أسئلة التجديد والتقليد، هذه الثنائية التي وصلت حدّ النمط والتكرار، معطوفة على ثنائيات طبعتْ مناخ الثقافة العربية عبر عقود من الزمن، متعاقبة مستمرة في دوران حلزوني لا ينتهي ولا يشفي غليل أسئلة المعرفة الحقيقية والثقافة، كالأصالة والحداثة وغيرها …الخ.
إنها تشبه أسئلة الفكر النهضوي وأسئلة الحضارة والتقدم التي بدأت عربياً منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين المنصرمين ولم تصل إلى محطةٍ أو مطرحٍ يشهد تبلوراً عملياً وتطبيقياً في الواقع والتاريخ، ظلت الاسئلة والتنظيرات المحتشدة بمرجعياتها المختلفة بمسارها الحالم المُحقّ في جوهره، وظل التاريخ بوقائعه وانعطافاته الحادة القاسية، بمسار آخر يزداد قسوة وفظاظة.. في هذا الأفق الجهْم تتولد المفارقة المرة الساخرة لكنها الحقيقيّة كوْن أسئلة النهضة والتقدم والحضارة التي تمليها استحقاقاتُ العصر الحديث وشروطه تكرر نفسها في كل مرحلة ومفصلٍ حتى اللحظة الراهنة.
الأسئلة والأطروحات التي أصبحت من البداهة بمكان، وتعاقبت عليها السنون تعاود طرح نفسها -:
عودا على بدء في دنيا العرب التي حكمها الاستبداد والفساد والتخلف والظلام حتى وصلت إلى هذه اللحظة الكارثية التي تتشظى فيها المجتمعات العربية إلى طوائف وجماعات متحاربة بضراوة إبادية قلّ مثيلها. وإذ أترك هذا الجانب الكابوسي للأطروحات المختصة في هذا السياق، أشير إلى التقليد والتجديد في الجانب الأدبي وهو الجانب الذي شهد حيوية إبداعية على صعيد الإنجاز بمختلف الوجوه والأفرع من الشعر الذي اتسم بالتحرر من أسْر التقاليد وتقعيداتها الصارمة المؤطرة سلفاً، نحو فضاء البحث الجمالي الحر.
وفي هذا السياق يندرج السرد قصة ورواية وكذلك النقد، في تفاعل هذه الأقانيم مع ثقافة العصر وحداثاته المختلفة تبدع سياقها ومنجزها العربيين الخاصين. إذ ليس هذا الإبداع الحداثي في الأدب ظِلاً محضاً للآخر كما ادعى بعض دعاة التقليد المغلق.
ومع غض النظر عن عقم الكثير من السجالات حول التجديد والتقليد، أصاب الأول قدراً مقبولاً بمعايير الثقافة العالمية في تحققه الإبداعي وتعبيره عن هوية الأماكن أو الأوطان العربية المنكوبة والمنفصلة عن مسارات حداثةِ العصر الشاملة اقتصادياً وصناعياً ومعيشياً، إلا في المظاهر والقشور. إنه تجديد حداثة انحصرت على الأغلب في السياق الأدبي والثقافي للنخب العربية ولم تخترق صميم المجتمعات وجهاز تصوّراتها وقناعاتها الجاهزة .
ولم تخترق البنيات المؤسسية الحديثة شكلاً والخاوية محتوى ومضموناً كونها مفصولة عن التطور الحقيقي لحداثة العصر وقيمه إلا في ما يدعم التسلط والهيمنة.
هكذا منذ عهود الاستقلال وتأسيس (الدولة الوطنية) ذات النزوع القومي التقدّمي على صعيد الإعلام والشعارات فحسب أما الواقع فيغلي بالنقيض الفظ والكاسح.
انفصال الأشكال الأدبية والتصورات الثقافية عن خط سيرها التقليدي وقِدامتها التي وصلت حدّ العقم والجمود، لم يُنجز بسهولة، إذ أن القدامة بتقاليدها وأنماطها بالغة الرسوخ والممانعة.
فقد تم هذا الاختراق وهذا الإنجاز عبر صراع طويل ما زال مستمراً على نحو ما في الذائقة العامة التي يستثمرها بعض الخاصة لتمرير أشكال وتصورات عفا عليها الزمن أمام نداء التجديد وإلحاحه كضرورة روحية واجتماعية . كونه يعبّر عن برهة العصر المحتدمة والمتطلبة لما يواكبها من أشكال تعبير وتفكير.
