لم تشأ الروائية هدية حسين في روايتها (ريام وكفى)(1) أن تسرد قصة امرأة تأطرت حياتها بحكايات نساء مؤسلبات بالقمع والقهر والحرمان والتشظي والإخفاق؛ بل أرادت أن تجعل من الشخصية النسائية كيانا مركزيا يمحور الأحداث من حوله ويوجهها بالكيفية التي تناسبه وبما يسهم في تصاعد العقدة صراعا وتأزما باتجاه بلوغ التغليب الأنثوي أوج درجاته وبغية توكيد هيمنته أو تسيده على العنصر الذكوري.
والدليل على ذلك مقصدية الساردة ريام في إمساك عجلة السرد بيدها لا بيد غيرها بدءا من أول سطر في الرواية وانتهاء بآخر سطر فيها في شكل سرد ذاتي بضمير الأنا.
وقد امتهنت ريام القيام بعملين بينهما مشترك مهاري فالأول له بعد تشكيلي ومعطى واقعي تمثل في الخياطة والثاني اشتغال تخييلي تمثل في كتابة المذكرات ونسج القصص وإعادة صياغتها.
وما بين العملين تتوزع حياة البطلة ريام بشكل تصاعدي بدءا من الطفولة حين وجدت الخياطة هي المهنة والسلوى التي بها تواجه الشخصيات المؤنثة واقعها وتتغلب على مشاكلها وانتهاء بمرحلة النضج حين وجدت الخياطة وسيلة للعيش تسخِّر طاقتها الجسدية فيها لتتمكن من تزيين النساء بالفساتين المنمقة والزاهية التي ستستهلك ويذهب بهاؤها وقبل ذلك كله سيستهلك جسدها ويذوي تلاشيا وزوالا.
وهذا ما جعلها تصمم على الانتفاض وأن تغير مسار الخياطة بالكتابة لكي تقاوم الانحلال التدريجي لقدراتها الجسدية من جهة ولكي تهرئ الزمن الذي يباغت جسدها متوعدا إياه بالاضمحلال من جهة أخرى. فكانت الكتابة السردية هي الوسيلة التي ستساعدها في إعادة رسم تفاصيل حياتها لتصنع منها عالما جديدا يتم تخيله وتسطيره على الورق وإذ كانت هي ماهرة في تطويع القماش بحسب رؤيتها فإنها أيضا ماهرة في تحويل الكتابة إلى وسيلة تطوعها بحسب ما تشتهي.
ولم تكن وظيفة ريام كساردة المشاركة أو المراقبة أو الإخبار حسب؛ بل كانت وظيفتها توجيه المسرودات أولا وتحريك الزمن ثانيا والقفز على السرد إلى خارجه بمقاطع ميتا سردية ثالثا وكل ذلك مرهون بكينونتها المؤنثة التي كانت تخاتل الآخرين لأجل اكتشاف الأسرار، وقد تغالب أهواء نفسها لتوكيد فاعلية دورها محاولة صنع قدرها بنفسها مرغمة الآخريات على تغيير مسارات اعتدن ارتياد مسالكها وألفن العيش والتعاطي معها باستسلام ورضوخ.
فكان حدث طرد الطفلة ريام من المدرسة والحبس في السرداب أول تحد تواجهه ريام لترتفع وتيرة السرد ولتسهم في قلب مسار الكتابة ارتدادا إلى الماضي وما يترتب على ذلك من تحديات تواجه بها ريام قهر أبيها المتسلط فتمقت جوره على نساء المنزل ومن ثم توجه حنقها إلى خالها إبراهيم الذي صار عنيفا في معاقبتها بعد وفاة أبيها كامتداد طبيعي له.
إن محاولة ريام اكتشاف الأسرار الخاصة لم تكن مشينة ببراءة سلوكها في الاطلاع على المجهول الخفي من الحياة الواقعية كما لم يكن حبها البريء لريحان يستحق العقاب الجسدي الصارم إلا أن اصطدامها بالآخر/الرجل سيكون سبب كل أزمة ومصدر كل بلاء تمر به ريام في مراحل حياتها اللاحقة مما ستحتفظ به ذاكرتها الأنثوية وهي تسرد ما سببّه لها من قهر وحرمان ومصادرة بعد أن حاولت ولوج عالمه أو اكتشافه.
وعلى الرغم من قسوة العقوبات الجسدية عليها في طفولتها إلا إنها لم تمنعها من الاندفاع نحو الاكتشاف، كما لم يثنها الزمن في شبابها من اصطناع أحلام عن فارس ينقذها مما هي فيه فكان الشاب نجم الذيب هو ذلك الفارس لكنه سرعان ما خيَّب أملها في بلوغ حلمها لتتوكد لها حقيقة الآخر العاجز والسلبي.
وتكابد في مرحلة لاحقة من حياتها الأمر نفسه بعد أن فقدت ما كانت تراه في جسدها من الجذوة فتحاول محاولتها الأخيرة بتعرفها على جارها هشام لعلها تجد فيه ملاذا لكنه هو الآخر يظل عاجزا إزاء الواقع إذ يتم القبض عليه بتهمة الإخلال بالأمن.
