصل ضحكه الخبيث.. ولكن كلامه انفجر في رأسي كسؤال خارج التصنيف.
هل فعلا يمكن أن يكون السم مغشوشا؟ ثم ما معنى سم مغشوش؟
يعني سمّ لا يقتل..؟؟؟
بالتّالي لم يعد سما..
في هذه الحالة، الذي غش في السم… هل نسميه غشاشا أم فاعل خير..؟؟ لأنه منع مفعوله القاتل وأنقذ منتحرا مثلي؟؟
ثم كيف نغش في السم؟؟
نضيف له عسلا مثلا بحكم أن العسل سائل أبدي للحياة..
إذن هذا الرجل الذي غش في السم عظيم لأنه غش في الموت فزاده منسوبا من الحياة. والموت هو حياة منطفئة. يمكن إضاءتها قبل الأوان وأحيانا مع الأوان أو بعده بقليل.
وهجم نمل الأسئلة علي وشعرت به يتكوم في وسط جمجمتي..
سم مغشوش أو منتهي الصلاحية..؟؟؟
ما هذه البلاد ؟؟؟ لا يكفي أن تستورد السم من الهند.. تستورده مغشوشا او منتهي الصلاحية..؟؟
شعور حقير أن تعيش في بلد تستورد السم المغشوش لمواطنيها الذين يريدون قتل الفئران التي تعشش في بيوتهم وفي حالات نادرة الانتحار لقتل لا يقتلها إلا الموت.
الأحقر من ذلك كله أن تشعر أن تجربة الموت كانت تجربة تافهة لأنها تمت بسم منتهي الصلاحية..
مصيبة عندما تكتشف أن الموت لم يعد مضمونا لأن السم لم يعد مضمونا أيضا.. ثم ما رأيته وما مر بي من عذاب والمهرجان الجنائزي في المستشفى والجو الاحتفالي في البيت وكمد أمي ثم فرحتها…الخ. كل ذلك فقد معناه لأن السم لم يكن قاتلا. كان مؤلما فقط. وأنا لم تكن غايتي الألم كانت غايتي الموت…
تصوّرْ..!! لقد ضحك عليّ الموت.. أو ضحكتُ الموت..أو أن عم الناصر ضحك علينا جميعا..
رغم أنهم جميعا يعتبرونني انتصرت على الموت وعلى نفسي.. أشعر أنني كنت مهرّجا في كرنفال جنائزي. باعني عم الطاهر سما مغشوشا فانسحبت من الموت إلى الحياة وانسحب معنى وجودي من الإثنين فأنا الآن لا حي ولا ميت.. جربت الإثنين.
فكرة مدبّبة كمسامير الحذاء الصغيرة استقرت في قاع رأسي ؟؟؟ لماذا هذه الثنائية البشعة إما حياة أو موت هل يمكن التفكير في خيار ثالث..؟؟؟ .. في لحظة لا هي حياة ولا موت..
وأيقنت بيني وبين نفسي أنني أعيش ذلك الخيار الثالث..
بل أنا الخيار الثالث شخصيا..!!!
لم أبرأ من تلك الأسئلة إلى اليوم. وعوض أن أفكر في الموت وفي محاولة الموت مرة أخرى صرت أحتقر هذا الموت الذي كان سيؤمّنه لي سم هندي فاخر..
لا أعرف عن الهند إلا ما يعرفه الناس عن بلد آلاف اللغات والأديان.. بلد تستوطنه الأرباب والأنبياء والفقراء والشعراء وكل السحرة الذين يتقنون العزف لترقص الفاعي..وكنت قد قرأت منذ زمن بعض أقوال طاغور. كان شاعرا برتبة نبي. وأعرف الكثير عن غاندي، بطل من أبطال البشرية كان صادقا مع نفسه ومع شعبه ومع من يعبد، كل هذا أعرفه ولكن لا أعرف شيئا عن السم الهندي. يبدو أن الهنود صادقون في قصائدهم ولكنهم يغشون في سمومهم.. ربما يخلطونها بكثير من العسل لتبتلع جزيئات الحياة جزيئات الموت في ذلك الكيس القاتم.
