«نَبْعة»، هي امرأة نعرفها جميعا بالتأكيد، وإن بدتْ أُمّا خاصة. فشعرها المموج يقسمُ الكون إلى نصفين، وخشونة كفها لم تكن طارئة وهي التي تغرس يديها في حقلها كل يوم. وإن كانت طفول زهران تخاتلنا بأنّها لا تعرف ولا تتذكر الكثير عن هذه الأمّ، إلا أنّها في حقيقة الأمر ترسم يوميات الأمهات والجدّات اللواتي عبرن حياتنا، لنُعيد اكتشافهن فينا.
في مجموعة النصوص الصادرة مؤخرا عن دار سؤال، حوار يمتد من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة بين الأمّ والبنت. البنت التي لديها الكثير جدا لتقوله بينما الأمّ الغائبة نكتشفها من بين السطور. وغياب الأمّ يُسهل علينا إيقاظ أمهاتنا جميعا.
فمن منّا لا يعرف تلك الأمّ التي ينسلُ ماء الفلج من تحت قدميها. بيدها مجز وبالأخرى المشط الذي تسرحُ به شعر بناتها المتشابك. تلك الأمّ التي لو رآها القدماء لكسروا أصنامهم وعبدوا الله فيها. نحن جميعا نعرف جيدا تلك الأمّ. الأمّ التي ترتقي سلالم الصباح لتشعل نار الموقد، فتنتشر رائحة القهوة. الأمّ التي لعرقها رائحة صندل وكيذا. ألوانها زاهية صفراء وحمراء وبنفسجية وشالها أخضر مزخرف ترقص «الحظية» على أطرافه، والأساورُ تلمعُ في معصميها. الأمّ التي تحوّل الأساطير إلى حقائق وحكاياتها تمشي على قدمين. أمّا طقسها «الحنائي» فتلك قصة اخرى، حيث تُحيلُ الهباء الاخضر الى خضاب في الظهيرة، وتتركه تحت النجوم وتدعو الله أن لا يغرب نجم صغارها، تتركه هنالك لكي يأخذ «سكان المكان» حصتهم من الحناء، فلا ينازعون الصغيرات عليها أو يخطفونه من أرجلهن الصغيرة.
الأمُّ التي لا ترسم الورد والفراشات في أيدي بناتها، وإنّما تحول الأصابع إلى مآذن والأكف إلى سجادة صلاة. ويحصل ككل الأمهات أن تمزق «غدفتها» القطنية لتلف الأيدي والأرجل ويبقى صغارها مقيدين طوال الليل.
الأمّ التي تُعلمُ بنت الثامنة خبز العجين فوق الطوبج، قطعة الحديد الملتهبة تلك. أمّا البنتُ التي كانت تُلطخ كل شيء، الجدار، السقف الملابس، وتطلخُ الأمّ أيضا فهي «نحن» البنات على اختلافنا بالتأكيد. «الخبز لم يكن طعاما وحسب/ فالخبازة تضع قلبها فيه». فهذه الذاكرة تكاد تكون مُتشابهة وتخص جيل البنات اللواتي وِلدن في فترة الثمانينات وما قبلها.
وإلى جوار هذه الصور العامّة والخلابة في عوالم الأمهات المُتشابه والجذاب، هنالك قصص لا تخص إلا «نَبْعة»، فخصوصية هذه الأمّ تكمن في كونها انتظرت حبيبها القابع في ظلمات البرج، ورأت أنه يستحق الانتظار كما أنّ ذاكرة هذه المرأة الخاصة على علاقة ما بالشهيدات اللواتي دُفِن في الجبل الاخضر واللواتي أمطرتهن الطائرات البريطانية بالرصاص وهن يحملن زوادات الطعام للثوار اللاجئين في كهوف «إمْطي». وحصل ذات مرّة أن كشف السيل دثار قبورهن فطفح الدم كأول الموت. وربما تشتعل هذه الذكرى كلّما صار لون الحناء في أيدي صغارها بلون التلال التي دُفن أسفلها النسوة. صورة مُفاجئة وقوية وغامرة وجنائزية تخلقُ تضادا هائلا مع رائحة الحناء ولون الفرح وانتظار العيد.
