فياض خميس بيرنال (1930-1988) شاعر ورسام ومترجم وإعلامي ودبلوماسي كوبي.
ولد في ضيعة نائية شمال المكسيك. والده يونس خميس اشتغل راعياً في جنوب لبنان قبل الهجرة، أما والدته كونثيبثيون بيرنال فتتحدر من أسرة مكسيكيّة. وصل خميس إلى كوبا وهو بعمر ست سنوات مع أسرته التي شرعت أوديسيتها بين البلدات خلف عربة الأب البائع الجوال. وإلى كوبا ينتمي فياض خميس بتكوينه الوجداني والثقافي، وصلته مع مسقط رأسه هي ذاتها التي تجمعه بأي بلد من أمريكا اللاتينية؛ أما علاقته مع ما هو عربي فتحتاج لسبر نصوصه التي تدلّ، على ثقافة سمعيّة ومرجعيات عربية في أحيان.
في قرية غوايوس Guayos رست قافلة العائلة سنة 1943، واختارت مكاناً تستقر فيه بعد سنوات من الترحال، وخصص الأب إحدى حجرات الدار لتكون دكاناً يبيع فيه ما تيسر من احتياجات القرية.
عُرِفت غوايوس في الأربعينيات من القرن الماضي بفاقتها، وعانت شحّ الموارد الثقافيّة، فلا مكتبة ولا مدرسة، وتوجب على فياض خميس أن يتلقى تعليمه في بلدة أخرى. وبالتوازي مع سنوات الدراسة داوم على معهد للرسم وبدأ بكتابة الشعر.
ومع 1949 حقق خميس أول مجموعة شعرية بعنوان «بوصلة» Brjula. وفي أواخر نفس العام، إثر مشاحنات أضحت معتادة، يعترف لوالده بأن لا طاقة له على مسك دفاتر الدكان. يترك القرية سالكاً الطريق إلى هافانا.
كان للعاصمة الأثر العميق في تكوين الشاب القادم من الهامش إلى المركز. وفيها التحق بالأكاديميّة الوطنيّة للفنون الجميلة، ليهجرها بعد عامين بسبب رفضه للروح التعليمية التقليدية فيها. وفي عام 1951 انضم إلى لفيف من الفنانين، وشكل معهم «عصبة الأحد عشر» El grupo de los Once، وهي جماعة شبابيّة حداثية متمردة على القيم الجماليّة الكلاسيكيّة، ولها يعود الفضل في إدراج تيار التجريديّة في الجزيرة.
بالتوازي مع نشاطه التشكيلي، انخرط خميس في المناخ الثقافي الأهم حينئذٍ، والذي تميز بجماعة المثقفين الملتفين حول مجلة «أوريخينيس» Orgenes والتي كان على رأسها الشاعر خوسيه ليثاما ليما José Lizama Lima (1910-1976).
على ضيق وضعه المادي، تمكن خميس عام 1954 من السفر إلى باريس، التي احتك فيها بالأجواء الطليعيّة كالدادائيّة والسرياليّة، وداوم على ارتياد الحانات التي كانت بمثابة فضاء تجتمع فيه حلقات الأدباء والفنانين. وتركت السنوات البوهيميّة الباريسيّة في الشاعر أثراً هاماً طبع توجهه الأدبي ببصمة لا يمكن تجاهلها. وفي سنة 1959 الثورية عاد إلى كوبا ولذلك حديث آخر!
* * *
منذ بداية الخمسينات انبرى خميس مع شعراء جيله في دفع الشعر الكوبي نحو منعطف يتغيا حقن الحياة الثقافية بحيوية مفارقة للمقاييس المستقرة. وهو الجيل الذي سينشط كذات فاعلة شعرياً، ويعتبر ممثلاً للشعر الشاب لحظة وصول الثورة إلى السلطة، وقبل أن تتشظى مصائر مبدعيه بفعل تحولات التفاؤل الثوري.
أثناء إقامته في العاصمة الكوبيّة سنة 1949، تابع خميس كتابة ونشر قصائده في مجلة «أوريخينيس» Orgenes، وهي دوريّة فصليّة داومت على الصدور من 1944 إلى 1956، وضمت نواتها التأسيسية شعراء ورسامين وموسيقيين؛ وشملت مروحة اهتماماتها الثقافة الكوبيّة والأميركيّة اللاتينيّة والعالميّة؛ وفيها ظهرت دراسات أدبيّة وفنية، ومواضيع حول فلسفة الجمال، وتعريف بأهم التيارات المعاصرة الأوروبيّة وقتئذ.
ولعبت «أوريخينيس» دور مؤسسة ثقافيّة في الترويج للمواهب الشبابيّة. ولكل ذلك، ليس بمستغرب أن تسفر هذه المرحلة عن اعتراف بشعرية خميس وظهور ديوانه «الأجفان والغبار» Los prpados y el polvo في العاصمة سنة 1954، والذي يعكس الحداثة المميزة لـ«أوريخينيس» من خلال التأويليّة/ الهرمونوطقية. ثمة بالمقابل حضور لروح «أوريخينيس» في عديد من قصائده اللاحقة على الثورة وإن بشكل غير مباشر، وإن دلّ هذا على شيء فإنه يدل على عمق وعيه الجمالي برفقة هذه الجماعة، والذي أرى أنه استمر في كوامن شعريته على تنوع أشكال تعبيره حتى تخوم شعرية السردي أو النثري. لذلك أعتقد أن تصنيف منجزه إلى مراحل حاسمة هو أمر غير دقيق تماماً. واعتقادي يتأتى من أنني أرى أن شعريته تقوم على التحول الحواري لا على القطيعة. بمعنى أن الصوت المميز لمؤثرات تعود إلى «أوريخينيس» (أو إلى أي مرجعيّة أخرى) قد يخفت، أو يتواجد تحت السطح المعلن، إلا أنه دوماً يدخل في سجال مع الشعرية الجديدة أثناء المضي قدماً، ففياض خميس ذاته هو مجموعة من الشخوص الحياتيّة والفنيّة فهو مولود في المكسيك، لأب عربي وأم مكسيكية، ولديه وطن متبنى كوبي، وابن راعي وبائع جوال ومهاجر، كما أنه شاعر ورسام ومصمم فني وناشر ودبلوماسي، فضلاً عن أنه من طائفة الرحّل وريفي ومديني، وبوهيمي ومثقف ملتزم وعاشق أبدي.. كل هذه الشخوص تتجاور وهي تتحاور وتناور على تقاسم حصتها من بوليفونيّة الصوت والصمت بآن.
