هذه السنة، في بحر الصيف اللاهب، ذهبنا إلى (انجلترا) باتجاه قرية (بيستن) حيث توجد خالة الأولاد وعائلتها… نزلنا في مطار (هيثرو) هذه المرة إذ أن المقاعد معبأة إلى مطار المدينة الأقرب (برمنجهام).. كانت معاملات المطار الكبير الضاجّ، عادية وسلسة، لا أسئلة ولا استفسارات. أنظر إلى المطر في الخارج كأنما ينتظرني من أزمان، ينهمر غزيراً مدراراً، وسيظل كذلك لأيام قادمة..
لم يعكّر صفوَ الرحلة الطويلة، من مطار مسقط، عبر دبي، أيُ معكّر أو منَغِص في طائرة (الايرباص) الحديثة والجيدة الخدمات… معظم الرحلة كانت على هذا النحو من الاسترخاء وما يشبه الطمأنينة، للصغار والكبار المتسمّرين أمام الشاشات بأفلامها وبرامجها المختلفة.. وبين الحين والآخر يتصاعد شخيرٌ من هنا أو صياح طفل من هناك..
لا أعرف إن كنتُ أشترك مع آخرين في هذه العادة كوني آكل وأشرب أكثر من المعتاد اليومي، حيث أكون على متن الطائرات؟ حتى الحلويات التي امتعنتُ عن تناولها منذ زمن، التهمها من غير مبالاة للسعرات الحراريّة الممتلئة بها..! يبدو أن المرء حين يحس بالخطر ويكون مُعلقا على حافة الانزلاق إلى هاوية العَدم السحيق، تثار حواسُه لا إرادياً من أطايب الحياة التي ينهشهُ قلقُ زوالها، أو .. هكذا.
في هذه الرحلة التي استمرّت على هذا النحو، شاهدتُ فيلم (أوديسة الفضاء) لاستانلي كوبريك، تلك التحفة الفنية البالغة الدقة والجمال، والمدوِّخة في رؤيتها المأساويّة وحدسها لمصير الجنس البشري الحديث. ثيمة العنف التي توارثها هذا الجنس منذ الانسان الأول، حتى وهو يتربع على ذرى التقدم التقني والابتكار العقلي.. الفيلم الثاني كان (كازابلانكا) مرحلة رومانس همفري بوجارت وانجريد برجمان..
وكنت أستعيد أيضا قراءة (مذكرات قبو) لديستويفسكي الذي يوغل في هذا المنولوج الدموي القاتم بالنزول أكثر في طبقات ظلمة النفس البشريّة البالغة التناقض والتركيب..
كانت الرحلة هذه ستصل إلى محطتها الاخيرة. على هذا المنوال من السلاسة والهدوء لولا أنني شاهدتُ وأنا أرفع ناظري بين الصفحة والأخرى باتجاه المقاعد التي بجانبي وأمامي، حين رأيتُ المرأة الثلاثينيّة إن لم تكن دلفت مطلع الأربعينيات على ما أقدّر، المرأة المائلة إلى الشقرة بلباسها المكسيّ المسترسل حتى القدمين الذي يظهر مفاتنها أكثر على ما لاحت في غسق المكان المضاء إضاءة خفيفة، وهي تقوم من الكرسي باتجاه الكرسي خلفها مباشرةً والمشغول بامرأة متقدمة في العمر، لا تفتأ تنقر الشاشة التلفزيونية بقلق مستمر غير مستقرة على حال.. انقضّت المرأة الأربعينية كالنمرة الشرسة من غير ترويض على ما يلوح من تعبير لمواطنها الشهير وليم شكسبير، وبتوتر وعصبية تقذف لكن بصوت خفيض، في وجه المرأة المسنّة الكلمات اللاذعة كأنما في ساحة حرب، المرأة الجميلة تقذف الكلمات إلى التي أزعجتها ربما بحركتها ونقرها المستمرين.. وحين عادت النمرة إلى كرسيها في الطائرة، أخذت المسنة التي تميل هي الأخرى إلى اللون الأشقر، من غير أن تكون انجليزية، ربما من أوروبا الشرقية. التي ينظر الأوروبيون الغربيون المهيمنون، إلى أهلها بعين الريبة والتعالي..
أخذتْ حركات المرأة المسنة في الارتباك والاضطراب حتى وصلت حدّ الارتجاف، جسداً وأطرافاً ترتجف ارتجافاً عنيفاً وكأنما في برهة انطفاء واحتضار (نوبة سكري ربما أو مرض آخر) لم تحتمل وقع الإهانة فاستيقظ المرض النائم بفعل الأدوية والمهدّئات. انتفضت الكرامة الجريحة التي لا تقوى على رد الفعل المناسب بسبب الجسد المهيض تحت وقع الشتات والمرض والإهانة. وكانت بجانبها فتاة بطور المراهقة ابنة أو حفيدة تعتني بها، تغطيها وتعطيها الأدوية، ولا أعرف لماذا لم تردع المرأةَ الشرسة حين تطاولت على أمها على ذلك النحو الدموي؟ هكذا… حتى أتى المضيفون والمسعفون إلى المرأة المسجّاة على الكرسي والتي أخذت في الشفاء تدريجياً والاستيقاظ من سطوة الغيبوبة والمهانة. المرأة المهينة (بضم الميم) لا بد أنها أحسّت بحجم المأساة التي خلّفتها من وراء غضبها الصاعق خاصة حين تجمع المضيفون، لكنها لم تبادر إلى التخفيف من هول جراح المرأة الجارة، بل استمرت في المرح مع عائلتها حتى وصول الطائرة إلى مطار (هيثرو) وقامت مع القائمين باتجاه المخرج، بعد أن ألقت نظرة عابرة على ضحيتّها، ذهبت بشكل اعتيادي..
