في لحظات يقصر عن وصفها القول إنها مفصلية أو تاريخية أو درامية، كلحظة الحراك السلمي أو اللحظة الداعشية مما عاشته سورية في زلزالها منذ 2011/3/15، في لحظات كهذه يقتحم التاريخ السيرة بحسب جورج ماي. وهو يقتحم الرواية أيضاً، كما أحاول أن أضيف، كتاريخ طويل (ماض منبتّ أو مستمر الفعل) أو كتاريخ ساخن / جارٍ / مباشر، وهذا ما يبرز، بتنوع وبتفاوت، في الروايات التي تكاد سيرة كتابها تسفر فيها، كما في الروايات التالية:
رواية ابتسام التريسي: مدن اليمام:
ينبئ قلب الأم الذي لا يخطئ باعتقال ابنها، ولكن في المنام. إنها الكاتبة ابتسام التريسي، وإنه ابنها نور حلاق الشاب الناشط منذ الأيام الأولى للحراك، والشخصية المحورية في رواية (مدن اليمام) التي تبدأ بسفر الأم إلى دمشق لتكون مع ابنها المقيم في مخيم اليرموك مع صديقيه فارس وصالح.
لا تعلن الرواية اسم الأم، الشخصية المحورية الأخرى في الرواية. لكن ذلك ليس مهماً في الرواية التي لا تخفي سيريتها. فهذا نور يوصي جاره الفلسطيني أبا سعيد بالحذر من أمه، حين اقترح عليه أن يحكي لها عن ذكرياته في حيفا، قبل اللجوء إلى سورية، فالأم «لاتهمل تفصيلاً تسمعه إلا وتستخدمه في كتاباتها». وقد كسر الجار عزلته كرمى للكاتبة التي تظهر في الرواية دوماً كشخصية استثنائية. وهكذا يقدم الجار مصنف أوراق أبيه التي أرخ فيها لنزوحه وأسرته، كما كتب فيها ذكرياته عن حيفا. وسوف تمنح هذه الأوراق للرواية مفتاحاً فنياً أساسياً لها، هو لوحة حنظلة المهداة من ناجي العلي، إذ سيضيفها صاحب صفحة (أنا حنظلة) الفيسبوكية – وهو من سيحمل اسم حنظلة في الرواية – إلى مجموعة (أنا وأنت)، لتكون للسرد فرصة كبرى تتناسل فيها الحكايات والقصص والأخبار، كما هو الحال مع الصفحات الفيسبوكية الأخرى طوال الرواية.
في مطعم (دروب الهوى) في حي باب توما الدمشقي العتيق، يلتقي الابن والأم، حيث الأغاني من زمن لا تنتمي الكاتبة إليه، ومن أناس لا تنتمي إليهم، لأنهم يعيشون خارج الحدث – الحراك – الزلزال. وليس هذا إلا سانحة سيرية مبكرة وصغيرة، تعلن اختلاف وتميز الراوية عن الآخرين، وبخاصة المثقفين، فهي يذهلها صمتهم من شعراء وكتّاب، بينما الزلزال يزلزل. وإذا كان مثل هذه الشيات السيرية سيظل يتناثر في الرواية، فالأهم هو ما يكاد يكون ناظماً روائياً للسيرية، وذلك عبر النشاط الفيسبوكي، وعبر سلطة الساردة.
على صفحته يكتب نور بتوقيع (تجمع يوم الحوار السوري). وسوف تعلن المراسلات الفيسبوكية بين نور وأمه عن اختلافهما صيف 2011، فهي تعقب على الدعوات إلى الحوار الوطني بـ «لا تحاور.. الدم بالدم»، وهو يرد متسائلاً: «أهو الهوس بالموت؟»، كما يكتب لها: «لا تريدين أن تصدقي أن هناك بعض العصابات، وبعض الإسلاميين الذين يشوهون وجه الثورة»…
يطور (حنظلة) النشاط الفيسبوكي إلى سرديات فيسبوكية ستغطي أحداثاً ووقائع كثيرة، مثل لقائه في مخيم النازحين في خربة الجوز بطبيب يروي مجزرة جسر الشغور سنة 2011، ويروي، بتقنية الخبر وبتقنية الملخص السردي، اقتحام الجيش لمدينة أريحا. وسيكون لقاء الطبيب بالمجنونة عند معمل السكر قرب جسر الشغور مفتاحاً سردياً بامتياز، حيث ستلون المجنونة السرد بقصتها، كما ستلونه الساردة بقصة (ست الحسن) منذ طفولتها التي ورثت منها رغبة التشبه بأمها، حيث تكشّر السادية. وهنا، كما في مواضع شتّى من القصص المتناسلة في الرواية، سيطغى حضور السادية والشذوذ الجنسي، كمضاجعة الجثث، أو بتر الرائد لثديي الفتاة التي يفترعها أو..