هذه المكابرة والممانعة للتجديد بقيت طويلاً في بلاد المشرق العربي من العراق وسورية ولبنان ومصر، حتى البلاد المغاربية لاحقاً.
تلك البلاد التي بدأت فيها أسئلة الحداثة والتجديد مطلع القرن المنصرم، فكيف بالنسبة لنا أبناء الخليج والجزيرة العربية التي كانت أكثر انكفاءً على إرثها السلفي المتعارف عليه منذ قرون. بهذا المنحى مقاومة التجديد ستزداد ضراوة ومنعة في استدعاء الإرث المتراكم من أشكال تعبيرية قارّة وراسخة في الذاكرة الجمعية. وليس الشعر المقفى والموزون بمواصفاته وقواعده المعروفة إلا العنوان الأبرز لحشد التبريرات والمتاريس في وجهِ الجديد الصادم، والذي لا يتردد مناوئوه عن قذفهِ بشتى أنواع التهم التي تتجاوز معايير الأدب والفن، إلى العمالة والتخريب والإلحاد، وثمة وقائع ماثلة شهدتها بلاد الخليج العربي في هذا السياق.
وإذا كان الشعر الكلاسيكي الذي هو المؤشر الأبرز لذاكرة الجماعات العربية، شهد إنجازات إبداعية وجمالية في عصور مختلفة، تصل إلى مستوى العظمة والخلود أو تلامسهما. فاستدعاؤه لمقاومة التجديد والتحديث ليس استدعاء لوقائع وإنجازات في التاريخ والزمن وإنما لإدراجه في المقدس مثل الدين والوحي؛ المساس به مساس بهذا المقدس الذي يُسلخ من بشريته وتاريخيته ليدرج في العصْمة والقداسة المتعاليتين على الزمن والتاريخ. وإذا كانت قصيدة التفعيلة في خروجها على العمود الخليلي صادمة أُسيل حولها في تلك المرحلة سجال كثير ومتشعب معظمه من غير مردود أو ذي مردود ضئيل على المعرفةِ وإثرائها، فإن ما دُعي بقصيدة النثر التي ترافقت نشوء مع شعر التفعيلة ستكون مصيبتها أكبر في جرح الذائقة والتصور المحصّنين بسياج الرسوخ الجماعي والعقائدي.
مقاومة التجديد في أشكال التعبير الأدبي والثقافي، عمّ فضاء الثقافة العربية بأكملها وبدرجات متفاوتة لكن كما أشرت، في بلدان الخليج العربي التي تسودها ثقافة نمطية ونبطية، من غير منازع ستكون أكثر شراسة وانغلاقاً، ومع تعاقب السنوات وتضافر الشروط الموضوعية لإفساح المجال ولو بصعوبة، وأمام هيمنة أنماط السلوك الاستهلاكي المفرط المعادي في العمق للثقافة وللقيم الجمالية والأخلاقية، يمكن القول أن ما تحقق في الجانب الأدبي الثقافي شيء مهم وذو معنى ودلالة.
أشرت في الأسطر الآنفة إلى أن أنماط التعبير الشعري من شعر كلاسيكي إلى تفعيلة ونثر ليس بمعيار القيمة الابداعية المطلقة صُعُداً من شكل لآخر. فمثل هذا الكلام لا قيمة له وهو هذر مجّاني وتعصب يشبه التعصب القدسي لكل ما هو قديم. وهناك كتابات يختنق الأفق من كثرتها . كُتبت على نمط التفعيلة والنثر خاوية من غير قيمة أدبية أو جمالية.
ما تقدم ليس إلا إشارة سريعة إلى مقاومة التقليد للتجديد وتمثلاته، في جوانبها المضيئة المشرقة التي يمليها التطور وحركة الزمن . وهذه المقاومة ليست في عصرنا الراهن فحسب وإنما كما تقول وقائع تاريخ الأدب وأحداثه موجودة في أطوار وحقب مختلفة..
* * *
الحروب أكثـر أوهام البشر وحشيّة وقذارة
الثقافة بالمعنى (النيتشوي)، تعني مجموع النشاطات الانسانية من بنى اجتماعية وإنتاجيّة، الى الفنون والآداب والفلسفة أي ما يوازي مفهوم الحضارة عند الفرنسيين..