على وقع ارتجاف المرأة الجريحة التي لفحَتها الأذية والإهانة من يستطيع الهرب من تذكر شعوب بكاملها منكوبة ومُهانة حد المحو والسْحق والابادة تحت أنظار العالم، هيئاته ومؤسساته وكاميراته التي ترصد الطائر وهو يحلق في الأودية والجبال المنسيّة..
ولأني غارق في عالم ديستوفيسكي المتناقض أيما تناقض غريب ووحشي، فقد اضطربت مشاعري تجاه اللبؤة الشرسة، فمن كراهية واشمئزاز أكيدين، إلى تذكر فخذها عارياً وهي تتحرك بهيام على الكرسي وكأنما على ضفاف يداعبها النسيم والموج، ذلك الفخذ البالغ الشبق والبياض المائل إلى الحمرة، حمرة، النار وفتنتها الملتهبة..
* * *
ولأني غارق في (مذكرات قبو) قبو النفس، وأهوائها ورغباتها وانفلاتها على كل قانون ومنطق.. الذي ما زال بين يدي في هذه اللحظة بمقهى قرية (بيستن) يناقش ديستوفيسكي المؤرخ الانجليزي (بوكل) في كتابه (تاريخ الحضارة) أن الحضارة تهذب الانسان وتجعله من ثم أقل تعطشاً إلى الدماء وأقل اندفاعاً لخوض الحروب «المعادلات المنطقية هي التي قادت بوكل إلى هذه النتيجة بالضبط».
إلا أن الانسان كثيراً ما يتعلق بمحبة الأنساق المنطقية والاستدلالات التجريدية حتى انه يكون مستعداً لقلب الحقائق عن عمد وإغماض عينيه وسدّ أذنيه عن سابق إصرار بغية تبرير منطقه وحسب.. لكن التفتوا حولكم وانظروا سترون ودياناً من الدماء لا تزال تجري بحبور عظيم وكأنما وديان من الشمبانيا. هكذا هو قرننا، القرن التاسع عشر، قرن بوكل بامتياز.
في القرن العشرين وما يليه واصلت وديان الدماء وبحارها، يا صاحب الاخوة كرامازف، جريانها وهديرها الأكثر صخباً وحبوراً، في الفتك والتنكيل من بقية القرون الماضية، وإن مالت كفة مراكز الحضارة في البرهة الحالية إلى تصدير الحروب، إلى الهوامش والمستنقعات يبقى جوهر الجريمة التي من غير حساب ولا عقاب واحد موحّد، ألا وهو ظلمة الروح وقسوة الولادة والمصير.
* * *
المطر لا يتوقف … الأبقار المنَعّمة تسرح ناعسة في مراعيها الفسيحة الخضراء، الكلاب بنباح خفيف تشمشم روث بعضها كما الحمير في تلك البلاد، دالة الأثر والعاطفة البهيمية، والشبق..
المطر لا يتوقف إلا بفسحاتٍ بين الديمة والأخرى، ليذكّر شعوب الفرنجة على جاري عبارة السلف البعيد.. فُسحات تضيء المكان المتلألئ بخيوط المطر والشمس الرحيمة، بحضور الجمال المضمخ بالفَقد والغياب..
في خضمّ هذه الأيام المليئة بالأحداث المتفجرة في أكثر من مكان، وهي تمحو بعضها تباعاً كما تشاء لها الارادة العليا والميديا المسيطرة على بشر العالم بمختلف أماكنهم وألوانهم. تمحو بعضها لكن الجروح والحفر والندوب تبقى متناسلة تغذّي بعضها جاثمة متدفقة في الأرواح المكلومة التي تُصبح وتمسي على المجازر والتدمير كيف لها أن تنسى، كيف لها أن تنام إلا في حضن الكوابيس وعرين الوحوش..
هذه الأيام يحتدم الجدَل حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتلك التحليلات الروتينية. وحتى النذر التي يتبادلها الفرقاء عادة في مثل هذه الأحداث..
لكن الملفت، أن عاصفة النقاش احتدمت ليس في البلدان المعنية بالحدث وإنما امتدادها بنفس الزخم والخطورة إلى البلاد التي لا علاقة لها بالحدث، وإن كان لها من علاقة فهي بسيطة وليست من الحساسية بمكان. العالم العربي مثلا بأوضاع الكثير من بلدانه الجحيمية، التخلف والحروب الطاحنة الأكثر بشاعة من الحروب الأهلية المعروفة على مدار التاريخ، غير فاعلة ولا مؤثرة إلا في تمزيق ذاتها والإمعان في هذا التمزيق والتهشيم على كافة الصُعد والمستويات، اشتعلت هي الأخرى بهذا السجال، من الأجهزة الرسمية إلى وسائل التواصل المجتمعية، حتى البلاد المقصوفة بصواعق صمت جنائزي، والتي عادة لا تنشغل حتى بأخبار وأحداث بني «جنسها» و«نسبها» إلا لماماً ومن باب «سمعة المحل » على ما يعبر أهل بلاد الشام المنكوبة، احتدم فيها الجدل والتحليل وتقليب الاحتمالات في فائدة الخروج وخسارته «الخروج» الذي اتخذ طابع الخرافة وليس واقع حيّز مكانٍ وتاريخ وهو كذلك لدى أهله وأصحابه..