في قصة (ست الحسن) الأطول والأكبر تماسكاً بين نظيراتها، ينتأ العطب النفسي، وتتدافر العقد النفسية. فمنظر الفتيات العاريات يخدمن الجنود والشبيحة يعوض ست الحسن عن المهانة، حين كانت تنتظر انتهاء أمها من الخدمة بينما تكون الطفلة مقيدة إلى كرسي. وتروي الكاتبة أنها رأت على قناة الدنيا التلفزيونية الرسمية ست الحسن وثلاثاً منقبات تدعي أنهن أخواتها، وهي لا أخوات لها، وتروي اغتصاب الثوار لها ولهنّ. وتتفرع القصة إلى أم ست الحسن المدمنة على حشيشة ست الحسن، وانتقامها من زوجها الفار من الخدمة العسكرية، ومن أمه. كما يتكشف أن الأم قد حملت من شقيق زوجها، وابنتها بالتالي هي بنت العم التي تتعهر منذ الطفولة، لتغدو كرياح السموم، تدير المنطقة بعلاقاتها.
لكي يكون للرواية مبررها الفني في تغطية الزلزال في أنحاء سورية، يوالي حنظلة السرد الفيسبوكي من حماة، حيث تأتي قصة أبو محمد التي تبدأ في حماة سنة 1982. وفي حماة يلتقي حنظلة بنور مصادفة. وبعد تغطيته لمظاهراتها يتابع إلى حمص. والراوية بدورها تمضي من بؤرة إلى بؤرة، ليس فقط سعياً خلف ريح ابنها، بل لتغطي هي أيضاً الزلزلة في حلب أو حمص أو الزبداني أو إدلب أو…
في هذا النهر السردي الصاخب يبدو أن ضغط السيرية هو ما جعل الرواية ترزح أحياناً تحت سلطة الراوية، كما يبدو في قصة المجنون – المبارك محمود الذي ضربت رأسه في طفولته زوجة مسؤول كبير، فأطاشته. وقد قدم محمود مفتاحاً ذهبياً للسرد هو ما عبرت عنه الرواية بأن المجنون شاهد على ما يجري في الدنيا، يملك الحرية في شطب ما يريد من ذاكرته، واستبداله بما يريد، فيروي الحدث كما رآه بعين قلبه وروحه، وليس كما جرى. وهكذا يتحول الماضي (أحداث حماة 1982) فيما يحكي محمود عن طفولته آنئذٍ إلى حكاية، ولكن ليس من حكواتي، بل من (مبروك) لا يميز الزمن. وإذا كان محمود بكل ذلك أمثولة لمن تروي في (مدن اليمام)، فالراوية لا تكتفي بما يروي عن مجزرة جسر الشغور عام 1982، بل تضيف «ما لم يعرفه محمود أن الظلم يطال البسطاء من أمثاله». وحين يعتقل محمود تتولى الراوية شرح دخيلته، فهو لم يكن يعرف القضية التي مات لأجلها، مثله مثل أطفال جسر الشغور وتلاميذ الثانوية وطلاب الجامعة.
