إذا كانت السيرُ الذاتية تعرِّفنا على أعمالِ الشخصيةِ، ورداتِ فعلها تجاهَ المناخِ العامِّ للعصرِ الذي عاشت فيهِ تلك الشخصيةُ، أو على السطحِ والأديمِ والجلدِ والثيابِ التي كانَ عليها عصرُ تلكَ السيرةِ الذاتيةِ، فإن الشعرَ يُعرِّفُنا على مناطقَ لا يستطيعُ غيرهُ أن يُعرِّفنا بها، للشعرِ ضياءٌ أعمقُ لأنهُ يكشفُ عن القلبِ مجردًا، وفيهِ نتعرفُ التوقَ والرغبةَ والجاذبيةَ التي انجذب يخفقُ لها، والتي أثَّرتْ بالتالي في كافةِ الجوارحِ والحواسِّ والأفعالِ والأقوالِ، فلو أنّنا تتبعنا أطرافَ الأفعالِ وظاهرَ الأقوالِ لتُهنا كثيرًا ربما حتى نصلَ إلى البحيرةِ القلبيةِ الصافيةِ التي تنبعُ منها القصائدُ والأشعار.
وإذا كانَ الشيخُ جاعد لم يضعْ تأليفًا شاملًا أو كتابًا جامعًا يبثُّ فيه آراءهُ وفلسفتهُ ويضعَ حكمتهُ، فإن شعرَه هو مُجمَّعُ عواطفهِ ومشاعرهِ وأفكاره الروحية والقلبية، وكلُّ تراثِ الشيخِ كما يتبينُ لنا من عناوينهِ هوَ إما عن كتبٍ في مسائلَ محددةِ المواضيعِ والحدودِ سلفًا، أو رسائلَ نصحٍ ودعوةٍ، أو جواباتٍ فقهيةٍ، وهكذا نستطيعُ القولَ بأنه وضعَ جماعَ فلسفتهِ وفكرهِ وحكمتهِ في شعرهِ، ففي شعرهِ تنهضُ أصفى أفكارهِ وفلسفتهِ وحكمتهِ ونصحهِ وآرائهِ ونظرتهِ للحياة.
إن الشيخ على قدرتهِ الشعريةِ الفائقةِ التي يشهدُ بها سَبكُهُ الشعريُّ، لم يَسلُكْ المسلكَ الذي شاع عندَ غيرهِ من العلماءِ والفقهاءِ الذين سعوا حثيثًا لاستخدامِ مقدرتهم اللغويةِ والوزنيةِ الإيقاعيةِ في النظمِ التعليميِّ، محولينَ الآراءَ الفقهيةَ والعلومَ الدينيةَ إلى منظوماتٍ شعريةٍ، فليسَ في شعرِ الشيخ جاعد أيةُ محاولةٍ لذلكَ، عدا ما جاء في الجوابات والأسئلة الفقهية، رغمَ أن شعرهُ لا يخلو تمامًا من لمسةِ تأثيرِ الجانبِ العلميِّ والفقهيِّ فيهِ، لكن في أقلِّ درجةٍ يمكنُ ملاحظتها، أما قصائدهُ الصوفيةُ كحياةِ المهجِ، والتي شرحها بنفسهِ فيما بعدُ، وذلك يدل على عناية وتصميم، فإنما كانَ يتبعُ بها مسارَ أحبابِ اللهِ ومنهجًا صوفيًا سبقهُ إليهِ صوفيونَ كبار كابنِ الفارض، والذي جارى إحدى قصائدهِ كما أشرنا لذلكَ في موضعهِ من الديوان، ولعلَّهُ نظرَ في شرحهِ إلى المحيطِ العمانيِّ من حولهِ وانعدامِ من ينهضُ بذلك غيرَهُ، وهو يعلمُ أنه يَشقُّ طريقًا لم يَشُقَّهُ أحدٌ قبلهُ في عمان، والقولُ الشعريِّ للصوفيةِ منهجٌ قديمٌ متبعٌ منذُ نشأةِ الصوفيةِ كأشعارِ رابعة العدوية والحلاجِ وأبي يزيدَ البسطامي وغيرهم، وهو ما سنتطرقُ إليهِ لكن بعدَ أن ننهي القولَ في الشعرِ غير الإلهيِّ، إذا صحت التسمية.
الشعر الآخر:
إذا تناولنا أولًا جانبَ الشعرِ الآخر خارج المحبةِ الإلهية، كي نتفرغَ للقولِ في شعرِ الشيخِ الإلهيِّ، فإننا سنتعرفُ على شعرِ مناسبةٍ قيلَ إما للجوابِ أو للردِّ أو لاستنهاضِ الهممِ، كما في القصيدةِ التي ألفها بالاشتراك مع الشاعر سعيد الغشري، وهي قصيدةُ أئمة بني خروص، وقد أشرنا في التحقيقِ إلى الغايةِ المأمولةِ من تلك القصيدةِ والتي تؤكدها الأبياتُ، وهي كما ذكرنا هناكَ لجمعِ الجماعةِ الواحدةِ نحو هدفٍ سامٍ ورفيع، وليس الدافعُ فخرًا كما قد يتبادر للأذهان التي تعودت على كثرةِ الفخرِ في الشعرِ العربي، وإنما الدافعُ هو تصويبُ المسارِ وتحديدُ الأهدافِ الساميةِ والتذكيرُ بالتضحياتِ التي قدمتها الجماعة، في عصرٍ كان يموجُ بالاضطرابِ، والجماعةُ المقصودة ليست في كل حالٍ من الأحوال جماعةً هامشيةً أو مجهولةً، بل الحديثُ عن قبيلةِ بني خروص، وهي قبيلةٌ مركزيةٌ طوالَ التاريخِ العمانيِّ خرجَ منها أئمةٌ عظامٌ وعلماء، وثبتَ ذلكَ حتى بعدَ حياةِ الشاعرينِ، وإلى عصرنا هذا الذي اشتهرت فيه شخصياتٌ من هذا البيت نفسه، كالشاعر الراحل عبدالله بن علي الخليلي، والشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة اليوم.