وهكذا تؤدي هذه الاصطدامات العاطفية مضافا إليها المتضادات الفكرية ما بين قضايا نضال المرأة لبلوغ حقوقها والحروب وآفاتها وبين مباغتة الموت للحيوات من حولها أن تطرح تساؤلاتها المحيرة عن معنى الحياة وجدوى الموت ناظرة إلى النصف الفارغ من الكأس وهذا ما أوقعها في دوامة الإخفاق والضياع عبر مونولوجات عديدة تتداعى وهي تدوِّن مذكراتها” لماذا أكتب عن تلك الأيام واستحضر أرواح من ماتوا؟ هل خوفا من نسيان ما جرى كما أحب أن اقنع نفسي أم لأهرب من رمال الصحراء التي غطت حقولي وأحاول درأها لكي لا تتيبس تماما؟ أم تراها رغبة لتخفيف الضغط على قلبي من هزيمتي في الحب؟ ربما هذا وربما ذاك وربما لكل تلك الأسباب” (2)
وقد انعكس هذا الشعور المؤسلب على الكيفية التي بها وجدت الرجل سببا في ما تعانيه الشخصيات النسوية الأخرى من الآلام مثل والدتها سمر وجدِّتها مسعودة وزوجة أبيها بهيجة وأخواتها صابرين وهند وصديقاتها فاطمة وعزيزة ونجية فكل واحدة منهن قد أوقعها الآخر في دوامة الإخفاق والضياع فصابرين لا تنتحر إلا بسبب فعلة العم نعمان المشينة والأم لا تعيش حياتها إلا بالحزن والنكد والحرمان بسبب الأب المتسلط والعنيف الذي لم يأبه لمشاعرها وهو يناديها بأم البنات منتقصا إياها لعدم إنجابها ذكرا فكان العنف سلاحه الوحيد معها.
وهند لا تنقلب حياتها بؤسا إلا بعد أن ترتبط بسامي الزوج المراوغ والانتهازي الذي سيوقعها في متاهة الإحساس بالفشل والنقص وفاطمة التي ما كانت تسميتها بالأرملة منطبقة تماما عليها لأن زوجها الذي فُقد في الحرب قد غاب إلى غير رجعة مما اوجب عليها أن تنتظره للأبد لتكون ضحية لمصير تم رسمه لها فاستكانت مذعنة له برضا وقنوع.
وبهيجة هي الأخرى مغلوبة على أمرها وهي وإن كانت زوجة الأب إلا أنها لم تكن متسلطة أو قامعة للأخريات بل كانت ضحية زوج متعجرف لم يكن همه سوى إنجاب الذكور لتكون نهايتها التعيسة تعبيرا عن الاستلاب الروحي لكيانها.
وكانت الجدة مسعودة ضحية مجتمع ذكوري فرض عليها أن تكره نفسها وتمقت جنسها لتكون سببا في تعاسة من حولها من النساء بعد أن مسخت أٌنوثتها وطبعتها بطابع رجولي فقمعت بنات ابنها وازدرت زوجة ولدها وأسهمت بدلالها في إفساد أخلاق حفيدها محمود الأمر الذي انتهى بها وحيدة من دون حب أو اهتمام لتتلاشى بصمت وبرود.
وهذا كله جعل الذاكرة التي حملتها ريام ذاكرة أنثوية بامتياز ليس فيها للرجل دور موجب أو محوري لأنه لم يكن سوى كيان قامع ومتسلط وسلبي مرة كحلم ضائع وأخرى كواقع مفروض ومصير مكتوب وهذا ما جعل تداعيات تلك الذاكرة وانثيالاتها عنه تتشظى لكن بلا تشتيت وتتراكم من دون فوضوية وتتأزم لكن من دون تذبذب.
ومثلما ساعدتها الخياطة على تحويل الأقمشة إلى شيء جديد ملموس كذلك ستساعدها الكتابة الذاكراتية في التطلع لواقع جديد مستجمعة خيوط حبكتها بالطريقة التي تراها مناسبة لتصنع قصة محبوكة حبكا متقنا يجعل القارئ مشوقا دوما لمتابعة القص بعبارات تتقن وضعها في تضاعيف السرد لتأخذ بالقارئ إلى عوالمها أخذا منسابا بلا تعقيد أو تكلف ومن دون أن تمنحه فرصة الانفلات من قبضتها القرائية عليه” سأتحدث عن ذلك في صفحات أخر أما الآن فسأعود لأبي وجدتي مسعودة في هذه الصفحات سأبدأ بأبي الذي يزاحمني على الحضور رغم موته منذ سنوات طويلة”(3).
ويتخذ اقتران الذاكرة بالأنثى في الرواية موضع الرصد مسارات مختلفة تتوزع فيها أبعاد الحبكة القصصية بين الاتجاه بسلبية نحو الانشداد للواقع أو الرضوخ لموجهاته وبين الاتجاه نحو الانفلات من الواقع ومنغصاته بايجابية وهذا ما جعل الدكتور صلاح فضل يجد في الرواية” كبرى تجارب الإبداع العربي في العصور الحديثة وصانعة الوعي التاريخي بمسيرته وأكبر مظهر لاشتباكاته الخلاقة بحركة الوجود” (4).
وما بين السلب والإيجاب تتولد ثنائيات تتضاد تارة وتتوافق أخرى وقد يكون التضاد بمثابة توافق حتمي وهو ما سنجده في ثنائية الجسد/ الكتابة وقد يغدو التوافق تضادا وهو ما سنلمسه في ثنائيات الاسم/المسمى، الزمان/ المكان، الأنثى/ الذكر وسنحاول توضيح ذلك من خلال محورين هما:
1. جسدنة الذاكرة كتابةً.
2. فاعلية الذاكرة تضادا .
1. جسدنة الذاكرة كتابةً /
الجسدنة تشكيل كتابي يتم تعاطيه بشكل قصدي باتجاه التغليب النوعي للأنثى لإنتاج فضاء تشكيلي مغاير يطوع ممكنات السرد وفضاءاته باتجاه عالم رحب من التمثلات الجسدية المؤنثة ذات الدلالات الثقافية الخاصة والمميزة.
