1
« أنا لا أتمنى غير يد / يد جريحة، لو أمكن ذلك»..
قرأ بمرارة هذه الأبيات من نص للشاعر الغرناطي لوركا، فكل ما كان يعوزه يد.. يد واحدة تعوّضه عن التي طارت في حادث سيارة… لا يعي ماذا جرى.. ؟!
كل ما لملمته شتات ذاكرته المتخبطة في تلك الليلة.. يد اقتلعت من جذورها لتطير بانفعال إلى الجهة الأخرى من الشارع، كل ما يذكره هي أن تلك اليد عينها لم تكتف بالطيران، بل حين ارتطمت أرضا دهستها بقسوة مميتة عجلات سيارة لا مبالية.. غاب عن الوعي كما غابت يده إلى أشلاء متعفنة..!
2
غدا بيد واحدة.. يسراه التي لا يمكن أن تقوم مقام يمناه لأهم مهاماته كما رصفها في ذاكرته : حين كانت تحتضن شطيرة لذيذة من البيتزا، حين كانت تعانق برشاقة أصابعها كوب القهوة المحلاة وحين……..، كفّ عن خيالاته الساذجة متأففا بخيبة.. فهو يعرف جيدا أن تلك الممارسات اليومية التافهة لا توازي وزنها في شيء نحو أقدس مهام في حياة يده اليمنى : الكتابة..
مذ ذلك اليوم وهو يصارع بضغط إبهام يده اليسرى على قلم يحرر فيها أفكاره التي تتدفق بوتيرة واحدة وحين يستعيد أنفاسه يعيد تنسيقها بمفاتيح الكيبورد على الحاسوب كما اعتاد مزاجه الكتابي، دون أن يغيّب بأسى أمنيته العتيقة في أن يسترخي على كنبته الحمراء ويده اليمنى تعانق قلما واليسرى كتابا، وهي عادة لم يتوقع يوما أن تفنى كفعل وتستعاد كمجرد ذكرى بهذا الشكل الموجع كلوحة مسوّرة لميت..!
3
سكبت الأيام جل متاعبها على يده اليتيمة لا سيما حين أوكل كافة مهاماته إليها، يخال إليه أنها شاخت من ثقل ما على عاتقها، ولا تكاد تخلو أحلامه في الليالي المؤرقة من أيد كثيرة يملكها كإله شيفا * الهندي..
سرعان ما أيقظت فيه إحدى تلك الليالي رغبة مفرطة في امتلاك يد، فصوته الكتابي في قاعه الذي غدا مظلما من هول المصاب يستدعي بقوة يدا.. يدا تكتب.. يدا تسجل أفكارا.. تحلل عبارة.. تعلق على سطر مستفز.. يدا تمهر بصمتها في هيئة توقيع على صدر كل كتاب جديد بالأصابع نفسها التي كانت تباهي بفعلها هذا فيما مضى..
ولعل الرغبة تراكمت أعمق.. حينما ثقب أحد الحوارات في مجلة شهيرة فجوة طازجة في جوفه على هيئة سؤال ساذج استفزّ روحه المكلومة : هل أفقدتك يدك المتشظية سيل أفكارك الشرهة بالإبداع التي أبهرت بها قراءك طوال تلك الأعوام..؟!
كنقطة في نهاية السطر انطبقت شفتاه.. بينما ظل صدى السؤال يتقلّب كجمرة.. بل حسرة و مرارة باتا يغليان بأسى في قاعه.. فتخاذل في ظلمة غرفته بوجوم أمام المرآة التي تحاشى الوقوف أمامها مذ طارت يمناه.. وحين تملكته قبضة من القهر.. تراخى في نشيج ممتد حشرج أنينه ليل وحدته..
4
كان في البدء مزاحا سمجا.. هكذا خاله.. لكن صديقه الذي حاول أن يرمم عنه عبء وجعه.. نفخ في روحه المترهلة أملا من نوع ما رغم غرابة ما ذهب إليه..!
ظلت الفكرة بباله.. يقلّبها.. يدوّرها.. يتخيلها كحقيقة.. ويبدو أن تلك الحقيقة عقدت عزمها في إرسال إعلان إلى أشهر صحف البلاد ؛ كي يذيع في صفحاتها عن حاجته إلى يد سليمة بمبلغ يسيل اللعاب..
5
لم يتوقع للحظة أن مبتغاه شاق.. فتواصله الدائم مع الصحف التي استضافت إعلانه.. كانت ترخي من عزيمته متعذرين أنه الإعلان الأول من نوعه للمطالبة بيد.. بل أحد الأصوات ضيق عليه دائرة التوقعات.. صوت امرأة قاسية _ هكذا غدت حشرجتها _ حينما أوحت نبرتها بحزم :
– الفقراء يستغنون عن كل شيء سوى عن أيديهم لأنهم بدونها سيموتون لا من الجوع فحسب فهم جائعون سلفا بل من العطالة وهو سبب كفيل لقتلهم مرتين جوعا وكمدا..؟!
