مبادئ الأسلوب ومساربه النفسية:
تكاد تكون الأسلبة ،بكل مستلزماتها اللسانية والإيقاعية والبلاغية ، رديفا للشعرية في دلالتيها العامة أو الخاصة ، بحيث تؤهلها الغواية المشتملة عليها بلاغتها لأن تقارب الشعرية في أصفى تجلياتها الإبداعية ، تتماهى كل من الشعرية والأسلوبية خلال ذلك التناجز حدّ التدالّ والمطابقة ، لذلك فإن كلّ لغة جميلة في العرف الأدبي العامّ متضمنة بالطبيعة للشعرية، لذلك فإن الأسلبة تعدّ مستوى إبداعيا متوافرا على نضج في الأدوات التي تخول له الانتقال من الغائية إلى الإمتاعية العفوية الحرّة .
وكيف للأسلبة ألاّ تنزاح إلى الشعرية وقد كانَتْها منذ أوليَّاتها لأنّ الشّعر(… اتّفق في الأصل غير مقصود إليه ، على ما يعرض في من أصناف النظام في تضاعيف الكلام ، ثمّ لمّا استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه قد تألفه الأسماع وتقبله النّفوس تتّبعوه من بعد وتعلموه …)(1)، وحتّى ظلّ تناجزهما يأتي في شكل إشارات نقدية كنائية إلاّ أن المنزعين ظلاّ متطابقي الوظيفة متبايني المسمّى والاصطلاح ، والأسلوب بقوة استيعابه لمختلف النزوعات الإنشائية يحتضن كمون الهاجس الشعريّ باعتباره صنفا من أصناف النظام ، لأنّ ( … العمل في المبالغة والتكرير إنما هو على المقطع لا على المبدأ ولا المَحْشَى )(2) ، لهذا كان تحسّس المناطات البنائية قائدا توطيد آصرة التناجز بين الفنين ، فنّ الأسلبة وفنّ الشعر.
والذي يتمعّن الدلالة الاصطلاحية يلفي وزن الأسلوب أي الأفعول منطويا على بعض أسرار الوظيفة الفنية ، إذ كل ما أتى على هذا الوزن من أمثال : الأحبولة ، الأكذوبة ، الأنشوطة ، الأقصوصة وغيرها كثير يدل على الحِيلْة الحِلْية لما فيها من دلالة المبالغة المفيدة خاصّ اللّغة الخاصّ.
ومع أنّ الدرس البلاغيّ لم يفرد عنوانا للأسلوب واضحا فصنوه في ذلك أنه لم يفرد عنوانا لفنّ التوصيف مع أنه المرتكز الإجرائي الحاسم الذي يبنى عليه التشبيه والاستعارة ، ومع ذلك فإننا لا نعدم أن نرى حازم القرطاجنّي يخصه بباب يسمي فيه الأسلوب باسمه صراحة غير أن المستدرك عليه أنه ظلّ يجري به إلى جهة الدّلالة دون الكيفيات التشكيلية ، وما تعدّاه إلى جانب الصياغة من اللغة البتّة ، وحازم وإن أجر على بذل أسباب الملاءمة بين الشعرية والأسلوبية إلاّ أنه ظلّ يعني أساليب التوقيعات الدلالية الشعرية بسطا وانقباضا ، جِدّا وهَزْلا(3) ، ونعتقد أن حسّ تشعير العبارة لابدّ له من يسلك سبل التحسينات الأسلوبية العفوية ذللا ، يبتغي ضمنيا قيما جمالية تسري على جميع أصناف الأنظمة بما تستلزمه من عناية بالصوت اللغوي وتوزين توالي المقاطع في اللسان والسمع وتوقيع العبارة حتّى يُتّخذ من جميع هذه التحسينات هوية بنائيا تتناجز خلاله الشعرية من الأسلبة ، وتغدو كل جهة الفنين المتناجزين دالة على الأخرى معلّمة لها ، والشّعر بعد أن كان يتشخص في أولياته الانطباعية ضمن السلوك البلاغي المتأنّق، صار لاحقا وفقا لتلك التلازمية إياها بين المنحيين ، منحى الشعر ومنحى الأسلوب واقعا في صميم العملية الإبداعية الحرّة التي صارت محط اهتمام الأدباء كما هي متداولة في ظاهرة الشعر الحرّ ، والكتابة حيث يُتَحَرَّى في جميعها جدر الإطراف والامتياز.
يمنح المنحى الأسلوبي لغة الخطاب خصوصيتها الشعرية ، فلا يمكن إذا تصور شعر دون حصول تميز في الأساليب ، لذلك ، وبناء على هذه المرجعية البلاغية ، فإنّ الخصوصية الأسلوبية هي بمثابة روح الشعر وإيقاعه ، وهي نقطة تأوّج إبداعي تبلغها لغة الشعر ، حيث يجوز لنا القول : إنّ الخطاب إذا خلا من الخصوصية التعبيرية فقد بالضرورة هويته الشعرية ، واستتباعا لهذا ، فإنّ الخصوصية الأسلوبية مضافا إليها القيم التوقيعية قد تكفي وحدها لتكون خصيصة تشعيرية حتى ولو غاب التوزين العروضي والتشكيل التقصيدي إذ هما اللذان يشترطهما التفكير البلاغيّ القديم لحيازة النظم مرتبة الشعرية.
ولقد سعينا في سبيل تجذّر الأصول الأسلوبية للنزوع الشعريّ إلى أن نرى في قول الجاحظ عن تداخل الشعرية مع النثرية أنّ (…الكلام المنثور المبدوء على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي حوّل عن موزون الشّعر …)(4) ، وقد عنيَ الكلام المنثور المبدوء على أولية النزوع الأسلوبيّ التي تسبق بصفاء طبيعتها البلاغية غلى الحسّ ، أين تكون مادة لغوية فنية وجمالية خامّا لم تتّخذ سبيل الجنسية أو النوعية .
وللأسباب المسوقة التماسا منا لتشخيص سمات التناجز بين الأسلوبية والشعرية ألفينا أبا حيّان التوحيدي يشير إلى خصوصية أدبية الجاحظ يلابسها بالخصوصية الأسلوبية حتى تبلور نظره في مفهوم المذهب والذي تتساهم فيه جملة من العوامل والمؤثرات هي (… الطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ …)(5) ، وهذه العوامل مجتمعة هي التي تطبع الخصوصية الإبداعية .
وإن الذي نستوثق به غاية الاستيثاق في البرهنة على أسباب تناجز الشعرية مع الأسلوبية هو تلك الإشارة الصائبة التي أوردها عبد القاهر الجرجاني لدى توكيده الخصوصية الأسلوبية لأدبية الجاحظ ، حدّدها في جمالية الأسلوب المتّسمة به خطب أوائل كتبه ، حيث أشفعها لتبيين قيم التناجز بين الشعرية والأسلوبية قائلا : ( … والخطب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان والأسجاع …)(6) ، ثم ساق عبد القاهر الجرجاني عينة أسلوبية جاحظية خاصة نصّها مثبت في الحيوان :(… جنبك الله الشبهة ، وعصمك من الحيرة ، وجعل بينك وبين المعرفة سببا ، وبين الصدق نسبا ، وحبّب إليك التثبيت ، وزيّن في عينك الإنصاف ، وأذاقك حلاوة التقوى ، وأشعر قلبك عزّ الحقّ ، وأودع صدرك برد اليقين ، وطرد عنك ذلّ اليأس …)(7)
يمكننا تصور التجويد الأسلوبي مرحلة سبقت الشعرية ضمن شروطها البنائية والتوزينية حتى انتهت بفضل تلك التوصيفات الأدبية لأن تكون ضربا من الأدبية تعورف عليها لاحقا بفنّ الشعر ، واستجابة لذلك التناغم الفني بين الأسلوبية والشعرية فإنه يمكن ترافدهما معا بحيث يستساغ الانتقال من أيهما غلى الآخر ليصبح دالا عليها ومفضيا ، والشعر في أولياته حسب اعتقادنا لم يكن سوى ذلك التميز الأسلوبي الذي بمكننا بناء عليه تمييز الشخصية الإبداعية استجابة لمقولة بوفون: الأسلوب هو الرجل نفسه ( Le style est l’homme meme ) (8) والتي أدلى بها سنة ثلاثة وخمسين وسبعمائة وألف أمام الأكاديمية الفرنسية للعلوم ، وقد عنى بتوقيعه التعريفيّ هذا أن الخصوصية الشعرية بأساليبها التوقيعية والتصويرية والسردية يمكن أن تعلم لخصوصية لغوية وأسلوبية لا تشاركها التجارب الأخرى في الخصائص الإبداعية ، ووفق هذا المؤدى فإن الشاعر لا يستحقّ أن يكون كذلك إلاّ إذا كان أمير كلام يستطيع باتصافه ذاك أن يشق المنطق ويقترح الأساليب ، ومن ثمة فإن بهذا نصل إلى التلازم التالي : لا يمكن للشّعر أن يكون شاعرا إلاّ أذا امتلك الرتبة الإبداعية العليا أي تلك التي تتسامى على العادي ، وكذلك فإنه لا يمكن للأسلوب أن يكون سالبا لقلوب قرائه إلاّ أذا ارتقى متجاوزا أساليب العامة والدّهماء ممن لا يزالون يتخبطون في المسائل التعبيرية الأولية التي هي قواعد اللغة العربية فما مّكنهم ذلك التّيه والتّخبّط أن يتجاوزوها إلى مدارج الإبداع العليا .
