«نحن نخطىء دوما حينما نظنّ أن الذين نحبهم معصومون من الموت»
واسيني الأعرج
ياذا الوطن مشتاق لك لو قبر لو حتى سجن
ياذا الوطن محتاج لك لو طين لو ظلة جدار
حمد هل كان عليك أن تموت كي نُحبك أكثر، وأنت تعلم جيدا أنك أكبر من الحب وأنبل من المحبة، وأرقُّ من كلِّ ينابيع البلاد وأكثر دفئا من الأغاني. هل كان عليك أن تموت في البعيد لتصبح القصيدة الأكثر دهشة، تموت كطرفة بن العبد مجروحا في القفار أو كأمرىء القيس مخذولا من الأصدقاء، هل كُنتَ تبحث عن ميتة تليق بك في اخضرار العشب، وفي عزلة الغابات البعيدة، وذلك لأن النبلاء والصعاليك والشعراء لا يموتون في الأسرة البيضاء، بل هم كذئاب الربع الخالي و نسور جبال الحجر يموتون في البعيد. هل كان عليك أنْ تتركنا في العشب، وترجع أنت بالقصيدة وحيدا؟ هل كان علينا أن نُعلّق مواعيدنا على شجرة الصدفة لكي نفترق؟ جفّتْ الشجرة وصرْتَ صوت الناي على أغصانها ولم نلتق. ذهبتَ أنتَ إلى شمال الجهات والأشياء لترحل.
تنام «الصبيخي»** في وحشتها الأبدية. سأعبرُ في الزمن القادم على خط الباطنة، وعندما أمرُّ على الصبيخي، لن أشير لرفيقي في الرحلة القصيرة بيدي جهة اليسار على بيتك، بل ستسقطُ دمعة في الروح لتشير جهة مقبرة الصبيخي.
في مسقط ، ليلة جمعة كانت مواعيدنا المؤجلة ككلّ شيء في حياتنا السريعة والسخيفة :
: تعال نضحك ونفرفش ونتصعلك بسّك من الباطنة.
: تعال أنت نتصعلك في السويق.
: مو فيها .. حتى مقهى كما العالم ما فيها.
: أحسن عنكم على الأقل ما عندنا سجن يا مجرمين.
نضحك، ثم نودّع بعضنا بقهقهة ضخمة وصافية تكفي لاخضرار الربع الخالي بالفرح.
– 1 –
كل عام وحنا يا وطن أغراب
ترفع عصاك وتبرح كفوفي
وتشم فيني ريحة الغياب
بوابة تحرس جنة حروفي
تكفى دخيلك لو تهد البالب
أعشقك كثر الفقر برفوفي
حمد الضحكة المُعلّقة في مشانق القلق، وحمد القصيدة الذاهبة إلى نبعها المجازي والجمالي بدون ترف اللغة وزخرفها ولا شحوم الأنا المتضخمة. حمد صرخة الإنسان ودمعته. حمد رائحة الباطنة ونخيلها وبحرها وفقرها وفقدها ودمعة الغياب. حمد غافة ظليلة على تخوم الزمن العابر تظلل الأصدقاء والرفاق بمحبة جارفة جدا. حمد فلج نابع من أعماق فقرنا وحلمنا وإنساننا المُهمش. والأفلاجُ المتدفّقةُ لا تموت ولا تجف.
حمد صوت المكان والتفاصيل والدمع والفرح والصعلكة.
قُبض على يديك في الحدود، وأطلقتَ روحك حرةً خارج الحدود البعيدة.
– 2 –
يا حمد لا أُريد أن أكتب لك مرثية فأنت أجمل من كل المراثي، ولا أُريد أن أتذّكر التاريخ فأنتَ أكثر دهشة من الذكريات. أعرف جيدا يا حمد عظم المحبة والنبل والحزن والقلق في روحك.
25/ يونيو/ 2012
العاشرة صباحا ( ربما من بعدها أو قبلها لأننا كُنّا خارج الزمن البشري) مبنى المحكمة. من الطابق الرابع، أنزلُ مع الحارسين، وعندما أرادتْ فتاة أن تدخل في المصْعَد، منعها الحارسان، فقلتُ لهما ساخرا:
: ليش ما خليتوها تدخل، يا رجل أنا ستعشر يوم ما شمّيت ريحة امرأة.
: ابتسما، ابتسامة، أظنها أكثر ابتسامة خشبية وفولاذية جامدة رأيتها في حياتي.
على مدخل باب المحكمة ، كان وجه حمد على الحائط، وخلفه حارسان، دخلتُ أنا على القاضي ودخلتَ أنت بعدي. في طريق عودتنا من المحكمة في الخوير إلى السجن (في الباص الصغير المُدجّج بالحراس والخوف والأحلام) تحدثنا في الطريق عن لحظات الاعتقال.