للسيرية محددات شتى في الرواية، كما في عودة الراوية إلى اعتقال شقيقها عام 1980، وإلى موت أبيها بحسرة ابنه الذي اختفى ذكره منذ نقل إلى سجن تدمر عام 1985. وعندما تعود الراوية بعد طيّ السنين إلى بيت العائلة، تتقد النوستالجيا إلى عقد السبعينيات. وفي هذا السياق السيري يأتي مصرع الطفلة آية عام 1980، وخروج الشقيق من سجن تدمر عام 2001، ولقاء يمام ابنة أخت الراوية بخالها الذي تقضي عليه نوبات ألم الرأس جراء سنوات السجن. وفي هذا السياق السيري أيضاً يأتي لقاء الراوية بصديقتها صباح الدمشقية الكاتبة، وحيث يتناظر مجد الماضي الدمشقي – نشأتها في بيت جدتها – مع مجد الماضي في جسر الشغور، حيث بيت العائلة الذي نشأت فيه الراوية.
من المحددات السيرية الأكبر شأناً في بناء الرواية، تبرز اليوميات. واللافت هنا ما يتحدد منها بيوم الأربعاء، وكذلك تطاول الزمن وتوالي السرد غالباً بين يوم – يومية وآخر – أخرى. ففي يومية 2011/12/28 تخرج الراوية لأول مرة في المظاهرة، فتنسى فيها فضول الكاتبة. كما تمضي اليومية إلى سيرة المدينة (جسر الشغور) والحارة وأهل الأم وأهل الأب والجدات.. وفي يومية 2012/2/8 تتوالى سردية السجن التي يتوزعها نور وصديق لنور والمخرج نورس. وحسب المرء، من أجل القول بالسيرية في الرواية، أن يذكر هنا ما ترويه الراوية عن الحداد (أبو أحمد) من أن ابنها نور قد أخبره أن أمه كتبت رواية عن الحدادين، حيث تذهب الإشارة إلى رواية ابتسام التريسي (جبل السماق – سوق الحدادين). وقد ختمت اليوميات الرواية في 2012/12/31 بفقرة تقوي السيرية بحمولتها من التوثيق، إذ تعنونت بــ (خارج النص الروائي) ونقلت من مصائر الشخصيات، ولكن دون أن تقفل باب التخييل: باب الرواية، إذ تركت حنظلة يرى.
n رواية غسان جباعي: قهوة الجنرال(1)
مما يجمع بين الرواية والسيرة الذاتية: لعبة الأسماء المستعارة، وملاعبة الحقيقة أو الصدق أو الوثائقي أو الواقعي، بالإيهام، ولعبة الزمن حيث يتداخل الماضي بالحاضر، والشهادة على الراهن – أو التاريخ الجاري – بالماضي أو بالتاريخ الطويل. وإذا كان ثمة ما يجمع أيضاً أو ما يفرق بين الرواية والسيرة الذاتية، فقد اخترت المشتركات السابقة، لأنها، متفرقة، الأكبر فعلاً في الرواية السيرية أو في السيرة الروائية بعامة – كما لعله بدا في رواية ابتسام التريسي (مدن اليمام) ورواية خليل صويلح (جنة البرابرة) – ولأنها الأكبر فعلاً أيضاً، ولكن مجتمعةً، كما في رواية غسان جباعي (قهوة الجنرال).
في سيرة الكاتب أنه قضى تسع سنوات في السجن، أغلبها في سجن تدمر، بتهمة الانتماء إلى حزب محظور، وفي رواية (قهوة الجنرال) تفعل سيرة السجين في الرواية، حيث غدت الزنزانة مسرحاً، والسجن عرضاً مسرحياً متواصلاً. وإذا كانت المشهدية المحمومة والموّارة في الرواية تنادي المَسْرحةَ فيها، فهذه المسْرحة هي فعل سيري، إذ الكاتب مخرج مسرحي وكاتب مسرحي.
