يعتبر الخط العربي أحد أبرز مظاهر العبقرية الفنية عند العرب، ولقد كان أولاً وسيلة للمعرفة ، ثم أصبح فناً له ما يقرب من ثمانين أسلوباً وطريقة، ومن أشهرها الكوفي والثلث والرقعي والفارسي والديواني وما فروع عن هذه الخطوط، إلخ.
ومن هنا، فقد أكد الفنان المسلم على أهمية الحضور الجمالي للكلمة المقدسة في الأمكنة المقدسة، وأكد على القيمة الجمالية المطلقة للأشكال الهندسية، وبشكل خاص على الخط العربي الذي يعد من أكثر الأشكال قداسة، لارتباطه المباشر بدلالته اللغوية المقدسة،ومن بين هذه الخطوط الخط المغربي الذي له مقومات أساسية ، تضمن له التميز قطريا، إذ الشاعر مدعو إلى تحقيق تميزه وتفرده داخل الفضاء الثقافي القومي العام،وكان ينطلق من فكرتين أساسيتين هما:
أ- توظيف الخط لردع المتعاليات، ولتحطيم استبدادية ، طرف بعينه.
ب- إلغاء استبداد مركز بعينه كمصدر للحقيقة.
لذلك فالخط المغربي من منظور محمد بنيس يتيح هذه الإمكانية ” وفي بعثه مجددا بعث للآثار التي نومناها باسم الوحدة… ولم ندرك أن الوحدة الحقيقية هي التي تنبثق عن فروقنا المتعددة… عودة الخط المغربي تتنصل من كل قطيعة مع الأنواع من الخطوط العربية، ولا مع الممارسات الخطية خارج العالم الغربي، لأن الكتابة تنبذ الانغلاق مهما كانت صيغته، كيما لا نستسلم لمحو الفرق. إنها مغربية، عربية إنسانية… “[1].
واللافت في استحضار مسار الدال الخطي في الشعر عودة الانشغال به في المشهد الشعري الحديث. وقد اقترن هذا الانشغال في المغرب- أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات- بأعمال محمد بنيس وعبدالله راجع وأحمد بلبداوي وبنسالم حميش. ولم يكتف هؤلاء الشعراء بتشغيل الدال الخطي في قصائدهم، بل ثلاثة منهم أصدروا بيانات كشفوا فيها عن تصوراتهم للتجربة[2].
ومع أن الشاعر بلبداوي لم ير في تجربة الكتابة قطيعة مع الإنشاد، فإنه الوحيد في مجموعة السبعينيات الذي التزم بالإنجاز الفعلي لتشغيل النص فضائيا، كما أنهض وفيا للدال الخطي انطلاقا من إصراره على الاستمرار في خط مجاميعه الشعرية بيده، الأمر الذي يؤشر على امتلاك الشاعر لناصية التخطيط امتلاكا عمليا، يجد ترجمته في اعتماد أنواع متمايزة من الخط وعلى الخصوص النسخي والمغربي الأندلسي، مع تنويع مستمر داخل نفس الخط، بحيث تقدم النصوص في سلمية إيقاعية غنية ومتحولة باستمرار، اعتمادا على العنصر الخطي في تعدده واختلاف أشكاله وأحجامها[3].
وهذا يعود بنا لنقف على حاشيته على بيان الكتابة، حيث يقول في موضوع كتابة النصوص: ” حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة، وأدعو عينيه للاحتفال بحركة جسدي على الورق. يصبح للمداد الذي يرتعش على البياض، كما لو كان ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم، ويغدو للنص إيقاع آخر يدرك بالعين مضافا إلى إيقاع الكلمات المدرك بالأذن…”[4].
هذا الحضور الجسدي يقوم أيضا كثورة ضد استبداد المطبعة ووصايتها باعتبارها آلة صماء ذات بعد واحد تغتال، من بين ما تغتاله، النص.
