تتمتع الآنسة (أوريلي) بقوام جميل، ولها وجنتان متورّدتان، وشعر آخذ بالتحول من البنّي إلى الرّمادي، وعينان صارمتان. وترتدي قبّعة ذكورية تناسب العمل في المزرعة.
لم تفكّر الآنسة ’أوريلي‘ بالزواج قطّ، ولم تقع في الحبّ أبداً. وعندما كانت في العشرين تلقّت عرْضاً بالزواج رفضته في الحال، ولم تندم عليه عندما بلغتْ الخمسين.
كانت وحيدة تماماً في هذه الدنيا إلا من كلبها ’بونتو‘، والمستخدمين الذين يعملون في مزرعتها، وعدد من الطيور، وبضع بقرات، وبغلين .. وبندقيتها.
صبيحة أحد الأيام وقفت الآنسة ’أوريلي‘ في شرفتها تتأمل ثلة صغيرة من الأطفال الصغار الذين بدوا وكأنهم سقطوا من بين الغيوم على نحوٍ محيّرٍ ومباغت وغير مرحّبٍ به. إنهم أطفال ’أوديل‘، أقرب جارة إلى منزلها .. ولكن ليست الأقرب إلى قلبها.
كان الأطفال الأربعة في صحبة أمهم الشابة التي كانت تحمل بين ذراعيها ’لودي‘ الصغيرة، وتجرّ ’تينومي‘ بيد متراخية .. بينما لحقت بها ’مارسلين‘ و’مارسليت‘ بخطوات مترددة. كان وجهها محمرّاً من الانفعال ومبتلاً من الدموع؛ لقد أُبلغتْ لتوّها بتردّي حالة والدتها الصحية وبوجوب السّفرلرؤيتها.
«أنا لا أشكّ للحظة انك ستعتني بأطفالي في غيابي يا آنسة ’أوريلي‘، ويعلم الله أنني لم أكن لأزعجك لو كان زوجي موجوداً معي.» قالت ’لودي‘ وهي تغادر مسرعة إلى العربة التي ستقلّها إلى أمها.
وقفت الآنسة ’أوريلي‘ تتأمل الأطفال بنظرة فاحصة، فهاهي ’مارسلين‘ تصارع جاهدة للخروج من تحت ثقل ’لودي ‘ الممتلئة، وها هو ’تينومي‘ الذي يشاكس بسبب و بدون سبب.
توقّفت الآنسة ’أوريلي‘ عن تأمّلاتها واستعادت رباطة جأشها وقرّرت أنّ هناك عددا من المهام عليها القيام بها، أوّلها إطعام أؤلئك الأطفال. ولو أنّ مهام الآنسة ’أوريلي‘ كانت لتبدأ وتنتهي عند ذلك الحدّ لصرفتهم بسهولة. لكن الأطفال الصغار ليسوا خنازير صغيرة فهم بحاجة إلى الرعاية التي لا يُتوقّع من الآنسة ’أوريلي‘ توفيرها لهم.
حقاً أنها لم تحسن إدارة شؤون أطفال ’أوديل‘ خلال الأيام القليلة الأولى، فكيف لها – مثلاً – أنْ تعرف بأنّ ’مارسليت‘ كانت دائما تنتحب إذا خاطبها أحدٌ بنبرة عالية أو آمرة؟! ولم تلاحظ شغف’تينومي‘ بالأزهار إلا عندما قطف أزهار الغاردينيا ليتفحّصها بتأنٍ وعناية.
«لا يكفي أنْ توجهي إليه كلاماً يا آنسة ’أوريلي‘، بل يجب أنْ توثقيه إلى كرسيٍّ كما تفعل أمي
معه دائماً عندما يكون مشاكساً.» غير أنّ الكرسيّ الذي ربطته إليه الآنسة ’أوريلي‘ كان واسعاً و مريحاً ممّا أتاح له قيلولة هانئةً في تلك الظهيرة الدّافئة.