أدهشه الرد في هيئة صدمة.. وتذّكر شخصيات قصصه الهامشية حين كانت تواجه أقدارها المريرة..
6
لم يصدق ما تناهى إليه..!
ثمة يد مجهولة تتريث مجيئه.. أي سعادة يمكن أن تشبع روحه..؟!
أخيرا سيرمم عقدة النقص في نفسه ويمارس كما يحلو له فعله المقدس في الكتابة بعد اتكاله على اليسرى التي عجز عن ترويضها وفق رغباته.. والأهم أنه سيتخلص من عبء الخجل الذي يراوده كلما طفق مستحثا أحد عامليه القيام بتسجيل فكرة طارئة تستبد به في لحظة إلهام مفاجئة..
7
هاله حجم اليد وشكلها..!
اليد المتبرعة بدت كبيرة.. حجمها مسطّح كرغيف خشن يغطيها شعيرات كثيفة كما لو أنها حشائش مهملة في أرض مهجورة.. أصابع غليظة.. أظفارها طويلة قذرة ومتشققة..
تملاّها جيدا كانت كسيخ من اللحم شوّتها الشمس حتى الاحتراق.. بدت اليدان تشكلان تضادا فاغرا.. فكأنما اليمنى وحش و اليسرى أنثى زاخم الدلال..!
8
لم يضع في حساباته أن اليد الغريبة ينبغي التعود عليها حتى يشعر بها جزءا من أعضائه.. ولكن أكثر ما كان يثير حنقه حين يضع بين أصابعها قلما فتنطفئ عندئذ أفكاره تلقائيا.. !
لم يفلح في فهم شعورها بالاشمئزاز كلما نوى كتابة بعض كلمات أو حتى عند القبض على كتاب ما لقراءته.. ما بال هذه اليد.. ما بالها..؟!
ظل هذا السؤال المؤرق يستفزه بشك مريب..
9
ساء مزاجه بحدة.. فكأنما اليد تناكفه بغيظ..!
فرطت كل رغباته في الكتابة.. فكلما ومضت في عقله فكرة وهمّ بكتابتها بيمناه فإذا بها تكسر الفكرة.. تقذف شظاياها بعيدا..
لكن اليد نفسها كانت همتها تشتعل كلما همّ يحمل شيئا ثقيلا بل وجدها تنجذب من تلقاء نفسها إلى تنظيف غبار الأتربة في مكتبته الضخمة أو تعليق لوحة كبيرة على أحد الجدران أو كسح بقعة في حديقته لزراعة وردة..
وفي يوم طفح به الكيل.. فعكف على وعي غضبه باتخاذها طفاية لسيجارة مشتعلة كان يمجّها.. فإذا بالذهول يأخذه…. فإذا بها تسخر من حواسه..!
10
أقسم لرفاقه أن حكاية يده المحترقة واقعة.. وأن أحاسيسه خذلته في معاقبتها.. وإمعانا في إقناعهم طفق على تأديبها بولاعة أمامهم.. فإذا بالحيرة تلتهمهم..!
ولم يغادروه إلا بحكم أجمعوا عليه.. أن تلك اليد – ما من شك – مسكونة بالأرواح..!
11
استملكته وهم تلك الروح.. وظل لليالٍ يعزلها على مسافة منه قدر خوفه، بينما وساوسه تخنقه كوابيس يشهق على فزعها كفأر واقع في مصيدة.. ولم تهدأ تقلباته طوال الليالي الماضية حتى عزم على معرفة سرها..
12
أبلغته المرأة ذات النبرة المتحشرجة القاسية إياها أن صاحب اليد المتبرعة رجل معدم تخلو عناوينه من الثوابت.. ولكنها رجحت احتمالية وجوده كعامل في إحدى الضواحي حيث الأراضي المقفرة..
توّجه رأسا إلى هناك والشمس حبلى باللهيب كأنها سلطت جمرها على هامته.. ثمة ظلال منثورة في كل بقعة كبثور على وجه مشوّه.. هكذا لمحهم عن بعد مسافاته.. متأرجحين كل مع بقعته الملتهبة.. ولا يقطع المسافات سوى خطواته المتحفزة..
كانت عيناه تتصيدان قامة بلا يد.. يد عاشر أختها جيدا.. حاول أن يدنو من أحدهم لعله يهديه إلى صاحب اليد.. لكن الكلمات خانته حين رأى نفسه أمام رجل مخذول اللسان.. تجاوزه وفي قرار نفسه أن يجد مراده بجهده..
ظل يمشي ثقالا والعرق يمسح خطواته.. في كل خطوة كان ثمة ما يستدعيه لوهلة.. وفي كل مرة تختنق الخيبة في بلعومه واجما من هول ما يراه..
تعثرت قدمه بصخرة فسقط على وجهه، وما انتبه وعيه سوى على خشخشة أقوام قافلين بعثرتهم ظلالهم المبتورة إلى صوت استراحة هتف بها أحدهم.. حين تحامل على رفع رأسه ظل انفعاله مبهوتا على أيد ما عاد يعرف أيّها تخصّه..!
ليلى البلوشي