يصرح بلبداوي ضمن حاشيته، أيضا، أن للخط ذاكرة ممثلة في تاريخه المتصل بتاريخ اللغة التي تكتب به ” من هنا لا يكون الخط مجرد زخرفة وديكور خارجي، بقدر ما هو منغرس في بنية اللغة … إن الخط- في تصوري- يحمل ذاكرة النص الذي يكتب به ويشرب من مائه، وعلى طريقة الصوفي ابن عربي أقول: إن الخط أنثى عاشقة بكل لذة العاشقين ما ينضح به النص في روحها …”[5].
هكذا يقدم بلبداوي الخط كعنصر محايد لا يستمد دلالته إلا من المكتوب، وأيضا يوضح بلبداوي حدود حريته كمبدع في التعامل مع الخط لاعتبارات يعاد بها إلى الخط نفسه في بعديه الهندسي والزخرفي وإلى وضعية القارئ الذي لا ينبغي حمله على الانخراط في مغايرة متطرفة[6].
يقول:” لكنني أعرف حدود القابلية التي يختزنها الخط العربي – مغربيا كان أو مشرقيا – عندما يكون جزءا من أقانيم الكتابة، فيما أعي أن الخط منغرس في بنية اللغة، أعي أيضا أنه يشكل قانونا ثانيا بالنسبة للغة مؤسسا على قواعد هندسية وزخرفية. أعرف أنه شكل هندسي لا بد أن يقمعني إذا أنا تجاوزت حدوده المسموح بها في شغل البياض، حدوده في تآلفه وانسجامه مع الحقل الدلالي، ويقمع القارئ أيضا، قد يقال إن القارئ الذي نتوجه إليه هو قارئ المستقبل الذي نهيئه، لكن لا ينبغي أن ننسى أنه منغرس في اللحظة، وعلينا أن نهيئه انطلاقا من هذه اللحظة لا أن نهرب به بعيدا إلى الأمام…”[7].
ودائما في سياق الوعي بوضع القارئ، يبين بلبداوي حدود التصرف الممكن فضائيا، بإدماج أشكال هندسية مجردة من أية حمولة لغوية، مشترطا في ذلك مبررات سياقية:
“… ماذا سيحدث مثلا لو أنني زوجت النص بشكل، وليكن علامة من علامات المرور، حينما يكون سياق النص يقتضي ذلك (ألح وأؤكد على سياق النص )… إن حرية القارئ في إعادة كتابة النص مشروطة بالمناخ السائد في النص، وهذا المناخ أنا الذي أغزل خيوطه الرفيعة بأكبر قدر من العناية والمسؤولية…”[8].
من خلال هذه النصوص نستنتج أن الحاشية تقدم أكثر من مستوى، وعيا عميقا بحيثيات الاشتغال الفضائي للنص سواء فيما يتعلق بالخط أو الأشكال الأخرى. وهذا ما سنحاول رصده انطلاقا من تقسيم التجربة الفضائية في شعر أحمد بلبداوي إلى فضاء نصي وفضاء صوري.
1. الفضاء النصي:
هو ذلك الفضاء الذي يحتوي الدال الخطي، إذ يعد مساحة محدودة وفضاء مختارا ودالا بمجرد أن تترك حرية الاختيار للشخص الذي يكتب. ويشمل: الخط، حرمة الأسطر، النبر البصري، البياض والسواد، وعلامات الترقيم.
1-1. الخط أو البنية الخطية:
يعد هذا المستوى- حسب محمد الماكري- معطى جشطالتيا، كما يعد بنية، وتبدو طبيعته الجشطالتية في كونه مجموعة من الأدلة الخطية التي تنتجها حركة خاصة، وتسجلها الواحد بعد الآخر، وتمنحها شكلا معينا. وبهذه الصورة يؤكد الماكري أنه لا يمكن إخضاع أي جزء منه لتغيير أو تعديل دون أن يؤثر ذلك في المجموع. أما اعتباره بنية فلكون البنية الخطية تبرز هيكل الكتابة وتكوينها، وتحل شبكة العلاقات بين الأدلة، وبهذه الكيفية فمستوى الخط يشمل نقطتي الترقيم والأسطر[9].
