في جدل العلاقات السائد ما بين الفنون والواقع الاجتماعي أو الحياة في المطلق، أو في الحوار الدائر بين الشكل الفني والمضمون الفكري والاجتماعي والسياسي للعمل الإبداعي، في جميع تلك الأحوال نسأل: من هو الفنان أو المبدع الحقيقي الذي يقف وراء العمل وحياته؟ ومن النادر أن نتجشم عناء التفكير لنطرح سؤالا آخر أكثر دقة، وأشدّ احتياجا اليوم: من هو الناقد الحقيقي؟
إنّ الناقد المسرحي الحقيقي، كما يعرّفه الدكتور حسن المنيعي: «هو الذي يستطيع إدراك آليات اشتغال العمل المسرحي وتحديد أصولها ومستجداتها اعتمادا على ثقافته الشخصية. وهذا ما جعل خطاب النقد الغربي يتأرجح في غالبيته بين قراءة للنص في علاقته بالعرض، ونقد علمي جامعي لا يسعى إلى التأثير مباشرة على الجمهور أو ممارسي المسرح؛ وإنما يسعى إلى دراسة وتحليل الظاهرة المسرحية من منظورات معرفية وجمالية ولسنية متعددة. وهذا ما أصبحنا نتوفر عليه في العديد من البلدان العربية»(1)
ومع رحيل أستاذة الأجيال معلمتي الدكتورة نهاد صليحة 1954- 06 يناير 2017 بات النظر الجادّ إلى واقع آليات اشتغال الممارسة النقدية في وطننا العربي مسألة ملحة، ولن أبالغ إذا قلت أنها بحسب المصطلحات الإسلامية فرض عين.. ليس بسبب تراجع الدرس النقدي الفلسفي في الجامعات لدى عدد كبير من الباحثين والدارسين أو تصاعد موجة التخبط في بعض القراءات والمهرجانات المسرحية، وما يحدث في بعض ندواتها الفكرية من خلافات لا تتصل اتصالا حيويا أو جوهريا بالاختلاف الفكري حول النظرية والممارسة النقدية أو الفكر الفلسفي الذي يؤسسها، فحسب، بل لتسارع نمط التعليم والمعرفة والفكر الاستهلاكي في مجتمعاتنا العربية التي تشهد في كلّ ثانيّة تحولات بنيوية صعبة على المستوى السياسي والاقتصادي والمجتمعي والتنويري.
وفي كتابها (المسرح بين الفن والفكر) الذي أهدته إلى والديها لأنهما علماها «أن العبودية والفقر سُبة في جبين الفلسفة والفكر، وأن الفنان الحقيقي هو من يبحث عن الحقيقة في أعماق التراب لا في تهاويم السحاب»(2)، يتمدد صدى الصوت القوي للناقدة الفلاحة نهاد صليحة إلى مساحات كونيّة واسعة، وهو صوت أستعيد معه، ومن خلاله، حضور صوت أوّل كاتبة مسرحية في الغرب، الراهبة الألمانيّة «هيروتسفيت»؛ ومعناه «الصوت القوي»، وكذلك صوت أول كاتبة عربية للمسرح الراحلة فتحية العسّال.
في حقيقة الأمر، لا يُمكن لأي باحث أو مشتغل بنظريات النقد الأدبي والفني إلا ويكون كتاب (المسرح بين الفن والفكر) أحد مراجعه الأساسية، من بين عناوين مهمة جدا أنجزتها الراحلة بين تأليف وترجمة. وأهمية هذا الكتاب أن الناقدة قد تطرقت فيه إلى واحدة من المسائل الفكرية والنقدية المهمة التي تشغل الباحث في شتى مجالات الفكر وإنتاج المعرفة، وهي مسألة ارتباط الأيديولوجيا والتباساتها بالدراما في مجال النقد والإبداع الدرامي.