وفي رواية (ريام وكفى) يتم تحقيق توافق ثقافي بين الجسد والذاكرة على وفق تلازمية أنثوية ترى الجسد العقبة الكبرى التي تقف في وجه حيوات القصة جميعها.
ولو أردنا تصنيف أبعاد الذاكرة في إنتاج سرد نسائي مسبوك بأحكام ومطرز بأدوات تجميلية وتزينية فإننا سنجدها مشابهة لمهنة الخياطة إذ يتم تفصيل الذاكرة السردية كالقماش بمقاسات مناسبة ومن ثم تقطيعها باتجاهات وأشكال والقيام بإعادة ترتيبها لتكون في النهاية قصا سيريا/ فستانا نسائيا.
وقد سعت الساردة إلى التعاطي المتوازي مع الأحداث زمانا ومكانا لكنها لم تكن كذلك في توزيعها الأدوار على الحيوات نساءً ورجالا لتكون الرواية في خاتمتها رواية نسائية بكل المقاييس الفنية.
ولأن تحويل القماش من مجرد نسيج بحجم ومساحة معينة إلى فساتين وعباءات إنما يتم برؤية مسبقة لما سوف تقوم به عاملة الخياطة من نسج وتأليف وترقيع كذلك كانت ذاكرتها فاعلة في رسم ملامح الحيوات وصياغة تداعياتها وترقيع مطبات حياتها بشكل قصدي مسبق وبحذر وإتقان لإنتاج كتابة جمالية تنثال من بواطن وعي أنثوي يسجل التفاصيل الدقيقة التي لا ينزعها نسيان أو سهو ولا يخرمها تذبذب ولا ذواء.
وهذا ما جعل فعل الذاكرة فعلا مركزيا تتولى الشخصية الرئيسية/ ريام القيام به انثيالا وتداعيا استباقا واسترجاعا من خلال تكرار عبارات مثل( تذكرت وذكرني ويتذكرني وصارت ذكرى ..) أو بترديد جمل من قبيل (نظرتُ إلى الماضي) أو( تلك اليوميات) أو ( مع كل الذكريات التي مرت بي) أو ( تختلط علي الذكريات وتشوشني) أو (سأتذكرها في الأيام الأولى) أو (كأن الذكريات أطبقت على صدري) أو ( وبقي في ذاكرتي مكان يتسع لحكايتها) أو (وحسنا فعلت بتذكيرك لي وها أنا أتذكر) أو ( الذاكرة تمدني بما يطيل البقاء) أو (لأدون تلك الأيام التي تسربت وما عاد لها غير الذكريات) أو (تلك العبارة ظلت محفورة في رأسي تضيء كلما تذكرت صابرين) أو (ومع دوران العجلة تدور الذكريات والأيام)..الخ.
ولا مراء من أن يكون فعل الذاكرة بإزاء الجسد الأنثوي فعلا متضادا بدلالات متنوعة تتوزعه بقاء وذواء اتساعا وضيقا إضاءة وتعتيما ثباتا ودورانا انتشاء ووجعا. وهذه التضادات الدلالية ستنعكس بدورها على الصعيد الروحي الأنثوي لتدفع بريام نحو التمرد والانفلات.
ولعل هيمنة الذاكرة على الجسد قد جعل الرواية مؤسلبة لكنها في الوقت نفسه اسلبة شعرية ارتقت بالجسد من فاعل مستهلك إلى فاعل منتج بمعنى أن الحظر الذي مورس على الجسد كان بمثابة المحفز الخفي لاختراقه وتحويل ممنوعاته إلى مسموحات متاحة ومتمكنة تمنح الجسد التجدد والاستمرار.
وبذلك أدى الجسد دورا مهما في بلورة حياة ريام وأحلامها التي بها تحقق ما عجزت عنه واقعيا من خلال الحب الذي يبزغ لها نجما يسطع في سماء جسدها كحصان أهوج يذكي جذوة الاكتشاف والتجريب محركا الذاكرة بحيوية فتنبري الساردة تدلي بقصة حياتها وهي ترى أن مهنتها قد فعلت بها فعل الزمن الذي بقي عدوا متربصا بجسدها” لذا سأقول كل ما لدي على هذه الأوراق قبل أن يدركني الوقت وانزوي وقبل أن ينزع الزمان عن جسدي بقية البريق .. أريد أن أحرك المياه الراكدة قبل أن يجف نهري أو تأكل حوافه الأملاح مستفيدة من تلك اليوميات ..مهنتي لا تساعدني على البقاء طويلا في هذه الحياة ولن أعيش بعد موتي سوى زمن عابر على أجساد النساء اللواتي يتخلصن من الثياب ..بعدان يشعرن بالملل منها أو يتهرأ نسيجها نعم أريد أن اكتب قبل أن يمحوني الزوال” (5)
والجسد يبقى لغزا محيرا لها في طفولتها لذلك تحاول اكتشافه فتجد العقاب متربصا بمحاولاتها فحين ارتكبت فعلها وطردت من المدرسة وعوقبت من قبل والدها كان هذا أول اصطدم جسدي مؤلم وعنيف” وما أن دخل البيت واجتاز نصف الممر حتى كفخني على وجهي وأسقطني بقوة على البلاط وداس على رأسي بحذائه الجلدي الخشن ” (6)