ولفهم دور جماعة «أوريخينيس» خلال سنوات اضطراب الحياة السياسية والانحطاط القيمي ما قبل الثوري، أشير إلى أن الجماعة تموضعت فوق خشبة المشهد الثقافي الكوبي كمساءلة في معنى الجذور الأدبيّة الهوياتيّة، ورفض جبريّة الصلة المباشرة لثنائية (الواقع-الأدب)، ودفاع عن الإبداعية كتعبير حر فارق لسلطة القول اللاشعري، وممارسة التجريب الجمالي بإحساس إعادة الكشف للذات الثقافية الكوبيّة.
صنفت المجلة في خانة التعالي من قبل المثقف الأداتي في سياق التوجه العقائدي مابعد 1959، وأطلق عليها حكم لا أدبي أيديولوجي مسبق، واتهمت مع من دار في فلكها بالتموضع في «البرج العاجي»، وإشاحة الوجه عن القضايا الاجتماعية لصالح أولوية الكيفية والانطباع الوجداني.
وفي أحسن الأحوال اعتبرت استناداً لعنوانها «أوريخينيس» («أصول») أنها تمثل إرهاصاً في «مسار خطي تقدمي حتمي» سيصب لاحقاً في مرحلة «التطهير الثوري» والالتزام، و«الجماليّة الموضوعيّة».
في دراسة الأكاديمية إيرليمار تشيامبي Irlemar Chiampi المعنونة «مجلة أوريخينس في مواجهة أزمة الحداثة»، ترفض الباحثة هذه المقاربة، وترى أن عنوان الدورية يحمل دلالة لتوجه المجلة والشعرية التي دعت لها. وعليه تناولت الباحثة دوافع رئيس التحرير خوسيه ليثاما ليما لصكّ مصطلح «أوريخينيس» (أصول)، كعنوان ناطق بمعنى هذا المشروع الجمالي وقصديته الواعية في البرهة السابقة على الثورة الكوبيّة.
وترى تشيامبي وهي تتكئ على دراسة ادوار سعيد «بدايات: القصد والمنهج» (1975)، ومحاججته التفريقيّة بين مفهومي الـ«أصل» والـ«بداية». فـ«الأصل» هو نقطة صفر مصمتة، لا زمنية مكتفية بذاتها، ومستغلقة على الإدراك، بينما الـ«بداية» هي شروع زمني و«حدث» يؤسس لحبكة كتابة دنيوية، وزمنيتها تأتي على «المعنى الخالص لـ الأصل»، فهي خطوة أولى في إنتاج المعنى القصدي ومفارقة التقاليد غير المتحولة.
بناء عليه، الـ«أصل» يستدعي سلطة ينبثق منها «المعنى الخالص»؛ في حين أن استخدام صيغة الجمع «أصول» من قبل ليثاما ليما يحرر الـ»أصل» من سكونية التعالي والخلق من العدم، نحو الـ»بداية» أو «أصول» نسبية متعددة، تفارق التموضع الأوحد، وتسمح بالإحالة والإيعاز إلى شيء سابق كما لاحق. وبالتالي تقبل Orgenes (أصول) بمفهوم «السياق» أو «السياقات» السابقة على الحدث الافتتاحي الذي هو اللغة الشعرية الجديدة.
من جانب آخر، لا بد من الإشارة إلى أن الرؤية الشعرية لجماعة «أوريخينيس» تقترب من النظر الأنطلوجي الهيدجري في بحثه عن أرضية جامعة بين الفكر وبين فن الشعر، وتنسجم مع فحوى المقولة الهيدجرية بأن «اللغة وليس الأنساق الفلسفية هي دار الوجود»، وبالتالي مجاوزة المتيافيزيقيا، أي أن الرؤية الشعرية لـ«أوريخينيس»، كما رؤية فياض خميس في مرحلة ديوان «الأجفان والغبار»، تلتقي مع فكرة أن «الوجود في العالم» هو وجود لغوي؛ بمعنى أن عالم الوجود يتجلى ويتكشف في اللغة الشعرية؛ وما من أصل أو مرجعية ميتافيزيقية تشير إلى خارج اللغة، فقط اللغة الشعرية تكشف بذاتها عن الوجود، وظهور الجمال والجميل في القصيدة ليس إلا أسلوبا تعبر فيه الحقيقة عن وجودها فيه، من خلال السفور والتحجّب، الأمر الذي يترك الباب مشرعاً على تعدد القراءات والتأويل. إلى كل ذلك، يمكن القول أن «أوريخينيس» أسست من خلال قلقلها الوجودي لكتابة مغايرة مقاومة لفساد زمكانيتها، حينما اقترحت خلاصاً مفارقاً للواقع من خلال الشعر.
كل ما سبق يبرر مختاراتي من مرحلة شباب خميس، بحيث يتضح فيها التواشج بين شعريته وتوجهات «أوريخينيس». ويستبين القارئ منها برازخاً يتقاطع فيها الأزل والزمان ضمن إطار اللغة الشعرية، كما يمتزج الوهم بالواقع، وتومض منها إشارة تحمل طعم الرحيل/ العدم، إشارة رافقت الشاعر رغماً عن الضفاف الشكليّة المتعددة التي مرّ بها الشاعر.