بجانب العلل الداخلية في بنية تكوين تلك البلدان وأوهامها، هناك حقيقة الهيمنة الشاملة على مسار المعلومة والخبر وصناعتهما، وهي هيمنة تمتد على كافة أوجه النشاط البشري وأنماطه من قبل مراكز الحضارة والصناعة والقوة والمعرفة فأجهزة الإعلام والمعلومات من خارج تلك المراكز ليست إلا ظلالاً وبقعاً مقلدة باهتة لتلك الممسكة بالمعايير والأنماط على مستوى الكوكب الأرضي..
عولمة قاهرة وأطراف وهوامش مقهورة، إلا على شعوبها المسكينة وهي تائهة مرهقة في خضم البحث عن لقمة العيش وأولويات حياة البشر، فهنا تتجلى قدرة أنظمة الأطراف على السحق والابتكار فيه والهيمنة.. هكذا، حتى يدور التاريخ دورته المفصلية الكبرى من جديد. وليس في الأفق من ملامح لمثل هذا الانعطاف الجسيم على عكس ما يلهج وعاظ ومبشرون من مختلف الملل والأفكار، علمانية، يساروية تلتقي في نبرة الرثاء والتحليل القاصر، لحضارة كبرى آفلة، مع المتن الأوسع من الأطياف الاسلاموية المتصدّرة لهذا الخطاب في البرهة الكارثية الراهنة.
* * *
الكاتب (كازو ايشيفورو) ذو الأصل الياباني والذي يعيش في بريطانيا منذ عمر الخامسة، أحد الغاضبين لخروج بريطانيا المزلزل من الاتحاد الأوروبي، ومن الذين صوتوا (بلا).. وكذلك من ديفيد كاميرون الذي سمح بأخذ قرار مصيري كهذا طالبت به قلة يمينية ذات نزوع متطرف بدلاً من اللجوء إلى التصويت عبر العملية الديمقراطية البرلمانية العريقة.
أوروبا بالنسبة (لكازو) إحدى القصص الكبرى الناضجة في التاريخ الحديث بتحولها من مسلخ للحروب الشاملة والأنظمة الشمولية إلى اقليم يثير الحسد بديمقراطيات ليبراليّة تعيش بصداقة وبلا حدود…. الخ.. وصْف الكاتب لأوروبا قبل تلك التحولات الحضارية الديمقراطية الكبرى، ليس بحاجة لجهد التفكير بالشبيه العربي والمشرقي لمسلخ همجي راهن بامتياز، وثمة فرصة لتصدر الشماتة ببريطانيا بسبب أفعالها الاستعمارية الإجرامية في الماضي خاصة، لكن يبدو أن هذه الغبطة المؤقتة والتي ليست في محلها ستأخذ أبعادها اذا انفصلت الأقاليم الثلاثة .. ايرلندا، اسكوتلندا، وويلز، عن المملكة المتحدة..
هاتان الغبطة والشماتة المتوهمتان. وتوهم الضعف والقوة في الذات والآخر، يصدر عن نقص جوهري في الذات الشامتة في الحال العربي وما يشبهه في هذا السياق، يتدثر بوهم التعويض واستغلال الأحداث والوقائع باخراجها من سياقها الحقيقي لإثبات صحة ما ليس في الجذر صحيحاً على صعيد السياسة والتاريخ.. وهي شماتة مؤقتة تجاه أوروبا التي ما زالت مع أمريكا تهيمن على القوة والمعرفة والمعايير والأنماط.. عليها التفكير قبل أي شطْح في مسلخها الخاص الراهن.
* * *
كنت أحسب مع آخرين أن مزاج السكان في هذا الريف الانجليزي الذي يطل من بين حقوله ومصانع مدُنه وقراه وجه (د.هـ لورانس) البهي (على رغم مرض السل الخبيء) كونه قادماً من بيئة منجمية، المفعم بالحياة والجمال والجسد كما بهواجس الموت وهوامه «من مشى خطوة في طريق النفاق يستطيع المشي في جنازة البشرية جمعاء».
روايته «أبناء وعشاق» ما زالت منذ ما يربو على ربع قرن من الزمان، تلاحقني شخصياتها وحيواتها الغزيرة الضاجة بالحلم والشبق والتمرد على مواصفات المجتمع الفكتوري المحافظ، وأنا أتجول في هذه الأنحاء الخصبة لهذه الأمكنة والأصقاع المفعَمة بجمال الطبيعة والآلهة مثل معظم بلدان اوروبا وأمريكا التي بلغت ذروة التقدم الحضاري والمدني، لكن ليس من غير عنف وريبة تفترس شعوبها، النخب خاصة وتطوح بها إلى صحراء العدم واليباب.
كنت أحسب أن مزاج الانجليزي بعد الحدث الاوروبي، قد تغير دعما ورجحاناً لكفة «اليمين الانعزالي» المحافظ وضد الألوان،التعدد والسحنات الأخرى القادمة من وراء الغابات والبحار . لكنني وأنا أقطع الطرقات، الحدائق والمقاهي والأسواق، لم ألحظ أي علامة فارقة عن ذي قبل، اذ أن الناس مشغولون بالحياة اليومية وبشؤونها غير مبالين على الأغلب بما يقع خارجها من ضجيج، بداهة وكما في كل الفترات تبقى الاحتمالات مفتوحة إلى أقصاها في مثل هذه المجتمعات ذات التركيب والتعقيد المدنيين. وبالطبع في غيرها من البلدان التي يسود فيها قانون المسالخ وحده، يكون المرء أكثر عرضة لاحتمالات العنف والنهب والإحباط.
