الإنسان-الفَرَح
لنبدأ من هذا الأزرق لو أحببتم. هذا الأزرق الذي أنعشه شهر نيسان ذات صباح. كان له نعومة المخمل وبريق الدمعة. أودّ لو أكتب لكم رسالة ليس فيها سوى هذا اللون. سوف تكون مثل تلك الورقة المثنية أربعة والتي تغلف الماس في حي الصاغة، ورقة بيضاء كقميص العرس وفي داخلها حبات ملح ملائكية، ثروة عقلة الإصبع، ماسات كدموع الطفل الوليد.
تصعد أفكارنا نحو السماء كالدخان وتُظلمها. لم أفعل شيئاً اليوم، ولم أفكر بشيء. أتت السماء وأكلت من يدي. الآن، إنه المساء. لكنني لا أريد أن أترك هذا النهار دون أن أعطيكم منه أجمله. أنتم ترون العالم، ترونه مثلي، هو حقل معركة فحسب. فرسان سود في كل مكان. صليل سيوف في أعماق النفوس، نعم. لكن هذا لا يهم البتة. مررت اليوم من أمام بحيرة. كانت مغطاة بعدس الماء- نعم، هذا ما يهم. نحن نقتل كل حلاوة الحياة وهي تعود إلينا أكثر وفرة. ليس في الحرب شيء غامض، لكن هذا الطير الذي رأيته يفرّ إلى أعشاب الغابة، طائراً بين الجذوع المتراصة أبهرني. أحاول هنا أن أقول لكم شيئاً صغيراً جداً، لدرجة أحس معها بأنني قد أجرحه وأنا أقوله. ثمة فراشات لا يمكنك ملامسة أجنحتها دون أن تنكسر مثل الزجاج. كان الطير ذاهباً بين الأشجار مثل خادم ينسلّ بين أعمدة قصر، لا يصدر عنه صوت. يرتدي حلّة الذهب ببساطة مثل شاعر. ها أنذا أدنو مما أريد أن أقوله لكم، من ذلك الشيء الصغير الذي رأيته اليوم، وفتح كل أبواب الموت: هناك حياة لا تتوقف أبداً. يستحيل إدراكها. تفرّ أمامنا مثل الطير الفار بين الأعمدة الكائنة داخل قلبنا. نادراً ما نكون على مستوى الحياة لكنها لا تعبأ بذلك، لا تتوقف لحظة واحدة عن أن تغدق بالنعم علينا نحن القتلة.
كانت البحيرة مستنيرة تحت السماء، والسماء تتزين أمامها، والطير ذو الأجنحة النبوية يضرم الغابة. للحظات وجيزة أفلحت أن أكون حيّاً. أعرف أن هذه الرسالة قد تبدو لكم جنوناً. هي ليست كذلك. رغباتنا بالأحرى هي الجنونية. أودّ أن أتحدث هنا ببساطة عن «يوم جميل»، عن «سماء زرقاء». هذه العبارات لها دلالة سيف من نور نصله الجديد يفتح قلبنا. نحن مغمورون تحت آلاف النجوم. نلمح أحياناً بعضها فنهزّ رؤوسنا، آه للحظات فقط. هذا ما ندعوه «وقتاً طيباً».
أتخيل شخصاً يدخل الفردوس دون أن يعلم أنه في الفردوس. عنده مخاوف ومشاريع. إنه كثير الانشغال. صوت حديد وصليل سيوف يرافقانه. الحرب، إنها أمر عاديّ جداً. بعدئذ، ثمة نور ثلجي فوق بحيرة وطير بأجنحة ذهبية يهشم أسوار العالم. إنه لقاء غير منتظر. بضعة ثوان كافية لعيش الأبدية، أليس كذلك. «نظن ونشعر بأننا خالدون». فكرة سبينوزا هذه لها رقة طفل ينام في مقعد السيارة الخلفي. أنا وأنت، لدينا ملك عظيم يجلس على عرشه الأحمر في قاعة قلبنا الكبيرة. أحياناً وللحظات قليلة، يقوم هذا الملك، الرجل-الفرح بالنزول عن عرشه ويخطو بضع خطوات في الشارع. الأمر بهذه البساطة.
لا أحب سوى الرسائل المبللة بالسماء الزرقاء. من هذا الأزرق الذي اختبر الموت. إذا كانت جملي تبتسم فذلك لأنها خرجت من الظلام. أمضيت عمري أناضل ضد الحزن المقنِع. ابتسامتي تكلفني ثروة. زرقة السماء مثل قطعة من ذهب سقطت من جيبك وأنا حين أكتبها أعيدها إليك. هذا الأزرق بجلالته، كأنه نهاية اليأس الحتمية، إنه يدفع بالدمع إلى المآقي. هل تدرك ذلك؟
سحر لا يقاوم
أمير بقميص فضفاض ملألأ بالذهب ينتظرني في الغرفة. أدخلته ثم نسيته. يصطبر بالقرب من النافذة. حين عدت لاحظت أنه لم يكن يبغضني لأنني نسيته. متواضع وقوي، هو من سلالة المبارَكين. كانت روحه المشرقة تنشر داخل الغرفة رائحة قدسية كنت لأعرف منها ضيفي، حتى وأنا مغمض العينين: غصن ميموزا.
