لأن الشعر صوت الإنسان، فإنه صوت الحرية، لهذا وُصف الشاعر بالمسافر الأبدي، سواء كان هذا السفر ماديا أو معنويا، السفر هنا داخل النص، النص الذي يعكس بشكل أو بآخر الخلل في علاقة الشاعر مع العالم، و الذي يتميز بفضاءات جمالية و معرفية بالغة الذكاء و الحدس، فما بالك حين نتوقف قليلا عند محطة من محطات هذا المسافر، الذي أبى أن يغادر سوريا، كما غادرها الكثيرون، ليعيش هذا الظرف الذي يمكن وصفه بأن ظرف داكن مظلم دموي، ورغم طرح البعض لسؤال: ماذا لو؟..استمرت الحرب، تواصل نهر الدم، هذا البركان، وهذه اللحظة العدمية التي تقصي كل ضوء إنساني، رغم كل هذا قرر الشاعر الفنان منذر المصري، أن لا يغادر بيته، وأن يعتكف منتظرا الخلاص، هكذا أصبحنا نرى بعض صوره وتعليقاته على الفيس بوك، مرة يبدو فرحانا لأنه اشترى أرغفة الخبز، ومرات كثيرة يودع أصدقاء ماتوا، ومرات يبارك لمن سافر، يقول باللهجة المحكية في نهاية شات صباحي:
«لا ترجع يا أخي.. ما عم إحكي منشان ترجع، لا إنتا ولا غيرك.. أصلاً ما حقي أطلب منك ترجع، وسوريا متل ما عم تقول.. حالة ميؤوس منها.. معك حق.. وإنتا اتخذت القرار الصح، ودبرت حالك وعائلتك وولادك.. موفق والله يحميكم.
نعم نعم .. البهايم، الجحاش، بدك أكتر من هيك، هم اللي ضلو.. أنا وأمثالي».
و لأن منذر مصري اختار أن يبقى في مدينته البحرية اللاذقية، يجلس منتظرا الصبح، منتظرا بصيص أمل يحاول الجميع إطفاءهُ، ورغم متابعته لخفوت هذا الضوء، ولا جدوى المؤتمرات، ولا انتباه من أحد للدم السوري وللعيون الزائغة المنتظرة التائهة، وهو ما يقوله في إحدى مقالاته بعد هجمات باريس:
«ما أن يلوح للسوريين أن هناك، في نهاية النفق، بصيص أمل، حتى تأتي يد، ضخمة، وسخة، علق عليها دم يابس ودم لم ييبس بعد، وتطفئه، بل تسحقه، يشخصُ السوريون، بعيونهم الزائغة، بأرواحهم الرخيصة، بكيانهم المهدود، لكل صورة، لكل خيال غايته إيجاد حل لها فعلى مدى الخمس سنوات العجاف التي تكاد تقارب سنوات الحرب العالمية الثانية، في انتظار الخلاص، انتظار الحل السياسي الذي كثيراً ما لوّح لهم به الآخرون، تُرك السوريون لمصيرهم، لموتهم وتشردهم وضياعهم، وتُركت سوريا، لخرابها، ومأساتها».
منذر الذي اعتدنا أن نمضي لنتزود من قصائده المشغولة بروح القص، ومن أسماء أصدقاء تُعلِّمُنا معنى الصداقة المديدة كما النهر، وهو الذي يأخذنا إلى الحياة بنصوصه التي تشبهه تماما، يحكي لنا عن أسماء من لحم ودم، عن رسائل حقيقية، يشير بعضها إلى هذا الزمن الفيسبوكي، الذي بتنا نتناول فيه أخبار بعضنا من خلال الرسائل فيورد اسماء نعرفها، و يأتي تتويج القصيدة، كريشة الفنان..يقول:
«لَمْ أنَمْ جَيِّدًا وَاسْتَيْقظْتُ في الليْلِ
مَرَّاتٍ كَثيْرَةً
آخِرُهَا في الخَامِسَةِ فَجْرًا
كَمَا لَوْ أنَّنِي
مُزْمِعٌ على سَفَرٍ
قَلَيْتُ سُجُقًّا مَعَ البَيْضِ
وَازْدَرَدْتُ فُطُورِي
وَأنَا أهُزُّ رَأسِي
أسْتَطيْعُ أنْ أجِدَ حُلولاً لِكُلِّ مَشَاكِلِي
وَلَوْ سَيِّئةً
مُنْذُ أسْبُوعَيْنِ لَمْ تَصِلْنِي
رسَالةٌ مِنْ أحَدٍ
اليَوْمَ
وَصَلَتْنِي رِسَالةٌ مِنْ مَاهر وَرِسَالَةٌ مِنْ ثَنَاء
وَأخْرَى مِنْ مَرَام
وَرِسَالتَانِ مِنْ مُصْطَفى
خَمْسُ رَسَائلَ تَخْتَلفُ عَنْ بَعْضِهَا
في كُلِّ شَيءٍ
كَاخْتِلافِ أصْحَابِهَا
في كُلِّ شَيءٍ
لَكنَّهَا تَشْتَركُ مَعًا بِشَيءٍ وَاحِدٍ
جَمِيْعُهُمْ مُحْبَطُون».
