عاش خوان غويتيسولو خلال السنوات المتأخرة من حياته بمراكش فظاعة وضع مأساوي من الناحيتين الاجتماعية والنفسية، فالكاتب كان يعتبر أن أعماله الأدبية ناجزة ومنتهية ولا يستطيع أن يضيف لها عملا جديدا بالمعنى العميق للجدة وهو ما يعني خلق الإدهاش والمتعة وترسيخ التصور العام الذي بنى حوله منظومة أفكاره ككاتب ملتزم مدافع عن الفكر النقدي المتنور لتاريخ إسبانيا وإبراز تراثها الإنساني العميق متمثلا في الأدب المدجن، لقد استمر خوان متمردا على هيمنة المؤسسات الرسمية وفكرها الذي يحكمه ما يسميه بالفكر الوطني الكاثوليكي، لكن خوان غويتيسولو لم يكن يمتلك أية وسائل أخرى غير الكتابة لضمان عيشه، هذا بالإضافة إلى أنه كان يتحمل مسؤولية الإنفاق على الدراسات العليا لثلاثة أبناء له بالتبني، وهو ما فرض عليه التفكير في مغادرة هذا العالم بإرادة ذاتية لم يستطع ترجمته على المستوى الفعلي لمقاومة القبيلة نفسها وبسبب خوفه على مآلها، لأن هناك من الأصدقاء من أقنعه أن ضمان الطمأنينة والاستقرار للأبناء الثلاثة لن يتم إلا برعايته الشخصية لهم. ورغم ذلك ففي أبريل 2014، كتب وثيقة مؤلمة وعميقة يقول فيها: “لقد قرَّ قراري اللجوء إلى الموت الرحيم لكيلا أطيل بدون جدوى أيامي لأسباب أخلاقية ذات طبيعة شخصية، فلما تختفي الرغبة (الليبيدو) ومعها الكتابة، وأتأكد أنني قلت ما كان عليَّ أن أقوله، وأحس أن جسدي أيضا لن يتحمل أكثر من ذلك، وكل يوم ألاحظ تدهوره، قبل أن يؤثر هذا على انحدار قدراتي المعرفية أفضل أن أستبق خرابي وأن أودع الحياة بكرامة”، ويتابع في الوثيقة نفسها: “والسبب الآخر لاختياري الموت الرحيم هو الرغبة في ضمان مستقبل الأبناء الثلاثة الذين أتحمل مسؤولية تربيتهم. يبدو لي من غير اللائق إهدار الموارد المحدودة التي أمتلكها، وتقليصها يوميا في علاجات طبية مكلفة بدلا من تخصيص هذه الأموال لهم لإكمال دراساتهم. لذلك، أختار بكل حرية الخيار الأكثر عدلا وفقا لما يرضي ضميري وأحترم حياة الآخرين”. إن غويتيسولو يكتب دوما بخط يده والوثيقة موقعة بيده. وقد رقن الوثيقة على الكمبيوتر الشخص نفسه الذي كان يساعده في رقن كتاباته والعديد من النصوص التي يهيئها للنشر، السيد رفائيل فرنانديث، أحد أساتذة معهد ثيربانتس في مراكش الذي توفي بمرض السرطان في السنة نفسها. لقد كان هاجس غويتيسولو وشغله الشاغل تعليم وتربية وتهيئة الأبناء الثلاثة الذين تبناهم وهم: رضا وعمره 23 سنة، يونس وعمره 23 سنة، وخالد وعمره 18 سنة. رضا هو ابن صديقه عبد الهادي والاثنان الآخران أبناء عبد الحق، الشقيق المتوفى لعبد الهادي. كلهم بالإضافة إلى زوجة عبد الحق، عاشوا مع خوان غويتيسولو في رياض كان قد اشتراه الكاتب سنة 1997، وكان عادة ما يصفهم بقبيلته، “القبيلة” التي اعتنى بها حتى آخر محطة من عمره، قبل أن يوافيه الأجل بمدينة مراكش فيختار أن يدفن بالمقبرة البحرية بالعرائش قرب صديقه المتمرد الآخر الذي اقتسم معه العديد من الأفكار والالتزامات بما هو إنساني، الكاتب الفرنسي جان جينيه… لكن ما هي الأشياء التي طبعت مأساوية السنوات الأخيرة من حياة خوان غويتسولو؟ إن رفض غويتيسولو أن يجتر نفسه في كتابات معادة وعدم قدرته على إضافة شيء جديد إلى البناء الذي شيَّده على مدى عقود من الزمن جعله يتوارى في قائمة الإصدارات الجديدة لدور النشر التي كانت دائما تطالبه بأعمال جديدة، وهذا قلص بشكل كبير الدخل المادي الذي كان يكسبه على مستوى الكتابة مقابل متطلبات الحياة التي يفرضها عليه الإنفاق على أبنائه الثلاثة الذين كانوا يتابعون دراساتهم، وهذا جعله يتنازل عن مبدأ أساسي يتمثل في رفضه للجوائز الرسمية التي تقدمها الدولة الإسبانية، فهو خلال مساره ككاتب وكمبدع طالما سخر من الكتاب المتهافتين على الجوائز التي لا تكون لها دلالة رمزية توافق التزاماتهم الأخلاقية والفكرية والسياسية، وهذا ما فرض عليه قبول جائزتين إسبانيتين في السنوات الأخيرة وهما: الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية 2008 وجائزة ثيربانتيس للآداب 2014، لكنه في قرارة نفسه لم يكن راضيا عن هذا التنازل الاضطراري الذي جعله يحس بخيبة عميقة ويعاني من حالة اكتئاب رافقه حتى آخر حياته، فهو المتمرد الذي يهاب الجميع كتاباته يرفض أن يصير من الذين تحتويهم الدولة بمنحهم الجوائز الرسمية، وقد ترجم تمرده في خطابه الاستثنائي أثناء تسلمه جائزة ثيربانتيس وقفزه على جميع الرسميات البروتوكولية التي تُفرض على الذين يأتون لتسلم الجائزة من يد الملك، أقصر خطاب في تاريخ الجائزة نسي صاحبه أن يحيي الملك فليبي السادس والملكة ليتسيا في البداية، بل حيَّا سكان مدينة مراكش الذين عاش وكان الكاتب لا يزال حينئذ يعيش بينهم، خطاب مكثف يستشهد بأقوال مانويل أثانيا رئيس الجمهورية الذي أطاحت بها دكتاتورية فرانكو، ويدعم القوة اليسارية الصاعدة في إسبانيا: بوديموس في إشارة ضمنية واضحة، ثم نقد جريء للثوابت التي وجهت إسبانيا منذ عهد إيزابيل الكاثوليكية والملك فيرناندو، واحتفاء بالكاتب الإسباني ثيربانتيس الذي قدم عنه صورة مشابهة لصورة خوان غويتيسولو الذي يمثل الغنى الروحي والفكري والإبداعي والبؤس والإهانة على المستوى المعيش. أما قفزه على البروتوكول الرسمي فيتجلى في تعليقه الساخر ردا على ما إذا كان سيرتدي الزي الرسمي، فأجاب بأنه لن يفعل ذلك لأنه لن يذهب إلى حفل تنكري، وإذا ما كان يجب عليه أن يتنكر فهو يفضل أن يفعل ذلك في جلباب مغربي، لقد لبس خوان لباسه العادي الذي كان يرتديه كل يوم عدا أنه أضاف إليه ربطة عنق يحكي أنها ربطة العنق الوحيدة التي كان يمتلكها وعمرها 35 سنة، أثناء تسلم خوان غويتيسولو لجائزة ثيربانتيس كانت قد مرت ست سنوات على آخر عمل إبداعي أصدره وهو رواية: “المَنفِيُّ هُنا وهناك”، عملٌ سيعقبه