العرب: أو هذه الأمة والشعوب التي تندرج ضمن هذه التسمية ـ المصطلح ـ لا تندرج راهنا ضمن أي مفهوم في السياقات الحضارية الثقافية والمدنيّة إلا شكلياَ. وذلك الزخم من الأحلام و«المشاريع» التي عجّت بها أرض العرب منذ نهاية القرن التاسع عشر واستشهد في سبيلها خلقٌ كثير، وقدحت عقول ومخيلات خلاّقة زنادَ أدواتها المعرفية وأحلامها الطموحة إلى تجاوز حقبة الظلام والتخلف التي هيمنت عقوداً طويلة.
ليس هناك ما يشير الى ذلك حتى في حدوده الدنيا كتلك الموجودة في البلدان التي تقع خارج منظومة المركزيّة الاوروبية، الأمريكية في أمريكا اللاتينية أو الشرق الأقصى الآسيوي.
إنها فترة استثنائية واقعاً وخطاباً، عدا الخطاب التسويقي الإعلامي الذي لا يعمل إلا على إخفاء واقع حقيقة البؤس الدمويّة الملتهبة بشتى أصناف الأوبئة والحروب والاستبداد ..
هذا على صعيد راهن العصر العربي «الحديث» أما ذلك الذي مرّت عليه الأزمان والعقود، فبلا شك يمكن (مفهمته)، أو مقاربته ضمن الأطر، المفاهيم والمعايير الحضارية الثقافية ففيلسوف صعب المراس مثل (فريدريك نيتشه) يعتبر ارستقراطية الحضارة العربية الاسلامية، واحدة من أعظم الارستقراطيات في التاريخ، وتعبير أرستقراطيّة ينسجم مع مفهومه الثقافي للحضارة.
وكذلك (شبنجلر) الذي اعتبر تلك الحضارة العربية من كبريات الحضارات العشر وفق معاييره وتصنيفه للدورات الحضارية الكبرى التي تعاقبت على أرض البشر باختلاف الزمان والمكان.
هذا على عكس ما يروّج «الوعي» الانتقامي المهجوس بالإقصاء الأعمى والإبادات الرمزية التي تتوازى وتتداخل مع المؤامرات والحروب وشتى التصفيات المادية، البشرية والجغرافية في محاولة بائسة لتغيير ذاكرتها وقيمها ومعالمها.
وقبل مشروع الحضارة العربية الإسلامية، التي تناسلت إلى حضارات تحمل الصفة الأخيرة وإن تغيرت الأعراق مثل المغولية في مرحلتها الثانية، والعثمانية كمفصلين كبيرين، كانت أرض العرب تمور قبل فجرها الاسلامي بالأفكار والأديان، وأنماط الحياة المدنية الحضارية ضمن إطار دولة أو دول بمعايير ذلك الزمان.
وحتى إرث الحضارات القديمة. الكبرى تظل جداول خفية ورسوبات تتدفق في الوعي العربي ولا وعيه. من هنا تأتي قراءة مفكرين تاريخيين مثل جواد علي وغيره ممن لا يحمل وجهة «الآخر» تظل ضرورة ملحة، لدحض تلك «الكليشيهات» الساذجة المضجرة عن بداوة العرب ورفضهم للحضارة. فالبداوة والحضارة لا يمكن اختزالهما في هذه الثنائية المبسطة وهي ذات تركيب معرفي وتاريخي تحفل به مظانّ الكتب والنظريات الباحثة في العمق من وقائع التاريخ ودوراته، والمعرفة. أليست معظم حضارات العالم إن لم تكن جميعها، وُلدت من عصبيات قرابيّة وبدويّة، لتتكون وتستوي فتوةً وشباباً ومن ثم وهناً واضمحلالاً، لتحل محلها أخرى؟ .. (ابن خلدون) مؤسس هذا المجال الحيوي لنشوء الحضارات والعمران، وعن أولئك الفرسان ووجيف خيلهم فوق كثبان الرمال العاتية: (شهوتهم محو المكان).
وهي موجودة في تاريخ الأمم والشعوب على مستوى البشر قاطبة وإن بدرجات وأوجه مختلفة تناولها مفكرو التاريخ والحضارات والانثربولوجيون البعيدون عن عُقد الانتقام وتصفية الحساب.
دعك من المفهوم (الدلوزي) عن الترحل البدوي في المعرفة والرؤى، في الجغرافيات المختلفة مكانياً وروحياً..
