ماذا يريد الشاعر (التاوّي) غير هذا النبيذ المسفوح في الأفق بين حُمرة عين النسْر المتحفز وشدو يمام يتسامى من جيتار مشرّدة في الطريق؟
ماذا تريد الصحراء من سكّانها وقد أضناهم العطشُ والطريق.. ماذا يريد العلماء من شُهبٍ تائهة في سماءٍ لا مرئية؟
***
يا لهذا الانتظار أمام غرفة العمليّات .. الطفل تحت مبضع الجرّاح ينتظر مجهولاً معتماً وكئيباً.
الثواني تعبر وكأنها دهور جاثمة على قلب الأب والأم ، المرتجف موجةً يلعب بها إعصار..
الممرضات يعبرن ، الأطباء يعبرون ببياضهم الذي تستعيره الجدران ، والكوابيس.
يحاول الأبُ أن يتذكر طفولةً جرفها الطاعونُ فتنفجر قاذفةً به إلى جحيم لا يطاق. كل شيء يعبر ثقيلاً، والروح تتشظى في مدار القاعة البيضاء الساجية كصرخة استغاثةٍ، وفي مهبّ الآفاق المظلمة والمستشفيات.
***
الريح شقيقة الخرائب، تعوي كالنائحة الثكلى في البيوت المهجورة، وقد مزّقتها إرباً جلبةُ الذكرى، وصدْعُ الفراق.
***
الشعراء، الفلاسفةُ، والمصلحون الأوائل حلموا بتنوير العالم، قيادته إلى الخير، العدالة والجمال… ثم رحلوا باصقين على ميلاد الكائنات قاطبة، كما الأطفال يبنون بمرح وروية عوالمهم الخياليّة الحالمة، وينتهون بتحطيمها وركلها بالأيادي والأقدام..
***
لم يعدْ هجاءُ المدينة يغري، كذلك المديح والاحتقار.
تحدّق في الشجرة المزهرة على قارعة الطريق الأجرد..
من أغصانها تتطاير أطيافُ أحبةٍ غابرين..
أولئك الذين تركوا للبهاءِ فردوسَ الجراح، وللشجر المتمايل في فضائه، بحرية يفتقدها بشرُ العبودية يقيناً، مذاقَ الأبد الحاني، توحدوا مع الرؤيا والضَباب حين ساق الأطفال قطيع الفراشات نحو البحر..
لا الغنى ولا الفاقة شغلتْهم عن براري الروح..
أحصنةٌ تصهل راكضةً، على ظهورها ميراثُ النجوم الساهرة.
***
عواءُ بنات آوى، ليس نذير موت وفجيعة كما كنا نعتقد في طفولاتنا البعيدة، حين كانتْ تتجمع أصواتها غيوماً في سماء العويل.
انها تحرسُ أرواح الموتى، وتسهر على الجثامين خوفاً من لصوص المقابر:
عرفتُ ذلك متأخراً من نشرة أخبار الفراعنة..
***
تمتم الشاعر (التاوّي) المدمن على التأمل والنبيذ، وقد ولج مدينته الأثيرة بشاطئها العميق: لقد تيبست نظرتي إلى العناصر، الأشياء، بعد أن منعني الطبيب من معانقة ربّة الكروم في زرقة الموج والغيوم … لكني بعد أسبوع من استراحة المحارب، سأرمي وصاياك إلى النار الموقدة، أيها الطبيب الشافي..
فتلك الآلهة الحمراء والبيضاء التي لا «تنزل الأحزانُ ساحتها»، هي شفائي الوحيد، وانتقامي من عالم بلغ ذروة انحداره الروحي، الانساني، وسأواصل الترحال العذب بصحبة الشعر، البحر والنبيذ..
***
عشرة أيام والديمة السكوب، لم تنقطع عن هذه التخوم الخضراء المأهولة بقديسين فَجَرَة وملائكة.
النبيذ يصدح في الكؤوس والطيور تنادي بشبق في الغابة التي يسيِّجها البحرُ من جميع الجهات.
***
أيتها المترحِّلة
أين تنامين الليلة في هذه البلاد الغريبة؟
الحقائب على كتفيك
حيث تسكنين وتسكن أحلامكِ.
والعاصفة المداريّة على وشْك الانفجار..
