في السابع عشر من آذار (مارس) 2017، غيب الموت شاعرا من كبار شعراء القرن العشرين الشاعر الترينيدادي ديريك والكوت، الذي قدم للشعر العالمي، نكهة جديدة من شعر البحر الكاريبي، ومناخا شعريا جديدا منسجما مع شخصيته التي راوحت بين انتمائه لوطنه، وعشقه للغة الإنجليزية التي هي لغة المستعمر، والتي جعلت منه واحدا من أهم شعراء الحرية والليبرالية في العالم.
( 1 )
مرثية حميمية من صديقه هيلتون ألز
قصائده غوص في أعماق البحر والذاكرة وأفراح وأهوال الحب الجسدي
توفي يوم الجمعة الماضي الشاعر الترينيدادي الكبير ديريك والكوت الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1992، وقد قام الناقد والكاتب المسرحي هيلتون ألز بكتابة هذه المرثية الحميمية استعاد فيها علاقته مع هذا الشاعر العظيم.
كان ديريك والكوت انسانا شديد التعقيد وشاعرا عظيما. وغالبا ما كان هذان الأمران لا يقبلان القسمة في شخصيته. الوقت الذي قضيته معه ومع شريكة حياته الجميلة الألمانية المولد زيغريد ناما في بلد ديريك الأم سانت لوسيا، والذي يمتد إلى عام 2004، حين كتبت ملفا كاملا عنه لنيويوركر، غير حياتي بطرق عدة. شعرت أنني كنت أعرفه تماما، وأنني لا أعرفه. لكن حين رأيته بهالته وتاريخه، شعرت أنه مثل والدي. كان ديريك نتاج عالم عميق، إنه بلا ريب عالم البحر الكاريبي بتاريخه الإستعماري والتغيير غير الملموس. وطن الأشياء التي لا تحصى ولا تعد. بما في ذلك الأمهات اللواتي لا يدخرن أي قدر من الحب ليجعلنك تفهم أنك طفلهن الرائع. أم ديريك، أليكس مارلين، وهي مدرسة، ساعدته في نشر قصائده الأولى. كان هذا هو ضوء أول حب يقف ديريك تحته بشكل دائم. كانت السيدة والكوت هي أول من آمن به، وكانت في قرارة ذاتها أنه سيحصل على جائزة نوبل للآداب التي حصل عليها عام 1992، لأنها كانت أول من قال، وهي تحدث نفسها: « لماذا لا يكون شكسبير؟» كل شيء ممكن، فمن أي مكان كنت، فأنت مجرد جزء من القصة.
في نهاية سبيعنيات القرن العشرين. كان البروفيسور والكاتب أوين دودسون يستضيف تجمعات أدبية في شقته الغربية في شارع 51، كانت تلك الشقة عالما يسهر على ضوء الشموع ويجتمع فيه الفنانون من كل جنس ولون، يشربون ويتشاجرون ثم يهدأون، ويتأملون ذلك الليل المرصع بالنجوم. في شقة أوين قرأت ديريك والكوت للمرة الأولى، لكنني قبل أن أقرأه رأيته، كانت بشرته بلون المنك. له عينان فاتحتا اللون، يرتدي الياقة السوداء مما يجعل رأسه يظهر بصورة أكثر واقعية. لم أستطع النظر في عينيه. بعد أن انتهت الحفلة، سألت أوين: من يكون هذا الشحص، فقدم لي ديوان ( مملكة نجمة التفاح ) الذي كان قد صدر للتو عام 1980، ومنذ ذلك الوقت لم أتوقف عن قراءته.
من البداية ، الكتابة عند ديريك ذكرتني بذلك الخط الرائع لماريان مور في مراجعتها لـ ( كانتوس ) لعزرا باوند. ( كانتوس هذه ) كانت ملحمة لتنوير العقل الأدبي. لقد كانت انجليزية ديريك محلمية، حتى وهو لا يزال صغيرا، وقبل سنوات من كتابته لقصيدة ( اوميروس ) التي نشرت عام 1990. البحر، الذاكرة، أفراح وأهوال الحب الجسدي، المسافة القريبة من العائلة، النساء السوق السود اللواتي تحيط بهن الألوان من كل الجهات، أشجار النخيل، والأرض الخصبة غير التقليدية التي يمكن أن يشار إليها بالوطن: هذه هي موضوعاته.حتى وإن كنت لم أفهم ما اقرأه له على المستوى الأدبي، إلا أنني كنت أشعر أن سطور ديريك تزحف خلال جسدي كسلاسة زحف الثعابين الفضية وهي تنزلق على طول المسطح المائي: فسطورة تتوقف، ثم تنزلق على التوالي، في البداية من خلال عينيك، ثم إلى عقلك مباشرة. ديريك، ذلك الإبن الهاوي للألوان المائية، كان واعيا تماما في نظرته للأمور، وماهرا في وصف الأشياء على حقيقتها، كما تعيها الذاكرة.