ربما مثل هذا الكلام يجد ضرورته الملحّة، أمام الخطاب العامي الشائع والذي يتبناه أيضا بعض أبناء هذه الأمة المنكوبة حيث العرب أصبحوا تاريخا وزمناً (الحيطة الواطية) حسب التعبير الشامي، قراهم ومُدنهم العريقة تباد تطهيراً عرقياً وفتكاً ومن غير أن يرتفع صوت يقارب حجم الكارثة.. وأصبحوا نهباً للفكر الرعاعي اللانقدي واللاتاريخي وطبعاً المجافي لأي موضوعيّة.. فهم بدو إرهابيون معادون للحضارة والمدنية… وتسود عبارات وتصورات مجافية للحد الأدنى من المنطق والأخلاق والإنسانية مثل «العرب السنة» وكأنما الشيعة، ضمن هذه القسمة ليسوا عرباً، وهم يتحدرون من قبائل وعشائر وحمولات، من أصول سلاليّة واحدة «وتعبيرات مثل السنة التكفيريين» و«الشيعة عملاء ايران» هذا الاختزال المريع جملة وتفصيلاً لتأسيس الذاكرة والقيم النقيظة لكينونة الأمم والشعوب.
ومثل هذه التعبيرات المنحطة التي روّجها دعاة الحروب والكراهيات، تلقى رواجاً في الإعلام العربي وكأنها مسلمات!! تلك الملايين التي لا تحصى، من البشر مقذوفة في صحراء العري الدموي قتلا وتشريدا واقتلاعاً في مجزرة قل مثيلها في التاريخ «البربري» وفق المصطلح الأوروبي، تحصل الآن والهنا، في القرن الحادي والعشرين، قرن الحضارة القصوى والعلم والفنون، المعمار والموسيقى وثورة المعلومات العبقرية ومجلس الأمن والأمم المتحدة التي نظّر لها قبل عقود من تأسيسها الفيلسوف الألماني (عمانويل كانط) الذي يقول في كتابه المرجعي (ميتافيزيقيا الأخلاق): «شيئان يثيران الدهشة في أعماقي النجوم في السماء والأخلاق على الأرض»، لا نجوم إلا النجوم التي تضيء سماء المجزرة، كما تضيئها الكاميرات والمحطات الفضائية والأقمار الصناعية. ولا أخلاق إلا «أخلاق» البربرية الحديثة الأكثر فتكاً وإبادة وانحطاطا من البربريات التي عرفها الماضي القديم والوسيط.. هل تتذكر أوروبا الأمريكية الممسكة بأسباب القوة والحضارة الأساسية وبالديمقراطية والرفاه داخل بلدانها…
إن هناك خارج هذه البلدان والدول التي ما زالت منيعة بمؤسساتها وعلمها، ان هناك من يستحق الحياة والدعم الفعلي لا اللفظي ويستحق المنزل والديار التي توارثوها عن أسلافهم التي لم تنقطع سلالاتهم البدوية والحضارية وتستحق الكرامة والدولة الجامعة الرشيدة؟!
طرح مثل هذه الأسئلة والهواجس ربما من السذاجة لكن لا بد من طرحها من فرط إلحاح الكوابيس والدم المُراق والاستباحة. وسياق الطرح إلى من يرفعون رايات حقوق الانسان وحريته وكرامته المادية والمعنويّة. وليسوا من هم خارج ذلك ممن القتل والاستباحة والاستبداد لُحمة نسيجهم وسُداه ..
في سياق هذه العجالة المكلومة، أتذكر أبا الطيب المتنبي «من يهن يسهل الهوانُ عليه…..» ولا أكمل البيت المأساوي، لأن الأمم العظيمة لاتفتأ تدافع عن كينونها، حياتها ووجودها حتى في أحلك الأوقات وأظلمها. عهد الانحطاط الطويل الذي خبرته أمم وشعوب زائل، والمستقبل النقيض تصنعه الأجيال القادمة، التي لا ينبغي أن نسقط يأسنا المطبق، على أحلامها ووجودها. وتذكر بمقولة (جوته) الشهيرة «رمادية هي النظرية يا صديقي وشجرة الحياة في اخضرار واغزرار». التي ينسبها البعض إلى مواطنه كارل ماركس، الذي استعارها من فرط التقدير والإعجاب..
لا يمكن، لا قوّة الميديا ولا قوة السلاح المهيمنة، ولا الرواية الزائفة للتاريخ والوقائع التي يصنّعها ويتبناها نفر من خارج البلاد العربية وداخلها، أن تمحو ذاكرة هذه الأمة وقَبر أحلامها ونزوعها الى الحرية والاستقلال.