انطلاقا من هذا المستوى يتلقى الشاعر أحمد بلبداوي الوديعة للحرص على نقلها بخط يده، وبالأثر المباشر لجسده ” ليجعل من التركيب الخطي بعدا بلاغيا يفتح النص على البصر بعد أن اكتفى بالسمع زمنا طويلا”[10].
وهو بذلك يعيد ترتيب العلاقة مع الصفحة مشطبا على إمكان قراءة هذا النص شفويا، ليقدم نصوصا إلى قارئه بوصفها مكانا أولا “لأن اللغة من حيث هي منطوق زمان ومن حيث هي خط مكان “[11].
مكان مغربي بامتياز ينتفض لعلاقة الخط بالفراغ، بالبياض، ويؤكد على صناعة الكتابة وماديتها وأفق بنائها لفضاء الصفحة، بعيدا عن كل اختزال في ما يسمى بالقصيدة البصرية، ما دامت لا تقوم على البياض والسواد وحدهما، وإنما هي فضاء لغوي لكونه متعدد القوانين والأبعاد، تتم فيه إعادة تكوين الأشياء والعلائق والإنسان[12]. وبناء على ما تقدم، فالمكون الخطي للنص يمنح للمتلقي إمكانية مباشرة قراءته كخطاب لغوي مكتوب، استنادا إلى معرفة مفترضة باللغة وبرسم الخط المغربي الأندلسي المتميز بدوره كنوع، ونحن هنا لا نقف في المكون الخطي على بعده النوعي فقط، بل نقف على بنية خطية تتميز بهيمنة المحور التفاعلي التلاصقي الذي يمكن رصده من خلال العينة النصية التالية[13]:
وأيضا هيمنة المحور الانفصالي المتمثل في النموذج التالي[14]:
هذه العينات تمثيلية فقط، إذ أن هناك مجموعة من النصوص تقدم مظاهر لهيمنة المحور التفاعلي والانفصالي في مواقع أخرى.
إلى جانب البنية الخطية نرصد مكونا آخر من مكونات الفضاء النصي تمثله حركة الأسطر.
1- 2. حركة الأسطر:
وهي تكسير لمسار السطر المكتوب؛ إذ يتم بصيغ متعددة. وهو- حسب الماكري- إجراء ينتج عنه مباشرة تغيير مسار حركة العين على المسند، تغييرا يخرق الخطية المألوفة في تقديم أسطر الفضاء النصي وفي قراءتها، وأنه إذا كان توظيف الشكل الخطي غير فاعل على مستوى دلالة النص بشكل قطعي، فإن تكسير مسار السطر الشعري على العكس من ذلك مرتبط بالسياق النصي، ولا يمكن أن يفهم إلا من هذا المنظور[15].
ومن بين الصيغ التي يمكن رصدها من خلال نصوص بلبداوي نذكر:
أ- الاتجاه العمودي من الأعلى إلى الأسفل في خطوط مائلة، ويمكن التمثيل له بالنص التالي[16]:
ب- الاتجاه العمودي من الأسفل إلى الأعلى في خطوط مائلة مثلا[17]:
ج- الاتجاه من اليمين إلى اليسار في خطوط مائلة، خط إلى الأعلى وخط إلى الأسفل[18]:
– السطر المتموج:[19]
حيث نجد تموجية الأسطر، واتجاها من اليمين إلى اليسار على أربعة أدوار، وهذه الحركة تبرز بدورها اتجاها تموجيا نحو الأعلى والأسفل بشكل تناوبي.