كانت السماء لا تزال تمطر، وأنا أدلف المقهى بعد جولة الصباح بين الأشجار والحدائق والغابات. وثمة كنيسة محاطة بأشجار الحور والبلوط العالية، تزنرها مقبرة ينام سكانها بطمأنينة في مهب النسيم والمطر الحفيف القادم من ضفاف الفردوس. وعلى بعد خطوتين من الكنيسة والمقبرة، حانة كبيرة تشرع أبوابها ويافطاتها المضاءة حتى في النهار، تحمل اسم (البريد الأخير) كانت الساعة العاشرة صباحا والمرتادون رجالاً ونساء، العجائز منهم خاصة، يتوافدون من أبواب واتجاهات مختلفة.
يأخذون فطورهم وقهوتهم والكؤوس المترعة، ومثل حيوانات مسالمة أنهكها الزمن والحياة، يَردون النبع، يشربون مياه الجبال والأودية المعكّرة… يوقدون أجسادهم وأرواحهم بطاقة جديدة أوشكت على النفاد منذ ليل البارحة يدفعهم العطش الكاسرُ دائما والفراغ، بعد أن ركضت الحياة خلفهم ولم يتبق في الأمام إلا القليل يملأه نبع الحانة بأحلام جديدة يتوافدون وجذوة الأمل المنطفئة تتجدد بوهم الفرح مع الكأس الأول والزجاجة الأولى قبل ان يبتلعهم ليل العزلة والفراغ من جديد.
ربما حدّقوا من النافذة الأنيقة بين الكأس والآخر وهم يديرون دفة الحديث والمرح عن الأيام الخوالي، إلى صحن المقبرة المتاخمة للحانة والمقهى والكنيسة، وبدلاً من أن يتيهوا في تخييل الهيئات والوجوه لسكان باطن الأرض، يرتشفون ثمالة الكأس حتى القعر المرصّع بنجوم أطياف نساء غابرات، رافعين وتيرة الضحك والكلام إلى أعلى سقف تستطيعه حناجرهم المجْهدة.
ذكرتني هذه المقبرة بمقابر كثيرة شرقيّة وغربيّة، في المقابر لا مراكز ولا أطراف، الكل ينام في رحاب الأبدية، ويمكن استحضار جلال الدين الرومي «لا تبحث عن المركز أنت المركز» المقابر هي المركز والمصير الحتمي، ذكرتني بالمقبرة الأكثر إلحاحاً في اللحظة، المقبرة المغربية بالرباط، حين تتجه نحو (الوداية) خارجاً من زحمة السوق القديم (السويقه)، ينفتح مشهد المقبرة البحريّة، عنوان قصيدة لبول فاليري لكن بالطبع مقبرة الشاعر الفرنسي مقبرة رمزية أكثر منها واقعيّة متعينة..
وكنت ذات مرة بصحبة عبداللطيف اللعبي وعبدالله زريقة حين أخذ الحديث عن القصيدة الشهيرة في الأدب الفرنسي والعالمي، وكيف حين يصل الكائن في ارتطامه المدوي بالعدم والخواء الساحقين، يلجأ إلى الالتحام بعناصر الطبيعة الغنيّة المحيطة كنوع من عزاء… مقبرة «الوداية» ليست بعيدة عن ساحة (بلاص بيتري) حيث تقع حانة (اللامارن) التي يؤمها نفر من الأدباء على رأسهم ادريس الخوري الذي حين تشط به الحُميّا وهو سيدها، يتمنى أن يخصص له قبر في نفس المكان الذي يدمّر فيه أحزان نهاراته ولياليه..
* * *
أدخل المقهى معتمراً قبعة وفي يدي مظلة مطريّة، إذ لا شمس كي نسميها كذلك.. على عكس الجزيرة العربيّة التي خُلقت مع شموسها الكاسرة وبشرها الطيبين وفق نعتهم الدائم حتى أصبحت الطيبة ليست خصلة انسانيّة محمودة فحسب، وإنما من فرط ما سُطحت ولاكتها الألسن المنافقة لازمة عضويّة ميز الله بها هذا الشعب او الشعوب المنذورة بكاملها للطيبة والسلام، فيما يشبه الفلكلور الشعبي.
اصطف في طابور طلب القهوة الصباحية التي اخترعها الملك سليمان في ماضي الخرافة العذب البعيد.. واذا كانت كذلك فلابد أنها من علامات حكمته وحصافته، خاصة القهوة في الصباح الباكر. تنقلك من طور خاملٍ متداع إلى آخر مفْعَم بالرغبة والبهاء…. لولا الضغط العالي وما يصحبه من أرق وانعدام تركيز، لسفحتُ منها أكواباً كثيرة كما في الماضي، من الصباح حتى حلول المساء بمرساته الثقيلة، الذي يتطلب حلولاً أخرى أكثر نجاعة وعمقاً تصدُّ بعض أشباح فيالقه الليلية القادمة لا محالة، هي التي أبادت قبلي مقاتلين أشاوس، من أجل الحياة وأحلام الجمال والعدالة، أبادت شعراء عشاقاً مُرهَفين، باتوا ليلهم الطويل يرعون النجوم من غير أوبة، حتى سقطوا مضرجين في الهوة العميقة لليل دامس.
في طابور قهوة الصباح الصغير، أقف ليخرج عجوز حاملاً كوب قهوة كبير بالحليب يقول مازحاً (اعطني مظلتك) ويذهب ضاحكا باتجاه الكرسي والطاولة بين زهور الأكاسيا المفعمة بأنداء الليل..
بدأت ألاحظ أن ذلك الاستفتاء العتيد الذي تسبب في فورة إعلاميّة شغلت القاصي والداني، خاصة أولئك الذين لا علاقة تربطهم بنتائجه ومآلاته، ألاحظ أن ليس ثمة من تغيير واضح لنظرة الناس ومشاعرهم تجاه الغير أو «الآخر» المتعدد الثقافة واللون والأصول. وربما أن مرتادي المقاهي غير شباب الحانات، وربما يرتادونها في المساء، كجزء من نسيج العادة اليومية لتلك الشعوب.
