على الرغم من النجاحات المتعددة التي حققتها دراسات ما بعد الاستعمار في إعادة تشكيل الصور التقليدية الصارمة وطرق التحليل الثقافي في السنوات الأخيرة، فإنها نجاحات مُحاصَرة حاليا بعدد من المشكلات التي يعكسها عدد متزايد من الهجمات من خارج هذا المجال، فضلا عن ازدياد المعارضة بداخله. يهتمّ هذا الكتاب بصفة خاصة بالخلافات الأخيرة حول نظرية ما بعد الاستعمار التي أدّت إلى ما بَدَا بالنسبة إلى بعض المراقبين على أنه نموّ لانقسام بين نظرية ما بعد الاستعمار من جهة، وبقية نقد ما بعد الاستعمار من جهة أخرى. إن كتابي هذا يعرّف نظرية ما بعد الاستعمار باعتبارها عملا شكّله في المقام الأول -أو لنقل إلى درجة كبيرة- انتماءاتٌ منهجيةٌ تنتسب إلى النظرية الفرنسية العليا، لا سيّما كل من جاك ديريدا Jacques Derrida وجاك لاكان Jacques Lacan وميشيل فوكو Foucault Michel. و يعني هذا، في الممارسة العملية، عمل كلٍّ من إدوارد سعيد E. W. Said وجاياتري سبيفاك Gayatri Spivak وهومي بابا Homi Bhabha. ذلك هو «تسلل» النظرية الفرنسية العليا» إلى تحليل ما بعد الاستعمار الذي ربما ولّد أكثر المناقشات الراهنة سخونةً، وإثارة للتطرّف، سواء بالقبول أو الرفض. إن ممثِّل الاتجاه السابق روبرت يونج (Robert Young 1990) صاحب كتاب «أساطير بيضاء White Mythologies « الذي يعلن فيه عن «علم منطق جديد للكتابة التاريخية»، ينادي في كتابه الأخير «رغبة استعمارية (Colonial Desire 1995) بما يسمّيه «الثالوث المقدس Holy Trinity» لمنظِّري ما بعد الاستعمار. يحتجّ روبرت يونج بأن كلّاً من إدوارد سعيد وجاياتري سبيفاك وهومي بابا قد تمكّنوا من إعادة صياغة مفهومية جذرية للعلاقة بين الأمة والثقافة والعِرْق التي لها أهمية ثقافية/ سياسية عظمى. وعلى العكس من ذلك، فإن ديريك والكوت Derek Walcott، الحائز على جائزة نوبل، يُدين في نغمة صادمة النظرية الفرنسية التي لم تكن نموذجية لأكثر أنواع نقاد ما بعد الاستعمار تقليديةً. ثم يختتم والكوت حديثه بالشكوى من «نَتَن» و«عربدة» الأسماك الميّتة من النقد الفرنسي، قائلا» إنها تُقنع الواحد منا بأن أونان Onan كان رجلا فرنسيا».
من أجل تحديد أكثر وضوحا ولأغراض استراتيجية، سوف أقبل بكل الخلافات، مهما عظُمت صراحتها أو صغُرت؛ أقصد إلى تلك الخلافات التي شُيِّدت كجدران شاهقة بين نظرية ما بعد الاستعمار من ناحية والمجال الأكثر اتساعا لنقد ما بعد الاستعمار من ناحية أخرى. حتى وأنا أمرّ بهذه المرحلة، يجب أن أؤكد أنني لا أرغب في إضفاء أية صبغة جوهرية على التمييز بين هذين النوعين من التحليل. بالفعل، فالإقناع بأن الفروق بين نوعي التحليل المذكورين لا يمكن إقامتها بشكل مجرّد؛ لأنها تؤسّس تفاوضًا ما قمتُ به في الأجزاء الأخيرة من كتابي بين مؤيّدي نظرية ما بعد الاستعمار ومنتقديها؛ وبالتبعية بين نظرية ما بعد الاستعمار ونقد ما بعد الاستعمار على نطاق أوسع. إن المسار المهني لإدوارد سعيد، على سبيل المثال، هو واحد من خيبات الأمل المستفحلة مع بعضٍ من «النظرية العليا» التي تؤيّد «الاستشراق Orientalism»، كما سأبيّن بمزيد من التفصيل في الفصل الثاني من هذا الكتاب. بعد نشر هذا النص المنويّ، سيبدأ سعيد تقريبا، وبطريقة مباشرة، في تطوير مثل هذه الطريقة التي يستكشف فيها، خلال عقد لاحق من الزمان، توفيقًا ملائمًا بين عمله الخاص وبعض الإصدارات الأخيرة من الدراسات الأدبية «للكومنولث».