وهكذا يتبين أن أبرز ما تقدمه حركة الأسطر هو مفهوم الاتجاه كمظهر هندسي في إدراك الفضاء إلى جانب الموضعة والكبر والمسافة، كما أنها تعد مكونا للفضاء النصي من زاوية تحكمها في توجيه حركة عين القارئ التي تقوم في نظر ليوطار ” بعملية كنس للعلامات المكتوبة بحيث لا يسجل القارئ حتى الوحدات الخطية المميزة ( إنه لا يرى القشور)، بل يمتلك الوحدات الدالة، ويبدأ عمله خارج الكتابة في الوقت الذي يؤلف فيه هذه الوحدات من أجل بناء معنى الخطاب. إنه لا يرى ما يقرأ، بل يسعى إلى سماع معنى ما يريد قوله هذا المتكلم الغائب الذي هو صاحب النص المكتوب …”[20].
إلا أن مسار السطر المكتوب في نصوص بلبداوي المقدمة يأخذ مظهرين:
أولهما: يتم بموجبه الفصل بين مكونات السطر(الوحدات المعجمية ) لتنتظم في مسار تدريجي انحدارا إلى الأسفل أو صعودا إلى الأعلى.
وثانيهما: يتم بموجبه الفصل بين مكونات الوحدة المعجمية الواحدة، وهذا المظهر الأخير تنتج عنه فراغات بيضاء أكثر بين الوحدات الخطية، الأمر الذي يؤثر في بناء البنية الخطية للنص المخطوط؛ إذ كلما كثر الانفصال بين الوحدات كلما أخذت البنية مظهرا انفصاليا.
بعد عنصري البنية الخطية وحركة الأسطر نقف عند مكون آخر للفضاء النصي يمثله النبر البصري.
1- 3. النبر البصري:
تقدم نصوص بلبداوي تنوعا في أحجام الأشكال الخطية وسمك الأسطر الشعرية، وهذا المظهر يمكن اعتباره- حسب الماكري- منبها أسلوبيا أو نبرا خطيا بصريا يتم عبره التأكيد على مقطع أو سطر أو وحدة معجمية[21].
ومن هذا المنظور فإن دوره الإيحائي يقارب الدور الذي يقوم به النبر في الإنجاز الصوتي للنص. ونشير هنا إلى أن الوحدات المنبورة، قد تكون مقطعا مندمجا في سياق النص أو سطرا مندمجا في مقطع، أو وحدة معجمية معزولة ومنفردة بحجمها أو سمكها داخل فضاء منفصل.
وهكذا يمكن الحديث عن نبر بصري قد يكون:
أ- نبرا مقطعيا بواسطة السمكو نمثل له بـ[22]:
ب- نبرا للجملة مثل[23]:
ج- نبرا للكلمة أو الوحدة المعجمية بواسطة السمك والحجم والموقع[24]:
و بهذه الصورة تقدم نصوص بلبداوي استنادا إلى مبدأ الاختلاف عناصر منبورة، وطبيعي أن يكون نبرها البصري موجها للقارئ بحيث يلفت انتباهه سمك وحجم وموقع الوحدات المنبورة.
1- 4. البياض والسواد:
يرى “طاجان” و”دولاج” أن توزيع البياض والسواد يبقى ثابتا لدى نفس الخطاط في الكتابة العادية، وهكذا تتشكل على الصفحة علاقة أوسع بين المساحات السوداء والمساحات البيضاء ” وهذه العلاقة تعتبر نتاج الأنشطة المدمجة في البناء، لأن الكاتب يبني فضاءه المفضل في فضائه الخطي … وهذا الفضاء المفضل هو فضاء شخصي وإطار للحياة، يمكن انطلاقا منه استكشاف ما إذا كانت هناك علاقة بين الاستعمال المنجز بهذا الإطار، وبين الطريقة التي يتم بها تنظيم المحيط المباشر للكاتب كالغرفة أو المكتب أو قاعة الجلوس مثلا “[25].
كما أن توزيع البياض والسواد على الصفحة، يسير في نفس اتجاه توزيعهما على السطر” ذلك أن اكتساح السواد،(تواصل، سمك الخط، ضيق الفواصل) يبرز الموقف الانفتاحي، والحاجة إلى ملء الزمان والمكان بأشياء خارج الذات، كما يبرز فراغا يتم التعبير عنه، وعلى العكس من ذلك يعتبر اكتساح البياضات للصفحة (انقطاعات، دقة الأسطر الأفقية، اتساع الفواصل) تأكيدا للموقف الانطوائي، والحاجة إلى الوحدة وإلى زمان وفضاء ثابتين تملأهما أشياء نابعة من الذات…”[26].