حين كنت شاباً، كانت كتبي تكتب من تلقاء ذاتها. لم أكن سلطانها. كان يكتبها القمر والعشب ووجه الحبيبة المشرق والحياة التي كانت أكثر من الحياة والموت كلها مجتمعة. بالكاد كانت كتبي. كنت خارجا من ثلاثين سنة من العزلة وثوب الحبيبة الأبيض قد أبهرني ومن هذا الانبهار انبثقت آلاف الرسائل والكراسات الصغيرة. كانت الكلمات التي أكتبها مثل دواليب الهواء الصغيرة التي يمسكها الأطفال في أياديهم والتي تحرك الريح أجنحتها الملونة. كنت أصغي لطبلة القلب وهي تقرع وأشعر بيد الشمس فوق خدّي: ربيع واحد هو ككل ربيع، لحظة حياة واحدة تعادل حياة بأكملها. الحب هو حين يشرع شخص بالتحدث إليك مثل ساقية، أو نجمة، أو زهرة العسل التي يسكرني عطرها وكان يسكر بالأمس تلك التي لم تعد هنا، تلك التي تحت التراب، تلك التي ليست تحت التراب، إنما إلى جانب الملائكة التي صارت تعرف أسماءها.
داخل مشجب السماء الزرقاء رداء أبيض خارج من غسيل الموت تجففه الأبدية. نحن نتلقى خبر غياب كائن محبوب مثل قبضة رخامية داخل صدورنا. تبقى أنفاسنا متقطعة لعدة شهور. تردّنا الصدمة إلى الوراء. لا نعود من هذا العالم. ننظر إليه. كم هوغريب. أقل الأشياء سخافة هي الأزهار. صرخات من كل الألوان. أصغر باقة منها تحاول يائسة أن تسمع أخبارنا. كلامها ألوانها. عندما رحلتِ، أضحيت مدمن أزهار. رحت أضع في كل زوايا بيتي. كان العالم الذي اقتلعني موتك منه يدور ببطء مثل كرة سوداء داخل السواد، لكن جرأة الأزهار الملونة كانت هناك. ذلك الأصفر المناقض، الأبيض والأحمر والأزرق والوردي وصولاً إلى لون العدم الرتيب. الرهبان في الدير يعرفون الأهمية الصاعقة لباقة ورود في إناء خزفي. تراجعت قبضة الرخام عن صدري. عدت إلى العالم مثلما يضغط طفل وجهه فوق النافذة الزجاجية.
العالم لا يحب الموت، هو لا يحب سوى العالم. لهذا استعاد الكل مكانه تقريباً. لا أنسى ما قالته الأزهار لي في غيابك. فقد انتهى بي الأمر إلى الإصغاء إليها. الحياة أجمل مما نتخيلها أو ما نعيشها بمائة مليار مرة تقريباً. أرى العريشة العذراء على نافذتي نسمات ملونة تعبر البراري. الأزهار هي أول قطرات مطر الأبدية.
الأبدية تحيط بعينيّ وأنا أعبّ كل سحر الهواء وأكتب. إنه ردّي على الصمت، لحني الطباق، رفيف أجنحة بين أوراق الزمن. ليس بوسعي أن أحدثك عن غصن الميموزا فأنت لم تعودي هنا. لكن الغصن بذاته يحدثني عنك حتماً: كل الأشياء الحنونة عبرت بلاد الموت قبل أن تصل إلينا.
***
* ولد كريستيان بوبان في 24 ابريل 1951 في فرنسا. شاعر وباحث في علم الأخلاق. تربى وحيداً لوالديه فآثر رفقة الكتب في طفولته. درس الفلسفة وتتلمذ ليصبح ممرضاً في العلاج النفسي. نصوصه الأولى قصيرة جداً ومختصرة تصنف ما بين المقالة والشعر. ولهذا يفضل كتابة الفقرة: كتابة مكثفة مؤلفة من لوحات صغيرة تصور اللحظة. تتنوع مؤلفاته الغزيرة ما بين الرواية واليوميات والشعر المنثور. عرف نجاحاً كبيراً وله قراؤه الأوفياء مع العلم أنه يتجنب الوسط الأدبي ويؤثر العزلة في الطبيعة.
ترجمة: لينا بدر