من بين المختارات تتميز قصيدة «تطواف الساهد» بشحنة صوفيّة، وتسري فيها قابليّة حتى سوريالية للامتداد في المكان الشعري كما لو أنه عالم حلمي، فـ«تطواف الساهد» بهذا المعنى هو رحلة كشف توازي رحلات المتصوفة التي يحفل بها الأدب المكتوب بالقشتاليّة، حيث تخوض النفس تجربتها الروحيّة وحواراتها الليلية مع الوجود والموجود بغيره، كما في نص «الليل المظلم» للقديس المتصوف يوحنا الصليب (1542-1591)، الذي يحمل بدوره مؤثرات عربية أندلسيّة تعود للمتصوفة العرب، مثل ابن عربي المرسي (1164-1240)، وابن عباد الرندي (1333-1390). ما يتفرد به خميس أن حواره الوجودي وتواجده الليلي يشيح الوجه عن الميتافيزيقيا التقليدية، ويترك مساحة اللغة لحوار النفس الشاعرة القلقة مع شرطها الأنطولوجي وسؤال الكينونة بالمعنى الهيدجري.
من اللغة خلق خميس عالماً شعرياً أراد للبشري-القارئ أن يستطيع من خلاله مقاومة المصير المتربص، في الآن الذي يبحث فيه عن ماهيته في الشعرية، كما لو أن التلقي في هذه الحالة هو رحلة سيزيفيّة وإصرار على شرف المحاولة.. محاولة البحث عن احتمال المعنى رغم المآل.
في معرض الحديث هنا، أود التنويه إلى أن خيمياء اللغة وتعقيدها في هذه الفترة الشعرية فرض اتجاه الترجمة نحو التعبير عن هذا الابهام قدر الإمكان. فقد عمّر الشاعر عالم الشعري بأحياء مفهوميّة ورمزية مثل دلافين، زبد، أجساد، أطلال، نوافذ، أمواج، أنجم، غبار، أشكال هندسية مستقيمة الأضلاع أو مدورة تبعا للحالة الشعورية، أصوات متباينة، عماء مسموع، ظلال تتحرك … إنه واقع شعري يتبدى كمناظر مغطاة بغلالة شفيفة أمام بصر وبصيرة القارئ. وكأن الشروع في الكتابة يتأتى حين يسقط ضوء ما على الورق، فتنساب أنامل الشاعر ترسم بالكلمات العتمة والنور، وتوقّع صمتا مغايرا تنبثق منه مسموعيّة الشعر؛ وتكاد يد المتلقي تمتد لتتحسس الصورة والصوت والسكون وتنزع الحجب وهي تبني إمكانيات المعنى. فمع خميس نحن في حضرة شاعر ورسام. الأمر الذي يبرر البعد البصري في قصائده، سواء من خلال شعرية المرئي أو ما يوحى بأنه مرئي، أو مناخات جلاء وقتامة، وكثافة التلوين في سمة الأشياء المجردة حتى الموصوفة والحالات النفسية. بكل الأحوال ما يميز واقعه الشعري البصري برفقة «أوريخينيس» أنه يجري وفق حلمية سورياليّة بامتياز، بل يتحقق كحلم داخل حلم في أحيان، الأمر الذي ينسجم مع الأبعاد الرمزية والتأولية في هذه المرحلة وما يفيض عنها.
* * *
مختارات شعرية لفياض خميس
برفقة جماعة أوريخينيس
الأجفان والغبار
-1-
هنا يُفقَد شيءٌ ما، شيءٌ يُسمع لآخرِ مرة،
يتردد رجعه بين الجدران كجسد فارغ.
هنا يَسقطُ شيءٌ ما، شيءٌ يَسقطُ من هنا،
أحدهم، بجلبةٍ ونواح، يَهبطُ السلالم
العتيقة التي يعلوها غبارٌ ميت.
هنا يَهبو شيء ما، أحدهم
يموت محاطاً بهمهمة،
أحدهم يمضي!
وللتو لا يتبقى حتى ولا الصدى.
يا له من سواد حالك!
لا أحد يتكلم، ما من أحد يعرف الآخر،
في الداخل، الأعين الدامعة، أعين قاطني هذه
الدارة المغمورين، تستغرق بالتأمل.
-2-
زمنُ اليقظةِ هو موسمُ الأرق.
صمتٌ حيث تنهمر دموع، حجارة،
وكلمات محملة بضوضاء ونضير عشب،
كلمات بسيطة من حنوٍ وتِبْر.
زمن تقليب الأغراض التي كانت غافية:
كتب مؤلفة بعناية،
كؤوس، ورق لعب،
سكاكين بلا موات ولا وميض.
إطراق أجفان مفجوعة،
مترقّبة، بينما في مرآة
مربّعة على نحو مريع وخاوية
يركد الليل.
-3-
إنه شباط
يجرجر رماداً وأصواتاً متقطعة الأوصال.
إنه الشتاء السُبَات، الحياة الدامسة باستمرار.
شباط المحاصر بين جُدُر متصدعة.
والآن مَنْ ينتحب عند قدمي التمثال،
مَنْ يترك أثرَ خَطْوِه على التراب
بينما أنوار الليل تتدلى من الأشجار
كثمار زمنٍ مفعم بالحب؟
كل شيء آيل إلى السكون،
بلا أوراق ولا أنجم.
ولسوف يغادر النواطير
متعبين من التحديق أبداً
إلى مقاعد تقتحمها الظلال،
وإلى الخليج حيث الوحدة تبحر مبتعدة.
-4-
والغد، يا تُرى ماذا عنه؟
من سيسهر غداً على هذه الذكريات؟
نثارُ الغبارِ هامدٌ بلا حراك
كأطلالِ قلعة.
ما مِنْ غد، محضُ يومٍ آخر
من عطش، يوم ضرير من كآبة،
بلا عصافير ولا إشراق،
يوم ضائع وقارس على الدوام.
-5-
بعيدٌ أنا عن التوهم. تعلمت الغناء.
أمي وأبي يبتسمان عند النافذة.
أحدهم يعلم أنني عاشق.
