( إلى داريو الفاتن بالحياة والذكرى)
ناظرت رجاء بن عمَّار الموت دون خوف. هذه امرأة ذئب. إمرأة غجرية، لا تفتح عينيها على بهارج المسرح، لأنها تشتم بالمسرح رائحة الأرض. كما تشتم بالأرض رائحة الأرض . الأرض واحدة عندها. الأرض وأرض المسرح. وإذ لم تخف من الموت، جمعت الدمع في قاع حياتها، بحيث كلما أشعلت ندى دمعهاعلى المسرح، نهش حضورها الذئبي كل العتمات . عتمة الدمع وتجديفات القلب المعتل منذ الطفولة. واحدة من ثلة من ثلل المسرح العظيمة، ثلة المسرح الجديد. ثلة من الجن، لاتمدح إلا التهور، حين وجدت بالتجارب التونسية والعربية القديمة، خرائط التعثر على خرائط البلاد. لم تفتح رجاء بن عمَّار الأقواس، حتى تلم عجين المسرح الجديد. بدأت مع المسرح الجديد، مع الفاضلين الجعايبي والجزيري ومحمد ادريس وجليلة بكار وتوفيق الجبالي وغيرهم، عمَّرت معهم أوديسة المسرح الجديد. بعدها، لف البعض بالتجربة حضورهم، بحيث أضحوا عابرين فيها، إذ اختاروا، كل احتفاليته. لن تصادف السيدة البحر، لأنها البحر. كل موجة فيه تصطحب سيرة جديدة من سير المسرح. لا ضباب أمام البحر، بحرها. حيث راحت، تخطو في كل خطوة، لا خطوة الشخص، خطوة السلالات، منسابة كمياه الدالية . ذلك أنها شققت بجسدها حيطان المسرح، حين ارتقت بالجسد إلى مرحلة القيامة، بعد أن تنفست المسارح القديمة الكلام والخطابة والإنشاء والتجويد بالإدغامات الكثيرة، بين ادغامات غنة وإدغامات بلا غُنَّة. كل شيء خارج الجسد خطيئة، عند رجاء بن عمَّار . عابثت بذلك لغو الطرقات القديمة، حيث الكلام المجود لا يشبه إلا نواح النوارس . لا شيء أمام فتنة الجسد إلا مواربات المجازات المسرحية المفلسة. فرس المسار الجديد، واحدة ممن وجدوا بغياب الجسد والفرجة عار المسرح. جسد يقتسم القهوة والهواء والغذاء والدمع والحضور والغياب واللغات مع صاحبه. رجاء بن عمَّار هبوب الجسد على رقص المرأة أمام البشر والأشباح سواء بسواء. رقص أمام الصبار، على قدم واحدة، على قدمين، ضد البلادة وخلاءات الأجساد ، بعيداً من وصايا العميان .
لم تلعب رجاء بن عمار على أريكة. لا مسند على مسرحها. لا حبكة بمسرحها. بمسرحها لا ذروة. إذ لا تقوم الدراما، بمسرحها، إلا من خلال المونولوغ الداخلي بين جسدها وروحها. مونولوغات تعكس الأحلام والأوهام والرؤى والأسس الجديدة، على الأشكال الجديدة. إمراءة كقلم رصاص، يدور بمبراة. كلما دار تروّس . كلما دار قصر عمره. واحدة من أفراد الجنس الهالك . المسرحيون.لم أرها، بالمرة الأولى، على خشبة المسرح. وجدت شجرة مشتهاة بالكثير من الرغبات.جسد شجرة. جسدها زادها. جسد لا تجففه شمس ولا أحداث. جسد لم تجففه شمس ولا أحداث. جسد لا يصدق نفسه إلا وهو يدور كالقلم بالمبراة. عينٌ ساطعة على المنصة. مهبط الأشعة . كل شيء هادر في جسد الممثلة / الراقصة، من حرف الكاحل إلى حرف الأذن. جسد يمتلك الإحساس بالمصير الإنساني، التراجيدي، المفجع . شقاء وبؤس البشر. هؤلاء من يبددون طاقاتهم جرياً وراء المسائل التافهة.
