تتوارد على المشهد الإبداعي نصوص تدعي الوعي بالحساسية الجديدة, متشوقة – بحسن نية ربما – الى تقديم لا الجديد، وتجد- للأسف – تلك النصوص طريقها الى النشر, مشكلة أكواما من الأوراق والأحبار، ذلك أن الحداثة بثوريتها وتحطيمها لكثير من الأعراف السائدة تظل عسيرة الفهم, فالحداثة كما يرى محمد فكري "… لا تبدو أكثر من إيماضة وعي باهرة أضاءت كل الأشياء فإذا كل تصوراتنا عنها مطروحة للمساءلة من جديد، حالة ذهنية هي، إشكالية باسئلتها، مستقبلية برؤيتها" (3/ 459), من هنا يصبح فارق التمييز بين البدعة والإبداع دقيقا جدا.
نستحضر في هذا المشهد القاتم تجربة نعدها مميزة في أطروحاتها ومبانيها, تترنم كثيرا عن هرطقات الأدعياء،ونقصد هنا تجربة طالب المعمري في ديوانه "من يأمن اليابسة…"، هذا العنوان الآسر بأحكامه يكشف بدقة عن الهم المسيطر على الشاعر؛ والموجه لرؤيته الحياتية, وهو عنوان يثير لدينا ما يسميه (هانزروبرت ياوس( Ja, uss بـ " افق التلقي" حيث على القاريء أن يكون صورة ما من خلال عنوان العمل واسم الشاعر؛ بشكل مسبق قبل أن يخوض في تخوم النص الشعري.
واسم الشاعر يجعلنا نستحضر مثابرة طالب المعمري وزملاته من الشعراء الشباب العمانيين والخليجيين على تأسيس اتجاه حداثي أدبي، يحاول مجاوزة النماذج المستقرة لآكثر من (17) قرنا, وإذا كانت الصحوة الخليجية ترتبط ارتباطا وثيقا بظهور النفط الذي تعزز إنتاجه خلال السبعينات فقط, أمكننا المراهنة على جدة ما يصبو اليه هؤلاء الشعراء الشباب, وربما الى هذا يعزى وضوح نبرة شكواهم من المجتمع واحساسهم بالاغتراب, وسط بادية تعج بالجسور والمدن الجديدة:
مضيت أرقب
انكسارات الجسور والطرقات
وقامات الأحياء والمدن الجديدة
انعكاس لوجس الوليمة الشقراء
في نعش الاستمرار ( 1/ 12)
وفي إطار "أفق الكتي" ذاته تثور أفكار أخرى تتصل هذه المرة بعنوان الديوان "من يامن اليابسة…"، ويتضمن تركيب العنوان إحالات الى نظائر نصية تذكر ولو من بعيد:
أ- قول أبي نواس:
لا أحب البحر إني أخشي من المعا طب
هو طين وأنا ماء والطين في الماء ذائب
ب – قول الأخطل الصغير:
فجاوبتني ودمع العين يسبقها
من يركمب البحر لا يخشى من الغرق
يتصل النص الأول بما عرف لدى أبي نواس من روح عبثية تتلفت اليها الآن الدراسات الحديثة ؛ لاسيما في نصوصه المحرمة, وعنده أن البحر هو الأنثى التي يصدف عن مضاجعتها الى البر/ الغلمان, لما يشعر به من استقرار وصلابة, فهل يحمل عنوان الديوان بعدا عبثيا وجوديا يستغل نصوصا تراثية؟
بينما استدعينا النظير النصي الثاني لمشاكلات تركيبية بين "من يامن اليابسة " و (من يركب البحر)، هذا على اعتبار أن (من ) هنا موصولية بمعنى الذي، ثم يأتي الفعل: (يأمن /يركب ) وبعده المفعول به: ( اليابسة / البحر)، فالتشاكل التركيبي هنا بالإضافة الى أن المفعولين وان كانا اسمين متضادين الا أن ظلالهما تكاد تكون مشتركة في الإيحاء بعدم الوثوق والاطمئنان الى البحر واليابسة معا.
وإذا كنا نشير الى تلك النظائر النصية لا يمكننا الذهاب أبعد من ذلك حتى لا نحمل النصوص أكثر مما تحتمل, وتبدو الحاجة الى دراسة مدى اتصال هذا الديوان بتراثه الشعري أو انقطاعه عنه, مما يطلعنا على علاقة النصوص الحديثة بالنصوص السابقة عليها, وأشكال توظيف اللاحق لانتاج السابق, فلا يلزم في النص الحديث أن ينقطع عن التراث, بل في بعض الأحيان يكون منطلقا منه ومتواصلا معه ومؤسسا عليه, فيعيد توظيفه وفق رؤاه الجديدة واشكالياته الآنية.
ويشكل عنوان أي عمل أدبي عنصرا مهما من عناصر ذلك العمل, فهو يعطي للذهن إشارة مسبقة كيما يتجه اتجاها مقصودا, لذا "يعتبر العنوان سلطة النص وواجهته الاعلامية, تمارس على الملقي إكراها أدبيا" (2/83) كما يسهم العنوان في فهم النص فهما متكاملا، وجاء اختيار المعمري عنوان ديوانه موفقا الى أبعد حد، حيث يكشف عما يشعر به المبدع من يباس ومرات, كما يترك البياض على سطر العنوان مدلولات محددة تتصل بمحاولة الشاعر إشراك قارئه في لذة استبطان النص.