تترك طفول زهران المفردة الشعبية بقوتها بدون شرح كثير «انتوا ممغايين بماي فوادي»، وهي تؤمن بقدرة السياق على أن يُفند نفسه بنفسه. والعجيب أنّ النص المأخوذ من التراث الشفهي ليس نصا هامشيا، بل إنّه أصيل وله صوت خاص في روح النص العام، ويمتلك مبرراته وامكانياته لإضفاء الصدق على صورة الأمّ التي نعرف جميعا، ونسترجعها بتلك الحرارة.
البنت لا تتذكر الكثير عن تلك المرأة «الأمّ»، ولذا فهي تعيد تشكيل العالم من ذاكرة بعيدة وحميمية. فهي أول الضوء الذي انبثق من عينيها، ولكن غيابها جارح. ولذا فالبنت اليوم مشغولة بالتقاط التفاصيل، أدق التفاصيل، لتأثيث هذا العالم الخاص والحميمي عن تلك الأمّ التي تضعُ المشط في كرب نخلة الخصاب. ومن المؤثر أن تقول: « كل شيء كنتُ أراه نقصا وعيبا فيكِ/ أجدني كاملة به الآن» . كم نُشبه أمهاتنا حقا. ونجد أنّ ما نحاربه فيهن يبقى كامنا فينا شئنا أم أبينا.
البنت مثلنا كلنا نحن البنات كانت تكره التمشيط وروائح النارجيل والآس المنقوع وصارت مثلنا الآن تقول: «لماذا لم أدفن نفسي فيكِ». الأمّ التي تقطع من «الليسو» الأخضر خيطا تُظفر به شعر البنت وتلون جبينها بالمحلب. «ذا الغوا.. من هين ضوا».
الأم التي يقودها الضوء المنبثق من عيون أبنائها، وكانت قبلهم تتعثر ويؤلمها السقوط. تلك المرأة التي تضع المحلب على جبينها ليبرد رأسها. تُؤرجح الأمُ ركبتها وتربت على ظهر الطفل. تغني له. المرأة المعجونة بالتعب والحزن اللانهائي.
وإلى جوار اليوميات الصاخبة في الحقول هائلة الاتساع، فهذه الأمّ مُعبأة بقصص الموت ومتوهجة الدمع. ولذا يستيقظ الموت كعبور حتمي للجميع، ويأخذُ صورا عديدة، بياض وكافور ومسك وعود وبخور وثياب جديدة. الأمّ اليتيمة والتي مهما تكاثر عيالها يبقى يُتمها هائلا. صغارها كبروا وما عاد بوسعها الإمساك بهم، ولذا فهي مشغولة دائما بسؤالهم: «اتذكروني يوم أسير عنكم»، ولا تقول يوم أموت عنكم. وهنالك حديث شفاف عن صراعها الصعب لإنجاب جثة، فالحبل السري الذي كان يُطعم الجنين هو الذي قتله وأطبق عليه قبل أن يرى النور. فتحولت الغدفة الزرقاء إلى كفن. وتحولت الجثة إلى عصفورٍ من عصافير الجنة.
هكذا تصاب البنتُ بالعدوى . فالحزن مُعْدٍ ، وقد انتقل الحزن من الأمّ إلى البنت. كلّ ذلك الشعور العميق باليتم وهواجس الموت، دفع البنت لأن تكتب حزنا لم يمس قلبها لكنه مس قلب أمّها من قبل.
ولفرط دهشتي كان عليّ أن أسأل. من عساها تكون «نَبْعَة».. هل هو اسم حقيقي لهذه الأمّ الخاصّة، أم أنّه إشارة إلى منبع الحياة، فكان أن حصلتُ على الجواب من الشاعرة طفول زهران: نعم «نبْعَة» هو اسم أمّي الحقيقي، وتحكي لنا طفول زهران أن جدتها كانت امرأة قوية وصاحبة رأي، فرفضت أن تُسمي ابنتها باسم آخر غير «نبْعَة»، وهو اسم نبتة تنبتُ في أعالي الجبال يُصنع منها القوس و»نبْعَة» أيضا صفة من صفات الكريم. لكن الغريب أنّ النصوص تزرحُ تحت عنف الحزن. الحزن الأقرب إلى الرثاء. بينما «نبْعَة» الأمّ، لا تزال على قيد الحياة. إنه هاجس الفقد واستباق للقلق المضني. يبدو بدقة أكثر: استعارة وتلبس لحزن من نحب حتى يغدو حزننا.
هدى حمد