من تفاصيل السجن التي تتحول إلى ذكريات، ومن ذكريات ماقبله، تنتسج الرواية مهشمة العمود السردي، ومطلقة النزوع التجريبي، فتتسربل الرواية في مواقع شتى بالغموض، ويتلغم السيري بالروائي، كما يتلغم الروائي بالسيري، فيكون مثلاً الأب أول محقق واجهه ربيع، أو تأخذ الرواية عنوانها من اللقب الذي لقّبت به أم ربيع الجنرال الذي حرمها ابنها: جنرال الأسى، وهو ما كان ينوي أن يعنون به الرواية، لولا نصح الأصدقاء وتحذير الناشرين، فَعَنْوَنها بــ (قهوة الجنرال). ومن هذا القبيل خروج ربيع من السجن مبتور الساق – خوفاً من الغرغرينا التي أصابته ثمة – ليصير مخرجاً مسرحياً وكاتباً مسرحياً، بينما تحاول (هي) أن تحطمه. ومن المواطن الكثيرة التي يتألق فيها هذا اللعب الروائي، حلم ربيع في الزنزانة بأن يملأ جيوبه بالفئران الصغيرة العمياء، نكاية بالقطط، أو وصفه للعلم السوري كما رآه في شتاء خدمته الإلزامية في مدرسة المشاة العسكرية في المسلمية شمال حلب، حيث يتجمد العلم من البرد، ويرى كل شيء ويفهم كل شيء، لكنه يظل صامتاً. ويمضي ربيع – السارد إلى أن العلم قد تطور منذ الاستقلال، حين كان برتبة نقيب في الجيش، فالعلم يحمل ثلاثة نجوم كالنقيب، لكن نجوم العلم تحولت من اللون الأحمر الاستقلالي إلى اللون الأخضر، والعلم عوقب زمن الوحدة السورية المصرية 1958 – 1961، فصار بنجمتين، أي برتبة الملازم الأول الأدنى من رتبة النقيب. ثم عوقب العلم إلى أن صار قطعة قماش متعددة الأشكال والألوان، ترفرف فوق قفص معدني كبير يضيق بحزب واحد وبقطيع واحد.
n رواية سميرة مسالمة: نفق الذل(2)
تبدأ الشيات السيرية في هذه الرواية ببدء علاقة (منى) ابنة الرموز الكبرى للفساد والقمع، وزوجة رمز آخر، مع (سلام) الصحفية التي تعري كتابتها مؤسسة الفساد، متجنبة سيرة (الزعيم)، ومبتدعة خطأً مختلفاً عن الآخرين، كجمالها المختلف، وطولها المختلف، مما يؤشر إلى النرجسية التي تعتور بطلة (نفق الذل). والنرجسية بعامة لصيقة بالسيرة الذاتية، وبضمير المتكلم. ولعل اختيار (نفق الذل) لضمير الغائب قد حاصر النرجسية، كما حاصرها انشغال الرواية بما يصطخب في الخارج من صراع على السلطة، وسعار الفساد، ومعه سعار الشهوات. غير أن محاولة الرواية أحياناً (التشويه المتعمد) المألوف في فن السيرة الذاتية بعامة، جاء غالباً ساذجاً وفاضحاً، بدلاً من أن يكون (استراتيجية اللاتعيين) التي لا توفّر التقية فقط، بل تترك للمخيلة أن ترمح بمنجاة من أحادية ووهن الصلة بين الواقعي والروائي. وهكذا يرد في (نفق الذل) مثلاً دحض (الكذب الاقتصادي المدردر)، وليس ذلك إلا نسبة إلى عبدالله الدردري الذي قاد لفترة عجلة الاقتصاد السوري، وهو كما تشرح الرواية صاحب نظرية الانفتاح الاقتصادي على اقتصاد السوق الاجتماعي. ولعل قليلاً من التدقيق والمقارنة أن يصيب في تعيين من هي في الواقع هذه التي تصفها الرواية بالمتصابية المتساقطة «حتى لو زينوك بالوزارة والاستشارة».