أحدهم يناديني بحنان.
يا صغيرتي أننطلق
اليوم للتسلّق؟
إلى جواري هي تحلم.
الطقس حلو، جميع النوافذ
مشرعة. أنتنزه اليوم؟
أشجار اللوز تنتظر ظلالنا،
مطمئنة مقابل البحر.
-6-
على حين غِرّة، يرين الصمت الهائل المعتاد،
والأجفان المثقلة بالهباء الذي يتناثر
لجوجاً بلا انقطاع.
البوابة نفسها بشقوقها القديمة،
نفس الرطوبة، نفس السلّم
المعوج، مع وَقْعِ خطوات
وأصوات عجائز أو أطياف.
ما مِنْ أحدٍ يأتي للكلام
عن الضوء الذي يهطل على المدينة،
ولا عن الصخب الذي يخبط في الشوارع.
ولا عن الضحكة التي تغزو الأرصفة.
ما من أحد يبصق في وجه الشتاء.
هنا فقط تلبث الأيام والحشرات،
وهذه العزلة من قوس
مشدود بين الدواثر.
(هافانا، 1952)
أجساد
-1-
جرحُ العيون،
منظرُ الدمِ السَافِر عند التأمل:
يجري خلف أشجاره الحجرية المحمرّة.
أَلمْ تَرَ إلى الأمل، إلى الخجول؟
ألا تعلم عن حضورٍ مباغتٍ، أُرْجِعَ
في برهة واحدة فوق الأمواه الحزينة؟
النور هناك يعري أديم المنام العذب،
ينهلّ القَطْرُ، الذهب، ورق الشجر المضطرم؛
يتهافت جسدكَ مبعثراً، ظلاً من نملٍ أحمر،
انسراباً متمهلاً، وموشى بالنجوم للروح.
كحُبَيْبات في زجاجة ساعة رمليّة،
أبدية،
موجودٌ تذروه الريح،
أبدية،
موسيقى مسموعة عند غسق أحمر،
أبدية،
جرحٌ لا يلتأم بين الأجفان،
مرآةٌ كروية، سهادٌ قاس،
أبديّة.
-2-
ريحُ الغفلةِ تلملم الأوراق المتهافتة.
لمَنْ يُبْطِلُ السِّمَاطُ المُتَّقِد مأدبة العشاء؟
نارُ الغفلةِ تخرمُ مُقَلَ الندى؛
صَفْو البلور، لسان النوى.
وحيوانٌ ذو نظرة مَهَاة، وما هو ببقر الوحش،
على الدوام يمكث، إلى ما لا نهاية يلبث
في مرعى الأعجوبة الوعر.
-3-
آه يا شجرة وحيدة،
يا لطخة قديمة متلألئة في ذاكرتي،
إنْ هَوَتْ طيوركِ،
إنْ سقطَتْ قطرتكِ المترقرقة متأوهةً،
كيف لا تحترق يداي، ذكرياتي،
ورخام صبري العكر المثلوم؟
آهٍ منكِ، نعم منكِ يا خُصَلَ شَعرِ الغبطةِ الغامقة،
مُقَلّمُ أغصانِك أنا، الصديق الجهم
المجبول بالتراب الذي يسهر عليك بالدموع.
آه من تاجٍ، من لهيبٍ، من حياء مشع،
أي جسد ملائكي يؤرجحك ليلة إثر ليلة
حينما يتوارى لحني المسَخّر؟
-4-
مُجرَّدُ غُولٍ هو، مجرَّد نهر،
أي شيءٍ ينبض ويدوم.
بلورٌ إذ تَغَيَّم غَشَّى،
شمسٌ توقظُ وتذّهبُ حجارةً
كما لو أنها العصافير.
أليست شفاه موتي،
بالقُرب نفسه، واللفح عينه،
ذات الشفاه التي تُشكّلُني؟
الدخان يتلوى جَمْعاً، وبرتقالة تعبي
تدفق ماؤها المُصفَر.
التقاءُ خيولٍ مُهوَّاة بالحلم هو،
التقاءُ أثرِ الخطو، التقاء الخطوات،
التقاء زفرات مُغبرّة، التقاء الغبار،
التقاءُ خيولٍ مُهَجّنة بالحلم هو.
من جدار لجدار هناك مسافة من التأوه،
عالم من جليدٍ محمر يطفو
من جدارٍ لجدار، ومن دمعةٍ لدمعة.
مشغولٌ هو وقتُ الراقصين.
والضحكة، يا تُرى ماذا عنها؟ دُرجُ الضحكةِ
مطمورٌ بالغبار على نحو مفرط.
مَنْ يعثر هنا على رأس دانتي الشائب؟
مَنْ يعلم هنا من أين يتكلم ويرنو رأسي؟
مَنْ يجد هنا رأسه الفارغ؟
الأساسي، وليس الجوهري،
أن تُحسَّ حياة ما هو حي.
-5-
جَرَس لجوج كجدجدٍ يُجَمِّعُ السُخط،
والضحكة، وتكَلُّم جوعى الكلام الساخر.
من بيتٍ لبيت تتواثب طقطقةُ مفاصل العظام،
من يدٍ ليد تفقد سحنتها قِطَعُ النقودِ المخصصة للقهوة.
آه، بلى بلى! تابع يا سيد، فأنا لا أصغي لك؛
سوى أن صوتك يقصي عني الجوقة الأخرى.
عند البوابات المقشعرة
ما مِنْ أحد يتأمل شيئاً،
عميان هم الأصدقاء، متدثّرين يغفو العجائز،
والظهيرة مملوءة بأشداقٍ تبعقُ جازمةً.
– أيها الزوار اذهبوا إلى الجنائن،
أيها الزوار اذهبوا إلى المقبرة.
ولحينها، أي ركن سينفرج ليضيء قليلاً
من حلم حقيقي؟
أسونثيون بقرةٌ: أجل هي نائمة،
بناتها يستغرقنَ في الكَرَى كبهائم رطبة،
وهرّ الجار المجهول لابد أنه نائم أيضاً.