جسد كهربي، جسد رجاء بن عمَّار . لم تبح إبنة الحياة العصرية بالسعادة . لم تفش أسرارها إلا على الدروب المؤدية إلى المسرح، منذ بداياتها بفرقة الكاف بقفصة. تقص « الكاف» الأسماء، الإسم بعد الإسم . سوف يتكرر ذكر المدينة بدروبها الضيقة وأزقتها ومنعرجاتها، كواحدة من مدن المسرح الدنيوي. صباحاتها الأولى تستحق التحية. لأنها كسرت السكون، بستينيات القرن العشرين، وهي تغزل الكائنات الجديدة بأجنحة جديدة. مشوا فوق اللوعة الهوجاء، بحيث بدوا مرميين من سموات جديدة. لم يدرِ أحد، أن رجاء بن عمَّار، سوف تسعف القافلة بأحايين القطاف، قبل أن تسرح على جروف المسرح، كقافلة، بجسد واحد وقشعريرة العشرات من الأرواح . نار ونار، في مدار من اللهاث الأزرق، بلون البحر.
دارة المسرح في قفصة بناها المنصف السويسي . رحل الأخير منذ مدة . لحقت رجاء بن عمار بفرقة الكاف. ثم، لحقت المنصف، إلى حيث لا ضغينة ولا كراهية ولا غرور ولا ألم. لا تزال السيدة، الجبارة، ملاكة ميول شريرة. هكذا، زخرفت نهارها الأخير بالموت. ذكرت القاطن بالموت، أن القباب تحفل بالتجليات المادية وجلاءات الأرواح المبهرة. تحت المباضع . هذه صورتها الأخيرة.صورة من شريط صور في ممر مجهول / معلوم . كصورها على طريق «ثورة الياسمين» ومن أرادوا هدمها. لم ترد للتباشير أن تتبخر. خرجت وظلها في مسيرات الأشجار المتكلمة، مع سيدات المسرح وسيدات البيوت، بنظارتين سوادوين ووجع قلب، لم يلبث وجعه أن أعاد الكرة، كرة كرة. تحت المباضع، صورتها الأخيرة. معركة بلا سعادة. لا كالمعارك السابقة. معارك سعيدة، إلا حين خسرت « مدار» بالسنوات الأخيرة، حيث لحِظتُ / هناك/ الخط العربي يتشكل من جديد على جسدها، المحشود بالجرأة والتستر المدهش والانحناء والانكشاف الكلي. انزرعت بالمسرح « مدار» كما يزرع الجنين بالأرحام . ثم، فجأة، تبعتها الطلبات، كالنمل يعبر بصمت لا يصدق. لم تملك إلا بقايا سيجارتها على طرفي شفتيها وهي تصارع على المتراس الأخير، الذهول وروائح الجيف والجنون . لا كرامة لمسرحي أمام عنقود عمره، متروكاً على الأرض الناشفة. «مدار» عنقود عمر رجاء بن عمار . صلب ٌ وحاسم بالتجربة المسرحية التونسية. حيث قدم الشهادات والأوردة الحارة على أن المسرح لا يزال يتحف النور بالنور والبحر بالأعشاب الخضراء. وإذ دهمته الأزمة الاقتصادية، تكسرت مدارجه الخفية، أمام العينين المتوقدتين بالكرامة والعدالة والإبداع . ذاب المحترف أمام الفيلات الجديدة. واحدة من مظاهر الرأسمالية الوحشية. فجأة، وجدت بن عمار جسدها رقيقاً، هائماً، خلف جماليات المزار( مدار) المفقود.وجدت نفسها بلا زورق. هذه سرديتها الكبرى. هذه مرويتها. لا عجب أنها خبأت السردية، هذه،بين أصابعها. وحين فقدتها، أقامت على احتمال الإصابة بجزام الأصابع. شرد الأفق أمام عينيها وماتت من أورام الوحشة ، وهي تراقب الأغراض والذكريات تنهب أمام فؤادها المدكوك بالتحولات المتعالية. سكنها الموت مرة جديدة، حين ماتت، تحت مباضع الجراحين. لم تحدد موعدها مع الموت، لأنها لن تموت إلا كما يموت الزعتر البري. زعتر بالكثير من النحل البري، على الجبين بأصوات والتحامات قصوى بالألوان . غير أن أبطال الأزمنة الساطعة، إذ يرحلون، ينبثقون من الأخبار الطاعنة بالغياب. شيء من الجمالات الخارقة بتجربة امتدت على أكثر من نصف قرن. المسرح المدرسي أولاً. المسرح الجامعي، ثانياً. بعدها، تجارب المحترفات والمحترفين . أشرطة تجمع الزخارف الذهبية بالأرضيات المعتمة على صدى طيران الجسد بفضاءات المسرح . ذلك أن هذه المرأة الاستثنائية، زرعت حرشاً من الأجساد في جسد واحد. جسد ناسف، بهسة أفعى. رأسها، رأس من دم ، على منصات الأخشاب الصافية. الرقص، رقصها، يرى من وراء الجدار. رقص نافورة، مما لا يذكره إلا الشعراء.