* * *
لا نعرف من خلال قراءة التاريخ العربي إلا نادراً، مثل هذا الانكشاف والانحلال على جميع الأصعدة، مثل ما هو عليه الحال في البرهة العربية الراهنة، عصابات ومليشيات مرتبطة ارتباطاً عضوياً بجهات أجنبية، تهزم جيوشاً. بُنيت عبر السنين من قوت هذه الشعوب المسكينة، المُذلة أيما إذلال، التي تنحل بدورها (الجيوش) إلى ميليشيات، وتسيطر على بلدان ومساحات واسعة من الأرض .. ميليشيات وعصابات طائفية كلها تدعي تمثيل الإسلام الذي يقف على النقيض منها، سواء تلك التي تزعم تمثيل الشيعة وولاية الفقيه أو تلك المتطرفة التي تحلم بعودة الخلافة المتوهّمة تقتل وتسحل وتبيد مثل أخواتها في الجهة المقابلة .. من الواضح أن القوة الأعظم وفلكها ضمنياً، لا تقف إلى جانب أحد بالمعنى الفعلي، وإن وقفت فلضمان ديمومة المذبحة، وليس إيثاراً وحباً، حتى يحين أوان ذبحها في مسلسل القسوة الطويل هذا، وتحارب الثانية حرباً إن لم تكن لطيفة فهي غير ساحقة كما عودت العالم في هذه المسرحية السوداء الدامية التي تدفع ثمنها الشعوب العربية وما تبقى لها من إنجازات إذا صّحت العبارة، بعد هذا التاريخ الطويل من المسار التدميري الاستبدادي للنخب الحاكمة التي احتلت الفضاء العام بالمطلق وكذلك الخاص حيث الرعب من قول كلمة حق عابرة ولو كانت بين أفراد العائلة الواحدة .. هذا ما آلت إليه «الدولة الوطنية» الجامعة المانعة التي أتت بعد رحيل الاستعمار بمعناه المباشر، وكانت الشعارات الصاخبة والموّارة بأحلام المستقبل والفردوس الموعود..
ليس أفظع وأكثر قسوة من هذه المسرحية الفجّة الوقحة بتمثيلها وإخراجها الرديء العاري من الموهبة، لكن النتائج كارثية والقادم أكثر فتكاً وانكشافاً، طائفيةً وانحطاطاً، حيث أمواج الفتن كقِطع الليل المظلم حسب قول شريف ..
وحيث جشع المسيطرين، في سدّ أي أفق فيه بعض الأمل والضوء لهذه الحشود المحرومة من كل شيء عدا نعمة التصفيق والولاء المطلق.
إننا أمام جردة الحساب المؤلمة والفاجعية لتاريخ ليست الرحمة من طبائعه ومساراته..
فحذار لأولئك الموهومين بالنصر الكاذب، فالذي ينتظر على منعطف الطريق ليس أقل من مجزرة خرافية تُولد ولادة رحمية من سابقاتها.
* * *
حين ينظر الواحد منا، إلى أحد أطفاله وقد اعترته وعكة زكام وحمّى يتذكر الملايين من أطفال سوريا واليمن والعراق وليبيا، وسائر البلاد المنكوبة، يرتجفون برداً وجوعاً وعطشاً ..وسط ذلك العراء الفاجر!
* * *
الأنظمة القمعية المستبدة التي يسيطر عليها الجشع والجهل والفساد، تُستفز من أي رأي صادق أو رؤية ناقدة..
لأن المرآة تكشف بالضرورة بشاعة الوجه الناظر فيها..
النفاق والمنافقون هم لُحمة هذا النسيج وسُداه
حتى تقع الواقعة مثلما هي عليه في سورية والمشرق، طليعة المأساة العربية والتاريخ البشري عامة، والعراق الذي يتناثر أشلاءً، حطامَ أرواح وحياة وعمرانا، مثالاً لا حصْراً،
والحبل على غارب المجزرة..
* * *
كتب «المغترب» إلى صاحبه :
وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه ؟
نازعتني إليه في الخلد نفسي ..
رد عليه المقيم :
كيف يستقيم هذا الهوى والحنين، والمواطن في وطنه لا يتحصل على حق قرد في حديقة حيوان كي لا أرتكب هفوة قاتلة وأقول، غابة
أو حق حمارٍ في حظيرة..
