لا أذكر متى بدأ كل هذا، الأصوات التي تتكاثر في رأسي ليلا، وقلق يهجم عليّ بقبضته الحجرية فأتكور، وأرتجف ثم أبكي كطفلة. عندما صارحت صديقتي في لقائنا الأسبوعي بأفكاري القاتمة ضحكت بصخب دفع النادل إلى التوقف للحظات عن خدمة الطاولة المجاورة. فلم أسْتَطع الاعتراف أمامها بقصة انهياري أمام الزملاء في المكتب يوم الأربعاء الماضي، ولا بالأفكار الانتحارية التي تطرق أبوابي كل ظهيرة في طريق عودتي من العمل، ولا أن أحدثها عن ألبوم زفافي المخبأ. ابتلعت الكلمات وابتسمت ثم حشوت فمي بكرات البطاطا المالحة.
كنت في عامي الجامعي الأول حين تنبهت للخوف الذي يكبر كجنين بداخلي. أتذكر وقوفي أمام المصعد الفضي الكبير حتى يصل، وفور انفتاح أبوابه أسير مبتعدة ولا أدخل فيه رغم نظرات الزملاء المستفهمة.
وقرب المغرب تداهمني فكرة أن هناك من يلاحقني فأركض في ممرات الكلية الفارغة بهلع يزيد من سرعتي، وأواصل الهرب حتى أصل المواقف المفتوحة، فألهث دون أن أنتبه إلى الوجوه التي تتفحصني، وعامل النظافة الذي يحرك رأسه بيني وبين الاتجاه الذي جئت منه بحثا عن ما يتبعني.
لكني أذكر متى خفت صوت ذاك الخوف وضعف غيابه. كانت صدفة غريبة تلك التي جمعت بيننا. كتاب محجوز يطلبه تلميذان في ذات الوقت. فكلما راجعت أمين المكتبة كنتَ أنت هناك، وكلما جئتَ أنتَ للاستفسار كنتُ أنا هناك. حتى قادتنا اللقاءات المتكررة إلى حديث بسيط فطويل ثم عميق امتد حتى الليل. باركت العائلتان ارتباطنا، فأقمنا حفلا يُرضي الوالدتين ونساء العائلة في حين كان كل ما تمنيته حفلا بسيطا تأخذني بعده إلى شقتنا الدافئة، حيث نكمل أحادثينا العفوية، ونضحك دون استعاذة من حزن قادم.
أشد جفنيّ علي أستعيد وقت نبوت الصدوع في جِسرنا، وكيفية افتراقنا، ومتى اضمحلَّ الحب الذي كبر في قلبينا على مدى عام كامل تبادلنا المشاعر فيه خفية.
يهزمني الأرق للمرة التاسعة خلال أسبوعين، فأزيح الغطاء الثقيل بقدمي، وأتسلل من سريري بخطوات فاترة. أقف أمام المرآة متأملة وجهي. أمرر أصابعي ببطء على هالاتي المسودة، وأرسم ابتسامة زائفة على شفتي؛ لأعد التجاعيد المنحنية حول فمي واحد اثنان ثلاثة وأتوقف عن العد. ثم أبتسم بصدق حيث يتردد فجأة صوت العاملة النيبالية، وهي تقول بعفوية أذابت جليد قلبي: «ابتسامك جميلة جدا رغم حزن عينيك «، فتبرق عيناي سعادة لوهلة ثم يتلاشى كل شيء.
أحاول التنفس ببطء علّ أفكاري تهدأ، ويسكن قلقي ولكن لا فائدة. كل محاولاتي بائسة. أسير على حدود سجادة غرفتي سبع مرات، وأدندن لحنا حزينا يدفعني لبكاء يُخفف حِملَّ قلبي المثقل.
يتسلل التعب إلي فأسير نحو دولابي القديم، وأُخرج ألبوم زفافي المخبأ أسفل علب أحذية سهرات ما عدت أحضرها. طالبتني أمي مرارا بالتخلص منه، ولكني لم أقوَ على رميه رغم مرور ثلاثة أعوام على طلاقنا. أفتح غلافه الثقيل فأجدنا ثنائيا جميلا، تشع عيناه حياة وأملا. أقلب الصفحات، هنا وجهك الذي مررت أناملي عليه كثيرا حتى تغير ملمس الورق، وهناك أقف بجانبك مبتسمة كصغيرة ما ذاقت مرارة الأيام.
ترى كيف يحرمني جنين رفض أن يكبر في رحمي منك؟
ومن أعطى المحيطات حولك أحقية انتزاعي من حياتك بحجة عدم صلاحية جسدى لإنجاب صغار يحفظون اسم قبيلتك؟
وما ذنبي أنا حين يقف الطب حائرا أمام حكم الله؟
لا أدري كيف نمت دون إخفاء ألبوم زفافي، ثم استيقظت عجلى فلم أنتبه إليه مطروحا أسفل سريري. ولا أعرف حتى اللحظة لما قررت أمي تصويره وهو مرمي في صندوق قمامة الحيّ كلقيط تمحوه العائلة. فسحبت حقيبة يدي وغادرت مكتبي كمجنونة دون النظر خلفي إلى زميلتي القلقة وزملائي المتهامسين.
قدمي على دواسة الوقود، الإشارة حمراء وأنا عاجزة عن التوقف. تجيء السيارة البيضاء مسرعة من الجهة اليسرى، تصطدم بي بقوة تُخرجني من زجاج سيارتي الأمامي؛ لأسقط على الأسفلت وحول رأسي دم وقلق وذكريات وأفكار انتحارية كنت أجبن من تنفيذها.
سـارة الهوتي