لا أريد أن أفترض أن نقد ما بعد الاستعمار هو، بمعنى ما، نقد وضعي بسذاجة أو تجريبي محض في فرضياته وإجراءاته. فعندما يسوّي خلافاته عامة ببلاغة مختلفة وأكثر انفتاحا، ويكون من النادر -بناء على ذلك- أن يصدّر للقارئ نفس درجة الصعوبة الفورية بوصفه نظرية ما بعد كولونيالية، فإنه كثيرا ما يحظى بالتنظير الغزير، سواء كان ذلك ضمنا أو صراحة (كما هو واضح بشكل خاص في العديد من تحريفات الماركسيين والمتمركسين marxisant لنقد ما بعد الاستعمار). وكما تفترض باربرا كريستيان Barbara Christian ، فليس من الضروري لأية «نظرية»، على أية حال، أن تُفهم بالطريقة ذاتها بالنسبة إلى الغرب واللا-غرب على السواء (أو بالنسبة إلى أنصار الهيمنة وأنصار التبعية داخل الغرب). ولا أنا أودّ أن أقترح أن ثمّة فصلًا تعسفيًا مجردًا بين «النظرية» من جهة و«النقد التطبيقي» من جهة ثانية. فكل من سعيد وسبيفاك وبابا يشاركون جميعا في التحليل «العملي» لنصوصٍ وخطاباتٍ تضعهم موضع المقارنة مع الكثير من نقّاد ما بعد الاستعمار الآخرين. وأخيرا، فأنا لا أرغب في إحداث تجانسٍ ما سواء في نظرية ما بعد الاستعمار أو نقد ما بعد الاستعمار، بوصفهما نوعين منفصلين، ولكن بوصفهما نوعين من النشاط الموحّد المنسجم داخليا. وكما سيتضح لاحقا، فإن هذين المجالين الفرعيين من التحليل يجب أن يُفهمَا باعتبارهما صيغة جمع واحدة في الفرضية والتوجيه والإجراء؛ وهما متداخلان، في بعض الأحيان، بالقدر الذي هما متناقضان بالتبادل.
إن الشاهد الوحيد على الجدل الدائر حول مكان الماركسية في الأوضاع ما بعد الاستعمارية للتحليل الثقافي يُظهر بجلاء حقيقة هذا الاقتراح. وفي قلب مجالات نظرية ما بعد الاستعمار، تحتجّ جاياتري سبيفاك بقوة من أجل أهمية طرق التحليل الماركسية وفائدتها، بما في ذلك ضفافها «الاقتصادية»، في حين يعادي هومي بابا عموما مثل هذا العمل. أما إدوارد سعيد، على سبيل المقارنة، فإنه منقسم بينهما. وكما سيتّضح لاحقا، فسعيد يضع ماركس نفسه مباشرة ضمن تشكيلة استشراقية، بينما يعتمد في الوقت ذاته –وهو ما لم يكن أبدا غير نقدي- على ضفاف ثقافوية culturalist للماركسية في كافة جوانبه المهنية. يمكن القول، بمعنى ما، إن نقَّاد ما بعد الاستعمار وغيرهم من المهتمين بالربط بين الثقافة والإمبريالية مختلفون في مواقفهم اختلافا متكافئا. فإعجاز أحمد Aijaz Ahmad، مثله مثل عارف ديرليك Arif Didlik وبينيتا باري Benita Parry وشينوإيزو Chinweizu ونجوجي وا ثيونجو Ngugi Wa Thiongo ونيل لازاروس Neil Lazarus، يجادلون بقوة من أجل استعادة الماركسية باعتبارها أفضل الوسائل لفهم العديد من المشكلات التي نوقشت في كثير من الأحيان تحت معيار تحليل ما بعد الاستعمار، كما أن الماركسية تلعب دورا مهما –حتى وإن كان هذا الدور مزدوجا أحيانا- في تفكير نقّاد سابقين، بالقدر الذي هم متنوّعون، مثل س. ل. ر. جيمس C. L. R. James وإيميه سيزار Aime Cesaire وفرانز فانون Frantz fanon. وعلى النقيض من ذلك، فإن شخصيات متنوعة مثل وول سوينكا Wole Soyinka وكريستوفر ميللر Christopher Miller وبول جيلوري Paul Gilory وروبرت يونج يرون جميعا الماركسية، إلى حد ما، باعتبارها تأكيدا على محاولة سابقة قامت بها الإنسانيات الغربية لفرض سرديّاتها الكونية ‹universal› narratives على التطور الاجتماعي، وعلى أشكال التحليل الثقافي التي أخفقت في أن تقوم بالصواب –أو حتى أن تحسب حسابا في بعض الأحيان- بالنسبة إلى خصوصيات السياقات غير الغربية واختلافاتها.