آه يا مثقال النور، يا جوهراً كثيفاً
لا يُقهر من الهمس،
حيث أتعرق كذلك لا وجود
لعيون ثاقبة تنتشلني.
-6-
القناعُ عريٌ،
والمرآةُ لحظُ الأيام بالمَجَّانِ.
الوجهُ صفرٌ زئبقي في معادلة عارمة.
فليأت أحدهم ويدخّن إن أراد البقاء.
أيتها المدينة، يا معبداً هائلاً أصم، إن حماسة
رذاذ المطر الساكتة تغمرُ كائناتك الحيّة،
وتغيّمُ ضياءك النهاري الحَجِر. سورٌ
رمادي كلُ ما يَدوم، حجابٌ
نَسَمَتْ فيه الكآبة برفق.
أيتها المدينة طالما تضحين
متنائية، أنا أتكئ؟
إلى جوار أي لهب أنمنمُ بالنجوم جلدي الميت؟
آه يا هذه المدينة، يا جسداً مجنحاً، يا متاهةً واكِفة،
حتى همس قطرتك المرتعشة يتلاشى،
وأنا ذاتي
أسوة بجذوةٍ نسية منسية من نارك أخبو.
تطواف الساهد
-1-
الشفافية تتهشم – ألا تسمعها؟
ألا ترى الشراع الفضي
الذي يبدّل سحنة الوجوه؟
العجوز المعتمر قلنسوة
يعضّ على غياب ضيعته،
يكسر بيديه إناء عاقّاً.
عندها تفيق النساء الساذجات
المكبلات إلى أُوار الأبناء.
ألا تنصت؟
إن تشظي الزجاج بديع كما
لَمْع الشلال.
الكِسَر الرطبة تنفذ في بؤبؤ العين
(ولا تعبر من وراء الحدقات)
ترفرف بأجنحتها خِلال
رماد الأجفان، أم فراشات هي أم عبرات؟
على حين غفلة أراني طفلاً
كما «طفل باييكاس»(1)،
مثل أحدهم على مسكوك
النقود النفيسة أو كقشرة ثمرة درّاق،
وكذلك على حين غرة، أراني تلك الحبة من تين الروح، ظلال جدي المذرّرة في اهليلج من ضباب وقهقرى.
قل لي أن النافذة لم يكن لها زجاج مطلقاً، وبأن هذه الصور الغروتسكيّة المندسة هي أضغاث أحلامي.
ألا تسمع الجَسورة التي تهيّج، وجُسمان الملاءات
الغاوية وهو يغني بين الحجارة؟
إذا مضى نعش الخلاسي الغافي، إذا مرت مركبة العسس،
سيتناهى إليك تردّد الصوت الحزين، سترى السراب الشاحب
لأديم قمرٍ راقص بين الدموع.
يا صديق الزجاج والأسى،
أ أنت هنا، أم أنك تذوّب القلب المتباعد القاسي
في دافق ماء الحديقة؟
-2-
الأعرج يمكن له أن يعبر كظل
بائعة يانصيب عجوز عند المساء.
شدو الشارع لا يعزلني، بل يملأ صدري
بالأمل.
أتذكرُ زورقاً، ربما أزرق؟
أحدهم كان يرسم أشرعة أو بنات صغيرات على مقعد
في حديقة.
أنا وعاء الهباء المنبث، الناضح بتوجسات وضوع جنون.
إذا أتى النحيل ذو اللحية سأقول له أني لستُ موجوداً.
أتصغ لي؟ لستُ في بيت الدخان هذا،
وخضراء تنبت عظامي وسط الندى.
-3-
كلب الجار يعضّ رنين الأجراس بلا جدوى.
محض مستيقظ أنا بلا أبناء ولا موقد.
الكنائس تفرّ على نحو بديع.
والقبّرة الراجفة تنجلي، وتتورد مع حافتها النوافذ الحالكة.
في أزمان أُخر لو كنتُ صفّرت لاستجابت الكلاب
وترعرع حلم في مواطئ قدميّ البعيدة.
أما الآن فأسأل نفسي من أنا، ماذا أدعى،
أينما نهري بحصى زرقاء، وأرضي الحنون
بتخوم رسمتها حمائم ونار وأمل؟
واهٍ، بلا حنجرة ولا جسد، أمضي
بين هذه الأنفاق من لهاث وعواء، من غياب وبلوى.
-4-
آتي لحفرِ التراب،
لأدفن بذرة موتي الحمراء،
وجفناً مطبقاً على بلور انتظار مديد،
وشقفة رمادية من قلب بازغ
يطلع بلا لذة بين أوراق إبَرية ودخان.
يا أخ الأمطار،
أعنّي على الصراخ،
يا حيوان النسغ،
حوّط لي بعنايتك
اللحد الرهيف.
يا دمي:
إن جذع شجرة الماثيغو الذهبي(2)،
مِثَال الشمعدان حين تبكي النوى عند
جذورها.
إذن
سترافقني
حتى الصمت.
يا أخ العشب،
أ تبغضني؟
حدّق في هذه اليدّ:
أنتَ لستَ سوى صدى بري مدلهم لروحي.
-5-
آه أيتها الأبواب!
بين القناديل وعزيف الغبار،
هناك سور النباتات، برفانات خشب الكاوبا الدافئة(3)،
ومفصّلات لا مرئية لبوابة النسيان
تصرّ بلا توقف.
أ تعلم أني أستطيع الجَوْس في الصلابة كما في جبين
شخص نائم؟
الصدى يدغدغني. وفي زوايا النور
ثمة طفلة ترنو وتختفي وهي تمحو عني السأم.
روحي موثّقة كما بهيمة هائجة،
إلى جوار قدمي،
روحي التي من حقد رَؤُوم
مكلومة أحياناً بالجنون.