***
طوبى لكِ أيتها المترحِّلة
لقد قطعت الأواصر مع صَخب الطفولة، والأهل والوطن، لكنك لم تقطعي الحبَّ الذي يكبر مع كل خطوةٍ تقدحين بها رتاج المسافة..
يكبر الحبُ وتنثر زهرَه الرياحُ
على البشر والمجرّات..
***
طوبى لكِ عابرةً
تحدِّق في شهُبٍ تعبر الفضاء والجبال
في الشجر المتسامق تحت المطر
والغابة وهي تلعب
مع البحر والنيازك..
***
كان يتذكر الحربَ.. أي حرب كان يتذكر؟ هو الذي لم يعرف هنيهة سلام واحدة، وكذلك أسلافه الذين خَبروا جميعَ الحروب.. حياة جرفها التيهُ في غاب الحروب ومحيطات الدم… لا يكاد يلمح طيف سكينة، إلا وتقصف ريح سوداء قادمة من فجاج الجرح السحيق لسلالات لم تعرف إلا القتل (بكافة أنواعه) دستوراً والحقدَ الذي ينمو في أعماقهم جيلاً بعد آخر كما تنمو الأعشاب والنباتات الوحشية السامة في الغابات القصية… قرأ كثيراً عن المحبة والغفران، عن الفضائل التي تسمو بالانسان فوق شرطه البائس المنفجر بالضغينة والدم المراق، تلك التي تسمو بالانسان إلى مرتبة الإله، لكن العاصفة الهوجاء إياها وقد تحولت عبر مسيرتها الطويلة في محيط الكراهية والغضب، إلى إعصار كاسح ، لم يبق أمامه حيزاً لحلم أو خيار عدا السباحة والانغمار في المحيط المليء بالهوام والأعاصير، المحتدم بالموت والطاعون..
وباندفاعة الموت، مضى من غير أمل ليعانق مجهوله الدامي الذي طالما هرب من أقداره وفخاخه المنصوبة في كل زاوية ومكان..
***
انتشى بالمشهد، أكثر من كتابته، حيث فتاة في طور المراهقة بجمالها المغولي العاصف، مثل عصف أسلافها في تلك البراري الوحشية يعصفون بالمدن والأسوار التي أحالوها إلى حطام تحت وجيف خيلهم الكاسر… كانت الفتاة التي لا تعرف على الأرجح شيئا من ذلك التاريخ، تسترخي أمام البحر بأمواجه المزبِدة، في يدها زهرة اللوتس المقدسة تلثمها على الخد والجبين والنهدين، بسيل لا ينقطع من القُبل، إزاء البحر تغيم رؤية المشهد بطيوره وأمواجه وجُزُره حتى يتوحّد في قُبلة تذوب قدسيّتها وشبَقها بين الزهرة البيضاء والوجه المغولي… تسّاقط زهرة أخرى وتستقر على ثقب السرّة في سفح الجسد المستنفر ظباءه وأسرابَه، الجسد المسترخي حتى النشوة والنعاس بكل ذلك الإشراق والحس العارم الذي يختبر ذاته في مطلع العمر إزاء البحر… بينما الطيور تواصل تحليقها في الفضاء المغسول بمطر الليل لتحط على الجزائر المتناثرة في عراء المحيط، لعابها يسيل مع الرذاذ وعلى السرّة التي استحالتْ زهوراً ولهاثاً يغمر الجسد المغوليّ العاصف.
***
أول ما قاد المودة بين جميل وبثينة، ذلك الشجارُ الواقعي حسب الرواة، أو السِباب، في وادٍ من أودية شبه الجزيرة ذات الزرع القليل والأحلام الشعرية الشاسعة..
أما أنا فقد فتحت سماء آسيا القصوى التي كانت تمطر بغزارة متواصلة منذ أيام.. كنت غارقاً في النوم على حافة بحر العندمان. كان الليل الغابي يسفح نبيذَه على البشر والشجر والأمواج التي تلامس النافذة، حين انبلجتْ من ثنايا المشهد الضبابي، مجتازة كل تلك المسافات من المدن والقارات، ما إن لاح طيفُها من بين الضَباب والأمواج، حتى توتّر الجو ونشب شجار من طرفي، بينما هي توغل في الصمت مثل شجرةٍ في ليل..