ونظرا للخصوصية الفنية للنزوع الأسلوبي فإنّ له لفضل تلك الهوية البلاغية مناخا إبداعيا كأنه لا ينجع إلاّ فيه ، ففي حيّز هذه الإرسال الارتجالي تتلابس الشعرية مع الأسلوب ، لذلك يستوجب على المنشئ في هذا المناط أن يبقي على الهاجس عائما ،والتماسا لهده الغاية الإبداعية قارب البلاغيون كمونها الإبداعي ، نصحوا بعدم تدقيق المعاني وعدم تنقيح الألفاظ كل التنقيح ولا تصفّى كل التصفية ، ولا تهذب غاية ، وميزوا خلال الإجراء بتوخي الاستطراف والتظرّف عوض الاعتراض والتصفّح (9)، ففي حال هذا التناصف الذي هو ملتقى المقاصد والنوايا تتناجز الشعرية مع الأسلوبية إذا بترافد الشعر مع الأسلوب خلال ذلك التناجز القبلي الذي يسبق الإخراج النهائي لصورة الخطاب تتحقّق الرؤية الافتراضية التي أسسنا عليها هذا البحث ، حيث يكون الخطاب عبارة عن أمشاج واختلاجات وظنون قابلة بتحفزها الإبداعي أن تفضي إلى عدة مكونات أدبية احتمالية أهمها النثر الفني والشعر تضمهما جمالية الشعرية المطلقة معا.
نستوثق بمنهج التناجز بين الأسلوبية والشعرية بناء على الإشارات النقدية التي تحتفل بالظاهرة الشاعرية انطلاقا من المقصدية الإمتاعية اللاّحقة بتجويد العبارات وتوقيع الأساليب ، وهذا السياق التداولي للأسلوب هو ذاته الذي يؤسس الشعرية من منطلق حدين هما: أثرها في النفس ، وأسلوبها .(10) ، وهكذا فإن سياق التحوّلات المتتالية من البلاغة إلى الأسلوبية إلى الشعرية ظلت برهانا قاطعا على مصداقية التناجز بين وازعي الأسلبة والتّشعير.
ومن وجهة قرائية أخرى ، فإنّ الشعرية في صميم تجلياتها نزّاعة مبدئيا إلى اقتراح البنيات التعبيرية الخاصة جدّا التي تغدو لا حقا شهادات تعبيرية محفوظة الهوية الإبداعية تبعا لتميّزها الأسلوبيّ ، واللغة إذ تحوز تلك الخصوصية التعبيرية إنما تحقّق ضمنيا غايات شعرية حتى وإن افتقدت التوزين العروضيّ ، وحتّى أن متعتيها اللسانية والسماعية كفيلتان بأن تنتجان وحدات تلفيظية شبيهة بالإنشادية ، فالناس استئناسا بتلك المزية بتسليط القراءات الفنية على الخطاب المؤسلب ، يبالغون في تحقيق الأصوات اللغوية وتجويد المقاطع بما يشبه التغنيّ متطوعين في إبراز المكونات اللسانية المتزنة ، وعلى أدق توصيف فإنّ اللغة المؤسلبة تتطلب قراءة مسموعة خلاف التعابير المفتقدة للقيم الأسلوبية .
تحتفظ اللغة المؤسلبة بتلك العناية الإبداعية راقية من مجرد الاستعمال الخبري الغائي إلى التنميق والزخرفة والرقم ، ولو استقصينا الأبعاد الإبداعية المنطوي عليها النمط الأسلوبي المتضمّن آليا ضمن تلك الإجراءات البلاغية التحسينية عرفنا أنّ بفضل ما يتمتع به إجراؤه من حرية وانطباعية قمين بأن يحرر الشعر ذاته من الانغلاق التقصيديّ ، ومن ثمة فإن النزوع الأسلوبيّ ضمن العملية اللغوية كأنّه يعيد الشعرية إلى منابعها الفطرية الصافية التي كأنها الشعر قبل القصيدة توافقا مع نظرية الفنّ للفنّ .
يتطلب التجويد الأسلوبي مثله مثل الشعر ضروبا من التركيز الحسي ، وذلك هو المجال الذي نحسبه راتقا هويتي الأسلوبية والشعرية عن طريق (… إبراز الخصائص الملازمة للّغة الجمالية …)(11) ، وقد تستعين هذه العناية الفنية بالمهارة الشفوية ، وقد حرصت البلاغة العربية منذ أولياتها على توظيف هذا الإجراء ، واعتماده مرتكزا فنيا تلخص في اهتمامهم البالغ بفنّ الإنشاد حتّى رُؤِيَ إليه على أنه المحكّ اللساني السّماعيّ تنسجم خلاله إبداعية الشعر ، لأن حسن الانسجام المترتب على إتقان الغريزة حسب العناصر والوحدات المتحسسة لسانيا وسماعيا مفض إلى توزين التلفيظ ، وإن كان هناك إخلال بتوزين المتجاورات اللسانية ، وحتى إذا ( … كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيا موافقا ، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة )(12) ، والشعرية في أصفى تجلياتها الخطابية لا يمكنها إلاّ أن تتزوّد بذات المعين الذي تتزود منه الأسلوبية(13) ، وباستواء الأسلوبية على هذه الغاية الإبداعية فإن الشعرية ستظل محتفظة لها بمرجعيتها الطبيعية الفطرية التي أوجدتها أوّل خطرة.
الشروط اللسانية لتناجز الأسلوبية والشعرية :
ونحسب أن الشعر والأسلوب كانا في حيّزهما النفسيّ الانفعالي في صدورهما عن الذات الشاعرة أو المؤسلبة متواشجين بناء على إفراطها في تحسّس العناصر اللغوية ملسونة أو مسموعة، حتى تبلغ القوى الحادسة لمختلف الانتظامات مبلغي التوقيع والتوزين على اعتبار أن المفس تطرب لنسقيهما بحيث لا يستطيع التشعير أو الأسلبة إلاّ أن يتناغما ويتناجزا استنادا إلى هذا المرتكز الحسيّ الغلاّب الذي يصدران عنه مبدئيا ، والشعر بما أوتيه فنه من الإغواء الذي يكاد يكون الغاية من كل سلوك لغوي فني جمالي يتّخذ له من حيل الرقم والزخرفة والتخرّص سياقا لسانيا يغادر به مبادئه الأولية الحرّة الخامّ منزاحا إلى قوانين الانتظام والبناء والتشكيل التي يشارك الأسلوب في إرهاصاتها النفسية .