ويكون الجر والرفس والدفع والصد والسحب والحبس أساليب عقابية تطال جسدها الطفولي فتترك آثارا لا تمحى من ذاكرتها و” منذ طفولتي كنت ابحث عن المختلف وعن كل ما هو مغلق لأفتحه واعرف ما بداخله”(7)
وبسبب شقاوتها كان الأب يطلق عليها العفريتة وهذا ما جعلها تحمل في ذاكرتها صورة مؤسلبة للأب المتسلط والمتعصب” وتظل الصورة الأوضح منه في مخيلتي هي حين أسقطني على البلاط وداس على رأسي بحذائه الجلدي الخشن ثم سحلني إلى السرداب”(8) كما سيعوض الخال إبراهيم موت الأب لينهال بالعقوبات الجسدية نفسها تجاه ريام وأخواتها ” صمتت أمي فتحرك خالي وامسك بضفيرتي وراح يقررني وأنا اقسم كذبا بان ريحان لم يلمسني ..سحب يده من ضفيرتي وكور قبضته كما لو انه يريد أن يلكمني فوضعت يدي على وجهي لكنه سحب يده والغضب يتأجج على وجهه ..”(9)= ، لكن جسدها بقنواته الفيزيقية السماعية والبصرية سيظل خير معين لها يمدها برؤى خاصة عن حكايات تتداعى في مخيلتها على شكل مونولوجات داخلية هي بمثابة تساؤلات تعبر عن حيرتها إزاء ما يجري” ما الذي يرتطم في أعماقي؟ هل العفاريت التي كانت نائمة لفترة طويلة هي التي تحرك زعفران جسدي؟ ” (10)
إن إحساس الأنثى بجسدها يغيب اثر الموجودات عليها لأنها تتلاشى في جسدها ويكون الزمان والمكان والحيوات من حولها مجرد أشياء لا قبل لها بها” الساعة الحقيقية هنا في جسدي تدوس عليه عقاربها وتهرسه لكنني أقاوم ..يراودني شعور مع احتشاد النجوم الساطعة في السماء بان الوجوه التي غادرتني تسكن هناك في ذاك الألق البعيد ..فاكشف عن نفسي حجبها” (11)
ولا تكون ذكرياتها عن الجسد عصية على الاستدعاء بل هي يسيرة المثول لاسيما تلك التي ارتبطت بالطفولة حيث البراءة والصدق والنقاء” في مهرجان جسدي يستمر ساعات ويخطر ببالي أيضا ريحان ..لكن نجما (12) يأخذ الحصة الأكبر من التذكر”-(13) وما ذلك إلا بسبب جذوة الحب الحقيقية التي عصفت بها واجتاحت كيانها.
أما الذكريات التي ارتبطت بصابرين الأخت الكبرى لريام فإنها في الوقت الذي تكون فيه عصية على النسيان إلا إنها تغدو صعبة الاستدعاء بسبب ما تعرضت له من خرق لحدود الجسد من خلال التحرش الذي تجاوز فيه العم نعمان العرف والعقل اشتهاء وجنونا فكان سببا في انتحار صابرين” العم يتحرش بابنة أخيه وزوج الأخت يشتهي أخت زوجته كم أرقني الأمر وكم رجوت الله أن أكون على خطأ لم انم ليلتها ولم تهدأ أسئلتي”(14)
وبعض الذكريات لا تسترجعها ريام إلا بمرارة ومن ذلك تحرش سامي زوج أختها بها” تفحص جسدي بعيون شرهة كأنه يعريني لم يتأخر في الكشف عن دواخله الدنيئة ..أنت تضيعين أحلى أيامك وتبددين طاقة جسدك وراء الماكنة ..احترق جسدي كأن سياطا حارة انغرزت تحت جلدي” (15)
فتتخذ قرارها بتغيير مكان السكن والانتقال إلى غيره في محاولة لاستعادة الأمان النفسي لكن خوفها من انسحاق جسدها وراء ماكنة الخياطة يبقى مؤرقا لها بعد أن وجد اليأس طريقه إليها” لم اعد تلك الشابة التي تهرب مع حبيبها ..ولا تلك الشابة الباحثة عن كل ما هو غامض ..أريد فقط لرماد جسدي المسكين أن يتحرك أن يستعر ويلسعني لأحس بوجودي أن يعيد إليه فقط لهفة تلك الصبية التي يخفق قلبها بشدة إذا سمعت كلمة غزل ..إنني افتقدني افتقد نكهتي وطعم شقاوتي بل وحتى وقاحتي ؟..”(16)
وتجد في جارها هشام محاولة لاستعادة حلم الاقتران بحبيبها نجم الذي اختفى في ظروف غامضة فنسيت باختفائه جذوة جسدها” وأنا انظر إلى جسدي المتناسق ولدقة العمل في الفستان ..غمرني شعور فياض بأنوثتي التي تجاهلتها منذ اختفى وراء القضبان في مدينة الملح والرمال “(17) ، وتكون مغالبة الزوال الجسدي هاجسا يقض عليها مضجعها فتقرر في النهاية أن تنفض عنها الذكريات لكي تبتدئ حياتها من جديد.