بعد عام أو عامين من لقائي الأول به، نشر ديريك قصيدته الغنائية الرائعة( جان ريس) في مجلة نيويوركر التي صعقتني. لم يسبق لي أن قرأت شيئا مثل هذا من قبل، فهو ليس مجرد كاتب مدهش يكتب عن فرد خيالي، وإنما يرى الحياة بطريقة روائية. بصورة أو بأخرى يجعلك تشعر أن الخيال أكثر واقعية من أية سيرة حياتية. فمن خلال تخيل حياة امرأة بيضاء، وهو أمر مدهش في ذلك الوقت، علمتني القصيدة أن الكتابة يمكن أن تكون أي شيء، طالما أنها كانت سليمة عاطفيا وفكريا. في الكتابة ، يمكن للمرء أن يكون وفيا لمتطلبات العمل، أسود أو أبيض، رجل أو امرأة. وقد ظهرت هذه القصيدة في مجموعة ديريك الشعرية ( المسافر المحظوظ ) التي صدرت عام 1981، هذه المجموعة التي لم تستكشف فكرة وواقع الوطن فحسب، وإنما قدمت للقراء الشباب مثلي شعراء آخرين مثل روبرت لويل الذي كان واحدا من أبطال ديريك الأوائل العظام. ومثل لويل، كتب ديريك مسرحيات. وفي عام 1959 اسس ورشة مسرح ترينيداد، بعد أن التقى بزوجته مارغريت أم كل من ابنتيه آنا واليزابيث التي اسماها على اسم اليزابيث هاردويك زوجة لويل الثانية.
الشعراء الرائعون، يعثر كل واحد منهم عن الآخر: عالمهم صغير جدا على الرغم من تأثيره الواسع والعميق. حين وصف نفسه ( صبي البلاد ) فهذا لا يعني انه قد قطع نفسه عما يسمى المجتمع الأدبي. لقد كان الشاعر الروسي المولد جوزيف برودسكي والشاعر الإيرلندي شيموس هيني من الأصدقاء المقربين لديريك والكوت، لقد كتبوا عن الألم، والمسافة الرائعة المدهشة، والشوق الذي يأتي من كونك منفيا. أعتقد أن هناك قاسما مشتركا بين برودوسكي وديريك فيما يتعلق بالنساء والشراب ( على الرغم من أن ديريك قد توقف عن الشرب حين بلغ الخمسين من العمر ). لقد ربطت بين هؤلاء الشعراء علاقة يمكن وصفها بالأخوة. لكن كلا منهم احترم فكره الخاص. وقد انتج هؤلاء الثلاثة كتابا يستحق القراءة وهو كتاب ( تكريم روبرت فروست ) حيث سعى كل من والكوت وبرودوسكي وهيني لوصفه صوتا امريكا مميزا من وجهة نظر فريدة من نوعها، حين وصفوه كغريب في أرض أمريكا الغريبة.
طوال حياته كان ديريك مدافعا عن أعمال الكتاب الآخرين الذين فهموا معنى المنفى، لقد ساند وأيد كتابة جامايكا كينكايد منذ إصدارها لكتابها الأول ( عند أسفل النهر ) الذي صدر عام 1983. في الواقع، كانت قراءتي الأولى لقصيدته الشعرية ( حياة أخرى ) والتي تعتبر سيرة حياتية شعرية، في منزل جامايكا بولاية فيرمونت. في الخارج، هناك المناظر الطبيعية لنيوانجلند. كان الفصل صيفا، وكانت الأرض قد بدأت دندناتها. في ذلك الكتاب كان عقل ديريك يدندن بأفكاره حول ذلك المشهد الطبيعي، حول الجسد، وكيف أن كلا منهما لا يمكن أن ينفصل عن الآخر. كانت عبقرية ديريك واضحة منذ البداية. في مذكراته المتأخرة، وصف ديريك صديقه القديم وعدوه فيما بعد، المولود في ترينيداد فيديادر سورجيراساد نابيول في احدى قصائده بانيبول الذي غربت شمسه، مما دعا نيبول إلى وصف قصيدة ديريك بأنها طويلة وبلهاء. وحين ورد اسم نايبول أمامه خلال رحلتي إلى سانت لوسيا، أحسست أن حلق ديريك قد جف، ثم بصق اشمئزازه ونفاذ صبر، على عنصرية نايبول وشعوره بالتفوق الثقافي.
زيارة ديريك في سانت لوسيا كانت تنويرية لكنها لم تكن مريحة، وأعتقد أن هذا يعود إلى أنه حين يكون في وطنه، يكون مثل معظم الكتاب، شخصا وحيدا ومنزويا. لكن لا يمكن لأحد أن يتصور فنه الإبداعي دون أن يتعلق ويهيم بتلك المشاعر التي اتسمت بها الكثير من قصائده الغنائية ، لقد كانت تلك القصائد أغنيات رائعة لزوجاته العديدات وأطفاله. لقد كانوا حب حياته، كان يحبهم كحبه للشعر والرسم وهما أحب شيئين في حياته. يبدأ ديريك قصيدته (عيد الفصح ) في (المسافر المحظوظ) بكلمات مطمئنة لأب محب (آنا، يا ابنتي/ لديك كلب أسود/ يتشمم كعبك/ ينكر ذاته كالظل / هنا تكمن الأسطورة/ حول كلب أسود). مع زيغريد ذهبت إلى ساحة والكوت(، وهناك التقيت بابنه بيتر. بيتر هو الآخر فنان. ولأن زيغريد بيضاء فقد رأيت أنها تعامل ببعض الازدراء من قبل نساء السوق اللواتي التقيت بهن عندما ذهبت معها للتسوق. وتساءلت: كيف تشعر بمنفاها الخاص؟ أم أنها لا تشعر به على الإطلاق؟ كانت في حالة حب مع ديريك، وهذه الحالة هي كل ما يحتاجه المرء من الوطن.
