عن التزامِهِ كتبت، عن أغنيتِهِ كتبت، عن تآليفه، عن عزفِهِ، عن أدائِهِ، عن مشروعِهِ الثّقافي الشّامل كتبت. في الصُّحف، في الأبحاث الجامعية، في الندوات، في حفلات التّكريم… وبصراحةٍ، سئمتُ! سئمتُ النّقدَ، سئمتُ البحثَ، سئمتُ برودةَ الأكاديمي وموضوعيّتَهُ، ولم يبقَ لديّ، بعد كلّ هذه السّنوات، سوى رغبةِ الصّديق في التّمشّي على ضفاف الذّاكرة – ذاكرتنا المشتركة- أركضُ على حناياها حيثُ أشاء، أقفُ في أفيائها حينَ يطيبُ لي، وأنحني كيفما يحلو لي فوق مرايا بحيراتٍ سرنا على مائها كالأنبياء، فحفظت صورًا لنا وبعضًا من ملامح وجوهِنا.
ليسَ الزّمانُ نهرًا كما يدّعي هِرقليط وبرغسون أو أبولينير. إنّما بُرَكٌ متناثرةٌ في السّهلِ كشظايا مرآة.كلُّ شظيّةٍ تحتفظُ بإحدى ملامحنا، تومضُ إلينا بها، أحيانًا، وبصوتٍ خافتٍ، وبرموزٍ مشفّرةٍ. وإن أعادتها لنا، فللحظةٍ، وعلى سبيلِ الإعارةِ، وما تلبثُ أن تستعيدَها كما لو كانت مُلكًا لها.
سأجمعُ اليومَ، ولو أدمَت يدي، بعضًا من تلك الشظايا، علّني بجمعِها أرمّم، كطفلٍ أمام رقعةِ lego، مرآة وجهِ صديقي المتناثرة صورًا وظلالاً في الذاكرة، في الأدراج، بين صفحات الكتب أو صفحات وسائل التواصل الإجتماعي. لا شظيّة تُشبهُ أختَها. لكنّ قاسمًا مشتركًا يجمعُ بين الملامح المبعثرة: الجرأة ! الجرأة التي لم أجد لها مثيلاً في أيّ من الوجوه التي تتقاذفُها أمواجُ البحيرة. جرأةُ أصدقائنا – أصدقاء البدايات – كانت إمّا وقحة مُحرِجة، أو «دون كيشوتيّة» هشّة، أو عاتية عمياء…
أمّا جرأة مرسيل، حتّى عندما كانَ مراهقًا نحيلاً، حليقَ الذّقنِ، طريَّ العودِ، فكانت هادئة، رصينة، نبيلة، تستلهمُ حدسًا من النّادرِ أن يُخطئ.
ها هي الكَسرةُ الأولى من المرآة تعكِسُ صورةَ ولدٍ صمّمَ أن يقتلِعَ أوّلَ حجرِ في الجدار. جدارٌ بناهُ مجتمعٌ محافظٌ وسيّجَهُ بالشّوك والفزّاعات إقطاعيّو الدّين والسّياسة. جدارٌ أرادهُ المحيطُ القريبُ سورًا منيعًا يحمي الأولادَ من خطرِ اللا مألوف.
بالحقيقة، ما كان يدورُ في خاطرِ الوالد الصافي النيّة (حبيبي أبا مارسيل، حيثُ أنت!!!)
وما كان أقصى طموحاتِه: أن يُواظِبَ ابنه البكرُ على الدراسة، أي أن يقرأ ويكتبَ ويحسب…لرُبّما أصبحَ موظّفًا في مصرِفٍ صغير أو مؤسسة محترمةٍ أو – إذا ما توهّج الحلم – معلّمًا في مدرسةٍ قريبةٍ من البيت، يذهبُ إليها ويعودُ سيرًا على الأقدام…و«بلا وجع راسْ»!… يتجرّأ الولد ويقتلعُ أوّلَ لُبنةٍ في الجدارِ ويقول»لا» !