والتماسا لتمحيص مقام التناصف بين الشعرية والأسلوبية دعت الحاجة إلى سؤال منهجي ووجودي مرتكزه كيفية بروز الشعر إلى الوجود فقيل أنه اتفق عليه في الأصل غير انه اهتدي إليه فهو غير متحسب ولا متقصد وثمة فرق بين الشعر والقصيدة التي يؤرخ لها بنشأة التقصيدة كما أوردها ابن سلام(14) في طبقاته ( … لم يكن لأوائل العرب إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حادثة ، وإنما قُصّدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف…) ، وإن من شأن الكلام إذا لاءم هذا الشرط الانفعالي أن يقع متزنا موشى لا يحتاج إلى إعمال العقل لتنقيحه بعد ذلك ، فالكلام يتزن ويتوقع بالطبيعة والفطرة إذا كان قليلا موجزا ، (… الكلام إذا قل وقع وقوعا لا يجوز تغييره …)(15) ، يستوي هذا النظر النقدي ، وتترسخ مرجعته المفسرة لوظيفة البناء الأسلوبية الشبيهة من شدة العناية بها بالبنية الشعرية ، ونرى أن هذا المرتكز البنائي المتوسل به إلى تحقيق البنية الأسلوبية الملذوذة هو ذاته الذي عناه حازم القرطاجني(16) حين قال : (… فإنّ الكلام إذا خفّ واعتدل حسن موقعه من النفس ، وإذا طال وثقل اشتدت كراهة النفس له ) ، وهنا ندخل بهذا التمييز اعتبارات بنائية أخرى قوامها الاستخفاف والاستثقال ، فالبنية التعبيرية كلما تقاصرت جملتها كلما استطاع الحس الاهتداء إلى متطلبات توزينها الإيقاعي ، يثبت هذا وتتحقّق جدواه حين نرى أن البنية الشعرية التبييتية أو التشطيرية أو التسطيرية هذا قوامها فهي معتمدة لتوزين الشعر وتوقيعه نظرا لكونها متقاصرة ملائمة للنفس القرائي أو الإنشادي ، ثم أنها من جهة أخرى مؤاتية للهجس والإبراق والإلماع فتكون ببنيتها المجزة موافقة للانحياش إلى قوى التقدير الحسيّ المؤال فيها إلى تقدير حساب الغريزة ، فيكون ارتجال إنشائها غير محتاج إلى إعمال المعيارية العقلية ، وإنما تكون روحها كافية لتدبير شؤون انتظامها.
وهناك دواع منهجية تتوئم بين الشعر والأسلوب مستفادة من تلك التعريفات والتخريجات التي أحاطت بالعملية الإبداعية والتي تقرن بين النثر الفني وبين الشعر حتى لا تميز بينهما (… ليس للجودة في الشعر صفة ، إنما هو شيء يقع في النفس عند المميّز …)(17) ، وإن من فضل هذه القراءة النقدية لمفهوم الشعر أنها تفتح المجال واسعا أمام إمكان التنوع في تشكيله وتوقيعه ودلالته حتى يتماهى بفضل ذلك الانفتاح الحرّ على التجارب البلاغية الأخرى مع الممارسة الإنشائية الحرة التي تتمّ بعيدا عن الشروط النقدية للشعر، ولا نرى قول عبد القاهر الجرجاني بمستوى الشعر الشاعر ، ومعنى المعنى(18) إلاّ أنه واقعا في سياق ترقية الإبداع ، إذ ثمة شعر يعلو شعرا ، ومعنى يعلو المعنى ، ولا سبيل إلى حصول ذلك إلاّ بتعزيز الإنشاء الأسلوبي المستوعب كل بديع مستطرف.
ومهما سعى النحو إلى عقلنة الوظيفة اللغوية عبر امتدادتها البلاغية اللامتناهية الأسرار، فإنها تبقى مسكونة بطبيعتها الانفعالية قابلة للتموج والحركية في كل حين ، نستوثق في ذلك بدوامها مستجيبة أبدا إلى أصولها الفطرية ما دام التقديم والتأخير والحذف ، هذه التي هي بالنسبة للأسلبة شبيه بالضرورة الشعرية ، وتوزين الكلام بإيقاعات التقديم والتأخير والحذف لا يتسّهل لكل شاعر ، وإنما الشعراء فيه موكولون لتحقيق ذلك لمدى حيازتهم أسباب التمهر والشجاعة في اقتراح البديع ، واتساقا مع هذا المؤدى التحليليّ فإننا نحسب مجال الضرورة الأسلوبية المنبني على تقنيات التقديم والتأخير والحذف واقعا في ذات الوظيفة متولدا عنها ، ونظرا لاستمرار تلك الروح الإبداعية في نسغ اللغة فإنها في كل مناسبة يعود بها إلى حيويتها الروحية .
نعتقد أن تضايق الواقع النقدي الأدبي بالابتذال الذي لحق بجوهر الشعرية هو الداعي إلى تجاوز المعايير الإبداعية المسلم بها وقد أصبح من الملح مغادرتها إلى فضاءات إبداعية رحبة أكثر رحابة تستطيع استيعاب جهود التجريب الشعريّ المتنامي أبدا مع التطور الطبيعي للوظيفة الفنية والجمالية للغة ، وبناء على هذا النظر ، واستجابة لتحقيق الغاية الإبداعية المطلقة وجدنا ابن خلدون ينزع بكل جرأة الشّعرية عن نظمي المتنبّي ، وأبي العلاء المعريّ من حيث أنّ شعرهما ليس هو من الشعر في شيء (… لأنّهما لم يجريا على أساليب العرب فيه )(19) ، وما فتئ ابن خلدون يوطّد لهذا السياق النظري بدعائم تصب كلها في تناتج الشعر والأسلوب ، لذلك عدّ من شروط الشعرية إجراء عباراته على أساليب العرب المخصوصة به ، والأسلوب هو الفارق الجوهري بين الشعر والنّظم(20)، وبالفعل فإن ثمة فارقا جوهريا بين الفائدة الحكمية وبين الفائدة الشعرية من حيث هما يتباينان في المبدأ والوسيلة والغاية كل منهما يجري إلى مستقر له فلا يبغيان.
ولنا أن نستوثق في هذا المناط برواية الأصمعي عن ذلك التحدي الذي حصل بين الشاعر بشار بن برد وابن قتيبة ، فقد كان ادعاء ابن قتيبة بالتباصر بالغريب وما ترتب عليه من المغالبة الإبداعية سببا في التبعيدات البلاغية والأسلوبية التي تحدّى بها بشار ادّعاء ابن قتيبة والتي قال فيها :
بكِّرا صاحبيَّ قبْل الهجيرِ
إنّ ذاكَ النَّجَاحَ في التَّبْكِيرِ
وقد كان أن اقترح عليه خلف الأحمر ، وأبو عمرو بن العلاء تغييرها أسلوبيا إلى القول:
بكّرَا صاحبيَّ قبْلَ الهَجِيرِ
بَكَّرَا فالنجاحُ في التَّبْكيرِ(21)
حيث لا نرى اختلافا بين النموذجين الشعريين إلاّ في ما يتصل بالكيفيات الأسلوبية المفيدة كل منهما أسلوب خطاب بعينه يستمدّ قيمته الإيقاعية من تقاليد الأعراب البدويين ، والثاني أسلوب المولدين هو دون الأوّل شعرية ، فالتحايز المعرفيّ بين الشاعر بشار وبين ابن قتيبة هو المحك التنافسي الداعي إلى تناجز الأسلوبين إياهما .
والحقيقة أنه كلما غلّق التنميط فضاءات التجريب الشعري أمام الإبداع كلما ارتدَّ الحسّ الفنيّ إلى البحث عن البديل عنه في الإنشاء اللغويّ ، وهذه العملية غالبا ما تهتدي في بحثها عن الشعريّ بالامتيازات اللغوية المعززة بالانبصامات التعبيرية الخاصة جدّا والتي تدعى التوقيعات ، والمؤسلب إذ يتوجه تلك الوجهة ويستولي على تلك الغاية إنما يبذل كل البدائل التعبيرية سعيا منه إلى كسر آليات التعبير النحوي ، فيتحايل خلال الإجراء على العبارات المتعقلة منزاحا عنها إلى البنيات التعبيرية الاحتمالية الظنية التي تمتلك ألف تخريج ، نعني بها تلك المحاولات الإنشائية الارتجالية التي تقع مقابل الصحيح التام والمقبول ، لذلك فبمجرد إعلان النموذج تتهالك الأقلام والمنتديات على الاجتهاد في قياسه على شروط القبول ، مفتشه فيه عن شروط التقبل المعمول بها ، وعادة ما يلقى التجريب الأسلوبي المغامر مواقف نقدية تكافئه في تبني التجريب ، فتعمد إلى النقد الأدبي التحليلي الإنشائي الذي من منهجيته التعاطي مع البديع ، بالبحث عن تنزيل القراءات المعادلة له في الساحة الثقافية ، كان ذلك ديدن أبي تمام(22) الإبداعيّ ،ظلّ يغالب المعترضين على أسلوبه حتى أوهاهم موطّدا لشعرية الإغراب .