من خلال هذه القولة نرصد مقابلة بين موقفين:
أولا: موقف انفتاح في حالة هيمنة السواد.
ثانيا: موقف انطواء في حالة هيمنة البياض.
ويمكن تقديم الموقفين في تمظهرهما وفق الشكلين التاليين:
(__) المحور الأفقي.
(_ _ _) المحور العمودي.
الأول يقدم فضاء مليئا، في حين يقدم الثاني فضاء متقطعا وفارغا من أية فعالية.
ومن منظور شعري صرف يمكن أن ترصد المساحات السوداء كمساحات كلام في حين تؤثر البياضات على الوقفات أو لحظات الصمت.
وهكذا فإن البياض ليس في الواقع ضرورة مادية مفروضة على القصيدة من الخارج، بل هو شرط حياتها وتنفسها، ذلك ” أن البيت سطر بتوقف لا لأنه وصل إلى حد مادي، أو لأن الفضاء ينقص، ولكن لأن مهمته قد انتهت، وقوته قد استهلكت “[27].
أما بالنسبة لتوزيع البياض والسواد عند الشاعر بلبداوي، فيعد أثرا لاشتغال الكتابة في تنظيم الصفحة وتنضيد الأسطر الشعرية، كما أن دوره داخل الفضاء النصي لا يقتصر فقط على ضبط نظامه، بل يمكن أن يتجاوز ذلك إلى تقديم دلالات خطية أيقونية، كما هو الشأن في النموذج التالي[28]:
مثلث مقلوب تشترك في بنائه ثلاثة عناصر:
– المساحات البيضاء
– المساحات السوداء
– الفضاء النصي
أو تقديم صيغة عرض للنص في بعض مقاطعه في صورة متن وحاشية كما هو موضح في النموذج الآتي[29]:
وهذا يمثل نموذج الحاشية المكتسحة لفضاء المتن.
ومنه فإن القدرة الإيحائية لتوزيع البياض والسواد في شعر بلبداوي تقوى باعتباره شاعرا وخطاطا في الوقت نفسه، لأن المشتغل على فضاء الصفحة هو الخطاط وليس الشاعر. وكما تجدر الإشارة- هنا- إلى أن توزيع البياض والسواد لا تحكمه فقط مقتضيات الفضاء النصي، بل يمكن أن يضبطه وينظمه مقتضى الفضاء الصوري في الوقت الذي يتعلق فيه الأمر بإدماج التشكيل الخطي أو الأيقونات المبنية في النص.
العنصر الأخير الذي يمكن تناوله في إطار الفضاء النصي هو المستوى المتصل بعلامات الترقيم، وهو مستوى يمكن أن يدمج بين مستوى الخط، ومستوى توزيع البياض و السواد.
1- 5. علامات الترقيم:
يرى ليوطار أن الوقفات التي تحددها الاختلافات الطباعية، سواء منها تلك التي تفصل بين حروف الكلمة نفسها أو كلمات الجملة نفسها أو جمل الفقرة نفسها، لا تمتلك أية قيمة تشكيلية بصرية، وأنها مجرد حالات خاصة للترقيم، وأن هذا الأخير يتكون من علامات لا أثر لها في السلسلة الكلامية أثناء القراءة بصوت مرتفع[30]. أي أنها لا تبرز كأدلة صوتية، ولكن أثرها كأدلة ضابطة للنبر فقط. والنبر لا يعتبر في حد ذاته دلالة، بل هو مجرد تعبير في رأي ليوطار، كما أنه لا يعد مكونا معزولا عن السلسلة، ولكنه ينتمي مع ذلك لنسق اللغة[31].
