الموسيقى جزء من حياة أي سوداني، الغناء بشكل خاص، والسوداني بوصفه أفريقي الميقات، بدوي المعاش، يحب الموسيقى، يحبها عندما تكون غناءً، وقليلة هي الموسيقى البحتة الخالية من الغناء في بلادي، والموجودة منها ذات طبيعة طقسية في غالبها، موسيقى مرتبطة بالحصاد والرعي، وبالرعي أكثر منه بالزراعة، لأن الاهتمام بالصوت البشري كآلة موسيقية فطرية يشير إلى البداوة غالبا، والمدني السوداني لاحقا اهتم بالآلة المصنوعة واهمل الحنجرة. هناك علاقة وشيجة بين جمال الصوت والخلاء في السودان تراها واضحة عند قبيلة البجا الكبرى التي تشهد حناجرهم بذلك. موسيقى وسط السودان بعد تخليها التدريجي عن البداوة لمصلحة التمدن، تخلت بذلك عن الآلة الطبيعية، صارت الخرطوم تغني بمحدودية صوت الكلام.
قبل دخولي كلية الموسيقى والدراما كانت قراءة الفلسفة متعتي الأولى، لم أكن أعلم حينها أن الفلسفة والموسيقى صنوان، وإن كليهما خيال حي لا يسكُن ولا يستريح، لأنك عندما تقرأ وجودية كيركيغارد أو كولن ولسون، أو حتي صرامة هيجل وديكارت، لا يمكن أن تخطي وحدة المنشأ، ويمكنك أن تسمع بين السطور لحنا، كليهما يسعيان إلى ترتيب أمر ما، الموسيقى تسعى لترتيب فوضى الأصوات في العالم والفلسفة تسعى لإيجاد خيط ذهبي ينظم كل العالم، إذن الموسيقى شيء من «كل شيء» الفلسفة . كلية الموسيقى والدراما بوصفها مؤسسة أنتجتها المدنية، تجدها قائمة علي غياب البداوة في الغناء بالضرورة، لكنها رغم ذلك بها قسم للصوت البشري، قسم يدرس غناء منزوع منه الآلة الفطرية، الصوت منزوع منه أداته خضوعا للمدنية، صار الغناء مقطوعة موسيقية، صار الصوت يحاكي الآلة الغربية، فقد صوت الخرطوم هويته كآلة طبيعية إلى الأبد، أضحت الأغنيات عبارة عن مقال مُغني بلا معادل تعبيري، صار المُغني وكيلا للشاعر وليس أصيلا بفنه.
أغنية وسط السودان في بواكيرها تأثرت بالأغنية المصرية تأثرا واضحا، تجد دون صعوبة المقدمات الطويلة المحاكية لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ، نحن شاركنا المصريين فرحتهم بدخول الآلة الحديثة مثل الفايولين والقيتار والبيز قيتار والسينسايزر إلى آخره، أخذنا نصيبنا من الآلات الغربية وأخذنا معها ثقافة الغرب متمثلة في مقاماته أيضا، صرنا نغني السباعي الغربي بدوزنته الفيزيائية، كسبنا صوتين جديدين لصالح مقامنا الخماسي، لكن، نحن أخذنا من الآخذ، أخذنا من النسخة المصرية للآلة الغربية مما عقد مشكلتنا لاحقا. المصريون استخدموا الكمان (violin) بكثافة في عصرهم الذهبي وهو عصرنا الذهبي أيضا للمفارقة، استخدمنا جوقة الكمان، وإن سألتني لم نكن بحاجتها اصلا، لأن أغنية وسط السودان رغم اكتسابها صوتين إضافيين لم تفارق خماسيتها، وهذه الخماسية محكومة بفكر موسيقي قهري، يتحرك في فضاء خمسة أصوات من بين السبعة، وهذا الفكر الموسيقي ومنطق تأليفه للأغنيات والروح الأفريقية التي تغمره لا تصلح جوقة الكمان في وصفه واظهاره، لأن الخماسي فيه قوة وشدة والنبر فيه جهير لخلوه من أنصاف الدرجة (half tone)، ولأن خماسي أفريقيا بشكل عام ذو ميول إيقاعية (rhythmic)، من هذه اللحظة في التاريخ ضاعت التعبيرية في أغنية الخرطوم، دخول الآلة قابله خضوع لها وليس توظيف، صارت الأغنيات تصاغ لإظهار الآلة بمنطقها المصري وهي أصلا كانت تصاغ لإرضاء الشاعر، وبين هذا وذاك دخلنا النفق المظلم؛ نفق إغراق الأغنيات بالمقدمات الطويلة، باللازمات الكثيرة، صارت أغنية الخرطوم أغنية واحدة طويلة، أغنية منسوخة من منسوخ.