تذكرت كلمة لطاغور ظلت ثاوية في متحف رأسي : “أنر الزاوية التي أنت فيها..”
وأنا الآن في زاوية تشبه الورطة. لم أمت فتورطت في نفسي أكثر بسبب سم مغشوش…!!!!!
الأفضل أن لا تسألني ولكن إذا سألتني لماذا حاولت الانتحار أجيبك بكل بساطة أنني لم أعد قادرا على الحياة. ولكن هذا لا يعني أنني أحب الموت.
كم تزعجني تلك الكلمة الساقطة: فلان “يحب الحياة” يقولها أحدهم بمزاج عاهرة أو كثيرا ما تتشدق بها أولئك المذيعات الشقراوات الساذجات في تلفزيونات تشبه اللعنة..
أمقت هذه الأوصاف التي يتواطأ عليها كثير من الناس لوصف بعضهم بعضا على سبيل التشريف.
أمقت اللغة المالحة والحياة المالحة.
يا سيدي …. ويا سيدتي….. قسما بالله العظيم… أنا حاولت أن أنتحر لأنني أحب الحياة..
لا أنكر أنه هو السبب أو هكذا أعتقد. ولكن لم أكن لأقتنع بالانتحار لولا اقتناعي بأنني لم أعد صالحا لهذه الدنيا.
نعم هو دمّر حياتي ولكنه لم يكن يقصد أن يدفعني إلى الانتحار. ثم هو دمّر حياتي دون أن يقصد. أما أنا فقصدت أن أدمر حياتي بنفسي وأختار نقطة نهايتها.
فكرت أن أرمي بنفسي أمام القطار، ثم عدَلت عن فكرة الموت الاستعراضي. أمام الناس يعنيني جدا جسدي. أريد موتا بلا دماء. أكره الدماء، ومن البغيض أن لا يجدوا جسدا يدفنوه يوم الجنازة، والجنازة مهمة بالنسبة لي..
فكرت أن أمسك بسلك الكهرباء إلى أن أموت.. لم يطربني المشهد وعلمت أن الموتى بالكهرباء كثيرا ما يتبولون في سراويلهم أو يتبرزون. لا أريد أن أكون منتحرا بوّالا.. يعنيني كثيرا سمعت بعد موتي..
فكرت في خيارات كثيرة ولم أجد ألطف من السم. ولكن السم كان مغشوشا فأفقت بعد يومين أهذي ولم أشق…
ما لم أفهمه إلى الآن أنه عندما استفقت من غيبوبتي وهمست لي تلك الطبيبة ذات العينين المحايدتين.. “من من العائلة تريد رؤيته أولا.؟؟ أجبت : أبي.
أبي نفسه لم يصدق. عندما خرجت الممرضة إلى الممر المكتظ بالأقارب والأصدقاء وقالت لهم إن المريض قد استفاق من غيبوبته ويرغب في رؤية أبيه، التفت الناس بعضهم إلى بعض وابتسموا مرتين مرة لأنني مازلت حيا ومرة لأنني اخترت أن يكون والدي أول شخص أراه بعد عودتي إلى الحياة.
– هيا الحمد لله.. ربي يهديه
– رب ضارة نافعة هذه التجربة ستعيده إلى رشده ويعود إلى حضن عائلته وأبيه
– لم أكن أتوقع.. توقعت أن يطلب أمه أو أخته..
– الموت يخرّي.. ههههههه
وماج الممر بهمهمات ومجاملات وكثير من الكلام الذي ذكر فيه اسم الله والشيطان كثيرا.