* * *
الكتاب الأول
ربما من الصعب، أن يتذكر امرؤ، عاش في سوريّة فترة من عمره، في هذا الظرف أو الشرط الكارثي الذي تمر به تلك البلاد مغرقاً شعبها بكل أنواع الألم والفجيعة، حيث تضافر وتلاحم قتلة الداخل مع قتلة العالم أقوياؤه العتيدون وضعفاؤه التابعون، في التمزيق والتدمير. كأنما شرّ الأزمنة انفجر دفعةً واحدةً تجاه هذا البلد العريق.
أقول من الصعب الكتابة بمعزل عن هذه الشروط الجارفة، كيف أستطيع استلال تفصيلٍ لذكرى صداقة، حب أو كتاب، في خضمّ هذا المشهد القيامي ..
ذكرى كتاب سيكون بمثابة الكتاب الأول المنشور لي في سياق وضع ثقافي متشعب تحتضنه دمشق. ويتقاطع فيه السوري مع القادم من بلاد عربية، مشارقها ومغاربها، إذ أن المدينة وخاصة بعد الغزو الصهيوني الكاسح على بيروت عام 1982 وما ترتب عليه من نزوح جماعي لمثقفين وكتاب كانت العاصمة اللبنانية والحاضنة الفلسطينية لهم السُكنى والمآل ..
والكثير من أولئك قصدوا العاصمة السورية مما جعل الحركة ثقافياً، تمور بحيوية ونشاط أكثر من ذي قبل.
وإذا كنت قد بدأت الكتابة قبل وجودي في دمشق الذي بدأ في العام الأخير من سبعينيات القرن الماضي وقد كان أول إصدار لي مكانه دمشق ..
أتذكر حين هيأت الديوان للنشر، ذهبت مع الصديق الجزائري أمين الزاوي لناشر كان مقره في الصالحية. وحين لم تضبط الأمور، ذهبت بصحبة الصديق واسيني الأعرج إلى ناشر كان مقره قريباً من جامعة دمشق . كان اسمه أبو خالد على ما أذكر وكانت الدار تدعى (دار الجرمق).
وذات يوم أرسل لي أبو خالد صاحب الدار مجموعة نسخ في كرتون، وحيث أنّي لم أكن موجوداً في المنزل الواقع في ساحة (شمدين) بركن الدين، ترك الكرتون لدى جارنا البقال (أبو هائل) وحين عدت وجدت (أبوهائل) يخرج من البقالة ليناديني من الشارع قائلاً «والله لولا أنكم مش سورييّن وعزيزين عليّ ما كنت استلمت هذي الكرتونة ممكن يكون داخلها مصيبة وأروح في داهية بسببها»
صدر الديوان بأخطاء مطبعية نتيجة لعدم خبرتي في تصحيح الكتب، ومن القطع الصغير. وقد صمم الغلاف الفنان (جليدان) كما صممت الذي يليه مباشرة في الصدور وليس الكتابة، (الجبل الأخضر) الفنانة (سحاب الراهب). وقد كنا نجلس معا ومع أصدقاء كُثر في مقهى (اللاتيرنا) و(مطعم الريّس) بالصالحية المفعمة بحركة الأصدقاء من مطلع الصباح حتى الليل.. وكذلك في (الفريدي) بشارع العابد قريباً من منزل بندر عبدالحميد الأرضي..
أتذكر في هذا السياق إبراهيم الجرادي الذي أصدر ديوانه ( رجل يستحم بامرأة) مصحوباً بالصور والكولاجات المثيرة، وقد أثار جدلاً في دمشق وصدمة في (الرقة) بلده الولادي.. وكذلك أسعد الجبوري وهاشم شفيق وجليل حيدر وكلهم سبقوني في النشر، وخليل صويلح الذي بدأ شاعراً وصحفياً وبعدها حمل شعره إلى الرواية واختار السُكنى في رحابها. وهناك رياض الصالح الحسين الذي ارتاحت روحُه العاصفة برحيله المبكّر، وطاهر رياض وعماد جنيدي ومحمد البخاري الموريتاني الذي كان يقرأ أكثر مما يكتب. وهو مفارق لجميع الذين عاشوا في دمشق التي لم يغادرها إلا إلى مثواه الأخير.. وأتذكر في ذلك الزمن سميح شقير وحسان عزت عبدالقادر الحصني، دعد حداد التي دفعتها معاناتها إلى الجنون (رأيتها ذات مرة تأتي إلى اللاتيرنا باصقةً في عبورها الهذياني السريع ) .. وغسان زقطان الذي انتقل من بيروت إلى دمشق، والقائمة تطول وتطول حتى المتاهة والمنفى والخراب..
