إلييت أبيكاسيس روائية فرنسية ولدت بمدينة ستراسبورغ سنة 1967. تعمل أستاذة لمادة الفلسفة بجامعة «كاين». لها العديد من الروايات، أهمها «سر الدكتور فرويد» (فلاماريون، 2014) التي نقدم منها المقطع الآتي. وهي رواية مكرسة لسيرة فرويد وصراعه مع أجل تأسيس تقاليد لعلمه الجديد. ومع الفكر النازي الذي كان أكثر قمعا وشدة عليه وعلى العاملين معه.
– زملائي، طلبتي ، أصدقائي الأعزاء، أشكركم على مجيئكم بكثرة لسماع ما سأقوله لكم. لقد حان الوقت بالنسبة إليكم لبداية قصة جديدة، مختلفة عن قصتكم، ستقودكم نحو وجهة جديدة. ستغادرون كل شيء عزيز عليكم، ما بنيتموه، حياتكم، دراساتنا، ثقافتكم، لغتكم، هويتكم، أصدقاءكم، أقاربكم، عاداتكم: بلدكم. أقول لكم ذلك اليوم وقلبي منقبض: أصدقائي الأعزاء، لقد حان الوقت لكي تذهبوا. إنه سفر بلا عودة مفروض علينا، لن تخرجوا منه سالمين لكنه سينقذ حياتكم ربما. لأنه لا خيار لكم: التاريخ بدأ الآن.
في ذلك الأحد 13 مارس 1938، سيغموند فرويد وابنته «آنّا»، ومساعداهما في لجنة إدارة «جمعية التحليل النفسي بفيينا»، وجهوا الدعوة للمنخرطين لحضور حصة رائعة في مقر دار نشرهم، الواقعة في 7، بيرغاس.
جاؤوا بأعداد كثيرة هذه الليلة. ستون عضوا لبوا الدعوة، طلبة ومريدون اجتمعوا حول الأستاذ، الذي يتكلم أمامهم، ربما للمرة الأخيرة.
جلست «آنا» على يمين والدها، جنب «مارتان»، أخوها الأكبر. سيغموند فرويد ، بشعره الأبيض القصير، ولحيته المنحوتة، ونظارته الدائرية الصغيرة حول عينيه الحادتين، مرتديا كما العادة لباسا أنيقا، ألقى التحية على الجميع، مصافحا بحرارة ومقبلا الذين يعرفهم جيدا.
تبادل بضع كلمات الود مع «إديث» و«ريشار ستيربا» الثائرين عن الوضع في النمسا منذ انضمامها إلى ألمانيا. بطريقة أخوية صافح ريشار، الذي عُين عضوا ساميا في جمعية التحليل النفسي في فيينا، وهي المصافحة الأخيرة ربما، لأنه يعلم أنه قرر الذهاب إلى المنفى برفقة زوجته وأبنائه. ورغم أنهم ليسو يهودا، فقد رفضوا التعاون مع المخربين وترأس جمعيات تحليلية تم إخضاعها للأفكار الآريانية. لقد أصبح البلد خطيرا على كل من يمارس التحليل النفسي. الكل يتمنى استفتاء شعبيا حتى يتمكن الشعب من التعبير عن استقلال النمسا. غير أن المستشار استقال من منصبه وظهر الصليب المعقوف على الجدران.
الهروب أمر عاجل. إرنست جونز، شارح وكاتب سيرة الأستاذ، من المفروض أن يصل على متن طائرة بعد ثلاثة أيام، عبر براغ، حاملا معه بعض الأخبار: لقد قام بالواجب مع وزير الداخلية البريطاني حتى تتمكن أسرة، وخادمات وأطباء فرويد، وأيضا مجموعة من مريديه وأقربائه، من الهجرة والعمل في بريطانيا العظمى. وسيتم استقبالهم بحفاوة هناك إذا ما سمح لهم النازيون بالرحيل.
ضغط فرويد بحنين على أيدي أصدقائه، لأنه تذكر بدايات الجمعية، حين كانت تعقد «جمعية الأربعاء للتحليل النفسي» اجتماعات ليلية في بيته. مع تلاميذ لامعين جدا مثل كارل غوستاف يونغ، ساندور فرانزي أو كارل أبراهام. كان قد قرر أن تصبح اللقاءات رسمية وأن يؤسس «جمعية التحليل النفسي في فيينا».