أما باقي قصائدِ المناسبات فهي إما ردٌّ على سؤالٍ فقهيٍّ أو سؤال، أو لغزٍ كانَ الشيخُ في رَدِّهِ عليهِ حازمًا في الترَفُّعِ عن العبثِ الذي لا طائلَ وراءهُ، وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى قصيدتهِ في الرثاءِ فلم تُسجل للشيخِ غيرها، وهي قصيدةُ رثاءٍ قالها في صديقه الشاعر الغشري، والذي لم تذكرِ المصادرُ تاريخَ وفاتهِ بالضبطِ، لكن بالتقريبِ تكون وفاتهُ إما في نهايةِ عهدِ الإمام أحمد بن سعيد، لأنَّهُ وجهَ قصيدةً إليهِ كما ذكرتِ المصادرُ، أو بدايةَ عهدِ ابنهِ الإمام سعيد بن أحمد، وبالتأكيد قبل وفاةِ الشيخ جاعد بن خميس، ولا ذكرَ لهُ في حادثة فتنة نزوى، فلعله توفي قبلها. ورثاءُ الشيخ الوحيد لهُ يدلُّ على المكانةِ التي في قلبهِ للغشري الشاعر الذي لم يكن مجردَ صديق خاص، بل هو صديقُ للعائلةِ كلها، وينبئُ ديوان الغشري بتلك العلاقةِ المميزةِ بين الغشريِّ وبين أفرادِ عائلةِ الشيخ جاعد، وهذه القصيدة الرثائية اليتيمة وإن كانت قصيدة رثاء لكن الشيخ جعلها قصيدةَ وعظٍ وتذكيرٍ بالموتِ وفعلهِ، وبانعدامِ قيمةِ الحياةِ الدنيا، لكنه مدحَ فيها الغشري بقوله:
وَأَبو سَعيدِ النَّدبُ ابنُ مُحمَّدٍ
أَلَا هوَ مِن آلِ الخَروصِيِّ عُسْلُوجُ
صَبِيحٌ فَصِيحٌ بالشَّرِيعَةِ مُوْلَعٌ
بَهِيٌّ زَكِيٌّ بِالنَّصِيْحَةِ مَبْهُوجُ
أدِيبٌ لَبِيبٌ عَاقِلٌ مُتأدِبٌ
وعَن دأبِهِ بابُ المَعَابِ فَمَرتوجُ
كَأَنْ لَم يَكُن فِي أَمسِهِ بَعدَ رَمْسِهِ
تَغَيَّبَهُ ضَرْحٌ مِنَ الأَرْضِ مَضْرُوجُ
مُصِيبَتُهُ أصْمَتْ نفُوسَ أُولِي الحِجَى
وَفُقْدَانُهُ كَلْمٌ بِهِ القَلبُ مَلعُوجُ
أَلَا كُلُّ حَيٍّ غَيرَ ذِي العَرْشِ مَيِّتٌ
وعَنْ عَالَمِ الأدْنَى فلا بُدَّ مَزْعُوجُ
وفي موضعٍ من مخطوطةِ (قلائد المرجان) يشيرُ الشيخ خميس بن جاعد إلى اطلاعهِ على دفترٍ من الأسئلةِ والجواباتِ بين الشاعرين لكنه فقدهُ فضاعَ واختفى، ونشيرُ إلى ذلك نحن هُنا لنؤكدَ على تلكَ الصداقةِ والعلاقةِ الوثيقةِ التي ربطت بين الشاعرين والرجلين.
من القصائدِ غير الإلهية أيضًا قصائد الشيخ في علم الكيمياء وعلم الرمل، وفي ظننا أنها قيلت في بدايات قوله الشعر، قبل توجههِ الصوفي الصريح، يشي بذلك أسلوبهُ المختلفُ والموازينُ العروضيةُ التي اختارها للتعبيرِ عن إيقاعهِ الروحيِّ، والذي يتسمُ فيها عمومًا بتوترٍ وتحفزٍ واتخاذِ حالةٍ دفاعيةٍ ضدَّ هجومٍ ما، أو استخدامِ القوةِ اللغويةِ المفرطةِ في غيرِ انسجامٍ وتدفقٍ انسيابيٍّ كما نجدهُ في القصائدِ الإلهيةِ، لذلكَ نظنُّ أن مرحلةَ تلكَ الأشعارِ في علمِ الكيمياء والرملِ، والتي بالمناسبةِ كان مصدرَ أغلبها الشيخ ناصر بن جاعد كما أشارَ لذلك الشيخ خميس في تقديمهِ لها، وقد أشرنا لذلكَ في مكانهِ، فيبدو لنا أنها مرحلةٌ سابقةٌ ومتقدمةٌ على مرحلة القصائدِ الإلهيةِ كحياةِ الأرواحِ وحياةِ المهجِ، وأنَّ القصائدَ الإلهية هي البحرُ الذي حينَ وصلهُ الشيخُ لم يلتفت لغيرهِ، كما قال هو في إحدى قصائده الإلهية: دَعْ غَيرَهُ فَالغَيرُ عَفسٌ ضَيِّقٌ والجَهلُ فِيهِ لَدَى الجَهالَةِ حَابسُ. ولا نظنُّ الشيخَ بعد أن بلغَ مصدرَ الأنوارِ ومُبدِعَها سوفَ يلتفتُ لما سواه.
نقول ذلك مع أنَّ بعضَ المروياتِ، كما في رواية الشيخ ناصر بن جاعد، عن أحداثِ فتنةِ نزوى وما تلاها تشيرُ إلى اشتغالِ أبيهِ بعلمِ السرِّ، كما يُسمَّى، لكن ذلك لا يعني بالضرورة علم الرمل أو علم الكيمياء أو الخيميا بل قد يشير إلى هذا الاتصالِ الربانيِّ نفسه، وهو ما يتضحُ لاحقًا في كتابِ أحدِ طلبةِ الشيخ ناصر، وهو الشيخ سعيد الخليلي في كتابهِ النواميس الرحمانية، فالاعتمادُ الأكبرُ فيه على الأذكارِ وأسماءِ اللهِ لا على غيرهِ من العلومِ المنتسبةِ إلى علم السر، وفي تلك المروياتِ التي رواها الشيخ ناصر يتضحُ جليًا ذلكَ الإعزازُ الذي يُكنهُ الابنُ لأبيهِ، والذي صارَ اعتقادًا جازمًا بتلك القدرةِ الربانيةِ التي كانت تتجلى في أبيهِ الشيخ، وفي تلكَ المروياتِ يجبُ أن لا نُغفلَ عمر الشيخ ناصر وحالته يوم كتبها، وكذلك جانبَ التقديرِ العظيمِ الذي يُكنه الشيخُ ناصر لأبيهِ كأبٍّ ولشيخهِ كمعلمٍ عظيم، وهو ما تنبئُ به قصيدتهُ التي رثى بها أباه، والواردة في مخطوط (قلائد المرجان). الذي نتمنى أن يجد بدورهِ من يتصدى لتحقيقهِ وطباعته.