فيما بعد إصدارهُ لدراسات نقدية كان قد خص بها صديقه الراحل الشاعر خوسيه أنخيل بالينتي، أحد الأصوات المتمردة ضمن الجيل الشعري الخمسيني، لكن المتابعين لخوان يعرفون أنه كان قد وضع بين يدي وكيلته كارمن بالسيلس عملا أوصى أن يُنشرَ بعد انصرام عشر سنوات على موته، وهو عمل من المؤكد أنه سيرعب المدافعين عن المؤسسة الثقافية الرسمية في إسبانيا… هذا بالإضافة إلى أن خطاب جائزة ثيربانتيس اشتمل على العديد من الإشارات القاسية لِمَا حدث ومازال يحدث من فظاعاتٍ على مدى التاريخ: مَنَافٍ فُرِضَتْ عليه ككاتبٍ وعلى أساتذته من قبله، هيمنةٌ للعولمة ولسلطةِ المالِ والبنوكِ، وهو ما فرض على مستوى الواقعِ الفقرَ والجوعَ والبؤسَ والحروبَ والظُّلْمَ، نتيجة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي فُرِضَت على الرِقابِ عنوة، والفساد المستشري على مدى واسع بين الطبقة السياسية، وتقتيل للبسطاء من المهاجرين الأفارقة الباحثين عن ظروفٍ أفضل لحياةٍ يجعلها رصاص الحرس المدني مستحيلة على سياجات مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين… لقد كرس غويتيسولو حياته وكتاباته لالتزام أخلاقي بقضايا الدفاع عن الإنسان باعتباره قيمة عليا، وهو ما قام به الرجل بكل مسؤولية وتفان تجلى ذلك في أعمال عديدة ذات مشارب ومصادر ثقافية متعددة مثل: “مطالبات الكونت دون خوليان”، و”خوان بلا أرض”، و”مقبرة”، و”فضائل الطائر المتوحد”، و”الأربعينية”، و”أسابيع الحديقة”، و”حصار الحصارات”، و”ملحمة آل ماركس”، و”الكوميديا الأيرية” و”المنفي هنا وهناك”… وغيرها
هذا وتعتبر رواية خوان غويتيسولو التي تم حظرها في إسبانيا إلى حين وفاة الجنرال فرانكو والتي كانت معنونة بـ: “الأفضل التدمير والنار” قبل أن يتم تغيير عنوانها ليصير: “علامات هوية”، الرواية التي كانت قد نشرت في المكسيك عام 1966، نقطة تحول حقيقية في مساره ككاتب، رواية اقتبس عنوانها الأول من بيتٍ شعري للشاعر الإسباني لويس ثيرنودا، أحد أعضاء جيل 27 الشعري، الشاعر الذي كان خوان غويتيسولو يعتبره كاتبا مرجعيا أثَّرَ في مساره الفكري مثله مثل كل من خوسيه ماريا بلانكو أو أمريكو كاسترو. لقد استطاع غويتيسولو في سن الخامسة والثلاثين أن يحدث تغييرات جذرية على السرد التقليدي من خلال مصادفته لذلك البيت الشعري السردي من خلال تخليه عن ضمير الغائب واستعاضته عنه بمزيج من الضمائر في تعددها ومزيج من الأزمنة والمكونات السردية، مما حقق للنص نوعا من الكولاج الطليعي على مستوى الكتابة، يقول خوان غويتيسولو: “ولدت رواية علامات هوية من عدم رضاي عن أعمالي السابقة، ففي أعمالي الأولى كنت قد أديتُ واجبي كمواطن، لكني لم أؤدِّ واجبي ككاتب: أي أن أمنح للأدب شيئا آخر مغايرا لما أخذته منه، فبدون فكرة الجدة ليس ثمة عملٌ حقيقيٌّ، وأنا حتى ذلك الحين لم أكن قد كسرتُ القوالبَ الأدبية الجاهزة”.