من المعلوم أن الكاتبة كانت صحفية ترأست تحرير جريدة تشرين الرسمية إلى أن أقيلت في بداية الحراك، ربما عقاباً على تعاطفها مع ضحايا مدينتها درعا. أما في الرواية، وفي فصل (مؤامرة كونية)، فنرى سلام التي يعنفها رئيس التحرير، ويصفها بالمندسة، قد انتزعت خوفاً عشش في ثقافتها، وبدأت بطرق أبواب الإمبراطوريات الاقتصادية بنقدٍ مغلف. وسلام إنما تحاول أن تكون على ما ورثت من زعيم عشقت كلماته، وهو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة. وتروي سلام أن من حماها هو ضابط منفتح على ثقافات الغرب، وتتوزع صداقاته بين أشد المثقفين عداء للنظام إلى أقسى الضباط على الشباب المتمرد على الحزب الحاكم. وتقسم سلام أنها تكتب الحقيقة، ولكن دون أن تنشرها «ولا حتى نصفها أو ربعها وربما عشرها أو بعض تضليل، حسب التوجيه». ولأن سلام بدت فيما تكتب من مقالات الرأي – ربما عنت افتتاحيات الجريدة – تتأفف من النظام، فقد استدعاها ليحقق معها من كان حبيبها المعارض، ثم أخفته آلة القمع ليظهر أخيراً ركناً من أركان النظام. وحين تكتشفه سلام ويكتشفها تستولي الميلودراما على الرواية. ولعل الأهم أخيراً أن يكون فيما بدا جراء القص المدرج في السيرة الروائية – كما هو الأمر في السيرة الذاتية عادة – من الاستطرادات التي تشتت النسيج الروائي بالأخبار والوقائع والأحداث، فتربك نظامه وتتكاثر فيه الفجوات والمجانية
n رواية خليل صويلح: جنة البرابرة:
بنى الكاتب هذه الرواية من اليوميات التي بدت فيها أشبه ما تكون في السيرة الذاتية، حيث الحرص على تحديد اليوم و/ أو الشهر و/ أو السنة، أي ذكر التواريخ.
وهكذا، من يوم إلى يوم، يقتحم الروايةَ الزمنُ المتشظي المصطخب، كيلا نقول زمن الاضطرابات والزلازل. وإذا كان الاقتحام لا يغيّب السيري، إلا أنه يكاد يكون الغالب دوماً.
في (جنة البرابرة) وبضمير المتكلم، يروي الراوي الذي لا يحمل اسماً، ربما كي تسميه القراءة باسم الكاتب الذي كرر هذه اللعبة في روايات أخرى له، كما منح الراوي اسمه الأول في بعض الروايات. وإذا كان الراوي يبدو دوماً ذلك الذي يهدده بالموت القصفُ والرصاص والخطف والمصادفة العمياء، فهو يرهن دقائق حياته وتفاصيل يومياته للخارج، للزلزال، ويكتفي غالباً بتعليق ساخر أو متفجّع، ونادراً أن يكون شارحاً أو مستطرداً إلى ماضٍ تولّى. ومن بديع ذلك ما خصّ به الفن والفنانين: عدسة عمر أميرلاي المخرج الراحل، منحوتات النحات عاصم الباشا، نبوءات التشكيلي يوسف عبدلكي الذي عرف بشغفه بالأسود، واعتقل في 2013/7/18 حتى 2013/8/22، وطالما ترجّع وصفه لما يجري في سورية: هذا تسانومي جارف لن يتوقف. أما مؤرخ حلب اللوني: الفنان سعد يكن الذي قرع جرس الإنذار مبكراً، فقد أحرق المسلحون لوحاته فخرست شخوصه في عزلتها. ومع هؤلاء الفنانين يحضر المخرج محمد ملص الذي كتب في يومياته: «تحولنا من شعب إلى كومة حطب ليس لها من دور إلا أن تموت قتلاً أو صلباً أو أن تفرّ أو تهاجر». وقد أطلق ملص سؤاله الملتاع: هل نحن داخل الحياة أو خارجها؟. أما ما يقصّر عنه الهول فهو ما كتبت الرواية، ومثلها عدد من روايات الزلزال السوري، عن مغني التظاهرات في مدينة حماة صيف 2011، إبراهيم القاشوش، الذي عُثر على جثته بلا حنجرة.
للفنان التشكيلي تمام عزام أفردت الرواية فسحةً أكبر، وهو من كان قد أبدع بنشر الغسيل القذر على حبال من الألوان، في معارضه، وإذا به يرسل بعد الزلزال خريطة سورية بالأسود معلقة على حبل غسيل، حيث امّحت الجغرافية السورية. ولعزام أيضاً إبداعاته في لوحة الطفل الذي يلعب بطائرة ورقية محملة بالصواريخ، أو في لوحة (القبلة) التي فرشها فوق البيوت المهدمة في حمص كأنها جدارية ضخمة. وكذلك هي اللوحة التي جمعت قبلة غوستاف كليمنت بالأصفر الذهبي مع خرائب تمام عزام الذي يستدعي إلى (المتحف السوري) نساء بول غوغان التاهيتيات ليفترشن الرمال قرب مخيم الزعتري للنازحين السوريين. كما يستدعي نازحي الفنان التشكيلي الحلبي الراحل لؤي كيالي الغاضبين في ساحة حلب، وراقصي ماتيس العراة الذين يرقصون بجنون في شارع في حرستا من ريف دمشق، ولدمار داريا – من ريف دمشق أيضاً – يستدعي لوحة الثالث من مايو من الحرب الأهلية الإسبانية لفرانشيسكو غويا.