من القصائدِ الجديرةِ بالذكرِ والإشارةِ والتنويهِ والتقديرِ (قصائد السنور)، فمن النادرِ أن عثرنا من قبلُ في قراءاتنا للشعرِ العمانيِّ على قصائدَ لشاعرٍ قالها في حيوانٍ أليفٍ، خارجَ ما حدَّدهُ سَلَفًا الشعرُ الجاهليُّ من ذكرِ فرسِ الرجلِ أو حصانهِ أو راحلتهِ أو ناقتهِ، ولو كان الشاعرُ قال قصيدةً خارج تلك الأطر فإن العادةَ أن لا يُثبتها في ديوانهِ، هذا بالنسبةِ للشعراء فكيفَ بالعلماء؟ والشيخُ عالمٌ وشاعرٌ وصوفيٌّ كبير نجدهُ يلتفتُ إلى السنور، بل ولا يكتفي بأن يقولَ فيهِ بيتًا أو بيتين، بل نجد أكثرَ من قطعةٍ شعريةٍ في ذلك السنور واسمهُ شعفار:
شِعفَارُنَا غَابَ عَنَّا فِي سِيَاحَتِهِ يُقَطِّعُ اللَّيلَ بِالوَاوَاتِ تَسبِيحَا/ يَأتِيهِ طَرْدًَا وَعَكسًَا غَيرَ مُختَلِفٍ لَفظًَا وَمعنَىً ولكن ليسَ تَصرِيحَا/ وَرُبَمَا زَادَهُ رَاءً بِأوَّلِهِ إذَا أهَاجَ بِهِ هَمَّا وَتبْريحَا/ لَا زَالَ يَحمَدُ مَولَاهُ فَيَشْكُرَهُ مَا هَمَّهُ النَّاسُ تَعدِيلًَا وَتجْرِيحَا.
ويشاركه في تلك المقاطع ابنه نبهان ببيتٍ يتيم، ما يدلُّ على أنَّ تلكَ المقاطعَ كانت مشهورةً على الأقلِّ في بيتِ أبي نبهان، وللشيخ خميس الفضلُ في أنهُ لم يُهملها أو يطرحها، بل ضمَّها لديوانِ أبيهِ وشيخه، وهو الأمرُ الذي يعكسَ فكرًا فنيًا رفيعًا، وانتباهًا لا ينصاعُ لجهلِ الفكرِ الشعبيِّ التقليديِّ وثقافتهِ التي تجعلُ من الكائناتِ والحيواناتِ الضعيفةِ مادة للتندرِ والسخريةِ، لا شكَّ طبعًا أنَّ للقططِ والسنانيرِ تاريخًا أقدمَ في الفن والأدبِ الشرقيّ موغلًا في القدمِ يعودُ إلى عصرِ الفراعنة، ولا شكَّ أيضًا أنَّ في المروياتِ الشعبيةِ ربطًا بين القططِ والسحرِ خاصةً السوداءَ منها إلى يومنا هذا، لكن في قصائدِ السنور للشيخ سنجدُ تصويرًا فنيًا يجعلُ من السنور مسبِّحًا لله ودرويشًا يجوبُ الأمكنة، يفتقدُ غيابه مرةً ويذكرُ شكوى الدارِ من بعدهِ، ومرةً يحثهُ على قتالِ من يُقاتلهُ ومرةً يرثيه، وهذه القطعُ على حجمها الصغيرِ من النوادرِ التي تستحقُّ الإشارةَ، ليس لنُدرتها فقط، بل لأنها تعبِّرُ فعلًا عن تماهٍ مع الطبيعةِ وكائناتها واستنطاقٍ إنسانيٍّ واهتمامٍ باطنيٍّ ليسَ بالسنورِ وحدهُ لكن بالكائناتِ جميعها.
وقبل أن ننتقلَ للقصائدً الإلهية نودُّ أن نُشير إلى شخصيةِ شعر الشيخ، فشعرهُ يتميزُ دومًا بانتقاءٍ لغويٍّ لألفاظٍ يندرُ استخدامها في قواميسِ الشعراء، ولا يمكنُ الاقترابُ من شعرِ الشيخِ إلا بمعونةِ معجمٍ وكتابٍ لغويٍّ، وقد استغرقنَا كلَّ ما توفرَ لدينا من قواميسَ ومعاجم وتسهيلات الكترونية أحيانًا للوصولِ لمعنى كلمةٍ واحدة، وفي أحيان كثيرة لم نتمكن من الجزمِ بمعنى اللفظِ المراد، كما أشرنا لذلك في موضعه من التحقيق، لكننا نذكرُ ذلك هنا لنُدللَ على تلكَ المَلَكةِ اللغويةِ الفذَّةِ التي كانت تسبُكَ البيتَ بعدَ البيتِ بطابَعِها الشخصيِّ المتميِّز، حتى أصبحَ من السهلِ تمييزُ شعرِ الشيخِ لمن قرأهُ عن شعرِ غيرهِ بتلك الألفاظِ، والتي سنأتي لتفسيرِ دورِها في السامعِ في تَعرضنا للقصائدِ الصوفية، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى هذا الطابَعِ المميزِ لتلك اللغةِ والذي يُعطي شعرَ الشيخِ خصوصيةً وفرادة.
القصائد الإلهية:
إنَّ موضوعَ القصائدِ الإلهيةِ يُضفي أنوارهُ على القصائدِ نفسِها، ونحنُ لا نستطيعُ مهما حاولنا أن نقتربَ من منطقةٍ مضيئةٍ بهذا القَدرِ العظيمِ من الأنوارِ دون أن نتأثرَ نحنُ بدورنا ونغرقَ في ذهولٍ تامٍّ، مستسلمينَ لذلكَ التيارِ ذي الجلالِ، متنسمينَ شذى خمرتِه وكؤوسهِ وصحوِ سكرتهِ، منصاعينَ لداعي الهوى والفناءِ فيهِ، للاقترابِ من الذاتِ التي لا ذاتَ على الحقيقةِ إلا بإدرَاكِها.