لقد قادت الأعراب عنايتهم الفائقة بتحكيك لغة الشعر إلى قوة إعمال التوزين الحسيّ لمقدرات التجويد الأسلوبي ، فكان الخائضون سبيل تحقيق الشعرية يصيبون إلى جنبها جمالية الغة العربية نظرا لتشاكل الغايتين ، الشعرية والأسلوبية يصيبون الكثير من الغايات التشعيرية ، وقد تفكّرنا في ذلك المسار فقدرناه مبتدئا بوازع إعمال الفطنة الحسية وحساب الغريزة سعيا منهم إلى القبض على الكيفيات التوزينية القمينة بترتيب العناصر اللغوية والمقاطع والوحدات وليس ينجع شيء في ذلك نجاعة مثلما ينجع معيار الخفة والثقل (… وذلك أنّهم إنّما يحيلون على الحسّ ، ويحتجّون فيه بثقل الحال أو خفّتها على النّفس…)(23) ، وإذا كانت هذه المرجعية الحسية حاسمة في تمييز العبارات بين المستخف منها والمستثقل فإننا في إمكاننا القول أن هذه المرجعية جديرة بأن تكون مجمع الأسلوبية والشّعرية لأنها هنا بمثابة روح الوزن والإيقاع معا ، ونعتقد تبعا لهذه القناعات المسوقة أن الخفة والثقل هي من الأوزان النثرية الدالة على الأصول الشعرية التي تواجدت خلال النزوع التجويدي للنثرية وصولا بها إلى الشعرية ، لهذا السبب يمكننا اعتبار الأسلوب أثرا إيقاعيا دالا على العهود الشعرية الغابرة ، ولا يمكن أن يسلّط معيار الخفة والثقل على اللغة بما يستوجب ذوق العناصر اللغوية أو أبعاضها التي تتناهى إليها وإخضاع كل عنصر لساني أو سماعي إلى التوزين الحسي فقدروا خفة الحركة من ثقلها في التلفيظ ، ووزنوا الأصوات اللغوية متوالية أو متقابلة وبوتقوا الفكرة على تشعباتها في قاعدة التعديل والاستواء(24) .
والشعر في أوج تجلياته لا يعدو أن يكون جملة من الكلمات المختارة بعناية حسية فائقة ترمي بها الذات الشاعرة إلى أن هزّ الأذن هزّا قويّا ، ولعلها هي المناسبة التي نستطيع القول معها إن حسّ الأسلبة كامن في نية المنشيء الانتقال من الاستعمال الغائي للغة مرتقيا أسباب التذوق العميقة يغدو معها التأليف متساندا إلى تطلب الالتذاذين اللساني والسماعي ، وحسب الأسلوب أن يتخذ من مناسبة التجويد اللغوي سبيلا إلى التماهي مع الشعرية من حيث كلاهما يبدوان متساندين إلى التفنن في الملفوظ اللغوي ومسموعه ، لذلك فإننا غالبا ما ننتظر تلك المسحة الإلقائية التي نراعيها في الاحتفال بالقيم الأسلوبية وهي الخاصية التي نستشفها من عبارة صحار حين قال مرتجلا في حضرة معاوية بن أبي سفيان توصيف الرطب : ( … إنا لنعلم أن الريح لتلقحه وأن البرد ليعقده ، وأنّ القمر ليصبغه ، وأنّ الحرّ لينضجه …)(25) حيث يبدو أن لروح المحاضرة بين ثلاثة الرجال ، الرجل المثير بتنقصه مستوى بلاغة صحار ، ومعاوية الخليفة وصحار بن عياش العبدي الذين شهدوا المناسبة الخطابية أثرا بالغا في تثوير حماسة الارتجال لديه ، حتى إننا لنعتقد أن مثل تلك المناسبات تكون أبدا سببا لنجاعة الإبداع ولولا ذلك لما سلك صحار هذا التجويد الأسلوبي المشحون بشتى قيم الزخرفة اللغوية ، وما توظيف الأصوات الرخيمة إلاّ أحبولة تستولي بها اللغة على عواطفنا فتنقلها من الفوضى والتوحش إلى الانتظام والاتساق(26) ، لذلك فالمخاطبات الشعرية تتميز بفضل ذلك الاهتمام الزائد على الحاجة إلى التواصل العادي ، ويكون مؤداها بذل أسباب المبالغات المفيدة تبعيد الدلالة في نفس السامع يحصل ذلك بموجب قانون التحايز بين المنشئ والمتلقي كل منهما يتبنى مشروع إبداعيا قوامه التفوق الإبداعي القائد إلى تجاوز إمكانات الآخر ، وقد سبق بعبد القاهر الجرجاني أن ألمح إلى هذه المسألة حين ذكر طمع المتلقي وقوة شهيته في تطلب الزيادات التي يحدسها باقية في نفس المتكلم ، والحقيقة أن تلك المناسبة هي نفسية أكثر منها لغوية على اعتبار أن اللغة لا تطابق الواقع ولا تستوعب المعاني النفسية مهما اجتهد المنشئ في الإحاطة بمقدراتها الدلالية (27) ، وقد نتصور هذه الزيادة اللفظية التي يتصورها المتلقي باقية عالقة بطلقات نفس المنشئ على أنها تلك الأصداء التي تمكن للملفوظ إن يمتدّ صداها إلى استثارته في السياقات المعلنة .
وإذا قلنا الاختيار فإننا نعني الاختيار الحسي القائم على إعمال العواطف والمشاعر والانفعالات والتصورات وما شاكلها من المحفزات الروحية لأنها الكفيلة بكسب أسباب التغلغل إلى أغوار النفس الإنسانية.
يصدّق مبدأ التناجز بين الأسلوب وبين الشعر ما ذهب إليه أبو العلاء المعرّي(28) في تعريف الشعر تعريفا انفعاليا حسيا فقال : ( … والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط ، إن زاد أو نقص أبانه الحسّ …) ، والحسّ أولى بمراعاة شروط الاتساق والانسجام اللذين يهديان إلى ضبط الشروط اللسانية السماعية والتشكيلية المحققة للشروط الشعرية ، وقد تشبعت آراء النقاد بهذه الفائدة النقدية وترسخت قناعاتها إلى أن بلغ ببعضهم أن يوكل إلى صحة الطبع والذّوق مهمة الانفعال بالقيم التشعيرية (29)، وقد يكون الوزن المقول به هاهنا قصد كل انسجام أو تشكيل ملذوذ .
مبدأ التناجز
ومثلما كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه حيث كان العلم متصلا بالتجريب ، لذلك فإن المعرفة بالشعر تناهضت انطلاقا من التشبع بالقيم البيئية تمت خلالها الملاءمة أو المماثلة بين القصيدة والجارية(30) وأصناف المعاملات المختلفة ، ومعنى العلم هنا كذلك هو جماع الخبرة المحصلة جراء التعاطي والإخلاص للإبداع ، يتحدّد سياق التناجز الفني والوظيفي بين الشعرية من جهة والأسلوبية من جهة أخرى انطلاقا من هذه المرجعية النقدية التي قالها عمر بن الخطاب ، ويتبين لنا خلالها ان العرب في أصولهم الأعرابية كانوا لا ينفعلون بالقيم اللغوية نحوها وصرفها وأسالبيها إلاّ من خلال الوظيفة الشعرية ، فالشعر بما ليط بقلوبهم من شدة الغواية والتعصب له كان يملأ عليهم حياتهم ، وتؤهلهم احتفاليتهم به المنقطعة النظير إلى التوسل في ابتداعه بالأدوات الفنية البنائية القائدة إلى ذلك من تشكيل ووزن وتقفية وإنشاء وتغنّ ومنها إلى ابتداع العبارات اللغوية الطريفة المتخذة صبغة أسلوبية، ولعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إنّ الشعر لا تتحدّد هويته الإبداعية ولا تتشخص قيمه الجمالية إلاّ إذا حاز التعابير الاستجدادية،…..
والأعراب بما توافر لهم من الاستئناس بالشعر سيبلا إلى التعبير عما يختلج في نفوسهم فقد كان المعرض الواسع ، والإطار الضامن ليهديهم إلى إصابة الغايات الأسلوبية النادرة التي لا تشاكل الأساليب التي سبقت في التجريب وصار شائعة بينهم متداولة إلى درجة من الاستحواذ على النمطية والاختصاص ، والاستدلال عما نحن خائضون في تبيانه نعمد إلى عينة من الشواهد النقدية التي كانت ترسم العبارة وتسجلها أوليتها منسوبة إلى صاحبها الشاعر الأول الذي افتطرها أول خطرة :
حيث عاين أبو العباس المبرّد مدارج التناجز بين الشعراء في أسلوب عبارة هي:
الأسلوب الأول يتلخص في الشهادة التعبيرية التي قالها متمم بن نويرة :
إذا القوم قالوا من فتى لملمّة فما كلّهم يدعى ولكنّه الفتى
والشهادة الأسلوبية الثانية هي للهشليّ قال فيها:(31) وزن البسيط.
لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس ؟ خالهم إياه يعنونا
وأما الشهادة الثالثة في هذا المناط الأسلوبي فهو لطرفة بن العبد حين قال:وزن الطّويل.
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنّني عُنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
ونلاحظ أن ثلاثة اشعار ينتظمها أسلوب بلاغي تختص كل عينة من الثلاث في إصابته بالدرجة التوقيعية الفائقة المتميزة ، والذي يتأمل الأساليب الثلاثة المتحامية للتوقيعة الدلالية التي تكاد تتوحد في بنيتيها النحوية والوزنية والتي اثنتان منها على وزن الطويل والأخرى المباينة على وزن البسيط يلفي أن المغزى البلاغي يكاد يكون واحدا في كلّ الأحوال بحيث تدور دلالته على دماثة امتياز الفتى العربيّ بين الفتيان من أقرانه وإن تفضيله في الصورة الشعرية النموذجية مقرون بالخفة والشجاعة والصدارة وقوة روح المبادرة لا يتوانى دنو الخلان في مقارعة الخطوب وحدثان الدهور ، هذا دون أن نغفل ما للشعر العربي القديم من تمركز حول دلالة الشجاعة والإقدام والتمحور حول دلالاتها الغنية بالإيحاءات وقد كانت هي أي الشجاعة والكرم والبطولة والتضحية من الحقول الدلالية التي تنجع فيها الوظائف البلاغية نظرا لما تصادف تلك المكارم مجتمعة أو متفرقة في نفوس الأعراب من مناسبات القول والتعبير والتفنّن في الانطباع والتوصيف.
ولقائل أن يقول كيف تتفق للأعراب تلك الخواطر البلاغية المتسامية بتوقيعاتها إلى إنتاج القيم الأسلوبية ، وإن مردّ ذلك حسب اعتقادنا أنّ العربيّ كان يتقد حيوية ، ويهتاج نشاطا ، تبعا لما يتوافر عليه من قوة تحسّي أوزان العبارات ، فهو يلتذّ كل طريف في مضمارها ويحتفل بكل استجداد في فنّها ، ولنا في الكثير مما أوردها الجاحظ تصديقا لهذا المذهب خير دليل على ارتباط الانفعال بالقيم الأسلوبية وخير دليل على مدى استيثاق الحس البلاغي بتلك الامتيازات اللغوية حيث (… قال: معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي : ما هذه البلاغة التي فيكم ؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على السنتنا …)(32) ، وواضح مما نحن بصدد تداوله من شأن ارتباط الأسلوب بالانفعال البلاغي الشعريّ أن قوة إرهاص المعنى مفض إلى تقوية حس الإنشاء وهي القوة التي نراها قائدة إلى استنهاض الوازع الأسلوبي ، فاللذة اللسانية والسماعية المستمدة مما يدغدغ الشعور من مختلف التخييلات والتصورات المطلعة إلى قوة الجيشان هي هذه جميعها التي تنتهي إلى التبلور في شكل العبارة التي هي ذاتها الأسلوب ، ولأن قوة الانبصام اللغوي متصلة الاتصال الوثيق بالمكابدة والمعاناة والمعايشة التي هي قوى روحية ، فإنّ لقوة التصور الفني للفكرة أو المعنى مؤدية بالضرورة إلى الانفعال بالقيم الأسلوبية المعادلة لذات الإحساس ، ويكون من الأجدى للشعراء والبلاغيين أن يخلصوا في معايشة الموضوع الأدبي ، لأن للمعاينة القلبية صلة وثيقة بجودة الإبداع الأسلوبي حتى كأن هذا من ذاك لا يكاد ينفك أحدهما عن تمثل قيم الآخر في حال الإبداع ، ولتوثيق هذه الآصرة الفنية المؤسلبة فقد ظل البلاغيون العرب يعرفون البلاغة على أنها إنهاء المعنى إلى قلب السامع فيفهمه(33).
ولتوطيد آصرة التناجز بين الشعرية والأسلوب فإننا نحرص كل الحرص على تبيان مدى تناجز البنيتين ، بنية الشعر وبنية الأسلوب من حيث التشكيل والكمّ ، والنقاد لن يضلوا في استنهاض المقومات البلاغية الدالة على ذلك ما داموا مستوثقين بالمرجعيات العربية القديمة في الموضوع ، فقد قال الجاحظ الكثير مما يدعم هذا الفكر ويوطد أسس هذا الرأي حيث قال: الكلام إذا جاء قليلا وقع وقوعا لا يجوز تغييره ، فالعبارة كلما كانت أوجز كانت في متناول الحسّ ، فالقوة الإبراقية للوظيفة الحسية والتي تتقاصر برهتها متجاوبة مع تقاصر الانفعال بالتعبير الشعريّ ، والحسّ من شأنه ألاّ يعمل إلاّ في المقاصر من القول والعبارة ، وأنه إذا طال الكلام سمج وانحلت قواه واعتراه التفكّك قال الجاحظ : (… لأن الكلام إذا جاء قليلا وقع وقوعا لا يجوز تغييره …) ،وحسب الشعر أن تكون هذه سبيل تحققه ، وإن إحكام البنية التي هي شرط وازن في المعيارية الشعرية ، وإتقان التوقيعات الأسلوبية المرجوة من كل موقف تعبيري فيه ، هما إذا هاتان الخاصيتان معا مرتبطتان الارتباط الوثيق بشرط كمية القول أعني به الكتلة التلفيظية (… وهو أقلّ ما يكون جملة مركبة …)(34).
ومن جهة أخرى فإننا إذا قصدنا إلى تعميق حد الأسلبة لدى الكتاب والشعراء فإنه يتحتم علينا تجذّر الوظيفة اللغوية والوصول بها إلى المؤثرات العميقة القائمة عاملا حاسما في سبيل تحقيقه ، نعني بذلك وازع الإخلاص للبيئة الطبيعية والتقاليد الاجتماعية ، لقد تحقّق هذا المرتكز أو الحافز الإبداعي في آراء البلاغيين العرب القدامى فهذا النابغة يرى ضعفا يوهي خصائصه الأسلوبية فيتبنى العودة إلى البيئة الأعرابية لعله يتقوى بفضل تلك المعايشة ، أتى سيدنا عثمان بن عفان قائلا له: ( … أنكرت نفسي فأردت أن أخرج إلى إبلي فأشرب من ألبانها ، وأشرب من شيح البادية …)(35) .
لقد علّق السكاكي في مفتاح علومه على هذه الشهادة النقدية قصة التناجز التبديلي أو التخيريّ الذي جرى بين بشار بن برد وبين خلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء حين تجاذب كل طرف منهما وتنازعا أسلوبين من الشعر هما:
بكّرا صاحبيَّ قبل الهَجِيرِ إنّ ذاك النّجاحَ في التّبْكِيرِ
والأخرى التنقيحية المقترحة من الناقدين التي هي :
بكرا صاحبي قبل الهجير بكِّرا فالنّجاحُ في التّبْكير
قال السكاكي(36) في معرض تعليقه على المناسبة (… مثل بشار وقد تعمّد أن يهدر بشقشقة سكان مهافي الريح من كلّ ماضغ قَيْصُوم وشيح إذا خاطب ببكّرا محرّضا صاحبيه على التشمير على ساق الجدّ في شأن السفار …) ، ولقد توطد للأعراب تبعا لإيلافهم هذه المخاطبات المتميزة بأساليبها المعززة بإعمال القوى الحسية المنشئة لها (… وإنما يصبّون لهما في قالب واحد إذا كانوا قدّموا إليه ما يلوح مثله للنفس اليقظى بحكم ذلك الخبر فيتركها متشرّفة له استشراف الطالب المتحيّر بين أقدام للتلويح ، وإحجام لعدم التصريح …)(37)، ويبدو لنا جليا أن الوظيفة الأسلوبية لا تكتفي باعتماد التخرص المتلف لآثار الانتظام النحوي والمُغْفِلِ لها بل هي ساعية فوق ذلك إلى إحداث الظنية والشكية والمقاربة المفيدة ضروبا من التخالج في نفس المتلقي سواء أكان سامعا أم قارئا مهجّيا، فالحيرة الناشئة عن التردد الحاصل عن عدم تبين حقيقة المعنى المقصود بإنشاء القول ذو طبيعة التذاذية ينتظرها كلٌّ من المنشئ والسامع على السواء ، لأن في تلبس تلك الحيرة وعي القارئ يثمر الخطاب تعددية المقروئية التي تنتج عنها قيم التأويل والمجاز .