أ تعرف أني أتخلّل الأبواب عند المغيب
كما كلمة حب؟
-6-
المنية مَثَلُهُا مَثَلُ زيارة ثِقَة،
ابتسامة غير مستغربة،
رقصة فالس من عبق وأشرعة ساكنة.
ألا تدري أني أتأمل كل طقوس الليل
وأني واحد من أكثر حماتها جرأة وإخلاصاً؟
وسادتي هي الأكليل الذي تنعشه الريح،
جمةُ شَعرٍ متواثبة ومنغّمة مادامت الظلمة.
لا أشعر بالخوف، لا أشعر بالخوف. دقاقُ الغبارِ يهبّ
-فسحتي صحراء صغيرة-
يغني لي كوبلا التكوين ويصيّر ترتيله ابتسامتي رتيبة
بنفثة دافئة لأنفاس ثور حكيم راضٍ(4).
دع عنك واترك النوافذ مشرعة، والثقوب البيضاء
بلا حلم،
واسمي من نطفة شعائرية مطفأة وحمضية.
آه أيتها الحزينة، تعري على ضفة هذا التِبر،
آه أيتها المتعَبة الفزعة، توسدي قلبي الذي لم يعد يحتسي سوى خمر
الوحدة الدامس.
وحدةٌ أَرَقُّ وأكثر بريقاً مع لطف صُحْبَتك.
-7-
صباح الديك يلوحُ، وترتعشُ في الممر
أصداء قَبْلِيّة، وهاجس عن موت أبيض.
ومع الريح تَهمُد أياد قاتمة،
وهيولى من اضطراب،
من زنجار ونصل تقصّيات مبكية،
حيث العَجَلَة التي لا تتقدم
تخلف ورائها هسيساً كالحفيف، وشرر طائرٍ طوّحه
نشيج الشتاء.
وبحرص، يشرع أحدهم بالاستفهام، بالثرثرة
في لحظات باردة تواقة للنبض أو للغناء.
هل من أحدٍ يتوارى في شغفه، إلى جوار أعمدة،
رقيب بنظراتٍ شرسة ولهَيب مُتَّئِد،
شبح منفي من قِبَلِ العري المنفرجِ بين الظلال؟
لستُ إلا قطرة من دمٍ أَرِق،
عنكبوت ملتهب في الرُحاب الساكن.
مَنْ، مَنْ يعرف شيئاً عني؟ مَنْ يستيقظ بدلاً مني؟
البياض المترف يصقل الشوارع، وللتو يوسع هذه الحجرة
الليلكيّة:
أيها المستلقي، ألا تسمع اسم من يأتي بالحليب
عند الفجر؟
إذن من الممكن الموت بين اللهاث.
ها هي الشفاه ميتة، ودَكْنَاء هي النظرة.
* * * *
أحياناً
أحياناً، في سكون الدهليز، شيء ما يقفز،
أحدهم يهشم اسماً قديماً.
الذبابة المهتاجة تمرق بصوتها الطنين، تحترق
بعيداً عن النجفة العنكبوتيّة المضيئة.
هذا هو كل شيء، لا أكثر ولا أقل؛ إلا أنه حافل بالمفاجآت.
دارُ أشباحٍ بلا ذُرِّيّة، حيث الغبار
يشيّد نوافذ جديدة، وأثاثاً ورقصات جديدة.
لا، أنت لا تعرفه، أنت لم تمعن بحدقتي عينيّ
ولذلك تغرورق بالدموع. اصغ لي:
بيتي لا يهرب، هو بعيد دوماً.
من هذه السلالم يُصعد إلى السواد.
المرء يتعب من ارتقائها، ولاهثاً ينام
دون أن يفطن حتى للأيام، والحمّى، والضجيج المهول
للمدينة التي تغلي في العمق.
أحياناً، في صمت الدهليز، أحدهم يولد بغتة،
أحدهم يدق الباب غير المرقّم، وينادي.
لا، كأنك لم تكن هنا مطلقاً. لا، لا تأت.
وعدي بأن أفتح، إلا أني باستمرار أكاد
أكون على سفر.
* * * *
(قصيدة تركها فياض خميس بلا عنوان)
في مساءات الوحيد، كثيف الريح يشتد والجدران تُصيّرُ إيماءة الغبار ودخول المخاوف والطيور رشيقةً، النور يتلبد مَلْجوماً عند الأبواب -إن وجدت- وفقط بين الفينة والأخرى يُترَك لقطرات ذهبية طفيفة أن تتهاوى في الشقة.
الوحيد لا يتحرك لأنه من كثرة التفكير لا حول له وعظامه تجذبه نحو الأسفل بثقل معادن مجوّفة أضحت بلا نار ولا بكرات رافعة. الوحيد يتطلع إلى السقف (يكاد يستلقي على ظهره باستمرار) ومرة تلو الأخرى يحصي صفوف العوارض الخشبية القذرة المتعفنة التي تغطيه. عشرون. عشرون. ويتلاعب عقله بالرقم كما لو أنه كرة طاولة. أي جسد يأمله الوحيد في هذا الغياب؟ ما من صور شخصيّة لديه على الحائط، كل ثيابه ليلكيّة والذقن يتجاوز الشبرين. في المحبرة ثمة ماء صراح وجميع الأوراق تحتوي في مركزها على ثقب واسع بهيئة وريقة سباتي(5). عديد من بطاقات الكوتشينة مبعثر على الأرضية وما من بطاقة تظهر وجه العهد والرجاء. كم هو وحيد الوحيد!
إلا أنه لا يدري بشعاب وحدته، فمن كثرة الانتظار على هذه الشاكلة، مضجعاً على خوان من خرق وأسلاك نوابض، اعتادت مقلتاه على التلبّث والنظر في ذات الشيء، بينما لا تُحرك شفتاه الزرقاوان -رمادية مزرقّة- ساكناً سوى التمتمة على مدار الساعة: «عشرون… عشرون».