إن غياب أو تغيير علامات الترقيم غالبا ما يكون سببا في اتساع الدلالة أو إنتاج معنى نقيض. لهذا السبب- حسب ليوطار- امتنع أرسطو عن ترقيم نصوص “هيراقليطس” خوفا من منحها معنى مضادا[32].
وغياب علامات الترقيم في النص الشعري يمنح تفسيرا واحدا، وهو أن إيقاعية النص تكفي لوحدها لضبط الدلالة وتوجيه المتلقي. لهذا امتنع أيضا مالارميه عن ترقيم بعض نصوصه، واجتهد في تجريد علامات الترقيم من طبيعتها ليساعد في بناء الفضاء الصوري للنص برسم شكل معين، حيث يقول مالارميه في هذا الصدد: “خذوا نصا وضعوه جانبا، ولا تتركوا إلا علامات الترقيم. إن هذه الأخيرة تعتبر مفضلة لأنها تمنح صورة للنص واتساقه. في حين يبقى مدلوله جليا بما فيه الكفاية حتى في غياب علامات الترقيم …”[33].
ومنه فإن علامات الترقيم يمكن تناولها من جهتين:
– من جهة فعلها في إنتاج المعنى والإيقاعات.
– من جهة فعلها في توجيه القراءة.
أما بخصوص النصوص الشعرية المنجزة من طرف بلبداوي فنلاحظ في أغلبها غيابا للترقيم وهكذا مثلا، لا نقف في دواوينه “هبوب الشمعدان”، ” حدثنا مسلوخ الفقرودي “، إلا على علامات الاستفهام وأيضا حضور للنقط كعلامات ترقيم وحيدة، في حين نجد غيابا تاما للفواصل كما هو موضح في النموذج التالي[34]:
هذا الغياب لا يمكن أن يعاد به إلى الصدفة، فهو غياب دال، إذ أنه لا يحصر الأفق الدلالي للنص ويقدمه مفتوحا، قصد اتساع دلالته وانفتاحه على احتمالات متعددة في غياب الترقيم الذي يؤطر ويوجه القارئ، في حين نجد في ديوان “سبحانك يا بلدي “حضورا مكثفا لعلامات الترقيم، وهو ما يظهر جليا في العينة الآتية:[35]
ويعزى هذا الحضور إلى ضبط المعنى والإيقاع، بالإضافة إلى تأطير وتوجيه فعل القراءة لدى المتلقي.
من خلال عرضنا لمكونات الفضاء النصي باعتباره علامة مركبة (الخط، حركة الأسطر، النبر البصري، البياض والسواد، علامات الترقيم) نستنتج أن مختلف مكوناته تعد- قبل كل شيء- موجهة للقراءة، أي لتلقي علامات النص المكتوبة، على عكس الفضاء الصوري بمجموع مكوناته التي يقتضي تأملها كأشكال ورسوم.
2- الفضاء الصوري:
سبقت الإشارة إلى أن الفضاء الصوري مخالف للفضاء النصي، ولكنه يعد مكملا له من منظور أن ما نتلقاه لنقرأه بصريا، من خلال عرض أشكال ورسوم ممنوحة لرؤى بصرية مختلفة ودمجها في فضاء النص الممنوح للقراءة. ومن ثم فالفضاء الصوري يستدعي مرجعية في موقع المتلقي وجسده، ومشاركة منه عن طريق التأمل المتأني الذي يستوجب الانتباه والانتظار والتوقف خلال فترة زمنية أطول لإدراك مقصدية المخاطب الغائب.
ومن هذا المنظور يمكن أن نرصد الفضاء الصوري في شعر بلبداوي باعتباره الفضاء الذي ترتسم فيه الأسطر والعلامات البصرية، كأشكال للرؤية. وفي هذا الإطار يمكن تمييز الحالات التالية:
1.2. التشكيل الخطي (الأيقونات المبنية)
ونقصد به الأشكال البصرية التي تقدمها النصوص المعتمدة على المادة اللغوية في صورتها البصرية من أجل تشكيلها، وهذه الأشكال تعد مجردة لأنها لا تتلبس طابعا أيقونيا باعتبار هذا الأخير علامة تمتلك الخصائص التي تجعلها دالة وإن لم يوجد موضوعها، ومن ذلك مثلا:
أ- الأشكال المثلثة[36]:
نلاحظ من خلال هذا النموذج، شكلا بصريا هو عبارة عن مثلث تبني الأسطر والمادة اللغوية جسمه.