قبل أن اعمل في نيويوركر، قضيت بعض الوقت مع ديريك وزيغريد في نيويورك. تناولنا العشاء مع الكاتب المسرحي آرثر ميلر، وهو صديق قديم لديريك، في مطعم الميشوت الذي يقع في الطابق الأرضي لفندق تشيلسي، وهو المطعم الذي قضى فيه ديريك وميلر أوقاتا مختلفة خلال حياتهما الأدبية. ( لقد وصفت زيغريد كيف كانت تقضي وقتها هناك مع ديريك خلال الأيام الأولى لعلاقتهما، وكيف أنها كانت تطالبه بالخروج من ذلك المكان ذي السجاجيد والأرضيات القذرة ). وتحدث ميلر عن زوجته انجي التي كانت قد توفيت قبل فترة وجيزة قائلا : «كنت أعتقد أنني سأموت قبلها»، فعلق ديريك: «لا يمكنني تصور ذلك». بينما انشغلت زيغريد التي ولدت لتكتب الذكريات بأخذ الصور لهذين الصديقين القديمين مع إنسان مثلي لم يكن يتصور أنه سيكون صديقا لهما. كانا يبحثان عن طريق لتغذية الحياة التي عاشاها بالفعل، ويريدان الإستمرار في هذه الحياة. كانت سنوات تنويرية عشتها، جعلتني أرى الأشياء بشكل مختلف.
لقد سمعت عن وفاة ديريك عن طريق صديق مشترك، الفنان بيتر دويغ، وكانا قد تعاونا معا في كتاب ديريك الأخير ( صباح بارامين ). هذا الشاعر الذي أحب المسرح كان شخصية محبوبة وجدلية صورتها لوحات بيتر في هذا الكتاب. وفي بعض القصائد يمكنك أن تشعر بقوس الطاقة العظيم في الأعمال المبكرة لديريك. حين تلقي نظرة على ما كان بيتر قادرا على تحقيقه، وكيف فكر ديريك في تحقيق مثل هذا الإنجاز، وكيف يبدو عمله هذا مختلفا في ضوء الحياة التي عاشها، والسنوات التي قضاها عنيدا مفكرا دون أن يغامر بعيدا عن تخوم غرابته. لقد كان ذلك الفتى الذي أحب، حاملا نسخة من ( اوفيد ) تحت شجرة نخيل، حاملا شكسبير من منظور تصوره الخاص إلى تلك الجزيرة: واثق وصعب المراس، معتز بذاته ومحب للعزلة والوحدة في ذات الوقت.
مثله مثل معظم الشعراء منذ أفلاطون، كان ديريك مثل هوميروس لديه قدرة كبيرة على ادراك الأحداث في المستقبل، أو ما وراء الاتصال الحسي العادي، كانت لديه بصيرة قوية، وكان يعرف أن الحب لا شيء دون تواضع، أو الطريقة التي تقود إلى ادراك الحقيقة. جزء من قوة ( صباح بارمين ) يأتي من الحقائق الوحشية وكيف يقع الكبار في حبها، وانتقاد زملائه الأصغر منه سنا.
بيتر أنا سعيد لأنك سألتني طويلا.
لكن السؤال الذي يجب على كل انسان أن يسأله:
كيف يمكن لفرشاتك أن تلتقط لهجتك وتغني بصوت رخيم
وتفسد لحنك الذي أخفته لوحاتك
واختيار المكان الذي تنتمي إليه حقا،
في ترينيداد، وكل الهراء الذي يتماشى معه؟
ما هو الهراء؟هو كل مكان خاطئي
تماما مثل الأشكال التي يغيب عنها الكمال، وبالتالي تفرز القناع
الذي يقوم عليه المجتمع كله.
في الواقع، لم تكن عظمة ديريك ككاتب تنبع من قدرته على قول الحقيقة عن ذاته أولا. ذات مرة ذهبت مع زيغريد لمشاهدة عرض لديريك، في وسط المدينة، كان المنزل مترامي الأطراف، لكن الجمهور كان متفانيا. حين غادرنا المسرح، وجدنا ديريك في الخارج جالسا على مقعد، وقال: « من العبث جدا أن أواصل القيام بمثل هذا العمل، دون جدوى». ولم يجلس معي.
شجاع؟ جبار؟ كانت هذه هي الكلمات التي فكرت فيها عند سماعي بأن ديريك قد مات. وأردت على الفور أن أعيد قراءة كل ما كتبه وكل ما فعله. وبدأت أفكر في أفضل طريقة لتخليد ذكرى هؤلاء الذين عاشوا في عوالم الكلمات شجعانا وواثقين بما فيه الكفاية بما يمكن أن يتصوروه ويتخيلوه في المقام الأول.