كانت الشام ومن ثمة جارتها بيروت، جارتي القمر في خسوفه وإشعاعه الضاج البهي، منطلقاً للنشر وولوج الأجواء الثقافية، صداقة، كتابة وحياة. ومن بوابتهما دخلتُ العالم والمتاهة بالمعنى الجمالي على الأرجح..
بعد صدور كتابي الأول (نورسة الجنون) على عِلاّته الفنية الكثيرة، بحيث أني لو ألقيت عليه نظرة سريعة عبر هذه المسافة الزمنية الشاسعة بالألم والرعب والدماء، لوجدتُ فيه الكثير من الاسترسالات التي لا مبرر فنياً لها، وزوائد لفظية كثيرة. يبقى ذلك الدفْق الحماسي الذي يسم البدايات في الكتابة… كان المناخ الشعري بأسمائه وإنجازاته المختلفة الذي يهيمن على تلك البدايات، هو مناخ «بلاد الهلال الخصيب» وترجمات أهمها في الشعر ذاك المتسم بالنزوع السوريالي وشعراء الهاويات واللاوعي والجنون.. كان كتاب «أناشيد مالدرور» قد صدر مترجماً للتو من قبل اللبناني سمير الحاج شاهين، وظهر تأثيره أكثر في ديواني «أجراس القطيعة» الذي صدر في باريس.. وفي الفترة إياها قرأت رامبو ومركبَه السكران لأول مرة بترجمة الراحل الإسكندروني صدقي اسماعيل النوعية، ضمن كتاب من الحجم الكبير يحتوي على ترجماته الشعريّة المختلفة … أتذكر كنا نذهب إلى (رأس البسيط) مصطحباً هذا الكتاب، وعلى إيقاع الموج الدافق أقرأ مسكوناً بأطياف رامبو الشعريّة المنتشية بألمها، كشِفها وإشراقها، وبما يشبه القصف آتياً على علبه (الحمرا) واحدةً بعد أخرى … وكتبٌ على هذا السياق والمنوال. استُقبل الكتاب استقبالاً ايجابياً على الأغلب في الصحافة السورية والسفير اللبنانية وغيرها من الصحافة اللبنانية التي كان لها سطوة المرجع الثقافي بالنسبة لنا آنذاك.. ونقدَه البعض نقداً جدياً أو على نحو من طرافة، مثل مأخذ تأنيث النورس وهو قول لا يصح ضمن قواعد اللغة ومعطياتها ..!
لم أعد أحتفظ بشيء مما كُتب لقد ضاع في الترحّل مثل الكثير غيره عدا هذا المقطع الذي كتبه الصديق إبراهيم الجرادي، ظهر فجأة بين أوراق هرِمة مُهملة كريش طائر منقرض ..
«سيف الرحبي يأتيك من جهة الخلاف، يتناقض معك، حين تتآلف مع السكون، ويتآلف معك حين تأخذك الحياة إلى مدارها الواسع، بعيداً عن الرخاوة والخطل. تختلف معه لا ضير! تتفق معه لا ضير! لأنه في الأساس لا يطمح في «الخلاف» أو «الاتفاق»، بالقدر الذي يريد أن يكون كما هو، شاعر يختلف عن الآخر في الأرق والهدأة، في الجنون والمأثرة، في الحب وفي لعنة الشعر، تلك التي تضيء الحياة التالفة بنورها العظيم.
جاء من عُمان، وتلوث بالألم العربي اللذيذ! و»تصفى» ايضاً، بهذا الألم، الذي يتراكم في زمن عربي مغبر، نائم محبَط، لا ساعات فيه ولا دقائق!!
أي طموح تحمل هذه الكتابات؟ إن الرحبي لا يثقل عليك بشيء: التنظير أو «المثاقفة» «الجماهيرية» أو نقيضها. انه يكتب ليؤرخ ويحتج ويتشظى».