إليوت الشاعر الحداثي والكاثوليكي المحافظ فكراً وسياسة، لا يرى منقذاً من الانهيار القيمي الأخلاقي للحضارة الغربيّة إلا بتمسكها بالقيم الروحيّة الصافية للكنيسة، على غرار كثيرين أدباء وفلاسفة غربيين يتبنون هذا الاتجاه بصرامة، ويقين، وإلا فالتيه والطوفان يجرف الجميع..
(إليوت) في رائعته (قصيدة حب إلى الفريد بروفرك) تلك الشخصية الكاركاتوتيرية الساخرة للانسان الانجليزي والأوروبي، حيث يعود بروفرك إلى بيته آخر الليل ثملاً مترنحاً من فرط تيه السُكر والكحول، وفي الصباح يشرب قهوته المرة. هو الذي «يعيش حياته بملاعق قهوة» هذه الشخصية المشحونة بكثافة الرمز واختزاله لإنسان الحضارة الذي أضاع قيم الدين والروح كما يراها الشاعر الكبير، واستسلم لحضارة السلعة بمعادلاتها المنطقية الرياضية.. فحيث ينتهي المنطق يبدأ الدين، حسب عبارة الفيلسوف الدنماركي (سيرين كيركفور)..
المقاهي في انجلترا مفصولة على الأغلب فصلاً بينا عن الحانات (البابز) الانجليزية العتيقة التي تفوح من جنباتها روائح القِدم العطنة، روائح قراصنة يشقون عباب المحيطات، إلى جزر الحلم والكنوز الذهبية المحروسة من أولئك الأمازونيات المحاربات..
في باريس فرنسا يختلف النمط اليومي لمفردات حياة المدينة، اذ تشتمل المقاهي على المشارب، على الأغلب في مكان واحد بزواياه وردهاته المختلفة الإضاءة والتصميم..
أخرج من المقهى بعد ساعات من الجلوس والقراءة المصحوبة بالكتابة لتزجية الوقت ولتخفيف ثقل مرور الزمن كما عبر بورخس، اتجه إلى شارع المشاة ألمح امرأتي ذاهبة ضمن تيار المارة إلى منزل الإقامة الصيفية، الذي استأجرناه من مالكة هندية، العام الماضي كان من مالك باكستاني، الذي كان مثالاً للطف والصداقة العابرة، في نفس قرية (بيستن)… قال لي صديق ذات مرة، ان الانجليز أحياناً لهم الحق في أن ينظروا بريبة تصل حد العنصريّة إلى الوافدين من أنحاء مستعمرات الامبراطورية حين كانتها، وهم هكذا ملاكاً وأصحاب امتيازات!
الهنود كما هو معروف في التاريخ، أخرجوا المستعمرين الانجليز عبر المقاومة السلبيّة أو السلميّة ولم يسلكوا طريق الإجلاء العنفي الذي سلكته معظم حركات التحرير في ذلك الزمان.. كان هذا المسلك حصيلة رؤية النخب الهندية بقيادة المهاتما غاندي، الذي قتله لاحقاً أبناء جلدته الذي سعى إلى تحريرهم من ربقة العبودية والاستعمار..
صديقي المفكر المتحدّر من أصول فلسطينية يعلق ساخراً بين الجد والمزاح، على الطريقة التي اختارها زعماء الهند في تحرير بلادهم على عكس حروب التحرير الدامية التي كانت سائدة آنذاك وعلى الأرجح في كل زمان.
(لك أربعة آلاف جندي بريطاني يسيطرون على قارة بكتلها السكانية البالغة التعداد، لو بالوا عليهم كان مسحوهم من على وجه الأرض).. لكن الهند تحررّت من غير سفك للدماء وأعطت البشرية درسا بأن التغيير ممكن من غير هذه الدماء المسفوحة….. وفي التقسيم القسري الذي خطّط له وغذاّه عباقرة الامبراطورية الآفلة، إلى الهند وباكستان قضى أكثر من ستين مليون، في تلك الملحمة العبثية المروعة..
تقترحُ زوجتي أن ندخل محلاً لشراء (دواسة) للحمام والمطبخ، تلاحظ أن من بين الدواسات واحدة مخططة بألوان العلم البريطاني تبادر البائع السؤال (كيف تسمحوا لعلم بلادكم أن يداس في المطابخ والمراحيض؟ لو كنت في احدى البلاد العربية لسجنوك مؤبد؟!)..
أجابها وهو يُدخل البضاعة في الكيس (لم يعد ذلك يعني شيئا بالنسبة لنا!)..
ربما كان البائع الانجليزي وهو يعبر عن الشعور الجمعي، أن مضمون العلم ومكاسبه هو ما يهمنا ويعنينا، وليس شكلية تواجده في المكان والبضائع… محتوى الفعل للنشيد الوطني وشعار الدولة، وليس بريق مظهره بإجبار الناس على الحفظ والتهدج به ليلا نهاراً، صغاراً وكباراً بالقسْر والإكراه… ربما كان البائع يعني ضمنياً هذا، وربما لا يعني شيئا على الإطلاق، فالمسألة بالنسبة للانجليزي والأوروبي لم تعد محل نقاش على هذا النحو…
الشاعر اللبناني أنسي الحاج في لحظة غضب وشطح سوريالي قال: «أطرز علم بلادي بروثي» أنسي لم يفعل ذلك بالطبع، بل طرزه بالشعر والحلم والجمال، آخرون طرزوه بالدم والروث…
آخرون دارت عليهم دوائر التاريخ وعقابه . لونوا ذاكرة البلاد بما هو أبشع من البراز والروث، حين أذلوا شعوبهم وسحقوها كرامة ومعنى، في اللحظة التي عجزوا عن صدّ أي عدو قادم من خارج البلاد لاستباحتها وإذلالها.. بل تواطأوا، وهم الذين ادعوا زمنا طويلا الولاء المطلق للوطن والهيام بحبه وهويته القومية… حتى فترة حكم (المماليك) التي يعتبرها أدباء ومؤرخون، كمثال للقهر والانحطاط، ليست بهذه الفداحة. فأولئك القوم المتحدرون من أواسط آسيا القازاخيّة التركية، يدفعون الأعداء عن حياض الأوطان التي حكموها. لقد هزموا المغول (هولاكو) والصليبيين في وقائع حربية مشهودة.