ب- الأشكال الدائرية[37]:
يحتوي هذا الشكل علامة بصرية عبارة عن دائرة جسمها الأسطر والوحدات المعجمية.
ج- الأشكال المربعة [38]:
من خلال هذا النموذج يتبين أن الشاعر بلبداوي بنى شكلا بصريا يحتوي مربعا محتواه الأسطر اللغوية.
وعليه، فالفضاء الصوري المتضمن لهذه الأشكال، تتحول فيه الأسطر المكتوبة من مجرد معطيات لغوية بصرية ممنوحة للقراءة إلى معطيات تشكيلية وظفت لا لتقرأ، ولكن لتشاهد كعلامات بصرية ذات أبعاد دلالية أخرى.
2.2. التشكيل الخطي الأيقوني (الأيقونات المعطاة):
هو كسابقه يعتمد اللغة في بعدها البصري مادة للبناء، ولكن يختلف عنه في كون الأشكال التي يرسمها تتميز بطبيعتها الأيقونية التي تحيل على موضوعها بفضل الخصائص التي تمتلكها، كما يعتمد الأسطر لبناء جسم الشكل، ومن أمثلة ذلك[39]:
نستشف من خلال هذا الرسم أيقون شجرة جسدها الأسطر.
3.2. التشكيل الأيقوني غير المركب:
يماثل سابقه باعتبار مادته، ويختلف عنه باعتبار أنواع الأدلة التي يقدمها، إذ هي أدلة أيقونية تتماثل مع الموضوع، وهذه الأشكال- بدورها- إما أن ترد مستقلة، وإما تكون إطارا يتشكل داخله المتن اللغوي. ومن أمثلة هذا النوع[40]:
يبين هذا النموذج أيقون قدم بشرية تشكل إطارا لمحتوى لغوي.
4.2. التشكيل الأيقوني المركب:
وهو كسابقه باعتبار المادة والأدلة التي يقدمها. إلا أن تشكيله يكون مركبا مثل[41]:
حيث نلاحظ أيقونا من يد بشرية وعلامة مرور.
هكذا فإن المغزى من توظيف العلامات الأيقونية من طرف بلبداوي يتجلى في جلب اهتمام المتلقي نحو التأمل والتأني قصد تحقيق قدرة تواصلية بامتياز، حيث يقول بورس في هذا الصدد:” إن الطريقة الوحيدة لتبليغ الأفكار هي عبر الأيقون، وكل الطرق مباشرة لتبليغ فكرة ما يجب أن ترتبط من أجل تأسيسها باستعمال الأيقون، وتبعا لهذا فكل إثبات يجب أن يتضمن علامات لا يمكن تفسير دلالتها إلا عبر أيقونات”[42].
5.2. التشكيل المجرد:
ونقصد به مجموع الأشكال البصرية التي تقدمها النصوص دون أن يكون لها طابع أيقوني، ولا أن توظف اللغة في بعدها البصري من أجل بناء أجسادها، وهذه الأشكال تتوزع كسابقتها من الأشكال الخطية:
أ- دوائر[43]:
من خلال هذا الشكل نلاحظ دوائر تحتوي فضاء مكتوبا.
ب- مثلثات[44]:
من خلال هذا النموذج نلمح مثلثا مقلوبا تشترك في بنائه ثلاثة عناصر: المساحات البيضاء، المساحات السوداء، ثم الفضاء النصي.
6.2. المتن والحاشية:
وهو ملمح يتردد في أغلب نصوص بلبداوي بصيغ مختلفة، ويمكن أن ينظر إليه- حسب الماكري- من منظورين:
أ- من منظور الفضاء النصي، باعتباره يقدم علامات خطية وفق قوانين معينة.