وكأن الذكريات هي التي تعيق التعبير عن جسدها، وبعد أن تتأمل وجهها وعينيها اللتين فقدتا المكر واللهفة والهياج تتداعى في دواخلها مونولوجات تعكس رغبتها في الابتعاد عن الذكربات لعلها بذلك تقضي على حيرتها وتذبذبها” أتساءل أين يمكن أن أكون قد فقدت العينين الماكرتين واللهفة الحارقة وأين ريام المندفعة التي اعرفها وكيف تهيأ لي أن اكتم هياج جسدي فلا يقلقني في ساعات الليل .. لماذا لا تتساقط أوراق الذكريات القديمة فتجدد شجرة رأسي أوراقها باخرة نابضة بالحياة؟ أنا لا أريد لجسدي أن يتحول إلى صفيح بارد لكنني أيضا لا أريد أن اندفع لمجرد الشعور بحاجتي لرجل ..” (18)
ويظل الرجال الذين عرفتهم ريام سلبيين بإزاء طموحاتها وتطلعاتها ولما تستعيدهم في ذكرياتها لا تجد لهم أثرا ولأنهم خاملون بلا جدوى لذلك ليس لهم مكان في ذاكرتها” ولم أجد مكانا لأبي إلا بما يشبه رجلا على أهبة سفر حمل حقيبته ومضى دون أن يودع عائلته ..كما إنني طردت وجه عمي وسامي زوج هند “(19)
ومثلما أن الفستاتين تتهرأ فان الأجساد كذلك تتهرأ بفعل الزمن فتتلاقى الخياطة بالحكي لتقرر عند ذاك وبعد تفكير ملي أن تقول لذاكرتها( كفى) وان تتأهب للسفر إلى المجهول” الثياب لا عمر لها سوى الفترات التي تستقر فيها على الجسد لا تبقى متوارثة تحمل بصمة مصممها وهي تتهرأ بمرور الأيام وإذا ما جرى سنوات عمري على هذا المنوال سأنغلق على نفسي. خيوط حياتي ستنفلت مع كل غرزة وتفقد أصابعي إحساسها بحرارة اللمس”(20)
وهذا ما يمنحها شعورا بالزهو والتجدد ويهيأ لها الانتفاض على كل عائق يمكن أن يحول دون أن يؤدي جسدها دوره بحيوية وفاعلية” راودني شعور بأن قصتي لم تبدأ بعد ها أنا أضع قدمي على طريق البداية بعيدا عن بيت العائلة وأشباح الموتى وأحس كما لو أنني أتجدد مثل شجرة في أول الربيع وان أعماقي تنفض عن عروقها كل ما يمكن أن يوقف جريان الدم في جسدي ” (21)
وبهذه المغامرة التي تفصم عرى التوافق بين الجسد والذاكرة تختتم الرواية بنهاية مفتوحة على كل الاحتمالات وفي شكل سرد دائري انتهى من حيث ابتدأ، وإذا كان افتتاح الرواية بنجوم رأتها ريام محتشدة في السماء فكذلك كانت نهاية الرواية بنجوم تمطر من السماء تراها ريام في وضح النهار.
فاعلية الذاكرة تضادا
إن الأسماء الأنثوية التي اختارتها الكاتبة لشخصيات رواياتها هي أسماء ذات بعد غارق في الاثنية الجنسية المغلبة للمرأة، كنوع من التأصيل للأنثى فأسماء (ريام فاطمة هند صابرين بهيجة سمر مسعودة نجية عزيزة) لا يحتمل أن يطلق مثلها على المذكر ومن ثم يكون وراء هذا التأصيل الاسمي إخلاص نوعي لذات المرأة ككائن مستقل غير تابع للآخر وهذا ما منح الأسماء قرائن وصفية تحتويها عاكسة حقيقة مسمياتها.
ويعد الاسم كدال ومدلول أول تحدٍ واجهته ريام في حياتها فبين أن يكون اسمها كفى كما أراد الأب انعكاسا لثقافة متسيدة ترى في الأنثى عارا ودونية وبين أن يكون اسمها ريام كما أرادت أمها التي مثلت الثقافة المهمشة، ظلت البطلة تكابد مراراتها كما أن الأم نفسها كانت تعاني الأمر عينه فقد جمعت مع اسمها (سمر) الذي يعكس الفرح والجمال اسم أم البنات الذي اختاره الأب احتقارا لها لأنها لم تنجب ذكرا لتظل تكابد عقدة الدونية والحرمان لاسيما حين يأتي الأب بضرة لها تشاركها البيت.
ويكون في أسماء بناتها ما يحمل هذا الإحساس معطية لكل واحدة منهن النعوت والصفات التي تعكس سمات الصبر والتلاشي والقمع في (صابرين) والنفوذ والبعد (هند) والشاعرية والانتشاء( ريام).
ومسعودة هذا الاسم الدال على غير ما يدل عليه إذ لم تكن مسعودة في حياتها فقد جعلتها مرارة الواقع الذي عاشته تتشبه بالرجال لتنزع منزعا ذكوريا سواء في مقتها لولادة البنات في الأسرة أو في علاقتها بابنها ودفعه للزواج بأخرى مما أدى إلى كره بنات ابنها لها..
وهكذا تتغلب عليها صفات الاستبداد لبنات جنسها قاهرة لهن وقامعة لتطلعاتهن وهي تجد راحتها في تنغيص حياة من حولها من النساء لتفرض عليهن إرادتها وتخضعهن لسلطتها لكي تسد نقصا وتداري شرخا وتعوض ما عانته في ظل قمع المجتمع الذكوري لها في شبابها معوضة إياه في شيخوختها وهذا ما جعل نهاية مسعودة باهتة وحيدة ومنسية في عزلتها.
إن مسعودة بذلك نموذج وحيد أرادته الكاتبة لذلك الصنف من النساء اللواتي اشتططن عن القاعدة التي أرادت الساردة أن تجعلها منتصرة وغالبة لمصلحة المؤنث على حساب المذكر فإذا كانت ريام مثال المرأة في ايجابيتها وقدرتها على إثبات وجودها وكينونتها فان مسعودة هي مثال المرأة في سلبية دورها المجتمعي فهي القانعة بدورها التبعي للآخر لتنسلخ عن هويتها الأنثوية وتصير جنسا ثالثا متشظيا وهجينا وكأنها تغيب ذاتها بذاتها ..