من التاريخ الطويل، من الماضي، تُحضِر يوميات هذه الرواية إلى الراهن /الحاضر/ التاريخ الجاري، البديري الحلاق، وممن سبقوه: لوقيانوس السميساطي وابن عرب شاه. ومن الحاضر تُحضِر اليوميات روايات (حجر الصبر) و(الأرامل) و (الجهل) و(قلم النجار) لعتيق رحيمي وأرييل دورفمان وكونديرا ومانويل ريغاس، على التوالي. وباشتباك هذه العناصر جميعاً تبدو دمشق كأنها تكتب حفريات الطغيان بأشكال مختلفة، كما يعقب الراوي على خاتمة تاريخ البديري الحلاق (حوادث دمشق اليومية). ولأنه الزلزال، فليس للشخصي من سيرة الراوي إلا أقل القليل، ومنه (احتدام الرغبة في زمن الحشد) كما تجلو قصته مع مريم. ج. إنها بالأحرى سيرة الزلزال بكبائرها وصغائرها: في يوم: حرب التماثيل وقطع رأس أبي العلاء المعري ونهب متحف المعرة. وفي يوم: تفجير تمثال أبي تمام في قريته جاسم. وفي يوم: شاب خطف علبة مالبورو من الأرض، ومسحها من دم بائعها عقب تفجير انتحاري لنفسه في ساحة المرجة. وفي يوم: نهب الآثار من تدمر ومن آفاميا ومن جعبر. وفي يوم: مخيمات العزل القسرية للنازحين، والاتجار بالنساء، وتزويج القاصرات، وسرقة أموال الإغاثة، وبازار الأرامل، وفتاوى بتحليل سبايا الحرب. وفي يوم: مذبحة حي بابا عمرو في حمص. وفي يوم: مذبحة الحولة التي يتبادل النظام والمسلحون الاتهامات بارتكابها. وفي يوم: مصانع كاملة تُحمّل إلى تركيا، وبضائع معروضة للبيع في قرى ومدن. وفي يوم: مذبحة قرى الساحل وخطف 120 فتاة كسبايا… وهكذا، تستوي الأيام مهما تنوعت اليوميات، وينسحق الفردي والشخصي والذاتي، فالكائن السوري مريض، وفكرة الوطن تتحول إلى مقبرة جماعية، وسورية التي زلزل زلزالها، وأخرجت أثقالها، ليست جمهورية موز، ولا إمارة متمردة عند أطراف الثغور، أو طروادة محاصرة، بل هي مزيج من كل هذه الجغرافيات، كما رسمتها رواية (جنة البرابرة).
هكذا بدا التاريخ الساخن /المباشر/ الجاري يفعل فعله العميق في الروايات الثلاث: (مدن اليمام) و(قهوة الجنرال) و(نفق الذل). وبهذا الفعل التاريخي بدا الكاتب(ة) شاهداً(ة) على حقبة تاريخية بالغة التعقيد، وبالتالي: بدت الرواية سيرة بقدر ما بدت السيرة رواية، وحيث ترنّح الفنيّ في رواية سميرة المسالمة، بينما اتقد في روايتي غسان الجباعي وابتسام التريسي، على الرغم من كل ما يحف بالفن من مزالق في الرواية السيرية- وقل العكس أيضاً: في السيرة الروائية – عندما تغامر في الشهادة على زمن كتابتها، المشتبك مع زمن قراءتها.
هوامش:
1 دار نون، ط1، الإمارات العربية المتحدة 2014.
2 ضفاف للنشر، ط1، بيروت 2014.
نبيل سليمان