انضم إليها أصدقاؤه أيضا. سابينا سبيلراين، مريضة «يونغ»، «لو أندرياس-سالومي» و«أوجيني سوكولنيكا» الذي أُرسل إلى فرنسا لتدريس التحليل النفسي وتطبيقها رفقة كتاب مشاهير مثل أندري جيد، ومحللين نفسيين مستقبليين مثل روني لافورج. وضمنهم طبعا الأكثر إخلاصا ومثابرة من تلاميذه، الأميرة ماري بونابارت.
ذات يوم، وبفضل هبة أحد المحبين، تأسست «دار التحليل النفسي للنشر»، وهي في ملكية فرويد، باتفاق مع «الجمعية العالمية للتحليل النفسي»، التي كان يرأسها كارل غوستاف يونغ. فتم تنظيم عدة مؤتمرات، محاضرات واجتماعات. كما تم استقطاب مجموعة من الأعضاء والمريدين الذين حاولوا أحيانا الرفع من مستوى أفكارهم الشخصية. حدثت صراعات، اختلافات، حالات فصل، صداقات متقدة، رحلات كبرى، تقدم علمي، تواصل مدهش، تطور في تصور روح الإنسان، وعدة خيبات.
ودائما هناك، الذين يتملقونه، والذين يحتجون عليه، الذين يحبهم والذين يحبونه. الذين هجروه، والأوفياء من بين أوفياء كثر.
تذكر أيضا تلك اللحظة المروعة حين عُزل يونغ من وظائفه في المؤتمر الخامس. كيف يمكن تصور أنه ذات يوم سيتأثر بالإيديولوجية النازية؟ هو الذي كان الأكثر تألقا بين تلامذته، والذي قضى في رفقته أياما وليالي في النقاش، كما يعتبر الأكثر إبداعا أيضا، والأكثر انفتاحا على الأفكار الجديدة، كيف أمكنه الالتحاق بالبربرية؟
بعد نطقه بالجمل الأولى في غمرة صمت مطلق، جاءت لحظة الذعر. من بين الوجوه المليئة بالكآبة، تعرف فرويد على رفاقه الأوفياء فشعر بالعزاء في حضورهم. إنهم هنا. أولئك الذين تبعوه منذ الساعة الأولى، الذين التحقوا به في منتصف الطريق، والذين جاؤوا متأخرين. الذين آمنوا به. الذين لم يفارقوه لحظة. الذين سيذهبون معه إلى آخر الطريق. والذين لن يراهم منذ اليوم.
بول فيدمان، دائما على استعداد لتعويضه في اللحظات الصعبة حين يفتك المرض. بالقرب منه يجلس إيدوارد هيتشمان، صديق بول، القادم من زمن جمعية الأربعاء. هو الآخر يبحث عن اللجوء في لندن. وهو يدير رأسه إلى حيث يوجد أبناؤه والجيل الجديد، رأى صديقتهم الغالية، جان لامبلد غروت، التي كانت تنتمي إلى الذين تم اختيارهم لأخذ الحلقات التي وزعها الأستاذ. زوجها يجلس جنبها، وهو محبوب جدا من أسرة فرويد، يزورهم أحيانا، بسبب صداقته بـ«مارتان». غير بعيد عنه، يوجد هانز هارتمان، الطبيب النفسي الذي اقترح تحليله إن وافق على بقائه في فيينا: وهو أحد المتقدمين في الجيل الصاعد…
كل هذه الأرواح الغالية إلى جانب أخرى كثيرة لم يجد الوقت للوقوف عندها، أصدقاؤه، تلاميذه، مريديه.
بعد ذلك أخذ سيغموند فرويد الكلمة من جديد، بالرغم من الألم في فكه الطبي المعدني ومعاناة قلبه. وهو يبحث عن الكلمات لإقناعهم، ظهر أمامه فجأة أولئك الذين سمع بهم في أسرته، أجيال مضطهدة نجت من المحرقة.
= Eliette Abecassis, Un secret du docteur Freud, Flamarion, 2014
ترجمة: محمود عبد الغني