* * *
أجدني، أتبع خطى امرأة زنجيّة تهذي هذياناً متواصلا من الحديقة التي هي لصق المنزل الذي استأجرناه من المرأة الهندية أو ذات الأصل الهندي وفق الوثيقة الرسمية، اذ أن بعضهم ينفي أي صفة من صفات الأصول السلاليّة.. حتى لو كانت ملامحه تدل عليه مائة في المائة أو (مقطّع فوق حصاه) وفق المثل العُماني الذي يدل على طبق الأصل طبقاً لا لبس فيه. المغلوب دائما مشدود إلى الغالب انشداد الضحية للجلاد في المنطقة الغامضة للنفس البشرية البالغة التناقض والتعقيد، خاصة اذا كان دليلنا إليها أمثال ديستوفيسكي أو نيتشه… وفي هذا السياق لم تعد الضحيّة ضحيّة ولا الجلاد كذلك صارت الأولى ترتاح في أحضان بلاد الأخير، بعد أن شرّدها الفقر والظلم وخرافات الأسلاف..
كنت أظن أن الزنجية تتحدث بالتلفون عبر السماعة كما جرت العادة، لكن حين اقتربت أكثر، رأيتها تهذي وحيدة مع نفسها. منولوج وليس ديالوج، حسب لغة أهل الدراما، هذيان الغابة الافريقية بأنهارها المظلمة وحيواناتها الحرة، تلاحق المرأة الافريقية أو ذات الأصل الافريقي. يمكن الفرار من ضيق المكان والبلاد بقسوتهما وفقرهما، لكن لا يمكن الإفلات من الجينة والسلالة، المرأة الافريقية واقعة تحت سطوة الغابة الافريقية، بحيرة فكتوريا وصدْع الوادي العظيم وسحره، كأنما تلقي خطاباً صعوداً وهبوطاً وبنبرات متفاوتة أمام نظّارة مجهولين، تتوقف بين الوهلة والأخرى، كأنما لإتاحة الفرصة لتصفيق المشاهدين الذين يدفعونها، في وحدتها الأوروبية، إلى الحماس وجيشان العاطفة. امرأة وحيدة تخترع لها وجوداً وجمهوراً لتقاوم الانهيار والجنون أو إنها واقعة في قبضتهما بالتمام والكمال، وبهذا المعنى، يكون منولوجها، هذيان مهرج مجنون يروي سيرة الوجود العابثة الصاخبة وفق نزوع الشخصية الشكسبيرية التي درستها المرأة ذات الأصل الافريقي في مدارس أحفاد الشاعر الشهير… الهندي، الانجليزي عبر أجيال متفاوتة لا يرضى بالقول انه هندي، يريد إدماجه ببلد الحضارة المتفوق… وهناك قسم من الهنود يفتخر بهنديته حتى الشوفينية والتطرف. وقد كتب الدكتور كبير، الأستاذ في جامعة (كيريلا) في الهند حول الظواهر الهندوسية المتطرفة التي بدأت تظهر بوضوح في أرجاء الهند وخارجها. وتطرفها يصل حتى إلى الهنود المسلمين الذين لا يختلفون سلالياً عن الهندوس إلا في الديانة، يمارسون التفرقة الحادة كون الهند في الأصل تاريخاً وكثرة بلداً هندوسياً، والباقي دخلاء لدرجة أن بعضهم طالب نجماً جماهيرياً (عامر خان) والسينما الهندية معظم نجومها الشهيرين من هذه الطائفة المسلمة، يطالبونه بالطلاق من زوجته الهندوسية أو الرحيل إلى باكستان، أي أن صورة التسامح التي أرساها الزعيم غاندي وراح ضحيتها، ليست بذلك التماسك والرومانسية، والتطرف الديني أو العرقي ليس حكراً على المسلمين، كما تروج الدعاية الغربيّة والإسرائيلية. بل يمتد إلى جميع الأديان والأعراق..
القسم الأول من الهنود المستَلبين كلياً أمام هوية الثقافة الغربية الغالبة، عالج وضعيته كتاب هنود بمقاربات مختلفة. أتذكر تلك القصة لكاتب هندي، قذف بطله إلى عربة قطار يسافر بين مدن الهند، فما كان للصدفة إلا أن توافيه برجل انجليزي يجلس قبالته في نفس العربة أو المقصورة،، وحين يبادر الهندي بالتعرف على جاره (السير)، يأخذ في كيل المديح والمجاملات لجاره الانجليزي، طوال الطريق الطويل على هذا المنوال، حتى ينفد صبر (السير) وتنتابه نوبة غضب عنيف، حتى يجد نفسه يمسك بتلابيب الهندي ويقذفه من نافذة القطار إلى الخارج..