وعلى الرغم من أن بهيجة زوجة الأب لم تكن كذلك بالنسبة للأخوات الثلاث وبالنسبة للام سمر كضرة وشريكة إلا إنها بدت سلبية أيضا على شاكلة مسعودة لا في تشبهها بالآخر بل في رضوخها لسلطة الآخر لتكون كالأخريات مجرد ضحايا تابعات للآخر قانعات بدورهن الهامشي.
وما انتحار صابرين إلا تعبير عن هذا القبول بالدور الهامشي والخانع والمساير لارداة الآخر وما تشبه هند بأمها إلا تعبير عن فشلها في صنع حياتها الخاصة وعائلتها التي فشلت في الاحتفاظ بها بعد سجن زوجها وإسقاطها للجنين.
وما بين هاتين الثقافتين تقف ريام موقف الرافض والثائر فتختار الحرية وتتطلع لامتلاك قرارها في تغيير حياتها من حياة أنثى مقموعة اجتماعيا من الآخرين، إلى أنثى رافضة للقمع متطلعة للانطلاق خارقة ما كانت قد اعتادت عليه الحيوات المؤنثة الأخرى ومنهن فاطمة التي رضخت للتقاليد قانعة بمصيرها غير قادرة على تغييره.
وعلى الرغم من الواقع المر الذي عانته ريام وأخواتها ووالدتها إلا إنها امتلكت نزعة التمرد والعصيان لتكون سمة ملازمة لها في مراحل حياتها كلها ولتكون الوحيدة التي تعاملت بإيجابية مع تسلطية الآخر وسلطويته بادئة بحب الاستطلاع والكتابة صانعة تاريخها بنفسها متمردة على ذاكرتها ومغادرة مكانها لتنتصر عليه زمانيا بالذاكرة ومكانيا بالرحيل والسفر.
أما الأسماء الذكورية فلم تشأ أن تجعلها الساردة ذات دلالات مقترنة بمدلولاتها بل هي دوال تضاد مدلولاتها فمحمود وريحان ونجم ومختار وهشام أسماء موجبة لكنها تقاطعت مع مدلولاتها السالبة إذ ظلت المطاردة والغياب والتلاشي والانقطاع سمة تلاحق كل واحد منهم فلم يكن محمود إلا خارجا عن القانون يلازم السجون ويهوى المطاردة ولم يكن نجم الذيب ساطعا ليكون دليلا لريام كما لم يزهر حب ريحان إلا تلاشيا ولم تمنح الحياة مختار الذيب أن يكون مساعدا ومعاضدا بل غاب في لمحة عين كما أن جارها هشام قد خيّب أملها بانقطاعه المفاجئ.
أما شخصية الأب فإنها ظلت بلا اسم ربما لأن الساردة لم ترده حاضرا في ذاكرتها وحاولت محوه منها بسبب ما تركه فيها من صور العنف والتسلط والجبروت.
وكان توظيف الزمان والمكان في الرواية موضع الرصد مرتبطا بالذاكرة ومقترنا بالآخر/ الرجل وهذا ما جعلهما مؤسلبين أيضا.
ولطالما قرنت الذاكرة الزمان بالآخر ولما كان هذا الآخر سلبيا إزاء الكيان الأنثوي فكذلك سيكون الزمن سلبيا أيضا ومن سلبيته أن له سرعة عجيبة أشبه بماراثون تتداخل فيها الأوقات فينفلت من عجلته لذلك تعمل ريام على محاولة اللحاق به ولكن بلا جدوى وهذا ما أضاع عليها بلوغ هدفها” نريد أن نصل قبل الآخرين ..ثم ما أن نصل حتى تكون سنوات العمر قد تبددت وقد تتبدد قبل أن نصل وربما يأتي الوصول في وقت لم نعد نحلم بامتلاك شيء” (22)
وإذا كانت الذاكرة عبارة عن زمن يطاردها ليخرجها من هذا الكون متلاشية بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل لذلك تقرر أن تكسر المعادلة الزمنية بان تمنح جسدها بريقا فتستبق النهايات بعد أن تعطي له في ذاكرتها حيزا، وما ذلك إلا بسبب هاجس الخوف من الزمن الذي يتمدد ليشمل الذاكرة والجسد والاسم والذات والآخر وهذه بمجموعها معوقات تنهش مخيلة الساردة وتدفعها إلى المبادرة بالخروج من هذا الوضع المتأزم.
وإذا كان الخوف صفة ملازمة للإنسان إلا أنه بالمرأة ألصق لأسباب بعضها عضوية وبعضها نفسية اجتماعية وريام ككائن مقموع ومهمش ومصادر ظل الخوف يغالبها أكثر من غيرها لاسيما جسدها الذي بدأ يذوي بماكنة الخياطة أولا وبالذاكرة آخرا.
وبعكس الخياطة التي جعلت البطلة ترى الحياة نسيجا جسديا قابلا للعتق والاهتراء والتمزق كانت الكتابة الذاكراتية بالنسبة لها نسيجا روحيا مضادا للامحاء وغير قابل لأن يهرأه الزمن وهذا ما سيتيح لها فرصة الظفر بالخلود” الذاكرة تمدني بما يطيل البقاء على أوراقي وها أنا أواصل رحلتي بإحساس من تتقدمه نجوم الكون لتنير دربه أو تحدد مصيره تمشي أصابعي على خطوطها تستعيد الكلام الذي صار ذكرى وتنثره فتسقط الكلمات مثل لالئ أو مثل أحجار”(23) وعلى الرغم من أن هذا المقطع جاء في تضاعيف احد الفصول إلا انه يصلح أن يكون خاتمة استباقية تضعها الساردة أمام المروي له ليستلهم منها الغاية من وراء الكتابة.