أما صديقنا ابو الوليد الناقد (يوسف سامي اليوسف) رحمه الله، الذي كنا نلتقي معه بشكل يومي فلم يعلق على التجربة. وقد كتب حول ديواني السادس (يد في آخر العالم) احتفاء وإعجاباً، من غير أن ينسى الإشارة إلى ذلك الشعر الذي كنا ننشره، في الإقامة الدمشقية في تلك الفترة، فلم يكن يستسيغه لإمعانه في الغموض والسورياليّة.والأرجح أن هذا الموقف ينطلق من تحفظه على قصيدة النثر الذي تجاوزه نسبياً فيما بعد. حيث يقول
«(…) ثمة شاعر يكتب قصيدة النثر منذ عشرين سنة، أو اكثر بقليل. وهذا الشاعر هو سيف الرحبي، العماني الجنسية، والذي عاش في مصر وسورية مدة طويلة من الزمن. ولقد نشر الكثير منذ عام 1980، حين أصدر في دمشق أولى مجموعاته الشعرية بعنوان «نورسة الجنون»، وحتى العام المنصرم، أقصد عام 1998، يوم أصدر مجموعة جديدة، نشرتها دار المدى في دمشق ايضا، وعنوانها «يد في آخر العالم» والجدير بالتنويه انه قد اختار عددا من قصائده، فنشرتها له دار شرقيات في القاهرة تحت هذا العنوان: «معجم الجحيم» وفي تقديري أن هذه المجموعة هي خلاصة تجربته الشعرية السابقة على ظهورها، أقصد خلاصة مجموعاته الست التي ظهرت قبل هذه المختارات.
وعلى أية حال، دعني أصرح بأنني قلما استسغت شعر سيف الرحبي، لأنه شديد الميل إلى السريالية الغامضة، ولأنه مغرق في التجريد الناشف أو غير الموحي، اذ يكاد لا يؤشر إلى معنى خصيب أو يشف عن فحوى عميق، اللهم إلا أن يكون ذلك لماما وحسب.
فالشعر ما لم يكن موحيا شفافا محتقبا للروحاني والحميم أو الدافئ، فانه لا يستحق أن يصنف في صنف الكتابة على الإطلاق.
ولكن المجموعة الأخيرة، أي «يد في آخر العالم»، لها شأن آخر، فهي شفافة في كثير من الاحيان، وتتمتع بأسلوب سلس جذاب من شأنه أن يجعل اللغة برسم الذائقة (…)»
وبما أن كتاب (الجبل الأخضر) سابق في الكتابة على ( نورسة الجنون) الذي كان له أولوية الصدور بمحض الصدفة، فقد كتبتُ في استهلاله هذه الإشارات :
«هذه الكتابات الشعرية القصصية، هي التجربة الكتابية الأولى، ورغم الوصول إلى فهم جديد لطرائق التعبير، كما بدأت ملامحه الأولى في (نورسة الجنون)، وستتضح أكثر في المجموعة القادمة (أميرة الينابيع ذات الأحداق الوثنية)، تظل هذه الكتابات مؤشراً لفترة من التوتر الذهني الذي ما زال يسود، ولا يعني ذلك أنها مفصولة عن السياق الكتابي الآخر من حيث التوجه العام في الكثير منها إلا كونها اضطرابات بدء يستمر حتى تخوم الانتحار في أحشاء اللغة لصالح قصيدة لن تكتب إلا بحبر الموت (ربما) ولا يعني هذا التوضيح طلب شهادة حسن سلوك من أحد بقدر ما يعنيه التشنيع».
أُعاود القول أنه من الصعب استلال ذكرى ربما لا قيمة لها في غمرة هذا المشهد القيامي الذي تمر به بلاد الشام التي غمرتنا بكرم مثقفيها وشعبها، رغم انني أعيش خارج ذلك المشهد بعيداً عن ويلاته المباشرة لكنني وأصدقاء كُثر معبّئين بفظاعاتهِ التي تشهد على عار الإنسان، العربي خاصةً، وتشهد على موت الضمير ..
وكلنا أمل أن تستعيد تلك البلاد حياتها بعيدا عن قتلة الاستبداد والتطرف والوحشية الطائفية، أعداء الحياة والجمال في الداخل والخارج ..
* المقطع الأول قُدّم إلى ندوة مجلة (عالم الفكر) في الكويت عبر محور يحمل عنوان (التقليد والتجديد).
** «الكتاب الأول» كتبت بإيعاز من جريدة (الأخبار) اللبنانية عبر الصفحة التي تحمل نفس العنوان ويشرف عليها الشاعر حسين بن حمزة.
سيف الرحبي