1
إكليلُ اللُّوريت يذبلُ بشراهةٍ هذا الصّباح.
يعطي معنًى آخر للموت..
أدندِنُ ما علق في ذاكرتي من البارحة:
“حرائقُ القُبلة الأولى لا تنتهي..
كلُّ قُبلةٍ تماماً كقُبلةٍ أولى..
حرائقي لا تنتهي..”
متأكدة تقريبا أنّ صوتي سيّء، لكنّني أعشقُ ترانيم “الغاغوكا” أتمتمها كل يوم.
أفكر أحياناً في البوذية.
تعجبني الأردية المرمية بعبثٍ على الأجساد العارية قداسة.تدرجات اللون الترابي..
سيكون من الجنون حلقُ شَعري وعدُّ قطرات الماء المتساقطة على رأسي العاري
سوى من إيماني..
أقيسُ أصابعي ومهوى قرطي الطويل،
وأعدُّ ما استطعت من ضعف
ومن رباط الرّغبة..
رغبتي في الموت ستكبر،
دون شهوة لتحسّس الكون..
أما أنت سيكون عليك أن تهدّ جبل الأولمب وتهرّب بقايا الحجرِ والكلسِ والثلجِ لحجْرِ إمرأةٍ تُعدُّ الشاي واللّذة للثائرين على أنصاف الآلهة..
أن تفعل ذلك أمرٌ عادي..
ألاّ تعشقَ تلك المرأة ذاك هو الجنون..
أجنُّ حين أرتخي تماما..
ألهو بتقشير آثار الأذرع حول خاصرتي..
ليَ الشهقة.. ولك اللّهاث الذي لا ينتهي..
أرتقبك كرضيعٍ أو كمؤمنٍ يوشك أن يكفرَ بسواكَ..
لا نهارَ لي..
أظلّ أصارحُ الطواحين..
وحين يتهاوى جسدي
أنهال عليك باللغة كي لا أنهار…
2
أعشق رائحة الكبريت .. تثير حواسي.
الحاسة السادسة لا تأبه..
موسيقى اليهودي اليمني تُحرّضُ
عليَّ الوجع..
لكنتُهُ المضطربة والتأوّهات..
“كحُزنِ ناي شهوتي، بلا مطر..
اسمحي لي بقُبلةٍ باردةٍ.. كالمطر”
أتنفسُ أعقاب أعواد الكبريت.
رائحتهُ تُذكرُني برقصات المايا والأزتك.
يتمايلون بريش “الكويتزال”..
تُذكّرني بسيجارة رجل
لا يعرفُ التقبيلَ
لا يعرفُ البُكاءَ..
حتّى قبّلني.
3
أجلس بإرتخاء على المقعد العالي ، أسند يدي المرتعشة إلى حافة الكونتوار الخشبي للحانة وأحمل ما أحمل باليد الواثقة .
أحب هذا الصخب الكريه حولي. يساعدني على التفكير. تتمايل الأجساد المحشوة في الفساتين الضيقة في رقص عشوائي .. فتيات هاربات لليل أخفين لعنة السواد حول أعينهن بمساحيق رخيصة وتسابقن في عرض اللحم المفزر عبر الثقوب الكثيرة.
أجلس لا وحيدة ولا مصحوبة.
هكذا أجلس فقط و أترك المارّين يرشقون الكلمات.
في الحانة أحدّث شخصين:
الساقي، و هو شاب نحيل جدا كأنه إنحدر من قبائل المجاعة. أمضى نصف عمره يسابق الحيوانات المفترسة و الإيبولا على حد سواء. له وجه شاحب وعينان ضيقتان تدوران بسرعة كنحلتين. يغيّر لي الكأس من حين لآخر و يوزع على سائري الإبتسامة الخفيفة عينها. لم نتبادل الأسماء ولا الهوايات… أدخل مسرعة كأنني أهرب من خيبَة فيبتسم لي. يأخذ معطفي ويقدم لي الشراب.
الآخر هو عمّ الهادي، رجل في الستين. بسلام يتكئ على خشبة مشدودة إلى الحائط. بثبات يضع إناء بلوريّا تبعثرت في قعره بعض القطع النقدية.
عمّ الهادي يهدي الفتيات المهرولات إلى المرايا حيث يُعِدن رسم الحمرة الصارخة على شفاههن و يعدّلن ابتسامة الإغواء. يهديهنّ المناديل الورقية و الدعوات.
أما الرجال فلا حاجة لهم بذلك يقفون بثقة أمام المراحيض المصطفة بدقة. لا يعبؤون بإغلاق الأبواب. يقفون طويلا في الكولوار في إنتظار غمزة تقودهم لرقصة أو أبعد.
بائعات الهوى هنا كريمات جدا لا يهضمن حق عمّ الهادي في النظر للأرداف المهتزة والأثداء المنتصبة. أحيانا يبكين طويلا بجانبه. تذكّرهن سحنتُه المحترقة بشمس الصيف ويداه المتشققتان بآباءٍ تركنهم خلف الطرقات المعبدة بأميال لا تشقها السيارات ولا القطارات. وحدها عربات النقل الريفي تحفظ التعرجات والحُفَر وقطعان الكلاب السائبة في تلك الاراضي المنسيّة.