( 2 )
مع غياب والكوت آخر الشعراء العظام في القرن العشرين
كوكبة الشعراء الذين أعطوا للحرية والليبرالية معناهما
النيويورك تايمز
موت ديريك والكوت في الأسبوع الماضي، عن سبعة وثمانين عاما، وضع النهاية لواحدة من أطول وأروع المهن الشعرية في اللغة الإنجليزية. كان ذلك نهاية والكوت ذات الذي كان يفكر في « إنني أتخيل غيابي»، كما افصح عن ذلك في كتابه ( الهبة )، حين قال إنه يشعر بنوع من الراحة من أن هذا الغياب لن يحدث فرقا للطبيعة: « الظلال ستعود تماما ذات آيار كما ينبغي/ لكن مع التماس الهواء المغلق الذي سكنته».
بمعنى أوضح وأكبر، فإن ذهاب ديريك والكوت يشبه إغلاق الباب على عصر بأكمله. لأنه كان آخر الناجين من الشعراء الثلاثة الذين كانوا شهودا على نهايات القرن العشرين، والذين كان لهم تأثير معنوي لا مثيل له على الرسائل الأمريكية، على الرغم من، أو ربما لأنهم، لم يكونوا أمريكيين. فقد فاز كل من والكوت وجوزيف برودوسكي وشيموس هيني بجائزة نوبل للآداب على الرغم من أنهم جاءوا من خلفيات مختلفة جدا: فقد نشأ برودوسكي في أسرة يهودية، فيما كانت تعرف آنذاك بلينينغراد، وجاء شيموس هيني من بلدة ريفية زراعية في إيرلندة الشمالية، أما ديريك والكوت فقد ولد في جزيرة سانت لوسيا في الكاريبي، وتوفي فيها.
لكن الشعراء الثلاثة كلهم، أمضوا جزءا كبيرا من حياتهم في الولايات المتحدة، وتعلموا في الجامعات الأمريكية، وأصبحوا معروفين في عالم الشعر الأمريكي، حيث كانوا من الشخصيات الأكثر شهرة. لم يكن ذلك لمجرد كونهم مجرد شعراء عباقرة، وانما لأن الشعر الأمريكي كان له نصيبه منهم أيضا. وما يميزهم هو تجربتهم الحميمة في التاريخ، والدروس التي استخلصوها منه حول الصلة الوثيقة بين الشعر والحرية.
كان واحدا من الشعراء الكبار في مرحلة ما بعد الاستعمار في اللغة الإنجليزية، ولد في جزيرة كانت لا تزال مستعمرة بريطانية، وهو ينتمي للعرقين الأبيض والأسود. ومنذ أعماله المبكرة وهو بجد لفهم إلى أين يتوجه، وما إذا كان ينتمي للأدب الانجليزي أم لا : «أنا الذي سممت بدمهما معا/ أين أذهب، إنني متشظ من الوريد إلى الوريد؟» هذا هو السؤال الذي سأله لشيموس هيني، الذي ولد في إيرلندة الشمالية، ولكنه عاش كإنسان بالغ في الجمهورية الإيرلندية الذي كان قد كتب هو الآخر آخر خطوط الخطأ الدموي للامبراطورية البريطانية. أما جوزيف برودوسكي الذي أمضى سنوات في معسكر العمل السوفياتي قبل أن يتمكن من الهرب إلى الغرب، فقد تم الضغط عليه بشكل وثيق من قبل أيديولوجيات القرن العشرين.
ولأنهم كانوا ورثة لصراعات تاريخية مريرة ومعقدة – قائمة على أساس العرق والأمة والإمبراطورية واللغة – فقد تعلم هؤلاء الشعراء كيف يكنزون أبعاد التجربة الإنسانية غير التاريخية. لقد كان شعار شيموس هيني أن التاريخ جثة قديمة حفرت في مستنقع ايرلندي، وأن حنجرتها ما هي إلا حلقة من أعمال الطقوس أو الإنتقام: « الوزن الفعلي/ لكل ضحية مقنعة/ قتلت وألقيت». لكن جوزيف برودسكي في قصيدته (إلى أورانيا) يشير إلى أن أورانيا شاعرة الفلك اليوناني أقدم من كليو شاعرة التاريخ، لكن التاريخ قد تغلب فيما يبدوا، لكن الطبيعة قبل التاريخ وأكثر دواما منه, ولا عجب أن الشعراء الثلاثة قد كتبوا بمحبة عن العالم الطبيعي – لكن أكثر من صوره هو والكوت، الذي صوره من خلال الحياة في تلك الجزيرة المترامية الأطراف التي ارتوى وتشبع بها: «كنت أمتلك طلاقة الماء/ قادرا على الهروب / مع إغراء خطى الأنقليس».
لكن اللغة ذاتها هي التي أثبتت أنها أعظم مجال للحرية. كان هؤء الشعراء الثلاثة من الشعراء الصوفيين العمليين في مجال اللغة. فهي بالنسبة لهم، عرض لتجربة الكون التي كانت أعمق وأكبر من أية دولة أو دين. اللغة، وعلى الأقل لغة الشعر، لديها القدرة على تسمية العالم، ولخلق العالم: « أسعى/ كما يسعى المناخ لامتلاك أسلوبه/ لكتابة/ آية هشة كالرمال/ باردة ولولبية كموجة». هكذا كتب والكوت في قصيدته «الجزر» التي كتبها في فترة مبكرة من حياته. وفي النهاية، يصر برودوسكي أننا جميعا مجموع لغتنا: «ما الذي تبقى من هذا الجزء من الإنسان/ الجزء المحكي/ هذا الجزء من الكلام».
