لم يكن مارسيل خليفة، على مدار الزمن الماضي والمديد، بالنسبة لجيلنا، وربما لأجيال أخرى، موسيقاراً أو مغنياً يحظى بشهرة وشعبيّة واسعتين في المحيط العربي، الذي يغني بلغته الجامعة رغم التشظيات والحروب، موسيقاراً، ومغنياً صاحب «التزام ثوري وهادف» وفق مفردات تلك المرحلة التي ترفع تلك العبارة وتُحملها ما لا تحتمل، في الفرز الصارم والعشوائي بين الحقيقي والزائف، والابداع ونقيضه… لم يكن كذلك فحسب، بل رفيق رحلة امتدت بأحلامها وانكساراتها، بأملها الحماسي العاطفيّ السيّال، ويأسها المطْبق، ان صحّت هذه الثنائيات، رفيق رحلة امتدت منذ مطلع السبعينيات حتى اللحظة الراهنة التي ما زال فيها مارسيل خليفة يعطي ويثري ساحة الغناء والموسيقى العربيتين على رغم التغيرات والانقلابات القيامية في مسار التاريخ العربي وعلى الرغم من الانهيار الشامل، لمعظم تلك الأحلام التي تشارف الطوبى أحياناً، وتَحّولها الى النقيض الذي لا يراود حتى خيال أكثر الأعداء بشاعةً وعدوانيّة…
ذلك المشهد (السوري خاصة) المفتوح على مدارات الجحيم وبما يفوق أوصافها الأسطورية في الديانات التوحيدية والوثنية.
على الرغم من انفراط تلك المرحلة المحمولة على الأمل المستقبلي المشرق، بمفاهيمها ورموزها وطقوسها، والدخول العنْفي في الظلام الأكثر غلظة ووحشيّة من ظلام ما عُرف بالقرون الوسطى، ظلّ مارسيل خليفة والكثير من رموز تلك النخبة الحالمة في لبنان والعالم العربي، يواصلون الحياة والابداع كإشارة احتجاج، على ظلام القبح الذي يسود السياسة، الفن والثقافة..
ظل مارسيل بالموسيقى والغناء كواحد من رموز تلك المرحلة، فاعلاً ومؤثراً، ليس عبر مداعبة ذاكرة ذلك الجيل المنكوب في أحلامه ورؤاه، مداعبة نوستالجية، وانما فاعليته تتجاوز ذلك، الى شِغاف بشر لم يعيشوا معطيات ذلك الزمن. بل نشأوا في مرحلة «الميديا» ووسائل التواصل الجماهيرية، الأكثر هيمنة وتسويقاً للرداءة وقيم الانحطاط..
وليس أدل على ذلك إلا الحفلات التي يقيمها في أكثر من بلد عربي وأوروبي، وذلك الإقبال الكاسح كما حصل في حفلته الأخيرة بعُمان في الأوبرا السلطانيّة، حيث التذاكر نفدت باكراً والزحام على أشدّه وكذلك في الأوبرا المصريّة..
لقد قسم جسمه في جسوم كثيرة وفق عبارة للشيخ ابن عربي الذي يرقد على سفح جبل (قاسيون) وهو لا يبعد عن (عمشيت) بلبنان أكثر من ثلاث ساعات بالسيارة، البلدة البحرية التي ولد فيها مارسيل، والمتاخمة (لجبيل) التي انطلقت منها أشرعة الفينيقيين لغزو العالم.
دائما ألتقي مارسيل خليفة في أكثر من بلد، على مفترق طرق ومدن، إما هو الراحل غداً، أو أنا المسافر بعد ساعات، عدا مرات في باريس، بغداء لا ينقصه البهاءُ والموسيقى والمشهد الفريد، في (التروكاديرو) غالباً، أو في منزله في ضاحية (سان كلو) حين أوغل الليلُ الباريسي «المحمول على الاكتاف» من فرط جماله، وفق عبارة لرونيه شار، ويكفّ المترو والباصات، عن الحركة، حتى يضطر الى توصلنا بسيارته مع هدى بركات التي تسكن قريباً من مقبرة (بيرلاشيز) المزهرة بموتاها وأشجارها الباسقة، أين منها مقابرنا الجرداء القاحلة.. ربّ قائل سيقول، لكن الموت واحد والغروب النهائي لأعمار البشرية واحد…. ربما، ربما، لكن مارسيل يقطع كل تلك المسافة بحميميّة تلغي التعب والمسافة، لا تقل عنها، تلك الحميميّة بروح الصداقة والموسيقى، في اليوم الذي أمضيناه في ربوع مسقط، بين مقر مجلة (نزوى)، حيث تجمع حوله صبايا مؤسسة عُمان الصحفية صوراً وأحاديث، من غير حدود أو لياقات مُصطنعة، وبين شاطئ البستان على بحر عُمان، والطقس قد بدأ في الحنوّ والرحمة بعد صيف حارق طويل..
مارسيل خليفة، رفيق رحلة لمن عرفه على الصعيد الشخصي، أو عبر الموسيقى والثقافة.. مرحبا به على ضفاف بحر عُمان، أحد مداخل المحيط الهندي الحنون، والوحشي الماكر كما وصفه (بول نيزان) بجحيم البحارة..
مرحباً برفيق رحلة أجيالٍ، كادت الظلمة التي تكفن الأرض العربية من أقصاها إلى أقصاها، أن تسحقها.. ربما نور الموسيقى والمعرفة الحقيقي يأخذ بيدها الى مواطن الجمال والحريّة..
سيف الرحبي