جيلي من الموسيقيين جاء شبعا متخما مهزوما جراء هذه التركة الموسيقية الثقيلة، وليس أمامه غير خيارين، الخضوع أو النشاز، اخترنا النشاز بالطبع لأن الفنون لا تعوم مع التيار، بدأنا في تأليف أغنيات تشبهنا، أغنيات تمثل تفكيرنا، لكن التيار كان قويا وجارفا، والسباحة ضده تحتاج غير الموسيقى إلى أدوات أخرى، في جملة واحدة تحتاج إلى فكر يقرأ في تاريخ أغنيتنا، في منبع هذا التيار، إلى نقد صارم وتحر تاريخي دقيق، وبدون سابق اتفاق ظهرت كتابات نقدية رصينة تخاطب جزر أزمتنا الموسيقية، ساهم فيها كاتب هذه الشهادة بمجهود متواضع، وبطبيعة الحال إن أي رجوع إلى التاريخ لسبر وتتبع سلوك بعينه، تجد نفسك منخرطا ومحتاجا لعلم النفس والاجتماع وعلوم أخرى، لتقرأ بموضوعية ما يحدث الآن، فالسياسة لعبت دورا بارزا وكذلك القبلية، ثقافة وسط السودان هي ثقافة نازعة إلى العروبة، تحمل وجدانا أفريقيا وعقلا مستعربا، عقلها تفوق على وجدانها وكان نتيجته أغنية غير وجدانية، وكان طبيعيا أن يصوب نظره باتجاه الشمال العربي ويترك ثراء تجربة إثيوبيا وكل أفريقيا خلفه، عقل أفندية السياسة أضر كما تضر السياسة بالفنون عادة، وعلاوة على ذلك، هذا التوجه العروبي مستند إلى قبلية راسخة تقول بعروبة السودان متناسية وجدانه الأفريقي حيث تقبع الأغنية.
الأغنية هي مجموعة «مشاعر» وضعت في نغم، مشاعر وليست افكارا، ليست ايديولوجيا، هي ليست قالبا فارغا توضع بداخله كلمات، الكلمات هي مشروع للغناء وليس الغناء نفسه، الغناء هو الوجدان نفسه، من يغني بحق هو من يتوًجد أمامك، يبكي ويئن ويجن ويحن بصوته، الغناء هو تأريخ للمشاعر الانسانية، ليست قالبا فارغا يغذيه العقل بمقولات وأفكار، هو لا يحمل رسالة ولن ينجح في حملها، لأن الرسالة هي المصيدة التي تصيد الغناء، كيف ذلك؟ الرسالة هي الكلمات، عندما تسمع متحدثا سودانيا يقول برسالية الفنان المغني، هو يعني الكلمات، هو يتدخل منذ البداية في اختيارها، ظنا منه أن الكلمة هي الأغنية وأن اللحن والأداء مجرد مقبلات، انساقت معظم التجارب الغنائية في الخرطوم وراء هذه الفرية، وانتجت بناء عليه غناءً رتيبا، هذه التجارب المنتشرة التي صارت تمثل أغنية السودان، هي في الحقيقة تجاهل للمشاعر لصالح الكلمة، المشاعر التي يجب أن تكون هي موضوع الأغنية. وتجد السوداني صباحا ومساء على أجهزة الإعلام يتساءل عن ما هو سبب مراوحة أغنيتنا مكانها وعدم انتشارها إقليميا على الأقل ذاهلين عن حقيقة أن الأغنية هي مشاعر بمقدورها أن تصل وتمس أي إنسان، المشاعر عالمية، البكاء هنا هو البكاء هناك، كلنا بنو آدم، رد الاعتبار إلى المشاعر كمكون أولي ونهائي للأغنية مطلوب بشدة، تراجع سطوة الكلمات سيتيح للمشاعر فرصتها للظهور، ويبدأ الغناء الحقيقي إفصاحه.
أغنية الخرطوم تواجه هذه المرة نقدا في الصميم، نظريا وعمليا، عبر الأحرف وعبر النغمات، الجيل الذي تلي جيلي أكثر شراسة، انفتح على العالم من موقع حريته، تسمع اليوم في الخرطوم مقاما شرقيا تم توظيفه بجمال داخل القالب الخماسي، تسمع قوالب جديدة ومنطقا جديدا في التأليف الموسيقي مستفيدة من المكتبة الموسيقية العالمية، تسمع صوت محرر عائد إلى البداوة بروحها وتكنيكاتها، تجارب ترد الاعتبار إلى الحنجرة كآلة بشرية مدهشة، وجيلي أنا سيدعم هذا الحراك بدون أدنى شك.
عثمان عجبين عثمان *