تبدو أيام الشاعر بل ولحظاته مغلفة باليباس والضجر، يحاصرانه في كل مكان من أول اليوم, الذي يدرك – بحدس مسبق- أنه بداية الفجيعة, ولعل استعرض عناوين بعض القصائد يكشف لنا عن ذلك الضجر، فهناك وبشكل مباشر نقرأ: "أسنان الضجر، خطوة غير محسوبة, ذخيرة البارود والملح, ريح عابرة, طلقة الحياة, مسمار، كالذي يصطاد سمكة, غبار الأمكنة, قراءة خاسرة, يوم ما عمر كله, من يامن اليابسة ".
وتنم تلك العناوين عن سطوة المعتاد والمكرر والثقيل في حياة الشاعر اليومية, فاليابسة تحاصره دون أن يجد متنفسه في البحر:
ليس لنا منفذ
علوي
إلا البحر وأسماكه الهاربة
في صنارة المغامرين (1/36)
وحتى عندما تحمل عناوين بعض القصائد مدلولات إيجابية عن "العام الجديد» نكتشف أن ذلك ليس الا مهادنة مؤقتة, أو اغراقا في الشعور باستمرارية الانكسار وتسمية الأشياء – تهكما – بغير مسمياتها:
وحيث إن الأمور هكذا
أريد لها
يكشف ان الزجاج فجيعة
القلوب النابتة في الهواء ( 1/ 12)
إن القضايا التي تثيرها قراءة هذا الديوان كثيرة ومتعددة, فهل نقف عند عامل الطفولة الذي استوحى المعمري كثيرا من صوره, أم نقف عند لغة الشاعر بما تكشفه الفاظها من طموحاته نحو المجاوزة, ونشير هنا الى شيوع لفظة (خطوة ) في أكثر من
( 15) موضعا:
لماذا كان علينا أن نضع مستقبلنا
في خطوة
ثمة أماكن
وطثتها أقدام رحالة
لكنها بكر
وحدة السراب
رمز قامي
المبكرة
في قضم السنوات ( 1/30)
إن الخطوة التي عول المعمري عليها كثيرا كانت لا تصل الا الى السراب في أكثر محاولاته, كما تقودنا لغة الشاعر الى نصوص أخرى دينية وشعرية, فنجد أصداء الصورة القرآنية: «يوم تبيض وجوه " في مطلع قصيدة "زمن الفواتير":
تبيض الوجوه
على الفواتير
المسجاة على طاولة ( 1/ 23)
وفي الآية القرآنية ما يصف أهوال القيامة, وهو المعنى عينه – شدة الهول. الذي أراده الشاعر، ليصور عذابات لا تفارق مخيلته, ساعات وقوفه لدفع الفواتير، إنها ساعات لا تقل أهوالها عن يوم القيامة, والشاعر بهذا الاستخدام للألفاظ القرانية يستغل ثقافة قارئه لتتميم الصورة التي يرسمها.
وثمة نصوص شعرية تحضر حضورا خفيا تحاول الانفلات من مراقبة المتلقي, غير أننا لا نستطيع إغفال التناص التركيبي لدى المعمري بما يشاكله لدى زميله سيف الرحبي, ونعني تحديدا ولع الأول باستخدام أسلوب القصر:
ما من خطوة
نبت في عشقها الاصرار
للخروج من بيت الطاعة
ما من فكرة رصينة
فكت أزرارها
مثل ورقة
نبتت في رأسي
إلا ورد الى منفاي الأبدي)1/20)
وقد تكرر ذلك في موضع آخر( ص25 ( مما يذكرنا
بالمقطع التالي للرحبي:
ما من امرأة أحببناها
إلا وسقنا إليها الاعداء
ما من بلد قصدنا
إلا وهد أركانه الحريق…
كما تسهم ألفة بعض المفردات مما استخدمه الشاعر في استحضار زخم ما يجري في أماكن اقتربت منها الباصرة الشعرية:
فالصراخ وطلبات
الاحتساء
تسترجل حضورها
قبيل "اللاست أوردور"..
… وهولندا
بنهرها "الامستل"
وأنهار المعلبة
بألوان الطيف
تهوي كسا طور
على رؤوسهم (1/69,68)
فالألفاظ الأجنبية (اللاست أور در، الأمستل ) تشير الى انشغال الشاعر الحديث بالمهمش والعادي، واستخراج القيمة الشعرية الكامنة فيه, من هنا تعد "ألفة الترا كيب في انحيازها للا نجاز الاجتماعي للغة خروجا واضحا على تاريخ الشعرية العربية, وقطيعة مع هذا التاريخ, مؤسسة على موقف جمالي يرى أن التصنيف التقييمي للجميل والقبيح أو الشعري والعادي لم يكن أكثر من رؤية أيديولوجية خاصة بتكريس السلطة السائدة وخطابها وتهميش الفعل الاجتماعي حتى على مستوى الانجاز اللغوي". (3/ 181)
هكذا بدا لنا ديوان "من يامن اليابسة…" لطالب المعمري في رؤيته المنسجمة, ولغته المكثفة, وتواصله مع المنجز الشعري: قديمه وحديثه, وقفنا وقفات قصيرة مع بعض قضاياه, وتركنا ما لم تسعفنا الفرصة بمعالجته, وان نغفل شيئا لا نغفل تحية الشاعر على ما خط وأبدع.
الاحالات:.
1- طالب المعمري, من يامن اليابسة…، دار الجديد، بيروت-1996م.
2- شعيب خليفي, النص الموازي للرواية: استراتيجية العنوان, مجلة الكومل ع 46، قبرص – 1992 م.
3- محمد فكري الجزار, لسانيات الاختلاف, الهيئة العامة لقصورالثقافة, القاهرة – 1995م.