رغمَ ذلك سنحاول أن نقرِّب هنا للقارئِ ما يمكنُ من تلك الأنوارِ التي تتدفقُ، والتي كانت أشعارُ الشيخِ مرآةً لها، وإنَّهُ لمقامٌ مَهيبٌ وموقفٌ عظيمٌ، وإذا كانت أشعارُ الصوفيةِ عمومًا تتميزُ بتلك الدفقةِ الساميةِ التي لا يُمكنُ العثورُ عليها في أي مكانٍ آخرَ إلا في الكتبِ المقدسةِ، فهي ككأسِ خمرةٍ إلهيةٍ لا تستطيعُ التمييزَ فيها بين جرعةِ السكرِ وجرعةِ الصحوِ وقطرةِ البقاءِ وقطرةِ الفناءِ، لكنَّ الشيخَ في شعرهِ الصوفيِّ ببصيرةٍ مباركةٍ استطاعَ أن يُميزَ تلكَ القطراتِ ويفصلَ بين تلكَ الجرعاتِ في وسطِ خِضَمِّ بحرٍ زاخرٍ بالأعاجيب.
إن شعرَ الشيخ مع التزامهِ بالمعجمِ الشعريِّ الصوفيِّ، المتفقِ عليهِ بين الصوفيةِ من قَبلهِ كالأعلامِ، يقودُ قارئَ شعرهِ بينَ أوديةِ الوجودِ بحنكة خبيرٍ في صعودِ الجبال، فهو يصعدُ صعودًا في كلِّ قصيدةٍ من قيعانِ الدنيا هذهِ وهاوياتها وأوديتها السحيقةِ وعالمِ الشهادةِ بأكملهِ حتى يصلَ إلى ذُرى عالَم الغيبِ والملكوتِ مع عشاقِ الله، فيروي لقارئهِ وكأنَّهُ يرويهِ من تجلِّي الحبيبِ، ذلكَ التجلي الذي يجعلُ العقلَ مندهشًا:
تَجَلَّى لَهُمْ وَجهُ الحَبِيبِ وَقَدْ جَلَا تَجَلِّيهِ مَجْلَى الكُلِّ فَانْدَهَشَ العَقْلُ
فإذا كانتِ الأشعارُ الصوفيةُ لغيرِ الشيخِ تذهبُ ذهابًا مغايرًا، تمتزجُ فيها العوالمُ المعروفةُ بعوالمِ الغيبِ ذائبةً في بحرِ الحبِّ، فإن العوالمَ في قصائدِ الشيخ جاعد مفصولةٌ فصلًا دقيقًا يُتيحُ للمريد معرفةَ الطريقِ بل ورؤيتَهُ عيانًا، كما لو أنها دليلٌ إرشاديٌّ في عالمٍ غرائبيٍّ غامضٍ، على من يَجهلهُ، فهي تصعدُ صعودًا عبرَ وصفٍ دقيقٍ للمراحلِ يصعدُ بالمتلقي، يحايثُ خطواتَ المريدِ نحو غايةِ المرادِ، ويَشعُّ عليهِ في الخيالِ نورٌ من تلكَ التجلياتِ النورانيةِ التي تسلبُ اللُّبِّ، ويكادُ يشمُّ بخيالهِ رائحةَ تلكَ الخمرةِ الإلهيةِ التي تتحدثُ عنها الأشعار، وتختفي ذرَّةٌ منهُ في الفناءِ في الله، وتثبُتُ ذرةٌ منهُ في البقاءِ في الله.
ولعلَّ الملمَحَ الأبرزَ في تلكَ القصائدِ هو لُغتها، كما أشرنا من قبل، وهي اللغةُ التي رغمَ فصاحتها إلا أنَّها منغلقةٌ دونَ عونِ المعاجمِ، لغةٌ تشهدُ مفرداتُها بسبكٍ دقيقٍ، مقصودٍ، ليس عَبثًا ولا ضربةَ صُدفة، بل كلُّ حرفٍ من حروفِ كلماتها موزونٌ بدقةٍ، كصَنعةِ صائغٍ في جواهرهِ، وهذه العنايةُ اللغويةُ ليست غريبةً عن كلامِ المتصوفينَ كما تُشير لذلك آنا ماري شيمل في كتابها «الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف»:
“إن بنيان اللغة العربية بمصادرها الثلاثية يعطي إمكانية بناء صيغٍ لا حصر لها على قواعد تكاد تكون ثابتة ثبات القواعد الرياضية، ومن الممكن تشبيهها بقطعة من الأرابيسك التي تتحول من نموذج هندسي بسيط إلى شكل نجمي متعدد الزوايا معقد التصميم، أو بصورة لوردة تنقلب إلى قطعة زخرفية رائعة في تشابكها، وإذا كان أسلوب الشاعر العربي والكاتب متأثرًا بميله إلى الاستمتاع بالإمكانيات المتعددة للغة فقد نرى كذلك ميلًا مماثلًا إلى التلاعب بالألفاظ في أقوال الصوفية، ولا يكتفي مؤلفو الأعمال الصوفية المكتوبة بالعربية أن يشتقوا من المصدر الواحد معانيَ مختلفة، بل يميلون إلى القوافي وإلى السجع، وقد انتقل هذا الميل إلى شعراء الصوفية الذين كتبوا بالفارسية والتركية واللغات الهندوباكستانية.”(2).
تلك هي اللغةُ التي يقوم عليها هنا هذا البيانُ الشعري، إيقافًا تنبيهيًا لسَيلِ السماعِ المعتاد، واستيقافًا لمرورِ المارِّينَ بالكلامِ أو الذينَ يمرُّ بهمُ الكلامُ، إنَّ اللغةَ وهيَ وعاءُ هذا الكشفِ تُصِرُّ على إيقافِ المتلقي برهةً أطولَ من العادةِ، إنها خرقٌ للعادة، كي يصل للمعنى، فإذا كانت عادةُ المتلقي والقارئِ والسامعِ للشعرِ عادةً اكتسبها بفعلِ قراءاتهِ السابقةِ فإنَّ هذا الشعرَ، والشعرُ والكلامُ الصوفيُّ عمومًا، يُصرُّ على إيقافِ العادةِ وحثِّها للفعلِ كي تصل المعنى، وإما ذاكَ أو الاستغلاقُ أمامها إذا أصَرَّت على عاداتها، لأنَّ مقامَ الكلامِ وموضوعَ الشعرِ عن مُفارقٍ للعادةِ، متجاوزٍ لعالمِ العاداتِ وعالمِ المعارفِ، هوَ مقامُ ذكرِ من يَعرفُ كلَّ شيءٍ ولا يعرفهُ شيءٌ من ليسَ كمثلهِ شيءٌ وهو مبدعُ كلِّ شيءٍ، ولذلكَ كانت اللغةُ تبثُّ العتباتِ اللفظيةِ وتنصبُ الأبوابَ المغلقةَ أوِ المواربةَ، ترجمةً عن الحضرةِ القدسية وعن موقفِ الحيرةِ ذاكَ لتبثَّ الحيرة والهيبةَ والجلالَ في متلقيها كذلك.