أخذتْ تبتعد ببطء، حتى كادتْ أن تختفي في الحقل المفعَم بأنداء الليل والسكون. غابت عن ناظري لفترة وحين لحقتُ بها، معتذراً ومتوسّلاً، رأيتها من مسافة قريبة وهي تحتضن كائنا لم أتبينه، حتى اقتربت أكثر، فرأيت غزالاً يحدّق مبتهجاً بعينيه الجميلتين، نحوي وهو يتشبّث في حضنها بحنانه الأمومي البالغ… بقينا صامتين لفترة طويلة ربما امتدّت إلى رحاب أبديّة..
في كل خطوة تخطينها باتجاه حقل الأحلام الغائم البعيد، كان المطر يتساقط والعشب ينبت ويزهر تحت أقدامكِ في الأرض الجرداء التي سلبها الجفافُ نعمة الحياة العابرة.
كانت الحياة تُولد من نظرة الغزال في حقلكِ.. من خطوتكِ المباركة.
***
كانت الحربُ قد بسطت سلطتها على طول البلاد وعرضها.
قالت الأم لأطفالها، وقد داهمهم النوم وسط هدير المدافع وقصف الطائرات..
«تصبحون على فجر دموي آخر يا أطفالي، لكنه الفجر الأخير الذي يعقبه السلامُ والمحبة»
كانت الأم قد قرأت في روزنامة التوقيت «اشتدي أزمة تنفرجي» وبما أن الأزمة قد طعنتْ في المحنة والشدة، فمقتضى الحكمة المعهود هي الانفراج حيث سيكون آخر فجر دموي يعصف بالبلاد والعباد، أسرى الاستباحة والمجزرة.
لكن الأطفال ناموا واستيقظوا من غير أن يتهادى إلى أسماعهم الغضّة، أيُ صدى لتلك الحكمة الأثيرة على القلب الحنون.
***
مات الشاعر كمداً، وهو يحدّق في ظلام الروح يزداد غِلظة، بعد أن حاول إضاءتها دهراً، مات وحيداً خلف جبل النسيان..
***
يا طيوراً تغتسل بأعراف الموج
المتطاول حتى السموات السبع
ويا نساء يدعكن فروجهنَ
بملح الأبديّة
***
الموج يسحبُ معه أحشاء سفنٍ
غرقت في الطوفان الأول
للخليقة
وصبايا الموج الفاتنات
تحمل الريحُ ضحكاتهن إلى الضفة الأخرى
في هذا الأوقيانوس الواسع
كمشيئة الآلهة..
***
باستمرار وشغفٍ ترنو
نخلةُ البحر الوحيدة إلى الموج المترحّلْ
لعله يحمل رسائل شوق
إلى الأحبّة في الضِفاف البعيدة
***
صرخة الثكالى والمنكوبين
تعبر الضفاف مع الإعصار
لتكون دليله الوفي
نحو الثأر العادل
والانتقام
***
امرأة يأكل الحمام من يدها
تحلم بركوب الموج
وبما وراء زرْقة المحيطات والظِلال
***
لا شيء يمنح غبطة النهاياتِ
ومرحها الحزين
مثل موج يتكسر على صخور الشاطئ
بعد رحلته العدمية النشوى
من أعماق الأزل والمحيط..
***
الحفيف الأنثوي المتمايلُ
مع زَبَد البحر والطيور السابحةِ
في الهواء الطَلق
الرغبة الضاجة تخترق الحُجبَ
باتجاه ممراتكِ المظلمة
***
تنزلين السلالمَ البحرية
برشاقة الطائر المحلّق من غصن
إلى آخر ، بين الدروب والترّهات
حتى أعماق الدغلِ الأخضر والغابة
***
تمّحي السماء فجأةً من بين ركام
السُحب السوداء والغيوم:
ها هو الإعصارُ يشقّ طريقهُ
بلوعة العاشقِ
باتجاه المدينة..
***
عصفور الدوريّ يحط على كرسي
المقهى
لا حيرة تبدو على وجهه الصغير
المرتعش بالمرايا والمسافة
صفير يسافر في الهواء العذب
لبحر العندمان، بينما نوارس تشتبك
بمرح في الأفق القريب
***
هذه النخلةُ
كم تبدو مصفرّةً عليلةً
كأنما فقدتْ أحبّة طال غيابهم
أو ضاعوا في لهب المسافة والسراب
تُفكر بحيْرة التائه المقطوع
من جذور السلالة
المقذوف في هذا الصقْع البعيد..
سيف الرحبي