يختارُ العبورَ الى ما وراء الجدار. الى آخر الدّنيا آنذاك. بيروت، ومعهدها الوطني للموسيقى. لم تكن المواصلات سهلةً. ولا الإمكانات الماديّة متوافرة. ما همّ ! سقى الله ترابَ والدةٍ كانت لها رؤيا (يبدو صحيحًا أنّ وراء كلّ عظيم امرأة!). ولم يطُلِ الوقتُ حتّى أصبحت الكوّة فجوةً، فجواتٍ… الى أن انهار الجدار. جُرأةٌ عارفةٌ بأنّ بيروت لن تظلّ آخرَ الدّنيا…سوف تُصبح الدّنيا كلّها قريةً صغيرةً يطوفُ صديقي في مدُنها كما كان يطوفُ في أحياء بلدةِ «عمشيت»! الفرق أنّه كان يجولُ في «عمشيت» وتحتَ إبطِهِ مجلّةٌ يساريّةٌ، والآن يدورُ في الدّنيا حاملاً مشروعًا ثقافيًا رائدًا لا تُشكّلُ الموسيقى والأغنية سوى جانبًا منه
في الشظيّة التالية للمرآة، أرى الشاب العشريني بالبذلة وربطة العنق!!! لن يطولَ الوقت قبل أن يطلّقها بالثلاثة الى الأبد، كسائر ربطات اليدين واللسان والقلب والعقل. عُذرًا إن توقّفتُ قليلاً عن الكتابة، إذ هي الفترة التي توطّدت فيها صداقتنا وبتنا لا نفترق. يجمعُنا الشعر والوتر والبحرُ والليل وسحرُ الكلام. وثورتنا وكؤوسنا وحبيباتنا.
وذاك الحلم بتغيير الدنيا غدًا. وأوّلُ ليراتٍ في جيوبنا.. وأوّلُ سيارة!!! بيضاء جميلة كانت. كانت هي تعرفُ عن مُحرّكاتنا أكثر ممّا كنّا نعرفُ عن محرّكها!!! ما همّ ! الحياة جميلة ولا سبب ألاّ تظلّ كذلك – كنّا نخال!- لولا تلك الجرأةُ المشؤومة لدى صاحبي. لقد تخرّج منذ قليل وبامتياز من المعهد العالي للموسيقى. وها هو يُدرّس فيه. قانون المعهد واضحٌ. هو يمنع الأساتذة من السّفر إلا بإذن من مدير المعهد…ومن كان ليتجرّأ !!! ساحرُ العودِ يُدعى للعزفِ في القارّة الأمريكية. المديرُ العملاق يقولُ بمزاجيّة : «لا»! من وراء مكتبه. بجرأةٍ صديقي يُصرُّ. تهديد. يتحدّى. تهديد. يسافر…ويُطرد!!!
لو تعقّل وأطاعَ، ربّما كان الآن نصفَ متقاعدٍ مثلي، يسقي الأزهار، يُنزّهُ الكلب، يلعبُ النرد في أحد مقاهي «عمشيت»… ثمّ يعودُ الى المنزل «سيرًا على الأقدام»، فيحضر مسلسلاً تركيًا مُدبلجًا على شاشة التلفاز قبلَ أن يخلُدَ الى سريره الدافئ. تبًّا للجرأة ! كم هي تُغيّرُ مجرى الأمور أحيانًا !
لننتقل الى كسرة مرآةٍ أخرى ! أودّ أن أرمي بها لكنّها تتشبّثُ بيدي. أرى فيها نارًا ترقصُ على وجوهٍ لطالما قضّت مضجعي. العام 1975. الحرب الأهليّة اللبنانيّة تدقُّ طبولها والغباءُ مستشرٍ. من يصمتْ يسلمْ. من يرضَ بالأمر الواقع تُكتب له النّجاة. الفنّانون اللبنانيّون رفوفٌ تهاجرُ لتُغرّدَ بعيدًا في مصر ولندن وباريس، أو قطعانٌ تثغو طربًا مغثيًا في الشّام.(عنادلُ الشّام تردُّ اليوم التحية لبيروت بأحسن منها!) كانت الأفواهُ في لبنان تُكَمُ، والوتر يُقطع، والشّعر يُنحر، والفكرُ يُداسُ.. في بعضِ مرآتي وجهُ شابٍ جريء له لحية وشاربا صديقي إنّما بدون مشيب.