في هذه اللغة أمرٌ آخرُ كما تشيرُ إليه شيمل في موقع آخر من كتابها المذكور نقلا عن بولص نويا: إن الفقهاء والمتكلمين والمترجمين قد طوعوا اللغة العربية، ففتحوا لها بما تملك من ثراء وحسن رؤىً جديدة، وكذلك الصوفية ساهموا في هذا الأمر، فقد أشار بولص نويا الذي تحدث عن مغامرات الصوفيين اللغوية إلى أنه بفضل الصوفية قد ولدت في اللغة العربية لغة صادقة هي لغة الخبرة. ومن مؤلفات الصوفيين الأوائل لا يتضح ثراء التعبير فحسب، بل يظهر كذلك تعميق الأفكار الذي يزداد بعدًا برسوخ الخبرة، تلك الخبرة التي تفوق الوصف.3)
لغةُ الخبرةِ تَصدرُ من مَحلِّ خبرةِ التجربةِ الصوفيةِ ذاتها، لذلكَ يكونُ لكلماتها وقعٌ مغايرٌ في الأذنِ، إنها ليست لغةَ غرائزَ، بل لغةُ مشاعرَ مفارقةٍ للمشاعرِ الطبيعيةِ المتعارفِ عليها، لغةٌ مكتسبةٌ من الاتصالِ مع الحكيمِ مطلقِ الحكمةِ والعليمِ مطلقِ العلمِ والعارفِ مطلقِ المعرفةِ والخبيرِ مطلقِ الخبرةِ هو ذاته، ولذلك فهي تصدرُ من هناكَ وتحملُ من تلك الجيرةِ أثرًا واضحًا لا يُخطئهُ القلب.
إن العارفَ في اتصالهِ بربِّهِ وتفانيهِ فيهِ يذوبُ وجدًا وحبًا حتى يكونَ اللهُ قبلتهُ أينما توجهَ، وأبسطُ شروطِ المحبةِ أن يَطلبَ المحبُّ دومًا الاقتراب من الحبيبِ بأيِّ شكلٍ كانَ، وإذا كانَ الحبيبُ قد صنعَ عالمًا ظاهريًا مُلغزًا في جمالهِ من ذَرَّاتِ البساطةِ المتناهيةِ كما هو ظاهرٌ في فنِّ الطبيعةِ والكونِ، فإنَّ العارفَ كذلكَ في كلامهِ، وهو المتماهي مع الحبيب الذي جعلَ قلبَهُ مرآةً للتجلي الإلهيِّ، يصنعُ في كلامهِ انعكاسًا لجمالِ التجلي الإلهيِّ في الوجود، وصدىً لغويًا لذلك الفعلِ أيضًا، عبرَ طينِ الخلقِ الذي وهبهُ اللهُ وهوَ هذهِ اللغة، فهكذا يصنعُ من الكلامِ أعجوبتهُ، وإذا كانتِ الحياةُ الدنيا وهي بوابةُ الوجودِ للعودةِ إلى حضرتهِ تعالى مزينةً مرخرفةً فإنَّ كلامَ العارفين يتبعُ النَّسقَ نفسهُ، ويحاولُ محاكاةَ ذلك الإيقاعِ الإلهيِّ ذاته، فينعكس في لغته
حينَ أرادَ اللهُ أن يوحي إلى أنبيائه بالوحيِ فإنَّهُ اختارَ هذا الوعاءَ اللغوي نفسه، ليصُبَّ فيهِ من أنوارِ هدايته، وسرُّ الكلمةِ الباقي الذي تُجلُّهُ كلُّ الكتبِ المقدسةِ يجري بلا انقطاعٍ أيضًا في تجاربِ الصوفيةِ، فيبقى هذا الوعاءُ نفسهُ هو الوعاءُ الحافظُ لإيقاعِ أسمى تجاربهمُ الروحيةَ وأسمى تطلعاتهمُ القلبيةَ، وهو نفسهُ الوعاءُ اللغويُّ الحاملُ الأزليُّ للحكمةِ وناشرها الأول، مثلما في آيةِ تعليمِ آدمَ الأسماءَ كلها، وما الكلماتُ إلا أسماءُ الأشياءِ والأفعالِ، وتلك الكلماتُ هي نفسها حاملةُ تلكَ الحكمةِ والمعرفةِ الأزليةِ ومذيعتُها بين الناس، تحملُ القبساتَ النورانيةَ في طَيّاتها وتُشيعها لقلوبٍ عطشى وأرواحٍ مُحبةٍ تريدُ أن تخرجَ من أسرِ اللفظِ الشائكِ إلى أنهارِ المعنى وبحارهِ الفياضةِ التي لا تَنضب، قلوبٌ لا تنخدعُ بشكلياتِ المصائدِ المنصوبةِ للقلوبِ الضعيفةِ المترددةِ، بلغت مقامَ الحيرةِ في اللهِ فلم تَعُد تأبَهُ مقدارَ أنملةِ أو ذَرةٍ بأيِّ حيرةٍ سوى تلك الحيرة، من فيضِ ما شاهدتْ من جلالِ عظمتهِ، ما عادت تكترثُ لحجابِ الكلامِ لأنَّ قلبها في المعنى ما دامت متعلقةً بمعنى الوجودِ والعدمِ وخالقهما سبحانه.
