لاكورونيا 8 أغسطس 1967
عزيزي ادريس
صباح الخير، أكتب من ذات المقهى الذي كتبت لك منه رسالتي الأخيرة، أو لأقل رسالتي السابقة ، لأن الأخيرة لن تكون أبدا.
الساعة في معصمي تشير إلى العاشرة صباحا . لم تبدأ الحركة في الشارع بعد، لكني أوجد هنا منذ ساعة بالضبط. جلست أرقب البحر وأتملى زرقته وهو يمتد إلى أفق السماء، عكس الشواطئ ، فهي صغيرة ، منفصلة عن بعضها، كل شاطئ منها يبدو كشبه جزيرة صغيرة . وفكرت بأن لا يد لإنسان في صنعها، لأن الذي أوجدها هو خالق هذا الكون .
أنا الآن أمام المحيط الأطلسي ، وقد تذكرت قبل ثلاثة أيام، ما قلته عن طقسه خلال شهرغشت، إذ ينقلب عليك فجأة، فتداهمك عواصفه ورياحه ، دون تنبيه مسبق، هذا ماحدث منذ تلاثة أيام ، إذ اكفهرّت السماء وأمطرت ،حتى حسبنا أن فصل الصيف قد ولّى وانقضى. وفي اليوم التالي عاد كل شيء إلى الاعتدال، فأصبحت الحياة مترعة بدفء الشمس وزرقة البحر ورائحة أعشابه التي يخلّفها وقت الجزر.
فكرت فيك لإلمامك الواسع بشؤون البحر، مع أنك لم تولد في مدينة بحرية. لكنك عشت فيها طويلا.
أحس وكأني أكتب نصا أدبيا منمقا، مع أني أنحاز إلى الكتابة التلقائية البسيطة، كما تشهد على ذلك رسائلي وجميع ما أدونه عن نفسي.
ربما هذا من تأثير ما قرأته بالأمس للفيلسوف الفرنسي سارتر، فقد حاولت وأنا في فراشي أن أقرأ ما كتبه عن الوجودية ، لكني بصراحة لم أفهمها جيدا، مع أني قرأتها بلغتها الأصلية، بيد أن نصوص رواياته ، تبدو لي سلسة واضحة عميقة، عكس العناوين التي يختارها لها، فهي منفرة ومقززة، مثل «الذباب» ، و»الغثيان» ،أو «العاهرة الفاضلة»، إلى غير ذلك .وهي عناوين لا علاقة لها بمضامين رواياته ، أي أنها لا تشي بما يكتبه ،لعله
يتعمد أن تكون اعتباطية ليصدم بها قراءه ليس إلاّ . في حين ، نلاحظ أن الروائيين الأمريكيين ، وأنت تقرأ لهم في الوقت الحاضر ، تلتصق عناوين أعمالهم بمضامينها ، ك : « العجوز والبحر: و» لمن تُقرع الأجراس» وكذا رائعته الروائية « وداعا أيها السلاح» اختارها همنغواي بعناية دالة على مواضيعها، نفس الأمر يصدق على رواية هنري ميلر «أيام هادئة في كليشي « التي كتبها في أواخر ثلاثينيات هذا القرن، في إحدى مقاهي ساحة كليشي بباريس وتحدث فيها عن أيامه هنالك ، وإذا ما زرت كليشي اليوم فسوف تلاحظ دقة وصفه له. ربما لأن الأمريكيين يعيشون ويبدعون بدون عقد الأوروبيين، وعلى أي حال لهم بضاعتهم ولنا بضاعتنا.
أرجو أن لا أثقل عليك بهذه الأحاديث، فهي امتداد لما كنا نناقشه شفهيا حول ما نقرأه ،
أو ما نشاهده من أفلام أو مسرحيات، لم أحك لك بعد عن أيامي هنا ، الحقيقة أني كدت أضجر من صديقات وأصدقاء كريستينا ابنة خالتي ، فجلهم من كلية الصيدلة، لا يملون من سرد أسماء الأدوية أو الحديث عن أفلام رخيصة ، أو إبداء إعجابهم بمطربين شعبيين مثل مانولو إسكوبار أو أنطونيو ماتشين الذي خمد صيته في بداية الستينيات.
لذا فقد أخذت أعزف عنهم بلباقة ، وأتحجج بامتحاناتي القريبة .وحين أبسط موضوعا في أمور الفن أو الثقافة عموما، ينبهرون وكأني أتحدث عن الغيب. وقد صارت إحداهن تحييني كلما التقيت بها بعبارة «أهلا بالبنت المثقفة».
أحمد الله الذي أوجدني في مدريد.
نحن في هذه المدينة الساحلية نتناول فطورنا في الثامنة صباحا ، ما عدا « پوپي» الذي يتكاسل في فراشه إلى ما بعد العاشرة، وبعد وجبة الفطور أرافق والدي في رياضته الصباحية، وهي مجرد خطوات يمشيها في شاطئ البحر. يصطحبني كلبي تشومي دائما، أو بالأحرى أنا التي أصطحبه كي يحميني ، فجسمه الضخم يخيف المزعجين من البشر، وأحيانا تنضم والدتي إلينا حين لا تكون مضطرة للتسوق أو لمرافقة شقيقتها.
والغداء يجمعنا في المنزل، أما في المساء فإننا نقصد أحد مطاعم السمك الذي يختاره
أحد الوالدين، وهناك استثناءات ، إذ نلبي دعوة أحد أفراد العائلة للعشاء.