ب- من منظور الفضاء الصوري، لأنه يقدم عنصرا تشكيليا يتحدد بطبيعته الشكلية البصرية لمشابهته أشكالا تعودت العين رصدها في كتب التراث، لهذا تم استنساخ نماذج من طرف بلبداوي وشعراء آخرين كتنظيم فضائي محمل بدلالة تراثية[45].
ومن بين الصيغ الموظفة في شعر بلبداوي نجد:
أ- نموذج المتن المكتسح لفضاء الحاشية[46]:
ب- نموذج الحاشية المكتسحة لفضاء المتن[47]:
نخلص إلى القول، في ختام تناول الفضاء الصوري من منظور علاقته بالموضوع، إن دلالته دلالة أيقونية، تقتضي من المتلقي جهدا تأويليا مزدوجا لتركيب تلك الدلالة، بامتلاك المواضيع التي تعد مكونات الفضاء الصوري ممثلات لها. وهذا الامتلاك يقتضي توظيف المؤول باعتباره عنصرا مركزيا في عمليتي تركيب وتفكيك العلامة من منحها المقصد الأقرب قصد الإمكان من ذلك الذي يريده المرسل أو المخاطب.
الهوامش
[1]. محمد بنيس، بيان الكتابة، الثقافة الجديدة،1981، ص.48.
[2]. خالد بلقاسم، في الشعر المغربي المعاصر، الكتابة وإعادة الكتابة، منشورات دار المناهل، الرباط، 2007، ص.76.
[3]. محمد الماكري، الشكل والخطاب مدخل لتحليل ظاهراتي، المركز الثقافي العربي، بيروت- البيضاء،1991، ص. 232.
[4]. أحمد بلبداوي، حاشية على بيان الكتابة لمحمد بنيس، المحرر الثقافي،19، أبريل 1981.
[5]. نفسه.
[6]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص.226.
[7]. أحمد بلبداوي، حاشية على بيان الكتابة، المحرر الثقافي.
[8]. نفسه.
[9]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص. 233.
[10]. محمد بنيس، بيان الكتابة، دفاتر كلمات، ط1 ،1991، ص.81.
[11]. نفسه، ص.81.
[12]. المحجوب الشوني، تحرير المعنى من البعد الجدي، مجلة آفاق، العدد5 ،2002، ص- ص. 66-67.
[13]. أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 30.
[14]. نفسه، 16.
[15]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص. 259.
[16]. أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 23.
[17]. أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 59.
[18]. أحمد بلبداوي، هبوب الشمعدان، ص.
[19]. أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 18.
[20]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص.111.
[21]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص. 259.
[22]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص.37.
[23]. بلبداوي، هبوب الشمعدان، ص. 18.
[24]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 39.
[25]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص. 104.
[26]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص.110.
[27]. نفسه، ص. 239.
[28]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 68.
[29]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 6.
[30]. الماكري، تحليل الخطاب، ص.107.
[31]. نفسه، ص.109.
[32]. نفسه، ص.110.
[33]. نفسه، ص. 240.
[34]. بلبداوي، تفاعيل كانت تصهر تحت الخنصر، ص. 16.
[35]. بلبداوي، سبحانك يا بلدي، ص. 43.
[36]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص.67.
[37]. نفسه، ص.71.
[38]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 38.
[39]. نفسه، ص.77.
. أحمد بلبداوي، [40]
[41]. حدثنا مسلوخ الفقرودي، ص. 43.
[42]. الماكري، الشكل والخطاب، ص. 49.
[43]. بلبداوي، حدتنا مسلوخ الفقروردي، ص. 15.
[44]. نفسه، ص. 68.
[45]. محمد الماكري، الشكل والخطاب، ص.246.
[46]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص.27.
[47]. بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقروردي، ص. 6.
ناصر السيابي