دخل ابي وظل واقفا لم يعرف كيف يتصرف كانت نصف عيني مغمضة وكنت أراه في جبته الرمادية كائنا جديدا علي. كان ينظر إلي بكثير من الضياع. شعرت بضعفه، بدا هشا جدا. وضعت له الممرضة كرسيا بجانبي. وقالت له “يا حاج عشر دقائق على أقصى حد”
جلس وأمسك بيدي التي كان يتدلى منها الانبوب الذي به أعيش.. طأطأ رأسه فرأى أنبوبا ينزل إلى تحت السرير كان أنبوب البول.. ورغم أنني كنت مهشما مفككا إلا أنه بدا أضعف مني. قال كلاما لا أذكره لم أرد عليه رغم أنني كنت أشعر برغبة في الكلام. في لحظة ما، التقت عينيّ الشبه مغمضة لكن بريقها لم ينطفئ بعينيه الساهرتين المتعبتين. رأيته يمسح وجهه بيده ويضغط بشدة وكأنه يعصر وجهه من ماء أصفر مرّ. كان لقاء صامتا لكننا قلنا الكثير لبعضنا البعض..
عفوا نسيت أن أخبرك أنني لم أر أمي يومها ولا أي أنثى من عائلتي. كل الذين جاءوا من القرية إلى العاصمة ذكورٌ. جاءوا ليستلموا جثتي. جاءوا يسبقهم غضبهم بوجوه عابسة وبأموال كثيرة جاءوا يبحثون عن جثتي وكانوا مستعدين ليدفعوا كل ما يُطلب منهم لاستلامها ودفنها سريعا… لم يبحثوا عني يوما واليوم جاؤوا ليدفنوني.
وبصراحة أنا أيضا لم أشعر بوجودهم منذ زمن طويل. منذ أن أصبحوا مجموعة من المهربين المتدينين. يصلّون العشاء ثم ينطلقون خلف الجبل ينتظرون السلع المهربة عبر الحدود. يعودون بها ويصلّون الصبح جماعة في مسجد القرية.
كانت نظرات أعمامي وأبنائهم وأنا أخرج من غرفة الإنعاش مؤذية وكريهة. جاءوا في سياراتهم التي يهرّبون عليها الغنم والسجائر على الحدود. جاءوا فقط ليساعدوا والدي على تحمل الصدمة أولا، والعار ثانيا، وكي يثبتوا له أنني أنا الولد الكريه العاق المنتحر. جاءوا من أجل أبي. أما جثتي فكانوا سيضعونها في تابوت يثبتونه في السيارة بحبل خشن يستعملونه للأغنام. وينطلقون بي وجثتي مسجاة فوق بقايا روث الأغنام والقش وأعقاب السجائر.
عدت إلى بيتنا واستقبلتني أمي بالزغاريد والدموع والرقص العشوائي فرحا وألما، فيما أبي كان صامتا طيلة الطريق يذكر أوراده بسبحته المتثاقلة حباتُها بين اصابعه.
مرت مرحلة النقاهة في بيتنا سعيدة تشبه الأسابيع الأولى من الولادة أو الزواج. فقد كانت أمي تتفنن في أطباقها. وتجبر الجميع على الصمت حتى أستفيق ساعة ما أستفيق. كثيرا ما كنت أرى والدي عائدا من السوق يضع ما اشترى على الأرض ويسرع في اقتناص بعض الأكياس الصغيرة من قفته الكبيرة ويسلمها إلى أمي فتسرع إلى المطبخ لإخفائها. كانت مكسرات أو أشياء رطبة لا نأكلها عادة إلا في المناسبات التي يضحك فيها الكون لنا. طيلة تلك الفترة كنت أرى حرمان إخوتي من أشياء نوعية تقدم لي خلسة لآكلها. شاركت في تلك المؤامرة على إخوتي والتي كانت تدبّرها أمي بتواطؤ أبي.
في تلك المرحلة ترسبت في داخلي مشاعر محايدة من والدي.. فلم أعد أكرهه وأيضا لم يزد منسوب الحب كثيرا رغم كم المكسرات التي أكلتها مهربة في أكياس صغيرة.