فهل انحاز منذر مصري إلى الشعر، إلى هذا الواقع التراجيدي المشغول بالشقاء والتعتير، ليعيدنا من هذه المنصة الدموية إلى ماقاله يوما:
«وداعاً للطرق المعبَّدة/ وداعاً لإشارات المرور/ عليّ أن أتّخذ دربي عبر الغابة/ عليّ أن أكون شقياً».
منذر مصري المنتمي إلى الحياة بحكاياتها وشخوصها والوانها، ينقل لنا الصورة كما هي «جميعهم محبطون»، يتحدث بحميمة عالية، ممسكا بخيوط السرد والشعر معا، وموسيقى اللحظة وقتامة لونها، التي برزت في عمله الشعري «داكن»، وقد استخدم في تسمية هذا الكتاب صفة اللون، «داكن»، والذي يعني اللون المختلط بلون الدخان، و اللاوضوح، والمائل إلى الرماد، والسواد، ليشير من خلاله إلى لون الزمن، وكأنه يسجل قصيدة رؤيا واستشراف اللحظة القادمة، ليكشف عن شعرية التفاصيل، شعرية الحياة اليومية، بصورها وأسمائها التي تشير لها، فنمسك بخيوط موقف الشاعر، بعيدا عن المباشرة، قريبا من الجرح، ومن خلال الصورة البصرية، التي تشير دائما إلى داخل الفنان المغتلي بالأسئلة الوجودية، والمصيرية معا.
أشيرهنا إلى أن ديوان «داكن» صدر عن وزارة الثقافة السورية عام (1989)، نفسها الوزارة صادرته من الأسواق، وحكمت عليه كما تحكم على المعتقلين بالجلوس بأقبية الوزارة، وهو ما دفعه لإعادة طبعه عام 2014، في دار أرواد
إعادة طباعة «داكن»، تشير إلى رؤيا منذر مصري، التي أرد أن يقصصها علينا، ربما لم ننتبه حين طبعها أول مرة، قبل حوالي 25 سنة إلى الصور التي كان يراها، والتي تحمل فعلا مديدا، صور الدم والموت، نعم منذر مصري لم يغادر سوريا، لأنه لا يخاف الموت، يقول:
«تسألُني: كيف أتيت؟.
.. أُجيب: آثارُ مخالب وأظلاف..نقاط دمٍ تخثَّرت على الحجارة.. أوصالُ أطفالٍ قُطِّعت وأُلقيت عند المفارق
خلف هذا مضيت بقدَمَين عمياوَين
أتظنُّ أنّي أخاف الموت انظُر
إنَّه يرتع في حديقتي
يقضم ورودي
ويلعق دم أشجار»..
كأنه يقطع علينا المشوار قائلا لا تسألوني لماذا لم أغادر، فأنا لا أخاف من الموت..
هذا الرجل المسكون بالحسية، بالصورة، بأسماء أشخاص، برصد اللحظة الشعرية، لحظة الكتابة، التي ترينا كيف يحوّل الخواء الذي يحيط به ويرفعه إلى السرد الشعري، على شكل قصائد، على بساطتها فهي صافعة:.