والوعي الأنثوي هو الذي جعل الذاكرة تنثال لتستدعي من الطفولة البراءة وتنهل من المراهقة والصبا الاندفاع لكي تنفلت من الزمن كبنية تعمل على الضد مما تم تأسيسه له بمعنى أنها المصادرة التي بها تتنحى النظرة الفحولية المساندة للزمن لتبزغ بدله الرؤية الأنثوية المضادة للزمن والمعمقة في ذهن المسرود والمسرود له معا.
ولما كان الزمن بنية لغوية مذكرة؛ فان الذاكرة بنية لغوية أنثوية وفي الرواية موضع الرصد تنعكس فاعلية البنية الأخيرة على الأولى لتبدو الموجودات كلها رهن الذاكرة التي تسترد من الماضي ما تشاء كما توجه الحاضر بإرادتها ليكون متواصلا مع القادم .
ومثلما كان الزمن معيقا لريام كذلك كان المكان عنصرا سلبيا ومصدرا للمقت والانتفاض وهذا ما تبوح به الساردة في مفتتح الرواية علنا كاستباق للتعريف بحقيقته” احتشدت السماء بنجوم ..كأنها خرجت في مهرجان تحتفل بألقها أو بمناسبة ذكرى عزيزة عليها ..وأنا أتمدد على سرير حديدي فوق سطح بيتنا القديم ..والنجم مسار فلماذا ضللت مساري ” (24)
ولا يعود المكان معيقا لها بعد أن تمكنت من الانتصار عليه بالتمرد والرفض مقررة في خاتمة الرواية ترك البيت المكان الأثير لتنقذ نفسها من حتمية الانشداد القسري للمكان” ها أنا أضع قدمي على طريق البداية بعيدا عن بيت العائلة وأشباح الموتى وأحس كما وأنني أتجدد مثل شجرة في أول الربيع” (25)
وفي الوقت الذي تحرر نفسها منفلتة من قسوة الزمن وتراتبيته المملة فإنها سرعان ما تصطدم به في كل مرحلة من مراحل حياتها، ومقتها للزمن هو مقت للتاريخ الذي ترفض دراسته والتخصص فيه وتفضل عليه مهنة الخياطة” كنا نغرز الإبرة في القماش نثبت الأزرار نطرز الجلبيات نمشي على مهل مع خيوط البريسم الرقيقة ونخشى على أجنحة الفراشات من التمزق فنوليها العناية الأكبر “(26)
وتظل تعاضدية الزمان /الآخر مراوغة ومخاتلة وما من سبيل إلى اقتناصها ومثلما أن الزمن يعني الزوال فكذلك الآخر كان بالنسبة لريام محطة عابرة وكينونة غير قادرة على منحها الخلود” هل امضي إليه دون أن اترك ما يحمل شيئا على الأرض يخبرني بأنني جئت إلى الدنيا وحملت اسمين لم يمنحاني حسن الطالع وبان ثمة نساء جاهدن لكي يمسكن بأطراف الخلود لان كان هذا الخلود حفنة أوراق لا أكثر لعل أوراقي تبقيني بعد موتي”(27) فالزمن الذي خيب آمالها هو ذاته الآخر الذي اخفق في تحقيق مطالبها..
ولذلك تكون الكتابة وحدها السبيل للتغلب على هذه العقبة واجدة فيها عزاءها وان ثمة خلودا يمكن أن يكون في انتظارها تعويضا عن الزمن/الآخر اللذين فقدت ثقتها بهما منذ اللحظة التي خيب بها ريحان أملها بالحب” مع كل الذكريات التي ملأت بي ومع أشباح الموتى من عائلتي وأرى نفسي أقف على ضفة النهر القريب بانتظار ذلك الفتى الذي اسمه ريحان لنعبر في زورق يتهادى مع الأمواج ويمضي بنا إلى الضفة الأخرى”(28)
وتعكس المونولوجات الداخلية شعورا بالتبرم والمقت لفعل الزمن القاسي والرغبة في إعاقة دوران عجلته بغية الظفر بفرصة الانفلات من المكان كبنية مضادة لما ترغب به كأنثى طالها اليأس واثّر المكان في روحها فترك جروحا لا تندمل” أين ذهب ذاك الزمن الذي كان يتمطى ويستطيل ويغرقني بالأحلام كيف اجتازني بسرعة لم انتبه إليها وتركني لزمن مرتبك ؟هل لي أن ألحق به واستوقفه لأساله لماذا فعلت بي ذلك؟” (29)، وفي هذا المونولوج تتوضح رؤيتها الزمنية لذاتها وماضيها الذي ظل يطاردها فتحاول الانفلات منه.
وهذا الانفلات من فعل الزمن يجعلها تتعامل معه كتابيا كلعبة ترجئ منها شيئا وتسترجع أخرى ويكشف إرجاؤها الحكي واستذكرها لبعضه عن الولع بالانفلات من قبضة الزمن ومن ثم الانعتاق من المكان وبعد ذلك تنكرها لذكرياتها جميعا لاسيما في جزئها الخاص بالرجل بعد أن شعرت أنها تطبق على صدرها فتترك أوراقها وتمضي إلى القيام بأمر آخر تنشغل به عن الذاكرة (30) أو تتهرب من بعض ذكرياتها مؤقتا” حكاية الأشباح هذه سأتذكرها في الأيام الأولى عند عودتي للبيت القديم الذي هجرته بسبب ظروف قاهرة “(31)
وقد تقفز على الذاكرة باستباق لحظات منها غير محسوبة في إطار تراتبها الوقتي” سأعرف بعد موت أبي بسنوات السر الكامن وراء احتفاظ أبي بهذا الجرس طيلة حياته”(32) ، وقد تستبق بسرد قصة ما ستحكيها في موضع آخر” سأعرف فيما بعد أن السيد مختار واقع في غرام أمي هو الذي سيخبرني بذلك وليست هي”(33)
أو بالقفز على لحظات مرت بها الساردة في طفولتها وصباها أو تقبض على الزمن في امتداده الماورائي الغيبي لتستبطن دواخل الشخصية وذكرياتها بعد أن تكون قد ماتت ” اسمعي يا ابنتي إن الزمن عندي مرتبك فنحن بعد الموت لنا زمن آخر لا تحدده الساعات لن أحدثك عنه الآن لكي لا أشتت ما تسعين له وحسنا فعلتِ بتذكيرك لي وها أنا أتذكر ..”(34) موظفة تقانة الاسترجاع لمحطات من حياة الأم بضمير الأنا ومرة بضمير الغائب ومرة بضمير المتكلمين وبحوارات حرة غير مباشرة ومونولوجات.