هذه رجاء بن عمار.الآداء، حار، غير معهود. نيزك، يشعل جمهوراً بالرغبة بالاستزادة من هذا الجسد المفولذ. لا قديسة ولا شهيدة. بنت مهنة، على ما رددت باستمرار.مهنة تصخب كسحب الماء.رجاء بن عمار، تفيض عن ذاتها، بمهابط الأشعة الجديدة على جسدها غير المسطح. جسد بطبقات. زنبقة الماء، الصوت الآدمي، جذرية العلاقة بكل ما لا يستبدل بالاكفهرار والاكتئاب . هذه هي، مذ وجدت جسدها في صميم التخليقات الجديدة، في مضمون المنتج الثقافي مع فحول وفحلات المسرح التونسي . عشرات وعشرات . لا أشير هنا، إلا إلى المزاج النافذي لهؤلاء في تجربة المسرح الجديد. تداخلت الأصوات . استقلت بن عمار إثر قصص ووقت وضحكات وفخر ونفور من التكرار، من الركود، ضد قفلات استطالت وتربعت على الأرض، بعيداً من سماوات الأحلام .حين وجدت النهاية في لا نهاية برزخ المسرح الأجوف، سبت آلهة المسرح الجدد، عائدة إلى أصلها الغجري، ترمم الشدو بالسكر بعبير الخطوات الجديدة. كتبت شعراً لا يكتبه الشعراء في « مسرح فو». كتابات ضد التجويفات المفرغة في «بياع الهوى» و»ساكن في حي السيدة» و» هوى وطني «و»وراء السكة» و» نافذة على « وغيرها من الأشغال المسرحية، لا المسرحيات . أشغال بين اليقين وانفتاح البوابات المؤدية إلى العرش الأعلى وبعض اللمعات الصوفية. حرة، حرة بحالات ومشاعر في مجتمع تعصف به رياح التغيير. لم ترغب الملكة القوطية بأن يأسرها تيتوس أندرونيكوس مع أولادها الثلاثة وآرون المغربي البربري. أولادها الثلاثة، المسرح والمسرح والمسرح. المسرح الماء . لا المسرح الوشم. لا طبيعية زولا واكشافات العلم الموضوعي ولا مآزق سارتر الفلسفية ولا تغريب بريشت ولا واقعية ستانسلافسكي . المسرح، عندها، مختبر، يعاين المسرحي فيه، السلوك الإنساني بالإدراك والغريزة سواء بسواء.
بين الشعر الجسدي والنقد الفيزيقي، أوصدت رجاء بن عمار أبواب الكلام على الفصول الإيروتيكية بالرقص العربي، حين فتحت المجالات اللغوية الموصدة على كل المناهج التعبيرية الجديدة بالعالم. الرقص، في مسرحها، عقرب أسود. نط فوق منحدرات، فوق عقم الجسد على قبور المسرح العربي القديمة. الرقص برق، الرقص رعد. الرقص جهازها. جهاز العروس. رقص كرقص شخصيات شاغال في سماواتها. رقص يبري الصمغ، بحيث يتقفى الراقص طيرانه في رقصه. رقص وصال. رقص محشود بالكودات ولحظات العزلة، بعد الوصال، وارتداد الأنفاس إلى كل التسميات غير العقيمة. الآداء الراقص، الدرامي، زوجها وولدها وحفيدها. رقص يجهر بحياة الجسد، بحياة المسرح. تروي شهرزاد هنا، بجسدها. شهوة الكلام لا تغيب . غير أن الكلام، مهووس بالرحيل إلى بحر الجسد، بحر المسرح. بوفيه غموض(عنوان مسرحية لمايكوفسكي) . بوفيه أذونات سفر إلى كل مدهش، بموهبة، كرست صاحبتها، بطرق عنيفة. طرق ضد الحذلقة، ضد السخافة. طرق تُطَّهِر وتضب غربة الطبقات في طبقة واحدة. مسرح ضد طفيليات المسرح والطفيليين. المسرح علة وجودها الأولى . هكذا أدانت كل الطرق القديمة بالآداء عبر مراجعة العلاقة بالجسد، بزر الهلاس المتفجر بالإيحاءات . الجسد، عندها، أساس الفلسفة الجمالية والخطاب المسرحي الجديد. هزت شجر التنويط القديمة، حين عجنت الجسد بطنين اللغة الجديدة. جسدها كوزموسها. قوة العبور من الحصارات إلى الحضورات الخالدة . قدرة فذة على عرض المشاعر العنيفة والقوية بعمق يشدد على أهمية تماسك الأشياء والأدوات والأجساد والأرواح.