والمتتبع للحياة الفكرية والنقدية للراحلة نهاد صليحة أستاذة الدراما والنقد المسرحي والأدبي بأكاديمية الفنون يمكنه مطابقة تجربتها الإنسانية الحياتية والمعرفية بين العام بالخاصّ في محطات شديدة التنوّع والثراء. فقد عاشت كما تؤمن وتعتقد أن لا انفصالا بين النظرية والتطبيق، أو بين الشكل والمضمون، وهذا ما تقوله صراحة في كتابها سابق الذكر: «وحقيقة الأمر-في تصوري- أنه لا يمكن أن يوجد فنّ في انفصال عن الحياة، أو حياة إنسانيّة دون فنّ. إنّ منبع الفنّ وأساسه هو نزعة الإنسان إلى تمثل تجربته الحياتية واستنباط مفهومها ودلالتها القيمية»(3). ومن النافل قولنا، أن الاشتغال بالممارسة النقدية المسرحية إنمّا يتأسس على أسس علمية وموضوعية لا تقبل الهوى الشخصيّ، أو الميل العاطفي كعتبة للتحليل النقدي والإبستمولوجي، وهذا صحيح إلى حد كبير، إلاّ أن اندغام الموضوعي بالذاتي في تجربة صاحبة الصوت القوي النقدية يُشكِّل حالَا نادرًة جدًا.
وكلّ الذين تتلمذوا علي يدها، أو قرأوا مؤلفاتها، أو أتاح لهم القدر مرات كثيرة لحضور محاضراتها أو متابعة لقاءتها أو نزلوا معها إلى الميدان، يجمعون على أنّها كانت شعلة فكرية من العطاء، وناقدة استثنائية في آرائها الصادرة حول العروض المسرحية، بكل ما يكتنفه العرض المسرحي من أنظمة معقدة التركيب.. فوجودها في المسرح، قاعته أو كواليسه، يزيده حيوية ويملأه توهجا. وكم كنت ممتنة للقدر وسعيدة عندما وجه لي الدكتور حسن عطية دعوة لأشارك بورقة بحثية في الندوة الفكرية حول (التجريب وتثوير الأبنية الجمالية) لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي للفترة 21-25 سبتمبر 2016م، في حينها تأكدت من مفهوم الناقد الجدلي المنفتح بثقافته على العالم، والبسيط بتواضعه وأخلاقه أمام الآخرين. إذّ كان الاستماع إلى تعليقاتها ومداخلاتها بالندوة التي أشرفت الناقدة على إداراتها حول بعض الأوراق التي ألقيت، أو مشاهدة مساندتها للباحثين النقّاد الشباب والشّد على أياديهم وتشجيعهم واحترام اختلافهم معها، جعلني أختبر صدقية تلك النزعة على أرض الواقع، نزعة إنسانية جوهرية لا يمتلكها إلا الصفوة من النقاد.
والناظر إلى الموقع الذي احتلته الناقدة نهاد صليحة في ميزان النقد والنظرية النقدية والممارسة التطبيقية يؤكد على تميّزها بحركيّة النقد وتجدده. يقول الدكتور حسن عطية بهذا الصدد أنها: «… مِن أنضج مَن استخدم المنهج السيميوطيقى في دراساتها ومقالاتها النظرية والتطبيقية، وأفضلهم في تمثيل هذا المنهج وتدريسه ودعم تيار كامل له في معاهدنا الفنية وساحات نقدنا»(4).
لقد أرجعني هذا ليذكرني بالناقدة الفرنسية البلغارية الأصل جوليا كرستيفا، والموقع الطليعي في ورشة النقد السيميائي الأوروبي الذي احتلته في جامعة السوربون- باريس الثالثة. ثمة ما أعادني إلى فضاءات الاشتغال المبكرة لدى كرستيفا وما كوّنته صليحة في المعاهد الفنية بالقاهرة. وكأن كلّ واحدة منهن هي مرآة للثانية ولكن من مواقع جغرافية وثقافية ومرجعيات مختلفة! لقد توفر لكليهما ذلك المناخ الاستثنائي للعمل الثقافي المتكامل، وتبلورت في تجربة أستاذة الأجيال عبر مراحل تأسيسية رصينة بدأتها في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، ثم سفرها إلى المملكة المتحدة لمواصلة الدراسات العليا. وإلى جانب هذا كله، شكّل مجالها البيئي بالقاهرة حياة دافعة إلى التحدي واستثمار المجال الاجتماعي كله لتكوين نضجها الثقافي والمعرفي، فهي، «مصرية حتى النخاع.. بنت البلد.. لا تعترف بالخواجة وعقدتها.. متحدية.. تمقتُ اللغة الإنجليزية لصالح الفرنسية.. ولدت في حي شبرا الشعبي في خمسينيات القرن الفائت، فنشأت وسط الأرمَن والأقباط والمسلمين، وكذلك بعض اليهود، ولم تشعر يوما بأنّ هنالك فرقا بين مصري ومصري بغضّ النظر عن الديانة والانتماء، الأمر الذي خلق لديها حالة من التواصل عبر الانفتاح على كل الثقافات الموجودة»(5)