يتّفق مبدأ تذبذب الصيغة اللغوية بين أن تكون أسلوبية موغلة في الشعرية وبين أن تعدم ذلك الفضل مع ما أورده عبد القاهر الجرجاني من شأن الجدل الذي حدث بين ذي الرُّمّة الشاعر وبين ابن شبرمة وقد كان مثار الجدل والمؤاخذة شعر لذي الرّمة قوامه:وزن الطّويل.
هِيَ البُرْءُ والأَسْقَامُ والـهَمُّ والمُنَى ومَوْتُ الهَوَى في القلبِ مِنّي المُبَرِّحُ
وكان الهوى بالنّأْيِ يُمْحَى فَيَمّحِي وحُبِّك عِنْــــدي يَسْتَــــــــــجِدُّ ويَرْبَحُ
إذا غيَّر النّأيُ المُحِبِّين لم يَكَـْــــد رسيسُ الهَوَى مِـنْ حُبِّ مَيّـــــةَ يَبْرَحُ
حيث تركز الخلاف بين الشاعر وابن شبرمة حول التوقيعات الدلالية التخالجية التي تسديها دلالة نفي المقاربة: لم يكد وهي التي من أفعال المقاربة ، حيث يتطلب تحقيق معناها تأمل حيثيات الحصول والتحقّق وبالضبط حول الإقرار بإمكان تحقق فعل البراح من عدمه ، لأن ها هنا معنى يدق ويتعسر تصوره حتى تتناقض في إدراكه الأفهام وتضطرب ، والأعيب في الموقف أن ذا الرمة خضع لملاحظة ابن شبرمة وانصاع إلى تنقيص الأصل في الشعر والمبدأ تُفُطِّن إلى عيب الموقفين القائل بالتغيير والمنصاع له حيث ما كان للملاحظ أن يطلب التغيير ، وبالمقابل فقد يحسن بذي الرمة الثبات على مبدأ الانفعال بالتوقيعة الشعرية الأسلوبية المبدئية.
ومن الثابت المتداول والذي يصدقه التجريب الإبداعي أن الصبغة التعبيرية تفتطر لها توقيعها الأسلوبي الخاص بالشاعر بها أولاّ ، وتتوطّد تلك القيمة الإبداعية وتترسخ حتى تغدو علامة دالة على سبق إليها واقترحها ، لذلك فإن المنشئين ينتظمهم طابعان ، الأول منهما المعوّل على قوة الانطباع والتجريب الإنشائي ، وأما الثاني منهما فهو ذاك الذي يجاذب الأرصدة المعرفية التي يكتسبها فيحاول دائما صدق الجاري المعتاد.
أثر الارتجال في تناجز الشعرية والأسلوبية:
ولو تتبعنا الشهادات النقدية التي تحامت إبراز الخصوصيات الأسلوبية ألفينا ابن خلدون يقترح مصطلح المنوال الذي يقدمه لنا بمفهوم النموذج أو العينة النموذجية التي ينبغي على السالك سبيل تعلم الكتابة الأسلوبية اتباعها بإخلاص ، بحيث يقتضي استيعابها التسلح بالفطن الخاصة القائدة إلى تفرس خواصّ التراكيب التي عرفها بقوله : (.. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه …)(38) ، غير أن اضطراب النقاد والبلاغيين العرب في توصيف الظاهرة الأسلوبية لا يعدو كونه ناتجا عن حساسيته الفنية ، ومدى تواشجه الإبداعي مع المظاهر الفنية والجمالية للغة الأدبية .
لقد أسهم كثير من اللغويين الجماليين العرب في الكشف عن الأسرار البنائية والفنية الجمالية بين الوظيفتين : الوظيفة الشعرية والوظيفة الأسلوبية ، من ذلك ما أولاه ابن جني وعبد القاهر الجرجاني لإيقاع الخفة والثقل على الجملة العصبية وعلى النفس أي جسمانيا وروحيا حتى ليتصور المتأمل منا أن أسرار اللغة العربية تنطلق من الجمالية إلى الوظيفية لا تتخلف إحداهما عن متطلبات الأخرى تخدمها وتكملها وتبينها ، وهذا شأن الشعرية والأسلوبية كما بدا لنا سياقاهما التناجزيّ .
توثق الشهادات النقدية الأدبية العربية القديمة حاصل التناجز بين الشعرية والأسلوبية والذي نستطيع توضيح مناطه بكون معلقة عبيد بن الأبرص ما هي إلاّ خطبة ارتجلها فاتّزنت له وذلك نظرا لسمات التناجز بين الشعر والأسلوب الواردة في نصها :
أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب
على أنها (… كادت تكون كلاما غير موزون بعلة ولا غيرها حتى قال بعض الناس : إنها خطبة ارتجلها فاتزنت له )(39) ، والذي يصدق هذه طبيعة التناجز الطبيعي بين الشعرية والأسلوبية كما هو باد من معلقة عبيد بن الأبرص أن الشعر يحنّ في أوج ترسيم قواعده إلى معاودة الاختلاط بالنثرية كما هو شائع متداول في الآداب الإنسانية المعاصرة ، ويمكن لهذا القارب السرمدي بينهما أن يعكس حقيقة التقارب الوظيفي بين العقل والحس من حيث هما يستنيران بعضهما ببعض ويستهيمان متكاملين، ليكون نزوع التجويد الإنشائي سبيلا لإلى استنهاض القيم التشعيرية ، حتى يكون هذا الحوار بين الأنواع والأجناس الأدبية سبيلا إلى تحقيق المنطلقات الإبداعية التي صدر عنها الحس الإبداعي أوّل خطرة.
يلتقي هذا الحافز الأسلوبي المنتقل به من جهة الشعر إلى الأسلوبية مع نظيره الذي نضرب له مثلا بحادثة توصيف حسان بن ثابت لتوقيعة ابنه عبد الرحمن بالشعرية حين قال لأبيه وقد جاءه باكيا: لسعني طائر فقال له حسان : صف لي فقال عبد الرحمن مؤسلبا ومغربا : كأنه ملتفّ في بُرْدَيْ حَبْرَة ، فقال حسان الأب قال ابني الشعر وربّ الكعبة وما هو بشعر حقيقة وإنما هو تنثير ارتقى به إلى المراتب الأسلوبية والتصويرية العليا(40) .
أسلوبية الانزياح الاستعاري :
ما كان لنا ان نقول بموضوع تواشج الأسلوبية التي في عمومها مظهر لفظي بالناحية الدلالية متجسدة في الاستعارة لولا أن تناجز اللفظ مع المعنى أمر مفروغ منه في فن البلاغة العربية ، وبذلك فلا شكّ إذا في أن للاستعارة إيقاعها الدلالي أو التمعيني الجذاب هو الذي يكمل بسحريته جانب التوقيع البلاغي اللفظي ويوقعه في قلوب المريدين من القراء ، وكان فضل التهدّي إلى مصداقية موضوع تواشج الدلالة مع التعبير مستمدا بامتياز بخصوصية شعرية امرئ القيس ، حيث سجلت الشهادات النقدية الأدبية العربية النقدية أوليته في تحسّس هذا الاختصاص الأسلوبي ولا أدل على ذلك من كونه أي امرؤ القيس أول من استعار ووقف واستوقف فاتبعه الشعراء من فرط الغواية التي مارسها شعره عليهم في ذلك ، ولعل الذي قوّى ومتّن وزن الاستعارة الشعريّ متمثلا في صوغ مدى كفاءتها المنقطعة النظير في توقيع الأساليب الشعرية الخاصة يضاف إلى ذلك الامتياز الدلالي للاستعارة ملاءمتها الفطرية للانفعال الحسي الإنساني ينظر وتجاوبها مع كثير من السلوكات الانفعالية بالقيم الإبداعية وما ينجرذ عنها من تصوير وتخييل .
يتوطد بفعل الإيقاع الاستعاري المتمثل في التناجز الفني بين الشعرية والأسلوب بناء على قوة استجابة الوزن الاستعاري سواء أكان لفظيا أو دلاليا لشروط الانفعال الإنساني بالقيم التعبيرية المستحلاة ، وليس ذلك إلاّ لأن خاصية الإبداع الاستعاريّ في جوهرها الخفيّ أو المعلن (… أصول كثيرة كان جل محاسن الكلام ، إن لم نقل كلها ، متفرعة عنها ، وراجعة إليها ، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها ، وأقطار تحبط بها من كل جهاتها …)(41) لذلك فإن وزن الاستعارة الحسي منهج إبداعي متمكن من النفس يجتذبها ويغويها بما يتوافر عليه من التناسب الإبداعي بين الوازعين ، الشعري من جهة والأسلوبي من جهة أخرى .