في المنزل الملتصق بحديقة عامة، وقد استأجرناه هروباً من أشهر الصيف الحارقة، تكون الحديقة ممراً يومياً للمشي والنزهات الصباحيّة، قبل أن أذهب إلى حديقة الجامعة وهذه أكثر من حديقة، انها تشبه غابة ببحيراتها وقناطرها وأدغالها. أما الحديقة المتاخمة للمنزل، فهي متوسطة الحجم، يجلس في بعض أطرافها وزواياها، أحياناً، متشردون، يمتصون زجاجاتهم منذ الصباح، فهم لا يمتلكون المال اللازم للذهاب إلى الحانات.. تراهم يشربون بهدوء ووداعة، لا تلبث أن تتحول إلى ضحك انفجاري صاخب. مرح المنفلتين، على نحو تدميري من أي نظام مؤسسي وانضباط، يصل إلى حدّ محو الملامح الشخصيّة والتعليب، على جاري رؤية (الانسان ذو البعد الواحد) لهربرت ماركوز، الذي استشرف بعمق، تحولات المجتمعات الرأسمالية وآليات الهيمنة الناعمة الساحقة، عبر منتجات وتقنيات وخطابات شتى تذوّب التناقضات والتضاريس الحادة وفق مفكر مدرسة فرانكفورت. خطابات خادعة لكنها فاعلة في مجالها التدميري المزركش بصور الديمقراطية وتنوع الحالات المشهدية للعرض والإنتاج، يواجهه الهامشيون سلباً منذ خمسينيات القرن الماضي وقبلها، بالرفض والقبول بتدمير الذات وإيغال السير في المتاهة والاختلاف. هذا النوع من الحريّة وتحطيم الارتباط بوهم المؤسسة والمجتمع، بالغ الخطورة والعدمية السلبية، إذ يطوح بالكائن إلى هذا النفق المظلم، وإن تبدت نجوم الحرية تتلألأ في أعماق هذه الظلمة، بجمال سرابي يندر مثيله في المجتمعات المسيّجة بالقيم والنظم والتقاليد، وبصورة عامة بدأت ظواهر المشردين (الهومليس) أو (الكلوشار) حسب اللفظ الفرنسي تتقلص كثيرا في مجتمعات الحضارة الغربية الأمريكية. هذه الظواهر بمختلف تسمياتها وتصنيفاتها تركت في القرن الماضي، إرثاً إبداعياً وفنياً فريداً، لكنها اليوم بسبب التحولات والتعقيدات تميل إلى التلاشي والإفلاس إبداعياً وجمالياً عن ذي قبل بانتشارها حتى في الحركات الثورية ثمة لطْشة من هذا الكائن الحر المنفلت، وبفوضى الشكل والملابس الرثة المبهدلة كدليل على التقشف الثوري ورفض المظاهر الباذخة. حتى في بعض المجتمعات العربية كان لها صداها وكان المنتمون إلى الوضع الرافض جذرياً للسائد والمهيمن، يتقمصون الشكل «الفوضوي» ومن بينهم شباب ينتمون إلى عائلات ميسورة وثريّة.. ربما نوع من تقليعات الموضة المتغيرة على مسرح الأحداث الاجتماعية باستمرار..
ذات صباح رأيت (متشردين) في طرق الحديقة حيث مقاعد الجلوس، وأمامهم تقف شرطيّة بلباسها الرسمي.. كانوا يمرحون معها كانها واحدة من الشلّة وهي تجاريهم بكثير من الألفة والحنان والتدليل.. مشهد يندر، بين بشر الانضباط الأمني والعسكري، وكائنات الليل المحلقة في سماء حريتها القاتلة. ربما لأننا في منطقة ريفية، إذ أن المدن الكبيرة من الصعب أو المستحيل أن ترى مشهداً مماثلاً..
* * *
اليوم، يوم سبت، لا نيّة للذهاب إلى مدينة (نونتجهام) القريبة والأنيقة بشوارعها ومحلاتها، ما زال سحر الصيف في أوله.
أصحو من نوم عميق يعزّ مثيله وسط غمغمة الجبال البركانية وهدير المكيفات. أجد (ناصر وعزان) قد صحيا قبلي مُتسمرين أمام التلفزيون. أجلس معهما ريثما أشرب شاياً، لا يلتفتان نحوي، ولا يردان على ندائي، كان التركيز الكلي نحو الشاشة وعالمها الحر الفسيح بالنسبة لهما.
أتابع معهما فيلم الأرنب الجميلة، التي تحلم أن تكون شرطيّة لكن الجميع يسخر منها، وتخوض التحدي حتى تحقق حلمها. وحين تذهب إلى المدينة لممارسة عملها تستقبلها السخرية الأقسى من مسؤوليها في العمل. فما كان منها إلا أن تجبرهم على الاقتناع بانجازاتها النوعيّة غير المسبوقة، كأن تحصد مائتي مخالفة في يوم واحد. وحين تبدأ بعض الحيوانات في الاختفاء من طرف جهة مجهولة، تقوم بالتحقيق والكشف. وكذلك مواجهتها للثعالب الشرسة الماكرة. وغير ذلك من الافعال البطوليّة، حتى ينتهي الفيلم بعالم مثالي تذوب فيه الخلافات والتناقضات، بتحالف الحيوانات العاشبة واللاحمة. وأن التوحش ليس قدراً ومصيراً وإنما الألفة والاستئناس والتضامن.