ترتكز استفادة الباحث في حقول النقد، عبر التزوّد بوقود من محطات ملتحمة بالواقع المجتمعي وبالتجريب الميداني، شريطة أن تكون هذه المحطة مستمرة في استقبال كلّ جديد يتم اختباره لمعرفة أبعاده، ثم أن ترفد المحطة عبر عناصر التواصل بلغة رومان جاكبسون بما يخلق هناك، علاقة دينامية بين المتفاعلين. وفي تقديري، أن الناقدة نهاد صليحة كانت محطة تواصلية مهمة لدى أجيال كثيرة في داخل مصر وفي خارجها. لقد عزز عشقها للحرية الفكرية وللمسرح لأنّ تكون أبرز النقاد في زماننا «ومن أكثرهم تفاعلا مع النشاط المسرحي على أرض الواقع، ومن أجرأهم في تقديم العلوم النقدية الحداثية ومناهجها، واختبار ما تركن إليه فكريا فيما يعرف بالنقد التطبيقي، أي نقد العروض المسرحية، وليس فقط الاكتفاء بتدريسها نظريا في قاعات الدرس الأكاديمية، وهى أيضا من أكثر نقادنا في العقود الأربعة الأخيرة إيمانا بحرية المبدع وحقه في التجريب المستمر، والدفاع باستماتة عن هذه الحرية وهذا الحق في التجريب»(6)
وهذا المنحى قد أفدتُ كثيرًا من مؤلفات الناقدة نهاد صليحة، وعلى مراحل دراسية متباينة، ولكن أكثرها عمقا، هو المرحلة الدراسية التي كنت أعدّ فيها أطروحتي العلمية عن الرؤية السياسية في المسرح الخليجي.
فانطلقت في البحث من تعريفين؛ تعريف العمل الفني» بأنه تشكيل رمزي ديناميكي، يعتمد في نسقه على إقامة علاقات متوترة بين حاضر وغائب: بين الماضي والحاضر، بين الوعي واللاوعي، بين الفعل والقيمة أو المعنى، بين الواقع والخيال، بين النسبي والمطلق، بين المبدع والمتلقي… وهلم جرا. ويمثل هذا التشكيل محاولة لطرح تفسير أو رؤية لتجربة إنسانية متكررة، بحيث يكون للتفسير أو الرؤية صفة الإقناع، لا صفة اليقين التام أو الإلزام»(7) وتعريف صفة المسرح السياسي: «صفة المسرح السياسي ينبغي أن تقتصر على ذلك النوع من المسرح الذي لا يكتفي بأن يتخذ من فلسفة الحكم خلفية مسلمًا بها للصراع، بل يتخطى ذلك إلى اتخاذ فلسفة الحكم نفسها مادة للصراع-أي يصبح موضوعه السلطة والفلسفة التي تساندها، والقوانين التي تفرزها، ومظاهر تطبيقها»(8)
ومن هذا المنطلق الذي اهتديت به سعيت إلى قراءة الرؤية السياسية في مسرحنا الخليجي، فابتعدت عن قراءة المسرحيات الخليجية من خارجها، وحرصت على استنطاق السياسة من ثيمات المسرحيات بعدما شكلتُ رأيا ألزمت نفسي به للمسرح السياسي على غير ما جرى عليه التناول السائد من تطبيق مقولاته عربيا، على أحداث عام 1967م، أو بالاستناد على مقولات خارجية لدى معلمينا المسرحيين الكبار، إرفين بسكاتور وبرتولد بريخت، وبيتر فايس، مع الاستفادة من مناقشاتهم كلما لزم الأمر.
وهناك، بالفعل اختلاف كبير وتباين معرفي واضح بين ناقد يلوي عنق النظرية النقدية أو التيار المدرسي ليتناسب وأطروحاته ومبادئه وانتماءاته، وناقد يستنبط النظرية من سياق الجدل في المجتمع. تقول أستاذة الأجيال: «إن محاولة استخلاص قوانين فنية من أعمال فنية سابقة وفرضها فرضًا على نزعة الإبداع الفني، أو استقبال المتلقي للعمل الفني- أي محاولة استخلاص أساليب صياغة من إبداع سابق وفرضها باعتبارها قانونا إبداعيا عالميا- إنّما هي في حقيقة الأمر جهد أيديولوجي لا فني»(9).
