«تبدو السماء شاحبة بفرط ماحبسها الرجال في اطار ضيق»٠ هكذا كانت تستعيد فاطمة المرنيسي صورة الفناء الداخلي، ذاك الحريم الفسيح حيث عاشت أمها بمدينة فاس البالية٠تختزل هذه الجملة المنتقاة من كتاب أحلام النساء تصورها لعلاقة مجتمعاتنا الاسلامية مع العالم ومع الاخر٠ فلا شيء كان يؤرقها أكثر من الفضاءات المغلقة والمظلمة وماكانت تصطلح عليه بالحدود٠ ولاشيء كان يذكي فيها الحياة والحيوية قدر الضوء المشع الذي كان يغمر بيتها بالرباط ومحاورتها للضيوف الذين كانت تستقبلهم بأناقتها وبساطتها المعهودتين.
وبما ان فاطمة المرنيسي كانت كلا لا يتجزأ كوحدة متماسكة إن في علاقتها بالمكان، في طريقتها في العيش أو في أسلوبها الفكري ، فإننا ندرك كيف أن جملة كهذه تبقى معبرة عن إرثها الإجمالي٠ فهي تشير إلى منبع الخنوع والاستسلام الذي حاولت طوال حياتها أن تنعتق منه وتساعد أترابها على التحرر منه ٠ وأعني بذلك الحريم التاريخي والرمزي كفضاء سياسي بامتياز٠كما أن هذه الجملة تشير بالبنان للمجتمع الأبوسي الذي ما لبثت تنتقده منذ رسالتها حول الإيديولوجيا و الجنس والإسلام ٠فهي آثرت حينها أن تهيم كما تسوغ لها قراءاتها في مراعي الذاكرة المسلمة، لتبرز جانبها الإيروتيقي والجنسي الذي عملت السنون والتقاليد على إخفائه٠وأخيرا تترجم الجملة ذاتها رغبتها القوية في تحقيق حلم المرأة ذات الجناحين الذي طالما راودها لتنعتق بالكتابة وتحلق كما يحلق طائر السيمورغ لملاقاة الآخر قصد التعرف أكثر على ذاته.
قد يفقد الأكاديميون حسب اختصاصاتهم العلمية بوصلتهم إن هم أعادوا قراءة كتابات المرنيسي المتحررة من القوالب الجاهزة حيث سيجدون جنبا إلى جنب السرد بصيغة المفرد والتحليل السوسيولوجي ومعرفة النصوص القديمة إضافة إلى إدراك عميق للنزاعات الجيوسياسية. ولا غرو أن هذا الخليط المتميز الذي يجمع اللاتقليدانية في المقاربة والدقة في الملاحظة هو الذي مكنها من تحسس ماهو أساسي بل استباقه من خلال إرهاصاته الأولى٠كما أن هذه الميزة هي التي أهلتها لتكون ملاذ العديد من المحللين التائهين الذين قصدوها أو استشهدوا بأقوالها بعيد أحداث 2011. كما لو أن تصورها بخصوص الثوابت الثقافية الديمقراطية الذي يفترض بناءها من تحت اكتسبت بين ليلة وضحاها صفة اللزومية، في أعين قراء كانوا يصنفونها فقط كمفكرة نسائية.
ماذا حاولت المرنيسي أن تقوله لنا حول تلك الثقافة الديمقراطية التي لازالت في طور جنيني؟ إنها تذكرنا أن المسلمين يجرون وراءهم من وجهة نظر أنثروبولوجية حداثة مبتورة منذ قرون. وأن محاربة المعتزلة والفلاسفة والاصلاحيين تدل على رقصة مميتة بين الحاكمين والأفراد، وأن هذا المعطى التاريخي لازلنا مهووسين به. انطلاقا مما سلف، تعتبر المرنيسي أنه لا مجال لاستيراد الديمقراطية بل إنه يجب إعادة استنباتها ، عبر قراءة متحررة للقرآن وللموروث الأدبي.
وللتأكيد على ذلك، كانت تحبذ الاستدلال في نصوصها الفرنسية والانجليزية بمقاطع مخطوطة بالحرف العربي، منها مثلا هذه الجملة البديعة لابن سينا : «بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم». وكأنها تترك للمفكرين القدامى مهمة انتقاد الفكر الظلامي لئلا ينظر لما تقوله في الموضوع على أنه مجرد رأي. ولقد كان بحثها الدائم عن الركائز الثقافية للديمقراطية يتماشى مع ريبها المستديم من الإمبرياليات ومساندي السلطوية الذين لم يكونوا سوى سند للجماعات المستبدة داخل البلد٠ إلا أن انتماءها لزمانها وقدرتها للإنصات دوما لنبض المجتمع والمستجدات والتقلبات الثقافية كان يزكي لديها قناعة راسخة بضرورة البحث دوما عن سبل الأمل. فهي لم تمل يوما من تقفي أثر مبتكري المستقبل ، سواء كانوا مبدعين مدنيين يأملون إعادة تأسيس اجماعة الديمقراطية في الأطلس، أم كانوا نساء صحفيات، يفرضن أصواتهن على شاكلة شهرزاد، أم كانوا مثل السندباد ينسجون الخيوط على الانترنيت لإخراج قراهم من العزلة٠
لم تكن فاطمة المرنيسي تؤمن البتة بقدرة المؤسسات المتكلسة والزبونية على إبراز دينامية ديمقراطية. وكانت بالمقابل تحس بالأسى لتفكك المدينة كفضاء سياسي بفرط ما إبتعدت النخب عن المجتمع، عكس ما كان الحال في صباها حول جامعة القرويين. إذ كانت ترى في هيمنة الفردانية الاستهلاكية والمتعجرفة على حساب صعود أفراد متضامنين مصدرا مريبا من مصادر العنف٠ لذلك كانت تعتبر من مهامها كباحثة ومواطنة المضي بشكل مستمر ومتوارث للأسواق والجوطيات والتحدث في الرباط وسلا، دون الإدلاء بهويتها للشباب قصد التعرف على الموسيقى التي يستمعون إليها أو كيفية عيشهم داخل بيوتهم. كل ذلك كانت تقوم به ليس فقط كعالمة اجتماع ولكن كذلك كامرأة ذات إيمان روحاني متشبتة بخلق المحبة فوق كل شيء.
ادريس كسيكس