بجرأةٍ يبصقُ في وجه العسَس. أمسياتٌ موسيقيّة في أكثر الأماكن تزمّتًا بالرّغم من التّهديد. رافقتُهُ في اثنين منها ولم أتجرّأ أكثر من ذلك. «جُندُ الله» على ما أذكرُ أو «فتيان علي»… البركة في الإثنين !
حياتُهُ في خطر. طواحين الهواء قضية خاسرة، وهو ليس «دون كيشوت». لقد اختلط الحابل بالنابل…الجدارُ انتقل من حولنا الى داخلنا. كلّ شيء صار عبثيًّا. الرحيل. يودّعني صديقي بنظرةٍ ويرحلُ الى باريس. «سأكتبُ لك من هناك».
مئات الصفحاتِ كتبَ. على ورق طاولات المقاهي كتبَ. قالَ الهمَّ، قالَ الخوفَ، قالَ القهرَ، قالَ الحنينَ، قالَ الحُبَّ، قالَ الغضب. وقالَ «وعودًا» سوفَ تفي بها «العاصفة» بعد بضعة شهور.
«هوذا صوتي من الأرضِ السّمراء آتٍ
من جبلِ الأطيابِ آتٍ
من شمسي، من حقلي،
من آلام شعبي آتٍ…»
كلماتٌ أرسلتُها إليه في تلك الفترة، فغنّاها وجعلَها على كلّ لسان.قطعةُ مرآةٍ أخرى أقرأ فيها: « وعود من العاصفة»، أسطوانة فينيل 33 دورة، شعر محمود درويش…موسيقى وغناء مارسيل خليفه… باريس أن ينبريَ شابٌ في الخامسة والعشرين لشعر محمود درويش – شعرٌ لا يُشبهُه شعر، بأوزانٍ مُستحدثة وإيقاعاتٍ مُركّبة وغياب كامل لميلودرما شعر الأغنيات المألوف. يا للجرأة ! لن أقولَ أكثر ! وسأنتقل الى كسرةٍ أخرى: إلى تلك التي كلّما رآها بعضُ رفاقٍ لنا، استفزّتهم ولو أخفَوا انزعاجهم وراء ابتسامة صفراء. يتراءى فيها مرسيل الملتزم أكثر جرأةً من أيّ وقتٍ مضى. ها هو يرفضُ أن يُعطي وكالةً عامّةً عمياء لمن التزمَ ما أسمَوهُ قضيّتهم. جرأتُهُ أنّه يسيرُ بحرّيّةٍ تاركًا نافذةً للشمس وللعصافير. ورودُهُ حمراء كشقائق نعمانهم، إنّما أكثر أناقة وأطول عُمرًا وأعمق تجذّرًا. لقد ركب القطار، نعم، لكنّه بقي محتفظًا بخارطةِ الدّربِ وبحقّهِ في انتقاء المحطّات التي ينزلُ فيها. لقد حملَ نُبلَ القضايا في قلبِهِ وعلى لسانِهِ…هو في خدمتها هي، وليس في خدمةِ قائدٍ أو زعيمٍ نصّبَ نفسَهُ وليًّا عليها أو وكيلاً حصريًا لها.
أمّا هذه الكسرة من المرآة، فهي ليست للتداول. أنظر إليها فيطيرُ الحمام من صدري ويعتري الدنيا قوسُ غمام. فتاتُ مرآة تعكسُ ليلةً مشينا فيها كما المسيح على الماء…لم نكن وحدَنا…جرأةٌ توّجت جُرأة عودتِه مغنّيًا في المكان نفسه الذي هُدّد فيه قبل 15 سنة بالموت إذا لم يرحل. سأحتفظُ بالذكرى لنفسي.