ولا يخفى أن هذا الإتقان في نسج الذكريات وتفصيلها بحسب ما ترتئيه الساردة ما كان ليخلو من بعض الثغرات التي تكشف عن بعض التضاد في الرؤى فهي حين تسرد قصة تعرفها بنجم تزداد لوعتها من قسوة الزمن فتصبَّ جام غضبها على الكتابة جاعلة منها معادلا روحيا لها “آه أيتها الأوراق لعلك الآن تتنفسين دخان الماضي وتنفثينه حسرة أنت بيضاء مثل قلب أمي قبل أن يغير لونه الموت اغفري لأصابعي ما تفعله على بياضك الناصع فالوقت يصفعني بشدة ولا يترك لي خيارا إلا اللهاث على خطوطك قبل أن تنفلت أيامي”(35) لكن هذا سينافي ما ستسرده لاحقا من أنها كانت تجد في الكتابة فعلا مضادا للتلاشي والزوال” اكتب قبل أن امضي إلى الزوال، الزوال الأكثر غموضا من الموت لذي لا احد يفك غموضه لكننا نداري عجزنا ..فنبتكر له الحكايات ونصدقها “(36) ولعل اختلاط الذكريات هو سبب تشوشها ولذلك لا تجد غير الكتابة أداة تساعدها على مقاومة الانزواء والاحباط..
وكذلك نجد أن الساردة في الوقت الذي تمقت البيت القديم ولا تجد فيه الإثارة ولا تحتمل الحياة فيه؛ فإنها في موضع آخر ترى العكس فبيتها القديم مصدر القوة والأمل” ها هو البيت القديم يعيد لحمتنا ..بكل تلك الذكريات وبالعزيمة على سحق اليأس”(37)
ولعل هذا ناجم عن تناقض وربما تصالح الساردة مع الكاتبة التي أرادت لروايتها أن تكتب بطريقة المذكرات وكأنها رواية اللامنتمي” يقوم به راوية بارع يحاول جاهدا أن يقنعنا بنقاء السريرة”(38) وعند ذاك يكون السؤال المطروح هو: إلى أي مدى التقت الساردة ريام في انثيالاتها الذاكراتية بالكاتبة هدية حسين؟!!
وقد يكون الجواب بالإيجاب جائزا ولكنه ليس حتميا بدليل المقاطع الميتاسردية التي احتوتها الرواية مثل” انكب على الكتابة كأنني ابحث عن نفسي بين السطور واجدها تلهث فالتمس من بقية الصبر الذي لديَّ بعض الهدوء والسطور تتوهج وتخبرني بأشياء كثيرة عليَّ أن أدوّنها لكنني إما أن أكون قد نسيتها أو تجاهلتها “(39)
وغير ذلك كثير من المقاطع التي هي على الشاكلة الميتاسردية نفسها بما يكشف عن صوت الكاتبة هدية لا صوت الساردة ريام ومن ثم لا يكتمل النص السردي بقارئ متخيل أو ضمني حسب بل بقارئ حقيقي يكون جزءا من البناء الفني لا خارجا عنه وهذا ما يترتب عليه تباين في فاعلية الكتابة الذاكراتية باتجاه نسق قرائي تتبناه المؤلفة بمقصدية واعية وجوهرية.
1 – ريام وكفى رواية، هدية حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، طبعة أولى، 2014.
2 – م . ن /72
3 – م . ن /26
4 – الرواية العربية ممكنات السرد، الجزء الأول من أعمال الندوة الرئيسة لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، دولة الكويت 11ـ13/ ديسمبر/ 2004 بحث ( التجريب في الإبداع الروائي) للدكتور صلاح فضل / 103.
5- ريام وكفى رواية /9و10
6 – م . ن /16
7 – م . ن /19ا
8 – م . ن /28
9- م . ن /41
10 – م . ن /56
11 -م . ن /97
12 -في النص (نجم) كذا
13 -م . ن /112
14 م . ن /137
15 -م . ن /139
16- م . ن /184
17 م . ن /171
18- م . ن /185
19- م . ن /194
20 -م . ن /208
21 -م . ن /211
22 م . ن /9
23 -م . ن /78
24 م . ن /7.
25- م . ن /211
26 م . ن /161
27 -م . ن /10
28 م . ن /12
29 -م . ن /8
30 -ينظر: م . ن /32
31 -م . ن /22
32 -م . ن /34
33 -م . ن /58
34 -م . ن /64
35 -م . ن /91
36 -م . ن /174
37 -م . ن /161
38 -الحداثة، تحرير ملكم برادبري وجيمس ماكفارلن، ترجمة مؤيد حسن فوزي ، طبع دار الحرية للطباعة، بغداد، الجزء الثاني ، 1990/146ـ147.
39 ريام وكفى رواية /196.
نادية هناوي سعدون*