حين تتماسك العناصر، هذه، يصعد ماء المسرح الشفاف، يستوي على عرشه الحقيقي.أغرق الماء الشفاف الكثير من إشغال رجاء بن عمَّار. لا أزال أمام جنون « ساكن في حي السيدة» حيث يدور الجسد بفراغ المسرح، لكي يداري محنة الفراغ .سيدة الدراما والآداء الدرامي الراقص، اتقدت وهي تجهر بأن بلا جسد لا مسرح. جسد حي، مسرح حي.لا شيء يشي بالغدر ولا الخفوت . ذلك أن بن عمَّار لم تلعب يوماً إلا على نوافذ القيامة لا على قواعد القبور. لا علاقة لمسرحية « فاوست « بالنعاس. لا نعاسها ولا نعاس المشاهدين. لا كلام أجوف ولا مشاهد يلطخ فيها العجب المسرح بالمجان . لا تكلح مسرحية عندها، لأنها ترسم مسرحياتها كما يرسم النحل أمبراطوريته.دراماتوجيا كضياء لا يصاب بالخجل أمام العتمة. هنا، يسافر الجسد على النوتات لا على مروج الطرقات العادية، بعد أن استدرجت المسرحية التونسية الرقص إلى جسدها بحيث أضحى واحدة من علاماته الفارقة. علامات تتجدد كلما خرج الجسد من الغرف العادية، ييمم إلى قماشات المسرح. لا معاجم جاهزة في التجربة الخاصة بها. لا قواميس . كل قديم بائد، عندها. كل نغمة قديمة نشاز . كل خطوة راقصة متكررة، خطوة نتنة .كل مسرحية جديدة، مسرحية جردة للقديم، في خط لم يتلوَ، حتى حين جابها الوجع من وجع القلب ووجع الإتهامات الظالمة . اتهامات في أن ثمة ظلال كثيفة، لمسرحيات عالمية في مسرحياتها. هذه امرأة صدى طفلة، تلاعب المسرح بعناقات جميلة، بعيداً من الفلكلور. أصالة وجاذبية. أصيلة وجذابة، تزود مسرحياتها ( مع شريكها المنصف الصائم ) بالطلات الذكية والحركية والتشويق، على خلفياتها القلقة.الرقص في مسرحها ساخن، متأجج. إلا أنه ليس له علاقة بمدارس الرقص المتركزة على الأدوار الرئيسية للرقص وحدها. لا بينا باوش ولا بيجار ولا بوب فوس ولا مناهج الرقص الألمانية ذات اليقظات العالية. الرقص عنصر أساس، في مسرحها، غير أنه آداة( آداة من أدوات ) تعزز من ملحمية حضور الجسد الدرامي على المنصة المسرحية.
المسرح روح لا بناءات . المسرح روح لا صرعة. لا توالد أزياء ولا لحاق بإشعاعات المتبوع المصبر . صعَّدت نبرة الكلام دائماً، لكي تؤكد أمامي، أن الانشقاق عن المسرح الطلياني لا يكفي، اذا لم تنفخ في رئة المسرح الأنفاس الحديثة.اطمأنت رجاء بن عمار إلى ما سمته «المسرح الزياح». إذ تخففت من أرض موت الحداثة المرفوعة على الجبانات الشكلية والنيوطليعية المراوغة. لم تهدأ، وهي تتعرض للكثير من محاولات الاغتيال، من مصادرة مدار، حقلها الممغنط على جسدها الثائر، إلى حصار الحفر الأخيرة، لكل مفرد . للكل بالمفرد. كتبت نصاً عن العراق، بجنوح الأوضاع الضاري هناك. لم ينفذ، بالرغم من الإتفاق مع الفاضل الجعايبي على تنفيذه. لعبت بالمسرح والسينما(عصفور السطح…). غير أنها لم تقرب التلفزيون . حافظت على مسافة حاسمة مع انتاجاته. ملكة السينوغرافيا، المعجبة غير المهومة بتجربة « الليفنغ تياتر» مع جوليان بك وجوديت مالينا، جنحت عما بها منذ شهر ، منذ أشهر. انتقمت من كل التحشيدات السابقة، بقيم صدمها المعروفة. تفلتت من درف التبويب بالموت. حملت موسيقاها وأضوائها وملابسها وديكوراتها إلى العالم الآخر. الفنانة الشجاعة، غادرت على صهوة الغيم، بعد أن قاسمت الرفاق الماء والخبز والجنون والحكمة. لم تثر غباراً حين مضت. مرت حية من الحياة إلى الموت. نصر بعد نصر. ذلك، الموت نصر بالأوضاع الحالية.
عبيدو باشا