«بينما كنت لا أفعل شيئاً
رحت أحاول كتابة هذه القصيدة/عن لا شيء أفكر به / رحت أكتب هذه القصيدة / لا شيء أمامي على الطاولة / لا شيء في يدي / لا شيء على حافة فمي / بينما كنت لا أفعل شيئاً / كان الليل يوشك أن ينقضي / وكانت السماء / قد أضاء خدها الشرقي / دم معدني / نعم… أستطيع القول / دم أحمر معدني»
لو توقفنا عند قصيدته» تسألني كيف أتيت، التي افتتح بها عناوين المجموعة «داكن»، فإنها تشير إلى الطريق، الخطوات، المسكونة بمفردات الطبيعة كدليل، لا سيما السحابة، والتي نصفها عادةً بكلمة سحب داكنة كناية على اقتراب المطر، يقول:» تسألني كيف أتيت؟
كيف عرفت طريقي؟
تسألني كيف أرشدتني سحابة؟
كيف أتبعت خطى ظلالٍ؟
أجيب:
«آثار مخالب وأظلاف
نقاط دم تخثرت على الحجارة
أوصال أطفال
قُطّعت وألقيت عند المفارق
خلف هذا مضيت بقدمين عمياوين»
القدمين هنا تتحولان إلى وجه وعينين أصابهما العمى، من هول ما يرى، ثم يتوقف عند مفردة أخرى من الطبيعة» قمر أضاء لي وجهَه المعتم». فيراه « ظل من سراب من لحم ودم»
يؤنسنه، فيرى فداحة المشهد.
ويبقى مساحة في هذا الطريق لمطر وحب، « الباب الذي توارينا خلفه
مازال مواربا
بالكاد أسمعُكِ تهمسين:
أرجوك لا تُغلق الباب جيدا»
منذر مصري يحوّل اليأس إلى شعر، الضياع إلى درب، وبين أن يعرف و أن لا يعرف يقف خيط الشعر كخط الزمان، يراوح مكانه في هذا الدرب الذي حكم على نفسه ألا يغادره، كيف تجيبنا القصيدة والنص على أجوبة كنا نتحرّق للوصول إليها، أو للإمساك بأحد خيوطها، القصيدة دليلنا كما هي الغيمة دليل الشاعر، يقول:
«الدروب التي تمضي
لا أعرف إلى أين
الدروب التي تمضي
أعرفُ إلى أين
ولا أريد أن أذهب
الدروب التي تمضي إلى دروب
الدروب التي تمضي إلى جدران
الدروب التي لا تبارح أمكنتها».
هذا البوح العالي في تعريف الطريق- الدرب- ومتى كانت الدروب مغلقة، متى كانت الدروب تأخذنا إلى الجدران، فهل يرسم اللوحة، ويعلقها على جدار، هل يرسم الدرب معلقا على الحائط، وهل حياتنا معلقة على اللاشيء، هذا الاختزال العالي البسيط الموجع للدرب، هذه الغيمة التي لاتمطر، والحب الخائف من أن يغلق الباب، باب الغواية.
منذر مصري يطرق باب الأصدقاء في دربه إلى القصيدة، «هذه المرة أتيت لأصغي»، ولأن الإصغاء فن، وشعر، فإنه يقول في هذه القصيدة التي أهداها إلى أحمد الخيّر:
«هذه المرة أتيت لأصغي
وفي المقابل قلْ لي شيئا ذا بال
فلقد جئتك أملا في أن أجد جوابا
جئتك كي تصرخ في وجهي»… يضعنا منذر أمام نص شعري قائم على العلاقة بين الشاعر والصديق، الصديق هنا دليل إلى المعرفة، إلى المواجهة، إلى قول الحقيقة، التي يبحث عنها، نص على بساطته موازي تماما لصرخة الشاعر في وجه الصديق، وكأن الجميع في حالة ذهول
أما القصيدة فهي حواس تنفذ إلى الروح، أصوات وخطى وألوان، كأنها رواية الشاعر عن أمكنته وناسه، وعن هذا الطريق، الطريق إلى القصيدة، هو طريق إلى الحياة المشغولة بروح السرد الحكائي، الذي يجعل أرواحنا تشف، لنتلقى فصولا من سيرته، وفصولا أخرى من جماليات صوره، وهذا المشهد الذي يرتقي بالشعر إلى التصوير، والسينما…
هل عرفتم لماذا لم يغادر منذر مصري سوريا؟
إنه مشغول بكتابة القصيدة… وبحبيبة خلف بابه الموارب، والأهم أنه لا يخاف من الموت.
فاتن حمودي