والذي يتأمل سياق التناجز بين الشعرية والأسلوبية يلفيهما متدرجين عبر محطات انفعالية تدرجت ناشئة عن مبدأ التوصيف فالتشبيه فالاستعارة كل من المدرج يهدي إلى الذي تكمله ويرقيه إلى غايات بلاغية أكثر نضجا مما يكون عليه البدء فالتوصيف لا بنية أسلوبية له ثابتة وإنما هو متروك الغاية إلى تمهر الحس في الإحاطة بمكونات الأشياء شكلا وغاية ، فإذا استنفدت هذه الغاية تلتها بنية التشبيه القائم على توزين التناجز بين قيمتين تلحق الناقصة منهما بالتامة وذلك على أساس أن التشبيه هو إلحاق ناقص بتامّ ، وأما الاستعارة فدرجة عليا من ذلك الإجراء الذي كان محسوب التركيب معلوم البنية ليغدو في حيز الاستعارة متحررا من كل ذلك إعمالا للحذف والإشارة والتدال ذي الوزن الروحي الذي ينبني تفهمه على القراءة الكلية للصورة اللغوية الفنية.
قال الجاحظ في أوليات الإرهاص البلاغي العربيّ : الكلام إذا جاء قليلا وقع وقوعا لا يجوز تغييره ، سمّى تنقيح القول بعد الانفعال بارتجاله تزويرا ، لأنّ ما صدر عن الحس من العبارات كان مضبوطا محككا منقحا داخليا وبذلك فقد تملك هيأته الخطابية التي لا يمكن تغييرها استجابة إلى الملاحظات التي يستدركها العقل على صيغة الكلام النفسي بعد أن تقيسها على المنجز المنمط .
الكلام الحقيق هو الصيغة التعبيرية الكامنة في النفس : فاللغة بحسب هذا التصور المتقن تتخذ سبيلها انطلاقا من تلك الذائقات والتقليبات والاختبارات التي تلاقيها العبارة خلال تشخيصها النفسي الباطني حيث تتم الملاءمة بين المتصور والملفوظ ببذل أسباب التواقع فيما بينهما وهذا الذي ذكره البلاغيون من أمر تناجز اللف والمعنى ، وقدر اللفظ على المعنى ينظر الى البيان والتبيين والأسرار لعبد القاهر الجرجاني والدلائل والإيضاح والمفتاح للسكاكي.
أهمية الامتياز الصوتي في إنتاج التشكيل اللغوي المثير :
وبما أن اللغة تعيش مبدئيا في لا شعور الإنسان ، وهي الجهة المحتضنة لقوى الانفعال والروح ومختلف التأثيرات الروحية الكثيرة المتنوعة ، فإن الحسّ يقوم بتلك الطقوس السحرية التي تهيمن على مبدأ استدعاء الصيغة التعبيرية ، وإن العقل خلال تلك العملية نكاد نتصوره محيّدا معزولا عن أن يساهم مباشرة في العملية التركيبية ، لذلك كان هذا النمط الأقرب إلى الفطرة والعفوية والطبيعة إلى تعاطي الشعرية ، فالحسّ بوظيفته الإبراقية المتناهية التسارع في وعي اللحظة واستدعاء العناصر اللغوية الدقيقة البنائية والاختيارية والتوقيعية والتركيبية ينتهي من جميع تلك الوظائف إلى مجرد اقتراح ناتج لغويّ هو الأسلوب التعبيريّ.
لقد حاولت القاعدة البلاغية القبض على التجلبات الأسلوبية وفق ما يجعلها ثابتة واضحة مستقرة فقالت بالأسلوبين الأسلوب الإنشائي والأسلوب الخبري وهو ما أهلته المناهج التلعيمية غير ان قصور هذين الأسلوبين عن الاستجابة إلى حقيقة الانفعال البلاغي الحر أبقاهما بعيدين عن الصيرورة الإبداعية ، ليظلا معزولين على كل إبداع حقيقيّ .
لا يمكن للتعبير اللغوي أن يبلغ درجة الأسلوبية مغادرا لاستعمالات العادية وصائرا إلى طريقة تعبيرية خاصة جدا حتى يمتاز بالقيم التركيبية الخاصة به جدا ، لا يشارك الذات المؤسلبة نموذج آخر ، وبتفردها تغدو مثار انتباه الغاوين لها ، والشاعر إن هو حاز مرتبة الامتياز الأسلوبي يستطيع بفضل ذلك التميز إمداد الشعرية بمكونات فنية وجمالية تغدو معروفة باسمه كما عرفت الاستعارة بامرئ القيس حيث كان يبرع في التشبيه وإليه يعود فضل ترسيم أسلوب الفصل بين النسيب وبين المعنى (42)، وكذلك ذكر ابن سلام اختصاص النابغة الجعدي بأسلوب من الشعر حتى كان أوصف الناس لا يدانيه في تلك الصنعة شاعر ، ومعنى هذا أن النابغة كان يزجي التوصيف وتسبغه الأبعاد الإبداعية بالغا به مراتب الإبداع العليا حتى قيد ذلك المذهب عليه لا ينازعه فيه أحد من الشعراء(43) .
ونظرا لكون كتاب طبقات الشعراء واقعا في أوليات النقد الأدبي العربي لم يداخل علم البلاغة وفق المنهج التعليمي الذي استقرت عليه التآليف التعليمية في الموضوع فقد لوح إلى كثير من مظاهر الاختصاص الأسلوبي في الشعر ، نجمل ما أورده في الإشارات التالية : شدّة متون الشعر وشدة أسر الكلام ، أو توصيف آخر يقول فيه عن شاعر آخر : كان (… عذب المنطق رقيق حواشي الكلام …)(44) وهي المزايا الجمالية التي اختصت بها لغة قريش التي هي لغة القرآن بليونتها وأناقة لفظها ، وكذلك صنوف الحيازات التي عددها ابن سلام الجمحي في كتاب الطبقات حين نعت في كثير من المواصفات الفنية والجمالية أهمها التوقيع .لذلك فإن التجويد التعبيريّ قد يكون كافيا لوحده لكي يستحق التعبير مواصفات الشعرية ، ونرى أن على ذلك الأساس وصف حسان بن ثابت تعبير ابنه عبد الرحمن : لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة بأنه شعر تبعا لما امتاز به هذا الانطباع من الخصوصيتين : الأسلوبية والتصويرية.
أسلوبية الاستعارة : ابن المعتزّ كيف انفعل امرؤ القيس بالبنية الاستعارية وهل في الإمكان أن تجنب الشعراء غوايتها وأسرها ويقولوا في العبارة التي تغايرها ، ولما كانت البنية الدلالية الاستعارية مقتضية توزيعا إيقاعيا محفوظ التشكيل مثله في ذلك مثل الوزن الشعريّ فقد قوى قابلية الإبداع اللغوي في مضمار الأسلوب الاستعاري تجاوبها الضمني مع غاية إعمال الطاقات الدلالية القصوى من أجل إخفاء المعنى والتلويح به من بعيد ، فاللذّة الأسلوبية إذا كامنة في سرّ اللعبة التي تنطوي عليه أساليب الشعراء في التلغيز بالمعنى وفق الكيفيات التركيبية التي تجعل العثور على المبتغى ممكنا ، وإذا فليس ثمة إخفاء من أجل الإخفاء وإنما كل الوظائف التركيبية تجري إلى مستقرّ لها محفوظ في العادة ، ثابت في التقاليد البلاغية العربية قوامه أن لا يقوى القارئ على تشخيص الدلالة إلاّ بشروط تأويلية هي الوظيفة الفنية أوالجمالية المتوخاة من حاصل التركيب اللغوي المتميز الذي يقتضيه إخلاص المنشئ في تحقيق الأسلوب الاستعاريّ ، ولا نرى كافلا لذلك سوى ما ذكره الجاحظ من نظرية التعديل والاستواء (45) ، حيث يقوم الحسّ خلال هذه العملية بذوق مختلف المواد اللسانية والسماعية التي يتشكل منها السياق التعبيريّ مستعينا بآلية التنقيح الداخلي الحاصل عفويا والذي يتمّ خلاله تعزيز قيم تعبيرية بعينها مع اطّراح غيرها ، وهذا التخير الضمني بدوره لا يتحقّق في واقع الخطاب إلاّ بتوافر الذائقة وحس الإبداع ، تعطى خلال هذا الإجراء الأهمية البالغة لمقياس الاستثقال والاستخفاف فما كان من اللغة وأساليبها مستخفا جسمانيا ومعنويا جرى اعتماده وما كان مستثقلا تُبُرِّمَ منه وأهمل .
