كانوا يحسبونني عميقا، أمي، أصدقائي، كانوا جميعا يظنون بأنهم حين يصادفونني أحدق في الفنجان وأنا جالس، وأحدق في الثريا وأنا مستلقِ، وأحدق في يديْ نورا بأني ولا بد أفكر في فكرة كبيرة وربما كنت أستعد لكتابة شيء جديد، نعم إنني أنظر لفنجان القهوة بصمت، وأراقب الشارع من نافذتي بصمت، وأحدق في عينيك، في عمق عينيك، لكن لا شيء يخطر ببالي إنني أحدق وهذا كل شيء.
– عمر..
وأنتبه قبل أن يعيدوا مناداتي باسمي، وقد يعتذرون لأنهم قطعوا حبل أفكاري. الحقيقة أنه لا يوجد ما يُقطع. رأسي فارغ تماما لدرجة شعوري بالملل من نفسي. هم يعتقدون بأنني قادر على خلق تسلية ملائمة من أي شيء تقريبا، من حركة الناس في السوق، تكتكة عقارب الساعة، انزلاق ورقة شجر في ساحة البيت. والحقيقة أنني أحدق لكنني لا أرى السيارات، لا أرى الورقة ولا الساحة، وإنني فوق ذلك لا أراك!
– عمر!
ثم انتبه، وإن كان شخصا لا يعرفني بما فيه الكفاية هو من يناديني وأجبت عن سؤاله «بماذا تفكر» قائلا «لا شيء» فسيشعر بأنه أهين، لأن امتناعي عن الحديث إما أن يعني الاستخفاف بذكائه وأن فكرتي أعقد من أن يفهمها، وإما لأنها مصممة للسخرية منه وأني أمتنع عن مشاركتها حتى لا أؤذي اللحم تحت أظافره على حد تعبير أستاذي الذي يؤكد أنه لا يوجد تحت الصلابة سوى الليونة، وقد كان يكرر دائما «اضربني حيث تختار لكن لا تخزني تحت الأظافر». هذا الأستاذ كان مشرفا على مشروع التخرج الخاص بي حين كنت في سنتي الأخيرة من دراستي الجامعية. لقد كان طويل البال. ففي قسم الكمبيوتر كان الطلبة مطالبين بتسليم نظام تطبيقي فيما كنت ميالا لعلم الحاسوب النظري. كان بإمكاني حل أعقد المسائل ولكني فاشل في البرمجة نفسها. إلا أن هذا المفهوم لم يكن موجودا في قسمنا وقتها، فاضطر أستاذي لإقناع أساتذة القسم بأنه ليس من الضروري أن يشاهدوا شيئا يعمل ليقدروا قيمة الإنجاز. الحقيقة أنه ورغم دفاع أستاذي عني إلا أن المسألة تبدو اليوم كلها مسألة كسل، أنا أكسل من أن أعمل أي شيء، وكان بوسعي – وإلى الآن – الإتيان بأذكى الحيل التي تضمن بقائي في منطقة الاسترخاء هذه. الدليل على ذلك هو أني حين عملت في شركة البرمجيات،أصبحت مبرمجا، بل ومبرمجا جيدا.إنها الضرورة التي لا تسيرني وحدي، بل تسير كل الناس وكل شيء من حولي.