لكن أهم جانب في حياة خوان غويتيسولو كان يتمثل في اندماجه العميق مع فئات إنسانية مسحوقة تعاني القهر والظلم، وتبنيه لقضاياها ودفاعه المستميت عنها، لقد دافع عن الشعب الفلسطيني مثلما دافع عن الشعب الجزائري في معركة تحرُّرِهِما من الاستعمار والاستيطان، كما دافع عن الشعبين البوسني والشيشاني… وقد عبر غير ما مرة عن حبه العميق للعرب إذ قال في كتابه “عصافير تلوث أعشاشها”: ” إن الفضول الذي دفعني في بداية الستينات نحو تيمة العرب، كان أولا وقبل كل شيء إنسانيا وليس ثقافيا أو كتابيا، فقد عايشت في باريس الرعب اليومي للاضطهاد العنصري، لما كنت مستقرا بها أثناء حرب فرنسا على الجزائر، عايشت الإهانات، والحملات التأديبية، والاغتيالات المتكررة التي تفلتُ من العقاب من طرف الشرطة، وبالإضافة إلى تضامني الطبيعي مع الضحايا اِنْضافَ شيئا فشيئا عامِلٌ حميميٌّ، كان بدون شك حاسما في اقترابي من عالمهم الحيوي وثقافتهم […] إن الكيمياء التي تُحَوِّلُ حبَّ جسدٍ من نموذج فيزيقيٍّ وثقافيّ للجسد إلى ضرب من شراهة المعرفة لَقادِرَةٌ على تحويل العاشق إلى لغويٍّ، وباحثٍ، وعلَّامَةٍ أو شاعرٍ، وتنقله من المستوى الفرديِّ إلى الجماعي، وتفتح عينيه على التاريخ بتراجيدياته وظُلْمِهِ، وتدفعُه إلى النضال في حركاتِ التحرُّرِ من الاستعمار، والنفاذ إلى اللغةِ والأدبِ والفكرِ الذي يستحضرُهُ الجسدُ المحبوبُ ويمثلُهُ […] إنَّهُ بَرَكةٌ أو نعمةٌ ممنوحةٌ إلى مَنْ يظلُّ بصرامةٍ وإخلاصٍ دائمٍ وفيّاً مهما كانتِ الظروفُ لِمَا هو أكثرُ سرِّيَّةً وأكثرُ قيمةً فيهِ، لا حاجة لأن أوضح أنني، وأنا أتحدثُ عن هذا النوعِ النادرِ من الكُتَّابِ، كنتُ أتحدثُ عن نفسي، عن مساري الأدبي والأخلاقي.” وفاءُ خوان للهويَّةِ العربيَّةِ لا ينتهي، ووفاؤهُ للمكانِ ولأهلِ المكانِ لا يعادله وفاءٌ، حتى بعد أن أصيبَ ومنذُ شهورٍ بكسرٍ على إثر سقطةٍ ثم بشلل نصفيّ إثر جلطةٍ في الدِّماغِ، ثم رحيله المفجع عن عالمنا… رحل خوان غويتيسولو لكنه سيظل حيا بيننا لأنه بكل بساطة ينتمي إلى المُغاير والمُنفلت في الثقافة الغربية، لأنه استطاع بعمق أن يلامس جراحاتنا عربا ومسلمين، ننتمي إلى هذا الزمن الرديء الذي يحاول فيه المركز أن يلبسنا صورة مشوهة تسعى إلى تكريس إهانتنا وتبخيسنا وازدرائنا، لكننا أحيانا نجد أصواتا استثنائية تقدِّم وجهاً آخرَ عنَّا، الوجهُ المشرقُ والثريُّ لثقافتنا العربية الإسلامية، مثلما فعل خوان غويتيسولو وكرس له جزء كبيرا من حياته وأعماله الإبداعية والنقدية… وهذا الملف هو محاولة تعبير عن الوفاء والمحبة من طرف المشاركين فيه تجاه كاتب بادلنا حُبّاً بِحُبٍّ.
الملف من إعداد: خالد الريسوني