غالبا ما ينظر إلى الليبرالية على أنها عقيدة غير مرئية، لأن لها علاقة بالرفض: رفض الأساطير السياسية الخطيرة، والمشاعر غير العقلانية، وإغواء العنف. لكن والكوت هيني وبرودوسكي، كانوا شعراء كبارا في مجال الليبرالية، وأظهروا أنها تنطوي على تأكيد عميق أيضا. لقد جاءوا إلى أمريكا لأسباب مختلفة – شخصية وسياسية واقتصادية – لم يكن لديهم أية أوهام عن هذا البلد (وسيما والكوت الذي كتب عن العنصرية الأمريكية بعين باردة).
ومع ذلك فقد تألق هؤلاء الشعراء هنا، لأنه كان هناك توافق عميق بين الحرية في شعريتهم والحرية في تقاليدنا. أن تكريم أمريكا ذاتها يكمن في تكريم هؤلاء المبدعين المهاجرين، وفي التعلم منهم ماذا تعني الحرية، وليس إغلاق حدودنا أو عقولنا أمام الجيل القادم من المبدعين – كما تهدد أمريكا ترامب بالقيام به الآن – أن التخلي عن ذلك سيكون واحدة من أهم مصادر العظمة الأمريكية.
قصائد
بلوز
هؤلاءِ الرِّجالُ الخمسةُ أو الستةُ الشُّبانُ
الذين يتناولونَ غداءَهمْ على المُنحَدَرِ
في تلكَ الليلةَ الصيفيةِ الشديدةِ الحرارةِ
صَفَّروا لي. بلطفٍ
وحميميةٍ، لذا، تَوَقَّفتُ.
ماكدوغال، أو كريستوفر
شارعٌ في سلاسلِ الضوءِ.
مهرجانُ صيفٍ. أم
مهرجانُ قديسينَ. لمْ أكنْ بعيداً جداً
عنْ الوطنِ، لكنّي لمْ أكن متألقا جداً
بالنسبةِ للزنوجِ، ولا شديدَ السوادِ.
ظننتُ أننا كلُّنا واحدٌ،
ووبٌّ وزنوجٌ ويهودٌ،
إضافة، أنَّ هذا لمْ يكنْ سنترال بارك.
هلْ أنا مُقَدَّمُ أناسٍ شديدي القوةِ؟ ظَنُّكَ
في مكانِه! لقد هاجموا هذا الزّنجيَّ الأصفرَ
والأسودَ والأزرقَ.
أجلْ. خلالَ هذا، مرعوباً منْ
هذهِ الحالةِ على الإنسانِ أنْ يستخدم سِكّيناً
عَلَّقْتُ معطفيَ الرياضيَّ الأخضرَ الزَّيتونيَّ
الذي اشتريتُهُ للتوِّ، على خابورِ النارِ.
لمْ أفعلْ شيئاً. لقدْ تقاتلوا
معَ بعضِهِم البعضَ، حقاً. لقدْ وَجَّهَتْ
لهمْ الحياةٌ ركلاتٍ قليلةٍ،
هذا ما حصلَ.
خُمِشَ وجهي،وانسكبَ كوزُ دَمي،
لكنَّ معطفيَ الأخضرَ الزَّيتونيَّ
سَلِمَ منَ القَطْعِ والتَّمَزُّقِ
وَزَحَفْتُ صاعداً أربعَ درجاتٍ
وأنا متمددٌ في القناة أتذكرُ
أنني رأيتُ القليلَ منَ المراقبينَ يُلَوِّحونَ
ويصرخونَ، وأنَّ أمَّ أحدِ الشُّبّانِ كانتْ تصرخُ
وكأنها تقولُ : «جاكي» او «تيري»
«الآنَ هذا يكفي»
لمْ يحدثْ شيءٌ بالفعلِ
كلُّ ما هنالكَ أنهمْ لمْ يأخذوا ما يكفي منَ الحبِّ.
أنتَ تعرفُ أنهمْ لمْ
يَقْتُلوكَ. كانوا يلعبونَ بفظاظةٍ فحسبْ
كما يفعلُ الامريكيونَ الشبابَ.
وهذا ما يزالُ يُعَلِّمُني شيئاً
عنِ الحبِّ. إنْ كانَ الحبُّ فظاً جداً
حاولْ أنْ تنساه.
البحر تاريخ
أينَ شواهدُكُمْ ومعارِكُكُمْ وشهداؤُكُمْ؟
أينَ ذاكرتُكُمْ القَبَلِيَّةُ؟ أيّها السّادةُ
في ذلكَ القَبْوِ الرَّماديِّ. البحرِ.
لقدْ أقْفَلَها البحرُ. البحرُ هوَ التاريخُ.
في البدءِ كانَ الزَّيْتُ المتنامي
الثقيلُ كالهُيولى
ثمَّ كضوءٍ في نهايةِ النفقِ
جاءَ مصباحُ المركبِ العظيمِ
فكانَ سِفْرُ التكوينِ
ثمَّ كانتْ الصرخاتُ المعبأةُ،
والشتيمةُ
والأنينُ.