…
مقطوع الرأس اسم هذا الدخان الذي يدلّيني. آه يا دابتي، يا مطيتي مقطوعة الرأس. ما الذي كنت أحلم به حينما خضت غِمار تلك الضبابة؟ فجأة أولي الأدبار في قطار خبز عبر الشبابيك. فجأة أقفز في نظرة، يعضني صهيل ما، فأهرول بين الخرائب. يا يوماً مقطوع الرأس، يا رماد وجه آخر، فقط أعلم أني أتقدم على الدوام بعينيّ التائهتين في عُرفِ الفَرَس.
…
هيّا هيّا، جَوَاد، حجارة، دخان، شِعر!
إني هائم على وجهي بين عوسج السهل ملعون الأم، مجنون وسط صخب المدينة، التي تلوذ جُدرها بالفرار أحياناً على عجل نحو السماء، نحو الجنائن، نحو روحي. هذه نافذةٌ، وهذا بوقٌ شخيرٌ من سيارة، وهذا جناحٌ مدمى لحمامة مطوقة ميتة في لحظة تأوهها الأكثر نداوة. الشيء بالشيء يختلط؛ ويقبل نحوي، ما الذي يَهُمّ من كل ذلك حين أنفض عني النجوم وأمسك بالزمام كي أتابع.
هيّا هيّا، صمت، قائد، شجرة، شِعر!
* * * *
جسد الدلفين
في قصر الذاكرة، في دخان الجسد
نبضٌ غريب، خفقٌ بعيد:
ظلال دلفين حمراء تلج برقة،
ما أهمية ماركة رمح الصيد؟
ما أهمية أن يكون اسم الزورق «ليتل فيش»
أو «شفال»؟
ما أهمية محيّا الصياد المتقد؟
ما أهمية دلفين يموت في الذاكرة؟
لا شيء. على غرار نملة، لا أهمية تذكر لدلفين ميت.
الدلفين والنملة هما حقاً غولان، ولكن
لا يبالى لهما على الإطلاق.
رغماً عن ذلك، أرى الآن سوراً وأصغي لمدينة؛
والآن أرى مدينة وأصغي لسور.
وأعتقد أن موت دلفين هو أمر يكترث له، لأن
خفقه في كل مرة أقل بعداً في ذاكرتي.
ولكن الدلفين لم يمت بعد وأشعر أني أضيع
وأن ضياعي أقل جمالاً وإثارة للانتباه
من موت نملة.
…
في لهاث الأمواج، في الانبثاق المتواصل
للأمواه الخضر.
أي جسد أبقى من الزبد؟
أي جُرْف صخري يثب أعلى من الزبد؟
أي معبد أشد رسوخاً من معبد الزبد؟
المدينة هنا، البحر هنا،
أنا وأنتِ هنا، بين البحر والمدينة،
واجفان من البحر والمدينة،
واقعان بحب البحر والمدينة
ومتناسيان البحر والمدينة بفعل تخوفنا وحبنا
ونسياننا لأنفسنا.
أ تسمعيني؟ أ تعرفيني؟ أ حية أنت؟
جسدي الخاوي يتكلم إلى جسد خاوٍ.
قوقعة أنا، حجرة، محض جسد فارغ
يتحدث من فوق السور
إلى جسدٍ فارغ آخر يغفو على السور.
الموج يومض متلاطماً، والليل يلتمع بالنجوم،
ما هما إن لم يكونا لألاء مقفراً، جليداً وملحاً فوق السور؟
آه يا جسد جسدي، كم هي قصية، مستحيلة
الصخرة المزبدة،
والسور الأبيض، الباذخ، الأبدي.
…
طير شفيف، يَتَنَهَّد هناك في الأعالي، يشيد
بحراً جديداً،
بين المدينة العتيقة والبحر القديم،
فوق أجسادنا وبدن السور.
في البحر الصغير، ألا وجود للغرق؟
ألا وجود للدلافين؟
يوجد معبد الزبد الفاتن، الذي حين يتموّه بالذهب
يبدّل وجهكِ، آه يا جسد جسدي.
أي شيء أكثر فتنة من طفلة بلورية،
لا تتحرك، صامتة، ساهية وراء حجاب من إبريز،
في كنف طير الأبد الشفيف؟
في البحر الصغير ثمة دلفين ذهبي يلعب،
موسيقاه تَهُزّ شعر رأسك؛
(أنا لا أذكرُ شيئاً، لا أرتقبُ شيئاً؛
أحلم من دهر لدهر طالما ظِلّك يلتمع ويرتاح
فوق السور).
بسكونك، أنت مذهبة أكثر وتلتفتين برشاقة أوفر
من الدلفين هناك، في الأعالي.
…
استيقظي، الطير الشفيف جاء وحطّ بيننا.
عمَّ يبحث؟
نحن مجرَّد جسدين خاويين يحلمان
فوق السور.
أ جاء يشيد بحراً آخر بين حلمك
وحلمي؟
انظري: ها هو يتلاشى؛ كريستاله يتفتت آن ترفّ أَجْفَانك.
إلى أين يا طير الكريستال، إلى أين يا طير الأبدية؟
اصغي يا صغيرتي، يا جسدي: إنهم ينادوننا؛
من المدينة ينادوننا، من الأمواه ينادوننا:
هل سيُزْهَق اسمينا؟
هل سيُقوَض جسدينا؟
كما الطير تحدقين بي، كما الأبدية
تلتمعين إلى جانبي.
آه يا صغيرتي، يا جسدي، يا طيري الشفيف،
من الذي سيوقد اسمينا في المدينة
والأمواه؟
أشعر أني أضمحلّ، أن ظلي يتهشم، أني أنسى.
…
لغطٌ لا تسببه الريح، وجوه لا الذاكرة
ولا البحر يخلقانها.
وكل شيء يبقى قريباً جداً؛
الزوارق لا تمحى،
وأبراج المدينة تتضائل كمطرة خفيفة القطر،
كغبار ينفثه التدمير.