في الليل.. عندما أمرتهم بالذهاب إلى فراشهم، كما لو أنها تهشّ دجاجا ليذهب إلى قنّه، وقفوا أمامها
1
حائرين وغير مستوعبين لما تقوله.. فماذا عن قمصان النوم البيضاء الصغيرة التي أُحضرت معهم
ووُضعت في كيس وسادة، ويحتاج إخراجها إلى يدٍ قوية؟! وماذا عن حوض الماء الذي يجب أنْ يوضع وسط الغرفة لغسْل أقدامهم المتربة والمسمرّة جرّاء تعرضّها للشمس طيلة اليوم لتغدو جميلة ونظيفة كعادتها؟! كما أنّ اعتقاد الآنسة ’أوريلي‘ بأنّ ’تينومي‘ يمكن أنْ يخلد إلى النوم دون أنْ تروي له حكاية ’البُعْبُعْ‘ أو أنّ ’لودي‘، هي الأخرى، قد تنام دون أنْ تُهدْهدها أو تُغنّي لها جعل ’مارسلين‘ و ’مارسليت‘ يستغرقان في الضحك.
«إعلمي يا ’عمة روبي‘ إنني أفضّل أنْ أُدير إثنتي عشرة مزرعة على أنْ أعتني بأربعة أطفال صغار. إياكِ أنْ تتحدثي معي عنهم.» أسرّت الآنسة ’أوريلي‘ إلى طاهيتها.
«لا أتوقع انك ستعرفين أي شيء عنهم. لقد تيقّنت من هذا عندما رأيتك تتركين الطفل الصغير يلعب بعلبة مفاتيحك. ألا تعلمين بأنّ ذلك سيجعلهم عنيدين عندما يكبرون؟! تماماً كما هو الحال معهم عندما تقسو أسنانهم إذا أطالوا النظر في المرآة.» أجابت الطاهية.
من المؤكد أنّ الآنسة ’أوريلي‘ لم تكن تزعم بأنّ لديها معرفة من هذا القبيل مما كان لدى ’العمة روبي‘ التي ربّتْ خمسة من الأطفال ودفنت ستة في زمانها. فيكفيها فقط أنْ تتعلم قليلاً من حيل الأمهات التي تفيدها في الوقت الراهن.
أظافر ’تينومي‘ الدّبقة اضطرّتها إلى ارتداء مريلتها البيضاء التي لم تستخدمها منذ سنوات، كما كان عليها أنْ تُعوّد نفسها على قبلاته الرطبة التي تدلّ على حنوٍّ فطريّ. وأنْ تُنزل من الرّف العلوي لخزانتها علبة الخياطة، والتي نادراً ما تستعملها، لرتق بنطالٍ أو تثبيت زرٍّ.
استغرق الأمر منها بضعة أيام لتعتاد على ضحكات الأطفال وبكائهم وضجيجهم. ولم تكن الليلة الأولى أو الثانية التي استطاعت بعدها انْ تنام بارتياح بجوار ’لودي‘ التي تضغط عليها بجسمها الصغير الريّان، بينما أنفاسها الدافئة تلامس خدّها.
بعد مضيّ أسبوعين، الآنسة ’أوريلي‘ أصبحتْ معتادة تماماً على هذه الأمور ولم تعدْ تشكو أو تتذمر. وبعد أسبوعين آخرين أبصرت الآنسة ’أوريلي‘ ذات مساء، بينما كانت تنظر إلى الأبقار وهي ترعى، عربة قادمة باتجاه منزلها لتقف وتنزل منها ’أوديل‘. كان وجهها الباسم يشي بسعادتها لعودتها لأطفالها.
لكنّ هذه العودة غير المعلنة وغير المتوقعة أوقعت الآنسة ’أوريلي‘ في حيرة من أمرها، إذْ كان عليها أنْ تجمع الأطفال من هنا وهناك وسط صياحهم الذي يعبّرون به عن فرحهم برؤية أمهم.
انقضت الجَلَبَة وأخذت العربة تختفي عن أنظار الآنسة ’أوريلي‘، لكنها كانت ما تزال تسمع بخفوت صيحات الأطفال الجذلة.
عادت الآنسة ’أوريلي‘ إلى منزلها. ثمة كثير من العمل كان بانتظارها لترتيب الفوضى التي تركها الأطفال وراءهم. لكنها لم تباشر مهمتها بل أجلستْ نفسها بجانب المنضدة، ونظرتْ ببطء في أرجاء الغرفة وسط الهدوء القاتل والظلمة المتعاظمة وشعرت بوحشة شديدة، وألقت برأسها على ذراعها.. وأجهشت بالبكاء.
كيت تشوبين*
ترجمة: حسام حسني بدار **