سِفْرَ الخُروجِ.
العِظامُ الملتحمَةُ بالمرجانِ إلى فسيفساءِ
العظامُ المُوَشَّحَةُ بظلِّ سمكِ القرشِ
تلكَ كانتْ تابوتَ العهدِ
ثمَّ جاءتْ منْ نُتَفِ خيوطِ
شعاعِ الشمسِ على قاعِ البحرِ
القيثارةُ المتلاطمةُ للعبوديةِ البابليةِ
مثلَ نهايتينِ معكوستينِ تتسلسلانِ كالقيودِ
على النساءِ الغَرقى
وتلكَ هي الأساورُ العاجِيَّةُ
لنشيدِ سليمانَ
لكنَّ المحيطَ ظلَّ يُقَلِّبُ الصفحاتِ الفارغةِ
باحثاً عنْ التاريخِ.
ثمَّ جاءَ الرجالُ ذوو العيونِ الثقيلةِ كالمراسي
الذينَ غرقوا دونَ أضْرِحَةٍ،
اللصوصُ الذينَ شَوَوا القَطيعَ
تاركينَ أضلاعَهُمْ المُتَفَحِّمَة
مثلَ سعفِ النخيلِ على الشاطئ،
ثمَّ كانَ الزَّبَدُ المسعورُ
للمَدِّ والجَزْرِ الذي ابتلعَ بورتْ رويال
ثمَّ كانَ يوحَنّا
لكنْ اينَ قيامَتُكُمْ؟
سيدي، لقدْ أُقْفِلَ عليها في رمالِ البحرِ
خارجَ ذلكَ الماضي المنصرمِ
رفُّ الحيدِ المرجانيِّ الكادحِ
حيثُ غرقَ رجالُ الحربِ المُسْتَهْلَكونَ.
مُرتدياً واقياتِ العيونِ، ساقودُكَ إلى هناكَ بنفسي.
كلُّها مختفيةٌ وغائصةٌ
عبرَ أعمدةِ المرجانِ
خلفَ النوافذِ القوطِيَّةِ لذُرى البحرِ
حيثُ الهامورُ اليابسُ الجَزِعُ العينينِ
يرمشُ مثقلاً بجواهرِهِ مثلَ ملكةٍ صلعاءَ،
وهذهِ الكهوفِ المُجَعَّدةِ بأسماكِها الهُدْبِيَّةِ
المُنَقَّطَةِ كالحجارةِ
كانتْ كاتدرائياتُنا،
والتَّنّورُ الذي يسبقُ الأعاصيرَ،
عمورةُ. أرضُ العظامِ التي حَوَّلَتْها طواحينُ الهواءِ
إلى مرلٍ وذرةٍ،
تلكَ كانتْ المراثي
كانتْ مجردَ مراثٍ فقطْ
ولمْ تكنْ تاريخاً،
ثمَّ جاءتْ كزبدٍ على شفةِ نهرٍ جافٍّ
قصبُ القرى البُنِّيُّ
الذي يتثنى ويتحجرُ على شكلِ مدنٍ
ومعَ المساءِ،جاءتْ جوقاتُ البراغيشِ
تعلوها قممُ الأبراجِ
لتطعنَ خاصرةَ الربِّ
فانبعثَ ابنُهُ، وكانَ ذلكَ
هوَ العهدُ الجديدُ.
ثمَّ جاءتْ الأخواتُ البيضُ يُصَفِّقْنَ
لِتَقَدُّمِ الموجِ
وذلكَ كانَ الانْعِتاقُ
ابتهاجٌ، اوه وجذلٌ
يتلاشى بسرعةٍ
كما يجفُّ خيطُ البحرِ تحتَ الشمسِ.
لكنَّ ذلكَ لمْ يكنْ التاريخَ
كانَ ذلكَ مجردُ عقيدةٍ
بعدَ ذلكَ انشطرتْ كلُّ صخرةٍ إلى شعبٍ
ثمَّ جاءَ مجلسُ الذبابِ
ثمَّ جاءَ أمناءُ السرِّ منْ طيورِ البلشونْ
ثمَّ جاءتْ الضفادعُ العملاقةُ
تجأرُ مطالبةً بالتصويتِ،
وجاءتْ اليراعاتُ بافكارٍ متألقةٍ،
وجاءتْ الخفافيشُ كالسفراءِ النفاثينَ
وفرسُ النبيِّ مثلَ شرطيٍّ بالخاكيِّ
واليساريعُ القضاةُ ذوو الفروِ
ليدققوا بكلِّ حالةٍ بعنايةٍ
ثمَّ في عتمةِ اذانِ السرخسِ
وفي الضحكاتِ المكتومةِ المالحةِ للصخورِ
باحواضِها المائيةِ، كانَ هناكَ صوتٌ
كضجةٍ دونَ أيِّ صدىً
للتاريخِ، بدأ التاريخُ بالفعلِ.
مرجان
صَدْعُ المَرْجانِ هذا، صَدىً لِلْيَدِ
التي جوَّفَتْهُ
غِيابُها
الفَوْرِيُّ ثَقيلٌ. كَالخِفافْ ( 1 )
كّثَدْيَيْكِ بَيْنَ يَدَيَّ المُكَوَّرَتين.