تتحقّق آلية إنشاء المستوى الأسلوبي من اللغة الأدبية مع توصيفات انفعالية ومعرفية ذكرها الجاحظ ، تبدو غاية في تعميق الإحاطة بمقدرات الأسلبة والتركيز الحسي للمواد اللغوية منذ مبدئها الهاجسي إلى غاية الانتظام الخطابي الذي تترسم فيه الأساليب وتحفظ فيه التعابير فقد قال الجاحظ(46) : (.. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني ، ومحصول لطائف الأمور إلاّ عالم حكيم ، ومعتدل الأخلاط عليم ، وإلاّ القويّ المنة الوثيق العقدة ، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكبر)
المعنى والعبارة : قال النفري في الموقف الثامن والعشرين : (… أوقفني وقال لي : إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي ، وقال لي : كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ، وقال لي العبارة ستر .. أتسألني أن أسفر وقد أسفرت ، أم تسألني أن أحتجب فإلى من تفيض …)(47) فالتناجز بين المقول والمصمت ديدن كل شحن دلالي في المكون اللفظي للعبارة ، مثلها مثل التكامل اللغوي بين القائل والسامع كما ورد في أسرار عبد القاهر الجرجاني(48) (.. التقصير الذي يفتقر معه السامع إلى تطلب زيادة بقيت في نفس المتكلم ، فلم يدل عليها بلفظها الخاصّ بها واعتمد دليل حال غير مفصح …) .
النزوع الأسلوبي هو الذي يمنح العبارة بعدها الارتقائي لتنتقل من مستويات التصريف والنحو إلى مستوى الأسلبة وهو المجال الذي تنشط فيه التوقيعات البلاغية فيتميز بموجبها شاعر عن آخر بفضل ما يصادف من الكيفيات التعبيرية الفريدة اللطيفة المباينة لما سبقها من الأساليب التعبيرية النمطية المحفوظة
الوظيفية اللغوية المشخّصة للقيم الأسلوبية:
أفضل قيمة تسمح لنا بالتأكد من حضورية الأسلوب في سياقات الخطاب التعبيرية هي تلك الصعقة أو الهزة التي تعتري متذوق ملفوظ اللغة ، أو مسموعها في الجملة العصبية ، بحيث يكون للعبارة المؤسلبة من المفاجأة والأريحية ما يجعلنا نخرج عن طور الهدوء والنظام إلى شيه الاستجابة الاهتزازية ، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد إيقان وعي الحسّ بأن الصيغة التعبيرية المتلقاة متميزة عن كل ما سبق سماعه .
هوامش البحث :
1 : الباقلاّني ، إعجاز القرآن ، تحقيق: السيد أحمد صقر ، ط:5 ، دار المعارف ، مصر العربية ، ص:63
2 :إبن جنّي ، الخصائص ، ج:1 ، تحقيق: محمد علي النجار ، ط:3 عالم الكتب بيروت 1983 ، ص: 83
3 : ينظر ، حازم القرطاجنّي ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة ، ط:2 ، دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان 1981، ص: 327
4 : الجاحظ ، الحيوان مجاد:1 ، تحقيق: يحيى الشامي ، ط: 3 ، منشورات دار ومكتبة الهلال 1990، ص: 51
5 : أبو حيان التوحيدي ، الإمتاع والمؤانسة ، ج:1 ، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان ، ص:66
6 : عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة في علم البيان ، دار المعرفة بيروت لبنان ، ص:6
7 : الجاحظ ، الحيوان ، ج:1 ، ص:13 ، كذا: عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة في علم البيان ، ص: 6/7.
8 : ينظر : Buffon ; Discours sur le style ; texte de l’édition de l’abbé pièrre librairie ch . Poussielgue , paris ; 1896 P .5.
9 : ينظر ، الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج: 1 ،ص: 67
10 : ينظر، أدونيس علي أحمد سعيد ، الشعرية العربية محاضرات في لبكوليج دو فرانس، باريس أيار 1984،ط: 1 دار الآداب بيروت 1985،ص:34
لقيت
11 :هنريش بليث ، البلاغة والأسلوبية ، نحو نموذج سيميائي لتحليل النصّ ، ترجمة: محمد العمري ، أفريقيا الشرق الدار البيضاء المغرب 1999 ،ص: 19
12 : الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج:1 ، ص: 49
13 : ينظر: فرحان بدري الحربي ، الأسلوبية في النقد العربي الحديث ، دراسة فب تحليل الخطاب ط:1 ، مجد المؤسسة الجامعية والنشر والتوزيع 2003، ص: 28
14 : طبقات الشعراء ، أعددا اللجنة العربية لنشر التراث العربي ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت لبنان ، ص: 11
15 : الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج: 1 ،ص: 192
16 : منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة ،ص:65
17 : ابن رشيق ، العمدة ، ج:1 ،ص: 119
18 : ينظر ، عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، تحقيق : السيد محمد رشسد رضا دار المعرفة بيروت لبنان ، ص: 203 ، 236
19 : ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ، ج:2 ،ص: 1104/1105
20 : ينظر ، نفسه ، ج:2 ، 1104
21 : ينظر ، عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، ، ص:210،211
22 : ينظر ، الآمدي
23 : إبن جنّي ، الخصائص ، ج:1 ، ص: 48
24 : ينظر ، الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج:1 ،ص: 48
25 : الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج:1 ، ص: 69/70
26 : ينظر ن جان ماري جويو مسائل فلسفة الفن المعاصرة ، ط:1 دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر ، 1965 ، ص: 80
27 : ينظر ، عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، ص: 178 ، كذا : أسرار البلاغة في علم البيان ، ص: 16
28 : رسالة الغفران ، ط: 1 دار الشرق العربي بيروت لبنان 2005 ، ص: 119
29 : ينظر ، ابن طباطبا ، عيار الشعر تحقيق: محمد زغلول سلام منشأة المعارف بالاسكندرية ، ص: 41
30 : ينظر ، ابن سلام الجمحي ، طبقات الشعراء ، دار النهضة العربية بيروت لبنان ، ص: 3/4
31 : ينظر ، المبرد أبو العباس ، الكامل في اللغة والأدب ،ج:2 ، مكتبة المعارف بيروت لبنان ، ص: 359.
32 : الجاحظ ، البيان والتبيين ج:1 ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون ، ط:3 ، مؤسسة الخانجي بالقاهرة ص: 96
33 : ينظر ، أبو هلال العسكري ، كتاب الصناعتين ، ص:6.
34 : ابن جني ، الخصائص ، ج:1 ، تحقيق : محمد علي النجار ، ط:3 ، عالم الكتب ، بيروت لبنان ، 1983 ، ص: 30
35 : ابن سلام الجمحي ، طبقات الشعراء ، ص: 27
36 : مفتاح العلوم ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، ص:75
37 : نفسه ، ص: 74
38 : ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ج:2 ، الدار الإفريقية العربية ، دار الكتا ب اللبناني بيروت لبنان ، ص: 1099.
39 : ابن رشيق ، العمدة ، ج: 1 ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد ، ط: 5، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة بيروت لبنان ، 1981 ، ص:140
40 : ينظر ، عبد القاهر الجرجاني ، اسرار البلاغة في علم البيان ، ص: 167.
41 : عبد القاهر الجرجاني ن أسرار البلاغة في علم البيان ، دار المعرفة بيروت ، ص: 20
42 : ينظر ، ابن سلام الجمحي ، طبقات الشعراء ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، بيروت لبنان ، ص: 17
43 : ينظر ، نفسه ، ص: 39
44 : ينظر ، نفسه ، ص: 39 ، 60/61.
45 : ينظر ، الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج: 1 ،ص: 48
46 : البيان والتبيين ، ج: 1 ،ص: 66
47 : النفري ، محمد بن عبد الجبار بن الحسين كتاب المواقف ، دار الكتب العلمية بيروت،1417 هـ ــ 1997 م، ص 51 ــ 52.
48 : أسرار البلاغة في علم البيان ، ص: 16
—————
العربيّ عمّيش