إن اللغة المعجميةَ والألفاظَ الغريبة، وكلَّ تلكَ الحوافِّ الحادَّةِ التي تقابلُ القارئَ أو السامعَ والتي تجعلهُ يُبطئ من سُرعتهِ كي لا تَجرَحهُ، في ذلكَ البطءِ والإيقافِ تنشئُ التساؤل والحوارَ الذي يسعى العارفُ لإقامتهِ مع السامعِ والقارئ، إنها لغةُ التعبيرِ عن الفناءِ في صفاتِ الذاتِ العظيمةِ، وما يبدو أنهُ أعمالُ البديعِ والبلاغةِ اللغويةِ ليسَ إلا الوجهَ الظاهرَ، مثلما أنَّ اللهَ خلقَ الدنيا جميلةَ المظهرِ ليُدللَ بالظاهرِ على الجمالِ الباطنِ الذي نبعتْ منهُ، فمَن تعلقَ بالسطحِ تعلقَ بالدنيا وظواهرها ناسيًا أو متناسيًا باطنها المليءَ بالأسرارِ، فكذلكَ هذهِ القصائدُ مثلَ جنة الزخارفِ منقوشةٌ ومزخرفةٌ ومليئةٌ بالألاعيبِ اللغويةِ والمحسناتِ البديعيةِ والتناظرِ والتناسبِ والدوائرِ، لكنَّ كلَّ ذلكَ يغدو بلا معنىً إن لم يَكمُن وراءها هدفٌ أسمى، هدفٌ عظيمٌ وعالٍ يليقُ بالموقفِ الإلهيِّ وموقفِ العارفِ من الله، لذلكَ هي عتبةٌ وبوابةٌ، كلُّ قصيدةٍ كالأرضِ مزخرفةٌ ولكن من أجل باطنها العظيمِ وعينِ معانيها التي تنبعُ منها، وكلُّ القوةِ ليست في هذه الظواهرِ التي ليست إلا انعكاسًا، بل هيَ هناك في تلكَ الأعماقِ الزاخرةِ والينابيعِ المتفجرةِ. إنَّ العارفَ الذي يهيمُ عشقًا بربِّهِ حتى يصلَ عشقهُ حدَّ التماهي وتعظيمِ الصلةِ بين الإلهيِّ والبشريِّ، بل ومحوَ البشريِّ من أجلِ إثباتِ الإلهيِّ، يتماهى في أفعالهِ معَ مقصودهِ ومرادهِ فقصائدهُ مزخرفةٌ كجنة الزخارفِ لكن ليسَ من أجلِ تلكَ الجنة المزخرفةِ بل من أجلِ جنةِ المعارفِ المعرَّفة.
يعرضُ شعرُ الشيخ بشكلٍ جليٍّ منظومةً فكريةً متكاملةً وتامةً يتخذُ فيها الوصولَ إلى اللهِ هدفًا وتصوفَ استبطانِ الذاتِ وتطهيرها منهجًا، وفي تلكَ المنظومةِ الفكريةِ فإن القلوبَ مهيئةٌ للوصولِ بحكمِ فطرةِ الخلقِ الأولى: كُلُّ القُلُوبِ لَمُسْتَعِدٌ سِرُّهَا لِتَجلِّيَاتِ الحَقِّ وَهِيَ فَوارِسُ
كما جاء في قصيدة حياة الأرواح لكن تعوقها عيوبها:
لَكِنْ بِكُلَّ عُيُوبِها مِنهَا لَهَا فِيهَا حِجَابٌ مَانِعٌ مُتَكاوِسُ/ وَطَريقَةُ التَدْبِيرِ فِي تَنوِيرِها تَمْحِيْقُ مَا هُوَ نَاكِسٌ وَمُغَامِسُ/ وَدَقَايِقُ التَّدْقِيقِ فِي تَدقِيقِها مِنْ رِقِّ مَن هُوَ للعلومِ مُدَارِسُ.
إذًا فالعيوبُ تعوقَ القلوبَ عن تجاوزِ الحجبِ، وفي هذهِ الدنيا منَ الحجبِ الكثيرةِ ما يجعلُ إدراكَ الناسِ غريقًا فيما هم فيهِ من شغلٍ وأطماعٍ ورغباتٍ وخوفٍ فكأنهم جوعى لا شفاء لجوعهم ونهمهم: وَلَولا حِجَابُ الجَهلِ بالنَّاسِ ما نَووا ورَامُوا بِها الأطمَاعَ للرَّومِ جُوَّعُ.
والدنيا خادعةٌ مخادعةٌ كما يصفها الشيخ في أكثرِ من قصيدة، وهي تسعى لخداعِ المرءِ بألفِ وسيلةٍ ووسيلةٍ ومصيدتهُ في نفسهِ، فتعطيهِ ثم تسلبهُ ما أعطتهُ وفي عطائها تبهجهُ وفي سلبها تبكيهِ، والموتُ الذي يلازمُ الحياةَ أكبرُ فاضحٍ لها ولحقيقتها تلك، فلا شيءَ يدومُ معها، وهيَ والدهرُ لديهما من البلوى والمصائبِ ما يجعلُ العارفَ يَهجرُهُما، وتلكَ البلوى الدنيويةُ وهذه المصائبُ والفناءُ نفسهُ إنما هيَ كالحادي الذي يقودُ الإبلَ ويسوقُها إلى الموردِ الصافي للبقاءِ، للهوى وللحبِّ الذي لا يزولُ ولا يحولُ، لذلكَ لا بدَّ من الخروجِ من هذهِ الأكوانِ إلى ربَّ الأكوان: مَن لازمَ الأكوانَ لَم يُفتَحْ لَهُ سِرٌّ مِنَ الـمَلَكُوتِ إذْ هُوَ حَادِسُ.
إذًا فالطريق مُشرعٌ دَومًا والبواباتُ مفتوحةٌ ليُنقِّي ويطهرَ كلُّ إنسانٍ نفسهُ، فالوصولُ إلى اللهِ لا يمكنُ بمجردِ الأمنياتِ وإنما بتنقيةِ النفسِ وتجريدها:
والأصلُ تجريدُ الهوَى من نفسهِ وبنفسهِ تجريدها يا ناعِسُ/ هيهاتَ يَحصُلُ بالمُنى تحصِيلُهُ والنفسُ فيها للعناء مَغارِسُ.