البَحْرُ – البارِدُ، بَحَلَمَتِهِ التي
لَها تَرَسُّبات كالرِّمال
مَسامُّها، كَمَسامِّكِ، تُشْرِقُ بِالْعَرَقِ المالِح.
الأجْسادُ في الغِيابِ تَهْجُرُ وَطْأَتَها
وَجَسَدُكِ النّاعِمُ السَّلِسُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء.
يَخْلِقُ غِياباً َدَقيقاً كهذِهِ المَجْموعَةِ الحَجَرِيَّةِ الجالِسِةِ على طاوِلَةٍ
مَعَ رّفِّ مُبَيِّضاتِ
الهَدايا التِّذْكارِيَّةِ
تُشّجِّعُ يَدي
بالمُطالَبَةِ بِما لَمْ تَعْرِفْهُ يَدُ العُشّاقِ
أبَداً:
طَبيعَةُ جِسْمٍ آخر.
صرخة بعيدة من إفريقيا
ريحٌ تُغَضِّنُ الجِلْدَ الأسْمَرِ المُصْفَر
لإفريقيا، كيكويو(2) ، سّريعَةٌ كَحَشَراتٍ
تَحُطُّ على مَجْرى دَمِ الواحَةِ العُشْبِيَّةِ.
جُثَثٌ تَنْتَشِرُ مِنْ خِلالِ جَنَّة.
وَحْدَها الدّودَةُ، كولونيلِ الجِيفَةِ، تَصْرُخُ:
«لا تَأخُذُكَ أيّةُ رَحْمَةٍ بِهؤلاءِ المَوْتى
المُبَعْثَرينّ!»
الإحصاءات تُبَرِّرُ والباحِثون يحاصِرونَ
أصْحابَ السِّياسَةِ الاسْتِعمارِيَّة.
ماذا عنْ ذلك الطَِّفْلِ الأبْيَضِ المُقَطَّعِ إرْباً إرْباً في السَّرير؟
ماذا عَنْ المُتَوَحِّشينَ، المُسْتَهْلَكينَ كاليَهود؟
الذينَ يُسْحَقونَ مِنْ قِبَلِ مُطارِديهِم، حيثُ يَنْهارُ الانْدِفاعُ
الطَّويلُ
في غُبارِ ايبيسيس(3) الأبيَض الذي يَصْرُخُ
وَهْوَ يَدورُ مُنْذُ فَجْرِ الحَضارات
مِنَ النَّهْرِِ الظامِئِ أو السَّهْلِ
المُوْحِشِ – الصّاخِب.
يُقْرَاُ عنْفُ الوَحْشِ على الوَحْشِ
كَقانونٍ طَبيعِيٍّ، لكِنَّ الرَّجُلَ المُسْتَقيمَ
يَسْعى إلى ألوهِيَّتِهِ عَنْ طَريقِ إلْحاقِ الألَم.
ديليريوس ( المصاب بالهذيان ) مِثْلُ
هذِهِ الوحوشِ القَلِقَةِ، حروبُهُ
رَقَصاتٌ للذَّبِيحَةِ المَشْدودَةِ مِنْ طَبْلٍ،
فَبَيْنَما يَدَّعي الشَّجاعَةَ لا يَزالُ يَشْعُرُ بالرَّهْبَةِ الفِطْرِيّةِ
مِنَ السَّلامِ الأبْيَضِ الذي
عَقَدَهُ مَعَ القَتْلى.
مَرَّةً أخْرى تَمْسَحُ الضَّرورَةُ المُتَوَحِّشَةُ يَدَيْها
بِمِنْديلِ القَضِيَّةِ القَذِرَةِ، مرةً أخرى
تَضيعُ مِنّا الرَّحْمَةُ، كما هوَ الحالُ مَعَ إسبانيا
حينَ يَتصارَعُ الغوريلا مع السوبَرمان.
أنا مَنْ تَسَمَّمَ بِدَمِهِما مَعاً،
إلى أيْنَ سأسْتَدير، بهذا الوَريدِ المُنْقَسِمِ
على ذاتِه؟
أن الذي لَعَنَ
ضابِطَ الحُكْمِ البريطانِيِّ المَخْمورِ،
كَيْفَ أختارُ
بيَنَ إفريقيا هذِهِ واللسانِ الذي أُحِب؟
هَلْ أخونُهُما معا، أمْ أعيدُ ما قَدّماهُ لي؟
كَيْفَ يُمْكِنُني مواجَهَةَ مِثْلِ
هذهِ المَذْبَحَة وأكونُ هادِئاً بارِدا؟
كيفَ يُمْكِنُني أن أعودَ
مِنْ إفريقيا وأبقى حيّاً؟
( 1 ) الخفاف هو الحجر الإسفنجي.
( 2 ) كيكويو: أكبر مجموعة عرقية في إفريقيا
( 3 ) ايبيسس : طائرٌ كبيرٌ يَخوضُ في المِياِه ذو مِنْقارٍ مُنْحَنٍ طويلٍ، ورقبةٍ طويلة، وساقينِ طويلتين.
بعد العاصفة
هُناكَ العَديدُ مِنَ الجُزُر!