ها هي البحيرةُ تستعجلني. هي تريدُ استعادةَ فتاتِ مراياها. لا تحتملُ الغوصَ طويلاً في لُجّتِها ولا تحريك قعرِ مياهها الهادئ. أستمهلها قليلاً للنظر الى صورٍ ثلاثٍ جريئة تطوف للحظة على صفحتها. في الأولى، مارسيل يُجادلُ كاهنًا غبيًّا لا يعتبرُ نشيدَ الأناشيد أحلى ما في الكتاب المقدّس. وفي الثانية، مرسيل يُغيظُ عمائم ذات وقار زائفٍ إذ يتجرّأ ويُنشدُ يوسف وقد «رأى أحد عشر كوكبًا لهُ سُجّدا». وفي الثالثة (لا أريدُ أن تغورَ في البحيرة قبل أن أتأمّلها مليًا). يتجرّأ صاحبي، وفي البحرين تحديدًا، على كتابة موسيقى تجعلُ الأجسادَ ترقصُ بحرّيّة لا خبثَ فيها ولا رياء. ليلى تُحبُّ قيسًا، ليس كما تعلّمنا في كتب الأدب العربي. ليلى ترقص كما يحقّ للمرأة العاشقة أن تبوح بعشقها رقصًا. امرأة خلعت الكفنَ وخرجت إلى الضوء. امرأةٌ لها شعرٌ وعنقٌ ونهدانِ وردفانِ وخصر. تقولُ بجسدِها: «… وأنا في حضنِك، تُداعبُ يدُك خصلةً من شعري تموّجت فوقَ كتفكَ:… أيّهم عرقُك، وأيُّهم عرقي، هذا الذي يلمعُ فوقَ جسدَينا؟ لكن…هل سبقَ لك أن أغمضتَ عينيكَ و تنشّقتَ عُشبًا فوّاحًا ؟ إنحنِ وقبّلني وأنتَ مُبتلٌّ بالحبِّ والخمر… حبيبي، اغرسْهُ فوقَ بكارةِ أشيائي…»
تبًّا للبحيرةِ. كالرقابةِ العمياء تقطعُ ما تبقّى من النّص. بحيرة تخاف من بحرين…طبيعيّ!…الآن،وبعد سنوات، أصفّقُ لجرأةِ صديقي على ما طلب من ليلى أن تقولَهُ برقصِها على موسيقاه… وإن أقامت الأرض ولم تُقعدها، وقضّت مضاجعَ عُربِ وأدٍ يأبونَ الفنَّ إلاَ سلفيًا ملجومًا مخصيًّا مختونًا مخفودا… أو طالعًا من غبارِ طللٍ أيقظَهُ خَببُ خيل.
الليل ينزلُ على البحيرةِ وهي تستعجلُني. تلمُّ جُزئيّات المرايا لتُعيدها لآلئ في أعماقِها. هي لا تعلَمُ أنّ جرأة صديقي مُعديةٌ وأنّي تجرّأتُ أنا أيضًا وسرقتُ لؤلؤةً سوف أتقاسمها مع من رافقني في هذه الجولة حتّى هذه السّطور : لؤلؤة جرأة لن أعيدها إلى الأعماق لربّما اصطادَها النّسيان. تعودُ بي الى الحرب الأهليّة. كان يومها عيدُ مولدي. أنا في «الشرقيّة» من بيروت، ومرسيل في «الغربيّة» وبين البيروتين قصفٌ ودمارٌ وحواجز وتصفيات جسديّة على الهويّة. اسم مرسيل وصورته على حواجز الميليشيات في منطقتي. مطلوب حيًّا أو ميتًا. يعبُرُ الحواجز مُتخفّيًا بُعيدَ منتصف الليل. لم أصدّق عينيّ. سهرنا، شربنا،غنّينا… وأصررتُ أن أعيدَهُ الى الجهةِ المقابلة بسيّارة صديقٍ يعرفُ المعابر. الحاجزُ اللعين. «من في السيّارة؟» يسألُ المُسلّح. مارسيل من على المقعد الخلفي: «مارسيل خليفه». الميليشياوي الأشوس المُحشّشُ ينفجرُ ضاحكًا، وقد حسبها نكتةً : هاهاهاهاها!!!! الله معكم!»
ركبتاي ترقصانِ حتّى كتابة هذه السّطور.
جورج مهنا