أخرج من البيت المخلع الأوصال اذ أن صاحبته تؤجره على مدار العام للطلبة العابرين الذين لا يهتمون بأوضاعه. ميزته انه ملاصق للحديقة، تخرج من ضيقه إلى فضائها الواسع المفعم بالطيور والندى والأشجار . آخذ جولة في حديقة البيت، أنظر إلى التماثيل في الزوايا والممرات منتعشة بهذا البرد الخفيف، 14 درجة الحرارة، بالنسبة لشتائها القارس، الذي يشبه الصيف بالنسبة لنا، وإن كان نقيضه، في القسوة والتطرف، أصل إلى الزاوية التي يجلس عادة فيها (الهومليس) وقدخلفوا وراءهم بحيرة من الفوضى والقيء، يتموج مع النسيم… تركوا أثرهم العابر ورحلوا إلى المجهول. بمعنى من المعاني، المصير نفسه الذي يمضي اليه الجميع مع غض النظر عن سلوكهم ومقاماتهم، مهما كانت أهميتها في هذه الدنيا الفانية السريعة العطب والزوال.
الكل يبحر في السفينة الكونيّة الراحلة صوب المجهول الغيبي الغامض. هذه الهواجس والأسئلة فيما يتعلق بالحياة والمصير، على بداهتها، من المفيد تذكرها كي لا يأخذنا الغرور الزائف بالتميز والفرادة عن أولئك المشردين والمهمشين..
في هذه اللحظة، تهاجمني وهي طالما هاجمتني ودمرت مضجعي، حشود المقتلعين من أوطانهم وديارهم عنوةً وقسراً، لا خيار حياة وسلوك مثل مشردي البلاد الحضارية القِلة. ذلك ترف لا يحلم به أولئك الذين طحنتهم وتطحنهم آلة القتل المستبدّة. شعوب بكاملها تتبعثر في التيه والشتات، وبكل أنواع الأسلحة والجيوش والميليشيات، الصغيرة، المحليّة الاقليمية الدولية، نهاراً جهاراً وليلاً دامساً غليظاً غلظة أفاعي الجحيم، حلّ على الضمير الإنساني، على الوضع الانساني بمؤسساته ومنظماته ومكتسباته التي ناضل من أجلها تاريخاً طويلاً ولم يصل إلى تجاوز بربريته الأولى إلا إلى بربرية حديثة، تطل الأولى عليها كذكرى لطيفة أمام هول الأسلحة والاكتشافات التقنية الاباديّة، رغم ذلك الديكور الانسانوي الخادع البراق. لقد بدأت هذه الملحمة التي تفوق كل تراجيديات التاريخ البشري، بالشعب الفلسطيني، حتى الشعب السوري راهناً وقد تكالب عليه كل صنّاع العدوان والقتل، كأنما أولئك الملايين من الأطفال والرجال والنساء، ليسوا منذورين للقمع والاستبداد المتراكم والذي تعاني منه كل الشعوب المنكودة، وإنما قربان لآلهة الدم والعنف والقتل الكونيّة.
لكن الذاكرة المضرجة بكل هذه المآسي لا تنسى أحداً..
* * *
اليوم أحد .. أمشي في الحديقة باتجاه المقهى.. شمس تتخللها غيوم منعشة، بحيرة الأمس لقيء المتشردين جفّت، وبقي أثرها الأبيض منداحاً على الأرضية العشبية قريباً من الشجرة العملاقة..
عيد الفطر لملايين المسلمين في أرجاء الكوكب الأرضي، هنا بالطبع لا يذبحون الغنم والخراف على العشب ولا في الطرقات وأحواش المنازل.. لكن إحساس العيد وطقوسه لأصحاب الدين الحنيف على حالها من الثبات والسلوك.. حتى (الشواء) العُماني الذي يُستخرج من حفرة اللهب بعد يوم أو يومين كما هو متوارث عبر أجيال، سيكون حاضراً، اذ أن عمانياً فتح مطعماً في مدينة مجاورة مطعم عُماني في البلاد الاوروبية يقدم الوجبات التقليدية التي بدأت ذاكرة العُماني في نسيانها التدريجي حتى في عُمان نفسها. بداية طيبة لتفتح وعي العُمانيين المنكفئ على أفق التفاعل مع العالم مهما كان بعيداً. على الثقافة والتجارة والبحث كما كان لدى الأسلاف والأفراد هم الذين يحتفظ التاريخ بمبادراتهم ومغامراتهم الخلاقة، هجرة أهل بلاد الشام بكل أقطارها، في اكتشاف العالم واختراق الآفاق منذ القدم، ومنذ القرن الثامن عشر في العصر الراهن، كانت هجرة أفراد مغامرين ومبدعين، وليست جيوشاً ومؤسسات.
ترك أهل بلاد الشام العظماء، والصفة ليست مجانية، علاماتهم العميقة في الثقافة والسياسة وبناء الدول. في الطبخ وأنماط السلوك الجمالي العريق. حفروا فرادتهم وإضافاتهم على الحضارة البشرية في كافة الصُعُد والمجالات..
يوم أحد، في شارع المشاة الصغير، أرى نفراً قليلاً من أهل البلاد، على الأرجح، ذاهبين إلى الكنيسة التي تزنرها المقبرة الطحلبية بالقرب من حانة ومطعم (البريد الأخير) وبصفتها ملتصقة بمكتب البريد الرئيسي في القرية، رأيت أفرادا يذهبون لإيداع الرسائل في صندوق البريد وفق النمط الذي أضحى نادراً وتقليدياً أمام النت والبريد الالكتروني الكاسح.. ثمة حنين إلى الماضي بعاداته وطقوسه، إلى روح التواصل البهيج عبر صحراء الغياب، الذي أخذ يتوارى خلف جبال الآلة وأزرارها الصماء، حيث الظمأ إلى حضور الجسد والروح الذي استبدل بذلك الحضور الشبحي الخادع. وقفت أتأمل الذاهبين والعائدين من الكنيسة وصندوق البريد المفتوح على مطر الذكريات والزمان..
سيف الرحبي