والليل والأمواج تتلاطم،
وتمور أحلامي،
آه يا ذاكرتي لماذا تفتحين قصرك للغول؟
أنا لا أعرف رمي حربة الصيد، حتى ليس لدي حربة.
ولا أريد لحجاب الموت الأحمر أن يغطي أي جسد.
والفرار؟ الفرار؟ الفرار؟
آه لا مفر من الزمن، لم يتبق أي بصيص بعيداً عن
هذا الدخان.
لا أحد من الدنيا يمكث في الآخرة ولا في الأُولى.
نفس الارتعاش الذي يفضّض الأمواء يملأ ذاكرتي
ويَسبُك جسدي مع الريح ومع السور.
لو أن الدلفين المحتضر يُحرِز موته،
لو أن الدلفين الملتهب يتَحرشَف فجأة.
كم من السنين يلزمني لنسيان مقلتيه المتسعتين وعينيّ.
ولكن الموت يغفو وأنا والدلفين الجريح نتأمل
بعضنا باستسلام.
…
آه يا جسدي، يا صغيرتي، آه يا طير،
ما أنا إن لم أكن ظلّك المتأرجح المخَضَّب بالدماء؟
بالنظر إلى نورك السرمدي، ما هو الأمس؟ ما هو الغد؟
أترين؟ لا الغيمة ولا الزورق ينزلقان،
لا الغيمة ولا الزورق يغمران رماد أحشائهما.
يا طيري، أتنظرين لي؟
أنا شجرة حمراء فوق السور.
هناك المدينة الباردة، هناك الأمواه الباردة، وما بين المدينة الباردة
والأمواه الباردة،
ما بين الأيام والأيام،
كريستالك المذهب، حلمك الساكن، صمتك.
ولي جسد شجرة، وحفيف شجرة،
وصبر شجرة،
في مواجهة جليدك
بَيْدَ أنك لا تسمعينني، وأنا أريد أن أخلد للنوم:
أريد أن أحلم بأن دلفيناً هائجاً يقطع بغتة رؤياك،
أيتها الأبدية.
* * * *
الهوامش
(1) «طفل باييكاس» El ni?o de Vallecas هي لوحة زيتية للفنان الاسباني Diego Vel?zquez ديغو بيلاثكيث (1599-1660). أنجزت اللوحة بين 1635 و1645، لتشكل جزءا من مجموعة تصاوير خصصها الفنان للاسباني لرسوم مسوخ وأقزام ومهرجين ومضحكين «حمق» كانوا يؤدون دورهم الجبري، وفق منطق القرن السابع عشر، في تسلية الأسر المالكة والحاشية والنبلاء، باستخدام تشوهاتهم وعيوبهم الجسدية أو مهارتهم الأكروباتيّة. وقد لاقت هذه اللوحات تفسيرات وردود فعل نقدية متباينة تبعاً للمراحل الزمنية وقيمها الأخلاقيّة، فقد هوجم بيلاثكيث لقسوته في هذه الرسوم في القرن التاسع عشر، إلا أن أغلب الآراء في القرن العشرين تتفق على إحساس التضامن الذي خص به الفنان شخوصه المرسومة، حين تصوير فرديتها وتعابير وجوهها النفسيّة العميقة المميزة. ومن المناسب في هذا السياق تذكر مقاربة مشابهة لشخوص بيلاثكيث، قام بها سيرفانتس من خلال شخصية «سانشو بانثا»، وكذلك شكسبير مع «فولستاف» أو «المهرج»، وبيكاسو في تصويره لأرلوكين ولاعبي السيرك.
(2) تتبع شجرة الماثيغو للعائلة البخورية (البورسيرية). موطنها الأصلي المناطق الإستوائية في القارة الأميركية (من جنوب فلوريدا في الولايات المتحدة إلى المكسيك وأميركا الوسطى وكوبا وبرازيل وكوبومبيا وفنزويلا). وهي الشجرة الأكثر شعبية في كوبا، يتميز جذع الشجرة بلونه الذهبي أو النحاسي الذي يتقشر عنه لحاء أخضر لماع يتساقط لتنزّ منه مادة صمغية دبقة، وثمار الشجرة لها شكل نوى صغيرة محمرة. واستخدمت أجزاء مختلفة من الشجرة لغايات طبية خاصة في المناطق الريفية الكوبية.
(3) «الكاوبا» هو الاسم الاسباني للشجرة التي تعرف باللغة الانجليزية باسم «ماهوجني». ويعتبر خشب الكاوبا من أنواع الأخشاب المدارية الصلبة الراقية، يمتاز أغلبها بلون بني محمر، وتستخدم بشكل شائع في صناعة الأثاث والقوراب وغير ذلك من الاستخدامات ذات المواصفات العالية.
(4) «الكوبلا» وهي مقطوعة من الغناء الشعبي الاسباني، على الأرجح ذات أصول أندلسية بعيدة. توسع انتشارها في اسبانيا في القرن الثامن عشر، ومن ثم انتقلت إلى أمريكا اللاتينية لتشهد تطوراً وتنويعات متعددة. وتتميز الأغنية بقصرها، ونغمية خاصة تتألف من ثلاثة أو أربعة أبيات ثمانية المقاطع، أو رباعية، أو تتابعية أو مستديرة. وتدور مواضيع مقطوعة أو طقطوقة «الكوبلا» حول الهموم اليومية، والتقاليد الشعبية، الشكوى الاجتماعية غير المباشرة، وشؤون العشق والغيرة والخيانة وخيبة الأمل.
(5) «ورقة السباتي» هي إحدى بطاقات «ورق اللعب» («الكوتشينة» بالمحكية المصرية، أو «الشدة» بالمحكية الشاميّة أو «بالوت/ بلوت بمحكية الخليج العربي، و«كارطة» بمحكية المغرب العربي الكبير). وتنفرد «ورقة السباتي» برسم ورقة برسيم في وسطها، تعرف بأسماء مختلفة في البلاد العربية منها (تريفيل، زيتونة، زهر).
تقديم وترجمة: أثير محمد علي