إنني حريص -في هذا الكتاب- على أن أزوّد القارئ بكشف حساب لنجاح دراسات ما بعد الاستعمار وبعض المشكلات العامّة التي تواجهها حالياً. وفي كل الأحوال، سأركّز على تفنيد الهجمات الموجّهة ضد نظرية ما بعد الاستعمار سواء من خارج المجال أو من داخله معا، وعلى الهجوم الأكبر الذي كثيرا ما يُديره جدل متواطئ سياسياً مع أنظمة للمعرفة؛ هي أنظمة استعمارية (جديدة) مهيمنة. إنّ مثل هذه الهجمات تؤكد بشكل نمطي أنّ الموقع المؤسسي لنظرية ما بعد الاستعمار في الأكاديمية الغربية يسلبها القدرة، بالضرورة وبطريقة آلية، على أداء أي نوع من التحليل الثقافي الراديكالي والتحرّري. ولكي أعالج مثل هذه الحُجج، سأصنع سياقًا لبزوغ نظرية ما بعد الاستعمار فيما يتصل بالأنماط المؤسساتية المهيمنة سابقاً على تحليل العلاقات المعقّدة بين الثقافة والنزعة الاستعمارية الجديدة.
يعقب هذا ثلاثة مداخل نقدية أخرى عن سعيد وسبيفاك وبابا، تسعى إلى تزويد القارئ بقراءات نقدية مُفصّلة، وصبور، عن أعمال النقاد الثلاثة، وتعالج أبعد الاعتراضات التي لخّصها المدخل الأول. منذ دراسة روبرت يونج المقارنة والرائدة عن هذه الشخصيات الثلاثة في كتابه «أساطير بيضاء» (1990)، فقد أنتجت جميعها قدرا كبيرا من العمل الجديد الذي يتضمّن، بشكل خاص، «الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism» لسعيد (1993)، و»الناقد ما بعد الكولونيالي The Post-colonial Critic» (1990) و»خارج ماكينة التعليم Outside in the Teaching machine» (1993) لسبيفاك، و «السرد والأمة Nation and Narration» (1990) و»موقع الثقافة The Location of Culture» (1994). لبابا. وكما ظهرت تلك النصوصِ الرائدة الجديدة، فإن الجدل الدائر حول هوية نظرية ما بعد الاستعمار وسياستها وغرضها ومنزلتها قد نشأ، باطّراد، في ظرف مناخي حار. ومن ثمّ، فإن الهدف الرئيسي لنصّي هذا هو إمداد القارئ بكشف حساب تحليلي واضح لكل من المادة الجديدة التي أنتجها النقاد، صانعا لها سياقا يندرج في إطار ردّ الاعتبار لأعمالهم السابقة، والخلافات التي نشأت حولها معا في فترة طارئة.