الجُزُرُ العَديدَةُ مِثْلُ النُّجومِ في الليلِ
على تِلْكَ الشَّجَرَةِ المُتَفَرِّعَةِ التي تَهْتَزُّ مِنها الشُّهُبُ
وَتَتَساقَطُ كالفاكِهَةِ حَوْلَ طَيَرانِ
القارِبِ الشِّراعِي.
لكِنْ يَجِبُ على الأشْياءِ أنْ تَسْقُطَ، كما كانَتْ تَفَْعَلُ دائماً،
فينوس مِنْ جِهَةٍ، والمَرّيخُ مِنْ جِهَةٍ أخرى
السُّقوط، كُلُّهُ واحدٌ، تَماماً مِثلُ هذِهِ الأرْضِ التي هِيَ جَزيرَةٌ واحِدَةٌ
في أرْخَبيلِ النُّجوم.
البَحْرُ كانَ أوَّلَ صّديقٍ لي
والآنَ هُوَ آخِرُ صَديق.
أتَوَقَّفُ عَنْ الحَديثِ الآن.
أعْمَلُ، ثُمَّ أقْرَاُ،
جالِساً تَحْتَ فانوسٍ مُعَلَّقٍ بالصّاري.
أحاوِلُ أنْ أنْسى ماذا كانَتْ السَّعادة،
وحينَ لا يَنْفَعُ ذلكَ، أقومُ بِدِراسَةِ النُّجوم.
أحْياناً تَكونُ مِثْلي، وأحْياناً تَتَحَوَّلُ اللينة
المَقْصوصَةُ
حينَ يَسْتَحيلُ سَطْحُ السَّفينَةِ إلى أبْيَضَ وَيَفْتَحُ القَمَرُ
السَّحابَةَ مِثْلَ بابٍ، والضوءُ الذي فَوْقي
يَكونُ طَريقا في ضوءِ القَمَرِ الأبْيَضِ يأخُذُني إلى البَيْت.
لَقَدْ غَنَّتْ لكَ الشابين ( 4 ) من أعْماقِ البَحْر.
( 4 ) الشابين: إمرأة ذات بشرة وضاءة ناعمة ناتجة من اختلاط العرقين الأسود والأبيض، وتستخدم أساسا في منطقة الكاريبي.
حب في حب
سيأتي وقتْ
تستقبلُ ذاتكَ فيهِ بفرحٍ غامرْ
عند البابِ
على مِرآتِكْ
يرحبُ كلٌّ منكمْ مبتسماً بلقاءِ الآخرْ
وتقولُ لذاتِكْ:
-إجلسْ، كُلْ
ستعودُ لحبِّ غريبٍ كُنْتَهْ
ستقدمُ كأسَ نبيذٍ
خُبْزاً له.
وتعيدُ فؤادَكَ
أيْضاً لهْ
غريبٌ ظلَّ يحبكَ
طولَ حَياتِكْ
غريبٌ جلَّلَهُ النسيانُ ولكنْ
يحفظُ عنكَ جَميعَ صفاتِكْ
التقطْ الآن رسائلَ حبِّكْ
منْ فوقِ رفوفِ خزائِنِ كتبِكْ
صوراً، تّذكاراتٍ جِدُّ حَزينَةْ
قشِّرْ صورتَكَ الأخرى عَنْ وجهِ المرآة
واجلسْ مُحتَفِياً بِحياةْ
شبهُ حياتِكْ
قصبَ السكّرِ قصبَ البحرْ
نصفُ رفاقي ماتوا
قالتْ لي الأرض:
سأخلقُ لكْ
رفاقاً جدداً
صحتُ: لا، أعيدي كلَّ رفاقِ الأمسِ إليْ
كلِّ رفاقِ الأمسِ جميعاً
وبِكاملِ جلِّ خطاياهمْ
يمكنني أن أسمعَ هذي الليلةَ صوتَ رفاقي
يتَسَلّلُ نَحوي منْ أمواجِ البحرْ
أمواجُ تكسرها أعوادُ القصبِ
وامضي وحدي الآن
في صفحاتِ محيطِ نورها القمرُ السهرانْ
عيد العنصرة
غابةٌ على الرأسِ أفضلُ
منْ اسمنتٍ بلا جذورٍ.
الأفضلُ أنْ تقفَ مرتبكاً
قربَ شارعِ اليراعاتِ الملتوي
مصابيحُ الشتاءِ لا تكشفُ لكَ
أينَ ضاعَ رصيفُ الشارعِ،
ولا تستطيعُ ألْسِنُة الثلجِ
أن تتحدثَ للأشباحِ المقدسةِ
صمتُ الكلماتِ المتزايدِ
ذاتياً، سقطَ منْ رفوفِ
الملاحظاتِ على طولِ السورِ الحديديِّ،
إتجاهٌ، بلا سقفٍ.
لكنَّ الأفضلَ هوَ هذا البحثُ الليليُّ
معَ كتبِ الرملِ المقدسةِ البطيئةِ
التي لا ترسلُ، ليسَ تماماً، سرايُ السلطانِ
وإنما نهمٌ متأخرٌ،
يُلاشي اندفاعةَ الصرخةِ
عبرَ المياهِ الضحلةِ المتفسفرةِ
أنَّ ما كانَ في طفولتي إنجيلاً
تعودْنا أن نسميهِ الروحَ.
ترجمة وإعداد: محمد الظاهر *