إنَّهُ طريقُ اجتهادٍ ومعاناةٍ فليست النفسُ طوعًا لإرادةِ المرءِ بل هيَ أبدًا تريدُ تطويعَ إرادةِ المرءِ لهواها، ولذلك يَصفها الشيخُ بأشنعِ الصفاتِ ما دامت رَضيتْ أن تكونَ عائقًا عنِ الوصولِ للهِ وعونًا للشيطانِ والدنيا على الإنسان، وفي النفسِ سنلاحظ أنَّ الشيخَ في أشعارهِ يجعلُ من النفسِ والروحِ شيئًا واحدًا تقريبًا، كأنهما كذلك في الأصلِ، وانما تُفرقُ بينهما الأعمال، فالنفسُ هي المذمومةُ قبلَ التنقيةِ وهي نفسها مركبُ المرءِ بعدَ التطهيرِ، وهيَ النفسُ التي تُذم في انغماسها في لذَّاتها وشهواتِها هيَ نفسُها التي تجدُ لذتَها الحقيقةَ وهواهَا الحقيقَ بها بعدَ الصقلِ في الله، فليست النفسُ مذمومةً لذاتها وإنما لأفعالها وموقعها من الحجابِ، فإن كانت لا تزالُ محجوبةً لم تصل فهي محلُّ كلِّ الصفاتِ السيئة، وإن وصلت صارت أعجوبةَ الأعاجيبِ من حُسنها، وكأنها هي نفسها الروح، وإن كانَ الشيخُ أشارَ في أكثرِ من موضعٍ من شعرهِ إلى أنَّ الروحَ من علمِ الغيبِ الذي اختصَّ بهِ اللهُ، لكنَّ الله أيضًا يختصُّ بعلمهِ من يشاءُ من عبادهِ العارفين، وهكذا فإن تجلي النفسِ يرتقي بها إلى مقامِ الروح، أما هبوطُها في الجهلِ والظلماتِ فينزلُ بالروحِ إلى دَرَكِ النفسِ المظلمة.
إن طريقَ المريدِ والمحبِّ هو الهوى الإلهي، ذلك الهوى الذي من السهلِ ادعاؤهُ باللسانِ: هوَ الحُبُّ سَهلٌ فِي اللِّسَانِ إدِّعاؤُهُ عَلَى أنَّهُ حَزْنٌ وَليسَ بهِ سَهلُ، فليس الحبُّ مسألةَ لسانٍ بل أمرَ قلبٍ، وليسَ العشق طريقًا سهلًا على الإنسانِ يمكنهُ الحصولُ عليهِ بمجردِ ادعائهِ، وكلُّ محبوبٍ يريدُ التثبتَ من ادعاءِ من يُحبُّهُ، فكيفَ بهذا الحبيب؟ ألا إنَّ الطريقَ إلى الحبيبِ طريقٌ صعبٌ تنفضحُ فيه الدعاوي جميعها، فهو طريقٌ يفرزُ المدعينَ ويوقفهمُ عند مقاصدهمُ ويفضَحُها في أقوالِهم وأفعالهم وحالهم ومقامهم، فهذا طريقٌ لا يسعُ فيهِ ذكرُ أحدٍ سواه، فإنما مدارُ الطريقِ على التوحيدِ الخالصِ الخالصِ الذي يتعاوَرُ عن الوصولِ إليهِ كثيرون:
وَاشْرَبْ كُؤُوسًَا مِنَ التَّوحِيدِ صَافِيةً مَمزُوجَةً بِرَجَاءِ الوَاحِدِ الأزَلِ
إذًا هوَ التوحيدُ وطلبُ التوحيدِ في التوحيدِ: حَتَّى تَرَى الحَقَّ عَينَ الحقِّ مِنكَ وَلَا تقنَعْ بِدونِ الذي قَدْ قُلتُ يا أَمَلي، فبإخلاصِ التوحيدِ بعدَ تنقيةِ النفسِ وتطهيرها وتجليةِ القلبِ كي يليقَ بحلولِ النورِ فيهِ يصلُ المريدُ كي يرى الحقَّ عينَ الحقِّ من ذاتهِ، وفي ذلكَ الطريقِ يصلُ إلى المعرفةِ الحقيقيةِ بمن هو اللهُ على الحقيقةِ لا على الانعكاس:
تعرَّفوا الحَقَّ لمَّا الحَقُّ عَرَّفَهُم عُرفَ المَعَارِفِ والتَّعريفُ تعزِيزُ/ واستَنشَقُوا مِن خِتَامِ الحُبِّ رايِحَةً رَاحُوا بِها وجَمِيعُ الغَيرِ مَفلُوزُ/ فَأَشرَقَتْ مِن دَياجِي الجَهلِ أنفُسُهم نُورًَا بِهَا إذُ بِهِ الإيمَانُ مَغْرُوزُ.
ذلك هوَ الطريقُ الذي لا مكانَ فيه للغيرِ ولا للسِّوى ولا حتى للذاتِ نفسها التي تفنى في ذلك البقاءِ ولا تعرفُ شيئًا سواهُ تعالى، وهناكَ يتفتح وصولُ المريدِ إلى غايتهِ الساميةِ التي دونها أهوالٌ وحزنٌ وغرامٌ ثقيل، ثم لا يُقبلُ منهُ حتى تكونَ النفسُ والروحُ والدنيا بأسرها عنده بلا قيمةٍ أمامَ ذلكَ المقامِ الجليلِ: “وَلَو جَادَ بالدُّنيا وَظَنَّ بِروحِهِ فَلا مِريَةٌ في حُكمِهِ أنَّهُ بُخلُ”، هناكَ يقف المريدُ راضيًَا بكل قدرٍ وقضاءٍ، يؤمنُ يقينًا لا شكَّ فيهِ أنهُ قدرُ اللهِ وقضاؤه فهو يقفُ هناك فانيًا متفانيًا: “فَنِي عَنْ جَمِيعِ الكَوْنِ فِيهِ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَبقَ فِي شَيءٍ سِوَاهُ لَهُ شُغلُ”، وكيف يكون له شغلٌ بغيره أو التفاتٌ ثم يَزعمُ المحبةَ أو يزعم الهوى فيهِ أو يزعمُ أنهُ ماضٍ إليه؟ إنما على المريدِ للهِ أن يكون كما وصفهُ: فيهِ ولهُ وبهِ عزّ وجل.