لقد اتّبعتُ، في هذا الكتاب، منهج «القراءة القريبة» التي ارتبطت، ربما على سبيل المفارقة، بتفكيكية ديريدا والصيغ التقليلدية للنقد الأدبي على السواء. إن السبب الرئيسي وراء هذاه المقاربة هو الاستياء الحاصل في أغلب الأحيان من التقديرات الظريفة التي تمّ تعميمها على صعوبة نظرية ما بعد الاستعمار وعدم فائدتها أو اللا اهتمام بها. إنني أشعر أيضًا، رغم ذلك، بأنّ بعض الحماس لنظرية ما بعد الاستعمار يمكن أن يمتلك أرضيةً ما بشكل مفيد وأن يكون موضع اختبار في تحليل أكثر تفصيلاً من قِبَل النقّاد موضع المساءلة. وإذ ذاك، فإنني أريد أن أخوض، قدر الإمكان وعن قرب أكثر، في ذلك النقاش الدائر حول نصوص نظرية ما بعد الاستعمار (خصوصاً تلك التي ظهرت منذ عام 1990)، سواء بهدف تأسيس ما يبدو لي على أنه مقدماتهم المنطقية وحججهم وعلاقاتهم المتبادلة الرئيسية، و- بالقدر ذاته من الأهمية- أن أضع كل هذا موضعًا صارمًا من المساءلة والفحص، ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا.
سوف أعيد النظر في الاعتراضات العامة على نظرية ما بعد الاستعمار التي فُصِّلت في الفصل الأول من هذا الكتاب في ضوء مناقشة كل من سعيد وسبيفاك وبابا، مقترحًا طرقًا أخرى يفتقر بعضها على الأقل إلى التعديل. ولسوف أستمر في البدء في إعادة تقييم الخلاف الذي ظهر مؤخّرا بين نظرية ما بعد الاستعمار وبقية حقل نقد ما بعد الاستعمار . كما سأناقش نقاشا جدليا بأن ثمة متَّصلا مهمّا، ومعترفًا به بشكل محدود، في كلا المستويين الاستراتيجي والتكتيكي، بين عمل نقّاد ما بعد الاستعمار مثل شينوا آتشيبي Chinua Achebe وول سوينكا وويلسون هاريس Wilson Harris من ناحية، ومنظِّري ما بعد الاستعمار مثل سعيد وسبيفاك وبابا من ناحية أخرى، حتى وإن كان من الضروري، أحيانا، الاعتراف بأن الاختلافات المهمّة لتأكيد ذلك الأمر يجب التعرّف عليها في تأويلهم ونشرهم بعض المفاهيم التحليلية المفتاحية والإجراءات النقدية التي يشتركون فيها.
في الخاتمة ، سأشير إلى أن العديد من المشكلات التي واجهتها نظرية ما بعد الاستعمار، في الوقت الراهن، هي مشكلات شائعة في نقد ما بعد الاستعمار بشكل أكبر، خصوصاً بالنسبة إلى السؤال عن كيفية التفاوض بشأن ذلك التضامن والتحالف الحاصل بين التشكيلات والمصالح الاجتماعية المختلفة لما بعد الاستعمار، والممارسات النقدية الخاصة التي ولّدتها، بينما هي في الوقت نفسه تحترم خصوصيتها التاريخية والثقافية. أعتقد، لهذا السبب وحده أكثر من أي سبب آخر، أنّ بعض الحماس الحالي لنظرية ما بعد الاستعمار، والخصومة لها، هما أمران مضلِّلان سواءً بسواء. على أية حال، فنزعة الشك التي تكشف، أحيانا، عن اهتمامي الخاص بنظرية ما بعد الاستعمار، تشهد باعترافي أنّ بعض اعتراضات خصومها، على الأقل، هي اعتراضات جادّة، ويجب أخذها بمزيد من الجدية. فأنا لا أتفق مع روبرت يونج في تفاؤله بأن انتشار ما يسمّيه «المنطق الجديد للكتابة التاريخية» الذي يتطابق قبل كل شيء مع عمل سعيد وبابا وسبيفاك، يمكن أن يساعد في تدشين عالم جسور وجديد من التحرّر الثقافي، بينما يواصل بعض دعاته ومؤيّديه تجاهلهم –أو حتى استهجانهم- لما أُنجِز قبل ذلك، ولما يستمر في الحدوث، في ميادين الكفاح السياسية والنقدية الأخرىِ في حقل ما بعد الاستعمار. من جهة أخرى، وتحديدا بسبب التداخلات المتعددة والجذرية بين نقد ما بعد الاستعمار ونظرية ما بعد الاستعمار، فإنه لا يمكن أن يكون هناك سبب معقول لدى دعاة ومؤيِّدي كل ما هو سابق (أو ماضويّ) أن يرفضوا كل ما هو لاحق (أو حديث) رفضًا قاطعًا.
ترجمة: محمد الشحات