أقول لك بصراحة، لم يعد يهمني الصراع معه كثيرا، كما أنه فقد كمّا كبيرا من جبروته الفائض وفضح ضعفه كثيرا من البقع الرخوة في داخله. لقد أرهقته محاولة انتحاري كثيرا. رغم أن كل الناس ردّوها إلى طيشي لكنه ظل يشعر بشكة دبوس في قلبه كلما تذكرني مسجّى في تلك الغرفة البيضاء في الطابق الثاني من مبنى الحالات الحرجة. عندما عدنا إلى القرية لم يجبره أحد على أن يصبح حنونا ولم أمانع في أن آكل المكسرات بطعم ذلك الحنان.
كلما تذكرت حروبي اليومية معه أشفق على نفسي وعليه. كان يمكن أن نكون ابا وابنا بأخف الأضرار. لكنه كان كتلة صلبة من الأوامر والأفكار، ويعتقد أنه سطّر شوارع الدنيا بيديه. فكان حمل اسمه ورطة أبدية لنا، فلم أنل من الحياة إلا ما يراده هو حتى خرجت من عنده، ولكنني لم أخرج من اسمه. ولما استوطنت العاصمة بالغت في إتيان الممنوعات التي سطّرها في لائحة ودقها بمسمار الرهبة في رأسي.
في لحظة ما، من حروبنا المستعرة انقطع ما بيننا تماما وقررت أن لا أعود إلى القرية فقد طردني ذات ليلة عيد بعد مشادة كلامية تافهة. كانت حقيبتي مازالت مرتبة لأنني وصلت يومها إلى القرية فجررتها وأغلقت الباب خلفي بقوة. سمعت صوته مخيفا “ريح السد”.. عرفت بعدها أنه انهار من الغضب وكاد يهلك.
أذكر أنني بكيت بكاء غامقا.. في ليلة العيد تلك تقيأت كلاما كالدم الأسود. ثم قضيت الصباح في بيت صديقي في القرية وانطلقت إلى العاصمة التي وصلتها مساء وتحملت ذلك الليل الثقيل وحدي. لم يكن لدي خمر إلا بعض سجائر رثة كان كل شيء مغلقا يوم العيد. كنت وحدي كمجنون يجهد نفسه لإقناعها بأنه مجنون. فضربت رأسي على الحائط وفي الضربة الثانية تألمت جبهتي فتوقفت. ثم حاولت أن أقطع شرايين يدي ولكن خفت من الألم ومن الدم … أكره الدم منذ كنت صغيرا.. كنت أتدرب على الجنون ولم أفلح.
في اليوم الموالي وجدتُني مبعثرا في الطرقات أسير بلا هدف. أحسست به يمشي بجانبي يريد اللحاق بي نهرته طردته صرخت حتى سقطت. أوقفني أحد المارة كان شبحه قد اختفى، أصبحت أراه دائما وفي كل مرة أطرده ثم يعود…
نسيني لكنني لم أنسه كان يرى حربنا قد انتهت لكنني اعتبرتها بدأت فأردت أن أموت كي أقتله. أردتأا
أن يقول الناس أن ابنه انتحر بسببه، رغم أنني كنت أرى أبي أكبر من الناس جميعا، إلا أن حربه معي لم تختلف عن شريعة الآباء، فقد ظل يبعث لي بالمال كل شهر لأعيل نفسي وأكمل دراستي. قطع عني كل شيء إلا المال فقد كنت آكل وأدخّن وأشرب وأحيانا أضاجع العاهرات الرخيصات بأمواله. شعرت أنه أكبر مني وأقوى، آكل من ماله وأراه في الشوارع يطاردني. شعرت أن واقعي صار رهينا لخيالاته، حينها قررت أن أخرج من الواقع والخيال معا، وأردته خروجا مدويا..
أن أنتحر كي ينهزم.
فاجتمعت لدي رغبة الموت لسببين: أولا كي أقتله بينه وبين نفسه لأستريح بيني وبين نفسي وثانيا كي أثبت للجميع أنني مجنون وأن الموت والحياة تنويعتان لفكرة واحدة فإذا أمسيت على واحدة أصبحت على الأخرى.
أنا مرهق يا دكتور أنا مرهق… مرهق لأنني لم أمت ومرهق لأنه لا يوجد إلا خياران حياة أو موت.
حسن مرزوقي *