حتى لا أكون كاذبا عليّ القول بأنني أفكر أحيانا لكن بالأفكار السخيفة فقط، أفكار صغيرة تظل «تتقرقع» في رأسي الفارغ، سأعطيكم مثالا، بالأمس كنت جالسا مع نورا في مكان ليس خاصا وليس عاما جدا، مكان يكفي لأن نختلق عذرا من تواجدنا فيه، كما يمنحنا قدرا مقبولا من حرية التحديق ببعضنا، هي لا تزعج من تحديقي على العكس تعده إطراءً لجمالها، وهذا يريحني جدا. هناك حديقتان قريبتان من مكان إقامتنا أنا ونورا، الأولى جميلة وكبيرة لكنها مزدحمة، أما الثانية فهي حديقة الستالي لا أعرف ما اسمها الحقيقي ولكنا نسميها باسم المقهى في مدخلها، والذي نمر عليه عادة لشراء الذرة ليس لأنهم يعدونها بطريقة مميزة، ولكن فقط لأن الأكل يشغل الوقت. هذا الأمر عرفته بالطريقة الصعبة. كان ذلك عندما وصف لي طبيبي النفسي دواء لا أذكر اسمه ولكن تعودنا على تسميته «الحبة الذهبية» لأن لونه أصفر أولا، ولأنه ثانيا كان المنقذ بعد سلسلة من أدوية الاكتئاب التي لم تكن فعالة. ولكنه تسبب في زيادة الوزن، حُلت المشكلة عبر وصف دواء آخر لي يقلل من الآثار الجانبية للدواء الأول. بالرغم من ذلك كنت مطالبا بعمل حمية لخسارة الكيلوات التي اكتسبتها بسببه. لم يكن الحرمان من الأكل هو ما يزعجني، وإنما أوقات الفراغ التي تسبب بها غياب الأكل والتفكير في الأكل وإعداد الأكل وتناوله.
أنهيت كوب الذرة الخاص بي، فيما كانت نورا لا تزال في نصفه الأول. بعد صمت قصير قلت لها: «أتعلمين! كل شيء يبدأ من الاعتراض أنك تعترض على قانون فيزيائي فتصبح عالما، وتعترض على السلطة فتصبح ثوريا، وتعترض على الحياة فتصبح شاعرا». كنت أقول ذلك لا لأني كنت أفكر فيه بل لأني بدأت أسأم وتذكرت ما كتبته مرة في دفتر ملاحظاتي، وإن كانت الملاحظة ليست ذات قيمة لكنها كانت كافية لندير حديثا صغيرا قبل أن نفترق. أكملت: «أنا لا أرفض الحياة لكني أرفض هذا الشكل من الحياة. يبدو الأمر في البداية أن هناك شكلا آخر من الحياة لم تجربه بعد، ثم يتبين لك أن الحياة هي الحياة، وعليك أن تعيشها كما يخطط لك، الحياة هي الحياة، والدولة هي الدولة، والفيزياء هي الفيزياء، وأن كل شيء عرفته من قبل يبدو لك حين تصل إليه ناقصا، وكل شيء ستتعرف عليه لاحقا سيذوي». ثم عدنا للصمت وانتهت الفكرة – لا أقول إنها تلاشت الأمر الذي يعني ضمنا أنها أولا اختفت ببطء، وأنها ثانيا قابلة للبعث من جديد، بل أقول انتهت. وكان عليّ أن أطلب من خطيبتي الهادئة أن تنساها. وهذا ما جعلني في مأزق، كان عليّ الآن اختراع فكرة جديدة، نظرت حولي، كان هناك العشب الذي نجلس عليه ولم يكن مجديا القول إنه طري إذ لا بد أنها لاحظت ذلك. العشب ينتهي عند جذع الشجرة والشجرة تأوي عليها عصافير بدأت تصبح مزعجة لكثرتها ولم يعد الأمر جميلا حقا، وكان يمر عبر أغصانها ما تبقى من ضوء النهار ليسقط بيننا، وينتهي كما انتهت فكرتي المسكينة. ماذا لو تحدثت عن العشب والشجرة والضوء على يدها، وإنني غير قادر على الخروج بفكرة؟ سيمر اليوم بسلام ثم يأتي الغد ونجلس في ذات الوقت بذات المكان ثم إنني سأعجز عن الحديث! بعدها ظهر في السماء سرب محلق يطير في شكل منتظم، تعودنا على مروره كلما جلسنا في الحديقة وقت الغروب، نظرنا إليه معا فلم أعد مطالبا بأي شيء.
نوف السعيدي