تنهمرُ هناكَ الخمرةُ الإلهيةُ التي تَصبُّ الحبَّ في القلبِ فلا تُبقي لغيرهِ مَكانًا: “وَخمْرُ الهَوَى لَو خَامَرَ العَقْلَ بِالجَوَى لَمَا رَدَّهُ عَذلٌ وَلَا صَدِّهُ عَكلُ”، وكيفَ يمكنُ لمدنفٍ في الحب أن يستمعَ لقولِ العُذال، بعد ذلكَ الشرابِ الإلهي الذي كما يَصِفُه الشاعرُ: “شَرَابٌ إلَهيٌّ طَهُورٌ كأنَّهُ عَلَى فُرضَةٍ لِلقَلبِ فِي أرضِهِ وَبلُ/ طَفى نُورُهُ حَتى طَفَا الصُّبحَ بالضُّحَى وليلُ الخَفَى أَضحَى نَهَارًَا وَلَا طِفْلُ/ وَكُلٌّ غَدَا فِي شُرْبِهِ حَسبَ شِربِهِ وَأنْهَى لَذاذَاتِ النُّهى فِي الهَوَى الثَّمْلُ”.
إنَّها الخَمْرَةُ التي تَنصَبُّ مُسكِرَةً مِن أبياتِ وَصْفِها فَكَيفَ بِكُؤُسِ شُربِها: حَكَى، فِيْ لُهَى، مَنْ قَدْ لَهَى، فِي الخَلَى، بِهِ، بِألحَانِهِ، فِي حَانِهِ، مُغرَمًَا، يَخلُو”. كلُّ مقطعٍ يذوب سُكرًا كأنَّ عاشقًا اختلى بينَ الألحانِ في حانةٍ بمعشوقهِ، إنَّها خمرةٌ من الأنوارِ تنبعُ من تجلي الحبيبِ وهناكَ رَأَوا أصلَ الحُسنِ وأساسَ الجمالِ ومُلكَه: “رأوا كُلَّ حُسنٍ كَانَ من حُسنِ وجههِ كَذَا كُلَّ نُورٍ كان مِن نُورهِ يَعلو”، ولننظر الآنَ إلى حالِ هؤلاءِ السكارى بتلك الخمرة: “فَغابوا ولا غَارٌ وضَلُّوا وَلَا عَمَىً وَغابُوا ولا فَقدٌ وَجَاروا وَلَا جَهلُ/ وَهَامُوا وَلَا هَمٌّ لَهُمْ غَيرَ وجهِهِ بِدَهْرٍ وَأَيامٍ وَلَيسَ لَهَا وَصْلُ”. تلك حالهم، ولكنَّ سكرتهم صحوةٌ عن سكرةِ الوجودِ بأسرها حين وصلوا إلى عينِ الوجودِ:
“فَضَلُّوا على صَحوٍ سُكارَى عَنِ الوَرَى عَلَى حَيرةٍ مِن خَيرَةٍ مَا لَهَا بَدلُ/ هُمُ الناسُ أحرَارٌ عَنِ الكَونِ كُلِّهِ عَلَى القَصْدِ مَا زَاغُوا السَّبِيلَ وَلَا زَلُّوا.
ها قد بَلَغُوا حُرِّيَتَهُم فأصبحوا همُ الأحرارُ الحقيقيونَ عن هذا الكونِ بأكملهِ، وكيفَ لا يتحَرَّرون وقد صاروا عبيدًا للمعبود بِحَق؟! وإنما الحريةُ بإخلاصِ العبوديةِ إليهِ وحدهُ عن العبوديةِ لغيرهِ، وكيفَ لا يتحررونُ وهمُ الذين أفنوا ذواتَهم في ذَاتِه فعادتْ إليهم ذَواتُهُم أفضلَ وأسمى مما كانت:
“فتكونَ للمعبودِ عبدًا خالصًَا عَن رِقِّ آثارٍ لَهُنَّ مَدَانِسُ/ يُعطِيكَ ذَاتَكَ بعدما أفنيتها في حُبِّهِ إذ للمحبَّةِ لابِسُ/ لِوُجود بُعدِكَ مِنكَ فِيكَ كذاكَ ما في الكونِ كونًا كانَ وهو عكامِسُ”.
إذن فليست حياةً للأرواحِ وللمهج كما أسماها الشيخ بل هي حياةٌ للوجودِ الإنسانيِّ بأسرهِ، ومَنهلٌ ومُستمسكٌ للإنسانِ في كل مكان وزمان، في الماضي كما في المستقبل. لأنها إحياءٌ جديدٌ بالشعرِ يعقدُ صِلةً روحيةً وَثِيقَةً بِأَصلِ الحياةِ، ويشرحُ الطريقَ إلى الـمُحيي في مَحَبَّتهِ والفناءِ في وجودهِ وتخليصِ النفسِ من عيوبها من أجلهِ تعالى، هذا هوَ أخيرًا ذلكَ السموُّ المتكاملُ للإنسانِ الأسمى والإنسانِ الكامل كما تفتشُ عنهُ الفلسفاتُ وفتشت عنهُ من قبلها الصوفية، لولادةٍ ذاتيةٍ لإنسانٍ يراقب أدنى دقائقهِ النفسيةِ والقلبية والفعلية والروحية ويطهِّرُها ليدخلَ في كنفِ محبةٍ طَافِحَة وصلتْ مِيَاهُهَا إلى القلبِ فهوَ يُراقبُ النفسَ قبلَ الجوارحِ كي لا تخطئَ أدنى خطيئةٍ ولا تزِلَّ أقلَّ زللٍ أو تبدر منها هفوةٌ لا تليقُ بمقامِ من وَجَّهَ وجههُ إلى نور الحبيب.
1 هذه المادة جزء من مقدمة ديوان (نفائس العقيان) لأبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي (١١٤٧-١٢٣٧هـ/ ١٧٣٤-١٨٢٢م) والذي جمعه ابنه الشيخ خميس بن جاعد الخروصي. والشيخ جاعد بن خميس الخروصي عالم وشاعر صوفي كبير وقطب من أقطاب العلماء العمانيين وصاحب مدرسة فقهية شهيرة وينسب إليه الباحث بداية التوجه الصوفي في الفكر الإباضي في القرن الثامن عشر والذي واصل نشره من بعده ابنه الآخر الشيخ ناصر بن جاعد، واشتهر الشيخ جاعد حتى في الذاكرة الشعبية وحيكت حوله قصص الخوارق المتعددة، وترك تراثاً متعدداً من الكتب والرسائل المختلفة وديوان الشعر والذي تدور معظم قصائده في المحبة الإلهية والتصوف. والديوان قيد النشر بتحقيق الكاتب عن مركز ذاكرة عمان.
2 ص١٨ وما بعدها الأبعاد الصوفية في الاسلام وتاريخ التصوف، آنا ماري شيمل. دار الجمل
3 ص٤١ المرجع نفسه.
إبراهيم سعيد