أنا أُفضّل السباحة صباحا والقراءة مساء بعد قيلولة خفيفة. أحيانا نذهب إلى بعض المدن والقرى المجاورة ، قصد الفسحة والتبضع .
فلسفة والدي الجديدة تتلخص في أن الحياة العادية الروتينية هي الأصح والأسلم للعقل والجسم . فهو يقول بأننا لا ندرك فوائدها إلا بعد أن تحلّ بنا مصيبة، كالمرض أو الرسوب في الدراسة.قلت لك هذه فلسفته وهي ليست فلسفتي . ذلك أني أفضل الضياع مع من أعشقه، وأعنيك أنت.
هذه حياتي وهذا وقتي في لاكورونيا ، أطلعك على تفاصيلها مثلما تسرد عليّ بعضا من حياتك في المغرب، وقد أعجبني اليوم الذي أمضيته في طنجة برفقة صديقك خوصي آنخيل سيكورا، وقد كنت متألقا في ما ذكرته وأعرفه عنك. لم أكن أعلم أن والده يعمل مديرا للمعهد الإسباني في طنجة إلا بعد رسالتك هذه الأخيرة، وحتى عندما تركتني في المطعم مع شقيقته طالبة الطب، لا أذكر اسمها، حدثتني بإعجاب كبير عن مدينتها طنجة، لكنها
لم تشر إلى والدها، لا يهم.
مساء أمس استعرضت في ذهني أصدقاءك الإسبان القادمين من المغرب، أو بالأحرى من شمال المغرب، ومنهم خوصي آنخيل من طنجة، وبيدرو بوفيل وإنريكي من القصر الكبير، وماري كومينديو من العرائش، وكاسيلدا من أصيلة ، خطيبة أحد أقاربك الذي لا أعرفه. لاحظت أنها الوحيدة التي لم تقل كلاما طيبا عن المغرب ، وإذا لم تخني الذاكرة فإنك لم تكن مرتاحا لها ، ربما بسبب علاقتها المتوترة مع خطيبها، ما أذكره هو موقفها من المغرب ، كما أذكر أنني اعتبرها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، بل إني طبقت عليها
ما كان يقوله الفرنسيون عن فرنسيي الجزائر :» ذوو الأرجل السوداء» وهي جملة احتقارية، وقد تحدثنا عن ذلك ذات يوم، أتذكر ؟
لكن الإسبان في ما أظن ليسوا عنصريين إلى هذا الحد ؟
أحسبني تعبت من الكتابة ، فصرت مثل تلك العجوز المهدار التي لا تكف عن سرد كل ما يجول بخاطرها، لكن من عادتي أني لا أشبع من الكتابة إليك، إذ أرغب في أن أكون إلى جانبك ولو عن طريق الكتابة . ربما لاعتقادي بأن رسائلي تسعدك ، فتقرأها بنهم. لقد فاجأتني أكثر من مرة، باستحضارك من الذاكرة جملا بعينيها كتبتها إليك في هذا السياق، لا أرى بأسا في أن أثقل كاهلك بحكاية طريفة قد تسرك، وقعت بين روائيين كبيرين،
الأول الإيرلندي جيمس جويس، والثاني الإيرلندي أيضا صمويل بيكت ، وكان هذا الأخير مزدوج اللغة، يبدع بالإنجليزية وبالفرنسية معا ، وهو أول من ترجم أعمال صديقه إلى الفرنسية، إن لم يكن الوحيد . تقول الحكاية بأن بيكيت حينما كتب روايته الأولى «ميرفي « ، رغب في معرفة رأي أستاذه جويس عنها، فناوله إياها ، وانتظر مدة طويلة ، لكن الأستاذ لم يعلق عليها بشيْء ، وفي يوم آخر وبعد أن عيل صبره، وكانا يجلسان معا في أحد مقاهي باريس، سأل بيكت الرجل عن رأيه.
فساد صمت طويل بينهما، زاده طولا أن غاص جويس في مقعده الوثير وأرسل رجليه الطويلتين إلى مقعد آخر، واستغرق متأملا شيئا بداخله، حتى ظن بيكت بأن أستاذه لن يفصح أبدا عن رأيه في روايته. لكن جيمس جويس العظيم انطلق يسرد عن ظهر قلب فقرات كاملة من رواية صديقه.
في تلك الليلة لم يذق صمويل بيكت طعم النوم ، من شدة فرحه وسعادته ويقينه بأنه قد وضع خطوته الأولى على سلم المجد ، مع أنه كان له حضور سابق على كتابة الرواية وكان شاعرا عميقا وكاتبا لمسرحيات مدهشة مثل « في انتظارغودو « و» نهاية اللعبة «. لكن كتابة الرواية الجيدة شيء مختلف عن جميع الأجناس الأدبية الأخرى.
بهذا الفن الساحر قطف صمويل بيكت ثمار جائزة نوبل، ودخل التاريخ من بابه الواسع .
هذه الشذرات من حياة المبدعين كان يلقنها لنا أستاذ الآداب في الثانوية الفرنسية في مدريد، وهي شذرات أو هوامش تجعلك تتعرّف إلى المبدعين قبل قراءة أعمالهم ، لقد كان مدرّسنا مثقفا ومربيا حقيقيا.
يبدو أنني في حالة صفاء ذهني ، بل وتألق ، لذا سأتوقف عن الكتابة لأغطس في البحر ، والوقت متاح لي لأكتب إليك أيها الحبيب .
لك مني أكثر من قبلة واحدة .
بيلار
بهاء الطود **