وتطبيقيا على هذا الطرح ومن واقع الاشتغال المسرحي لدى عدد من المخرجين والكتّاب الشباب في مسرحنا الخليجي، نشاهد توجها لدى بعضهم إلى افتعال أساليب في الإخراج بهدف التجريب دون معرفة ثقافية بالفلسفة التي تقف وراء ذلك التجريب، فيلجأون إلى عناصر مسرح اللامعقول أو الملحمية البرختية في جهل مطلق بالنظرية المعرفية لهذا المسرح وبالرؤى السياسية والثقافية والاجتماعية التي ساندت نشأته، أو ضحالة بذلك الأسلوب.
ويبدو أن مركز الثقل في اتباع هذين الاتجاهين قد انتقل من المهرجانات المسرحية ومسابقاتها وجوائزها. عند هذه النقطة الجوهرية، على النقد أن يتحرك، وعلى النقاد أن يشتعلوا بحب المسرح مثلما اشتعل به المخرجون والممثلون والكتّاب الرواد. ونظريا، على نقد النقد أن يُشكل بوابة لتكوين نشاط نقدي مستنير لبلورة نسق معرفي وفلسفي وجمالي في ظل متغيرات عالمية سريعة الاستهلاك والذوبان.
إنّ الواقع السياسي-الأيديولوجي- كما تقول الناقدة جوليا كرستيفا: «ليس سوى نسيج من الرعب والتفاهة والابتذال. تحكمه قبل كلّ شيء مشكلات تراكمية وهاجس الموت»(10)، وهي- أي كرستيفا- إذا كانت تخص الطرح السابق حصريا حول نصوص روائيين ومسرحيين وشعراء كبار أمثال جيمس جويس، وأرتو، ولوتريامون وغيرهم، فإنّ القراءة النقدية الواعية لواقعنا السياسي موجودة تأثيراته ليس في النصوص وحدها، ولكن في اجتهادات المشتغلين بالمسرح من النقاد الشباب. وهم شباب مختلفون في رؤاهم للفن والحياة. وهنا نستضيء بتجربة الناقدة صاحبة الصوت القوي نهاد صليحة بأن لا وجود فعليا للفصل المتعسف بين النظرية والتطبيق، بين أن تكون موضوعيا في ذاتية منفتحة على الاختلاف، ومحلّقة نحو الآفاق بجناحين من الإرادة والصمود، في ظل مجتمعات ما مستهلكة بامتياز. وقد برهنت صاحبة الصوت القوي على ذلك في جلّ تجربتها الإنسانية والأكاديمية. وختاما: ستظل نهاد صليحة رحمها الله ناقدة استثنائية، وصوتا نقديا قويا لأنّها إنسانة عشقت المسرح بحسّ ممزوج بوعي نقدي وخلق إبداعي دون أن تغادر روحها طفولة الأسئلة والبحث. ولتكن مقولتها هذه آخر الكلمات التي أختتم بها هذه الشهادة: «عاشق المسرح لا يمكن إلاّ أن يكون عاشقا للحرية والتنوير معا».
إشارات وتنبيهات:
(1) نقلا عن: النقد المسرحي العربي (إطلالة على بدايته وتطوره) منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، رقم السلسلة (13)، ط1، 2011، المملكة المغربية، ص8.
(2) نقلا عن: المسرح بين الفن والفكر، هلا للنشروالتوزيع، سلسلة المسرح، رقم السلسلة (19)، ط1، 2009، القاهرة، ص3
(3) نقلا عن: المسرح بين الفن والفكر، نفسه، ص7
(4) نقلا عن: تأسيس النقد السميوطيقي، دراسة نُشرت على الحساب الشخصي للدكتور حسن عطية انظر محرك البحث جوجل.
(5) نقلا عن: أحمد الماجد، مجلة المسرح العربي، العدد (11)، الهيئة العربية للمسرح، حكومة الشارقة، 2013م، ص118
(6) نقلا عن: الحساب الشخصي للدكتور حسن عطية، مرجع سابق.
(7) نقلا عن: المسرح بين الفن والفكر، نفسه، ص9
(8) نقلا عن: المسرح بين الفن والفكر، نفسه، ص178
(9) نقلا عن: المسرح بين الفن والفكر، نفسه، ص11
(10) نقلا عن: فؤاد أبو منصور، النقد البنيوي الحديث: نصوص- جماليات- تطلّلعات، دار الجيل، ط1، 1985م بيروت،، ص 342
آمنة الربيع