قبل أن أتعرّف إلى العمّ الهادي كنت أحمل كأسي وأقف طويلا في دورة المياه المزدحمة. أقتنص روايات النساء: بنات البلد يلتهمن السجائر المهربة بلهفة الجياع. السائحات الشقروات بنمشهن الهائج على صدورهن والسمروات صاحبات المؤخرات المستديرة بإتقان.
أستمع طويلا و أغرق حتى كاحلي في حَبْك النهايات.
عمّ الهادي هادئ بحق. صوته خافت. له عينان ضائعتان في التجاعيد. شديد الخجل يخفض بصره كلّما داعبته إحدى العاهرات وهي تقهقه: هدهود.. هدهود..
يبتسم بشح و يغيب في ظلمة الزاوية.
في لقائي الأول معه كنت أتكلم بصعوبة ولكنّي أردت الحديث دون توقف وإفراغ كل ما في رأسي المثقلة. في مكان كهذا يكون الأمر شبه مستحيل. وحده عمّ الهادي يستطيع الإستماع لحماقاتي دون إعتراض. يهز رأسه موافقا من حين لآخر .
أناقش عمّ الهادي بعينين نصف مغمضتين. أصرخ في وجهه بأنه بروليتاري وأحدّثه عن أنتونيو غرامشي فيبتسم لي بسخرية.
أتكلم طويلاً عن معاناة الغيشات في الامبراطورية اليابانية و عن الرواية العظيمة “بجعات برية” لكيونغ تشانغ. ذات مرّة نصحته بمشاهدة فيلم امبراطورية الأحاسيس ونصحته بالاستماع لتآوهات الشيخ التوني ورنّات كأسه. تكلمت دون توقف وكان عمّ الهادي ينصت بصبر .
تطاير رذاذ ريقي و جف حلقي و عمّ الهادي يبتسم و ينتظر ساعة العودة إلى حيث يعود كلّ يوم.
هزمني ببرود ….
فإستسلمت تماما و مددت له يدي أراقصه…
4
الغيم القطني تحتي تماما. خفيف جدا..
شديد النعومة. مازلت قيد الرغبة ذاتها وأبعد.
مازلت أحلم بأن أتكوّر بكسل في راحة اليد الحارقة.
من هذا الإرتفاع الشاهق للجمال.. مازلت أستعدّ لخلع سواك عن جلدي. أعدّ ما تيسر من رباط الشهوة وأتدرّب على الإيمان المُطلق…
من هذا الذهول الحاد أمام تدرجات اللون الأخضر مازلت أحلم بالرقص بكعب نصف عال و تنورة قصيرة.. أتلوى مع النفخ الحزين لعازف الألفورن كما تتبع الابقار المبرقعة رنين الأجراس النحاسية و خيوط الشمس.
أنقر الأرضية الخشبية المصقولة بخفة فلاحة نبتت بين جبال الألب بضفيرتين معقوفتين وكمشة نمش. مازلت مصابة بآثار الدهشة الأولى.. أقف طويلا على نهر بادن. أقيس تناسق الغيم المنعكس في المرآة.
مازلت أحلم بأن تباغتني للحظة و تمرّر أصابعك بين تشابك شعري و تهمس لي بأنّك راحل لا محالة.
هنا حيث يسكن الرب بسلام.
وتأخذ الملائكة والشياطين على حد سواء إجازة مفتوحة. يستلقون على حافة بحيرة ليمان لساعات طويلة. يلهون بفقاقيع الصابون الملونة و يتبادلون النكت الجريئة.
من هنا يغمرني الطهر حدّ الغرق. حدّ السّكر..
من وراء بلور نافذة القطار السريع المتّجه نحو جينيف يلسعني مذاق جبنة إيمنتالر ويربكني الإحمرار الصارخ للنبيذ. هنا لا أفكر في شيء مهم و لا شيء غير مهم.
لا أزهاري النائمة في الشرفة. لا موعدي مع شاعر فاشل في الحب ولا الدروس المسائية للغة الانجليزية..
لاشي أبدا.. سوى إحتمال وجودك قبالتي عوض هذه الفتاة السويسرية ذات الجسد النحيل والوجه المحايد بلا تعبير. قصة شعرها قصيرة. تضع نظارات طبية وتحتسي الكابتشينو في كوب ورقي أنيق.
أنتَ هنا.. تنظر بهدوء إلى البيوت المنثورة بعناية على السهول وتحاول عدّ بجعات تائهة في السماء.. وتحبّني.
أنا.. سأتظاهر بقراءة الجريمة و العقاب للمرة الرابعة. أنظر بخلسة لعينيك الحزينتين وأطرح عليك أسئلة غير مهمة عن تراكم الثلج في شوراع روسيا وفي قلبك. عن مايكوفسكي، عن مذاق الفودكا و النساء….
ندخل نفقا جبليا. تغمر الظلمة القطار فتشتعل المصابيح الكهربائية وتنعكس صورة عجوزين يجلسان على يساري. تذوب يد كلّ منهما في ارتعاشة الآخر. المرأة طاعنة في السن والحب والرجل مازال يضع الخاتم بعد نصف قرن من اللقاء الأوّل. يقبّل زوجته بمعدل قبلة كل ثلاث دقائق.
أين أنتَ؟
أنا.. مازلتُ هنا أتلو أشعار بوشكين وأتظاهر بأنّكَ قبالتي.
وداد عبد العزيز