في عنبر السجن كُنّا نحرثُ الوقت بالضحك والقصص والأحلام والقلق. في الليلة الأولى تحدثنا كثيرا للفجر ( كنّا ننام بالقرب من النافذة). تكلمنا عن البلاد والعباد والحرية والله والطفولة والشعر والكتابة والتاريخ وأشياء كثيرة. أتذكر جيدا من حديثنا قلقك الوجودي في الأشياء والمسلّمات.
كنتَ تجفف الخبز، لتأكله في اليوم الثاني، وعندما سألتك لماذا تأكل الخبز جافا قلتَ لي :
ـ لكي أحسُّ بالفقراء. الخبز الجاف طعام الفقراء.
أسبوعان كنت الضحكة والمرح وكنت القصيدة والمعنى. مشينا في الساحة وغنيّنا كثيرا. أسبوعان وأنت يا حمد تخفف عنّا، رددّتَ كثيرا قصائدك، ضحكنا كثيرا مع/ وعن محمود حمد. في المساء وفي الساحة كنتَ تُغني كثيرا.
عن الفنزايز وبتايا ضحكنا أكثر. كلّما ضجرنا صرخنا بتاااااااااااااايا.
– 3 –
يُمثّل حمد الخروصي حالة خاصة ومتفردة في تجربة الشعر الشعبي في عُمان، ليس فقط على صعيد القصيدة وصورها وتراكيبها، ومدرسته الخاصة في الكتابة، ولونه التعبيري البسيط والعميق في آنٍ واحد. بل على صعيد الموقف السياسي والحياتي والفني والجمالي. موقفه من الوجود والحياة.
وهذا الموقف الذي كوّنه حمد وحافظ عليه وطوّر أساليبه ودفع ثمنه. لم يتلّون حمد في مواقفه، ولم يستجدِ بشعره ولم يمتدح في المناسبات، بل حمل دم القصيدة وطينها، نبش عن الفقر في حارات الباطنة وليل مسقط وفي قلق الأسئلة وفي ربكة التاريخ والذاكرة.
دثّر قصيدته وعطّرها بـ «لا» . لا الجارحة والعارية والنادرة في زمن انبطح الكثيرون لشهوة وطمع وزيف « نعم».
قصائد حمد المعجونة بطين الفقر وبماء الحزن المُتدفق من روحه الحرّة، قصائد تذهب إلى الدهشة والفرح والحزن والموت بقلق الشاعر.
وعندما كنّا نمشي في حارات السويق قلت لي:
يريدوني أكتب عن الغزل والمدح، شوف الفقر والبؤس.ما أقدر انفصل عن طيني.
– 4 –
يا حمد ماذا فعلتَ ببائع السمك في سوق السويق حتى جعلته يبكي وينتحب في مقبرة الصبيخي هكذا؟ أي ودّ وعمق إنسانيين أسرْتَ بهما روح هذا الرجل البسيط. ماذا فعلتَ بقلب هذا الرجل كي تجعله يذرف كله هذه الدموع؟.
يا حمد كل بسطاء السويق يبكونك الآن. ليس لأنك شاعر، بل لأنك ابنهم الذي نقلت همومهم ودمعهم بقصائدك وقلبك. قلبك الذي اختار بلادا بعيدة ليتوقف. وليقول لك ولنا إن الرحلة انتهت سريعا. وكنتَ تحمل في داخلك بركانا من الأسئلة.
– 5 –
هل يقتل الحزنُ الشعراء؟
نعم يقتلهم، يتغلغلُ سريعا في أرواحهم، هكذا يا حمد قتلك الحزن. الحزن العميق النبيل استوطن قلبك وعينيك باكرا. الحزن الذي طفحتْ به معظم قصائدك وفاضت به عيناك، كان ينتظرك هناك في البعيد، خلف الحدود.
ما أقساك أيها الحزن، ماذا فعل بك الشاعر؟ ماذا فعلت يا «تبغ الحزن» بشاعرك؟
حمد المجنون بالفرح، والليل والصعلكة والأصدقاء.
كنتَ تقول : على الشاعر أن يكون مجنونا مع اللُغة. وصرتَ يا حمد أنت المجنون مع الحياة والغياب والقصيدة.
لتظللك أشجار وغابات وبحيرات سويسرا، لتعبر روحك إلى زرقة السماء، وشرفة الخلود.
– 6 –
ستظل يا حمد هنا في ضفاف القلب مع الراحلين ومع الغائبين ومع الحاضرين دائما. وسيظل قبرك هناك في مقبرة الصبيخي ( المقبرة المحاطة بغابتي نخيل)، وستنبتُ على قبرك غافة خضراء، وسترتفع عاليا في سماء السويق، وسنعبر نحن على هذه الغافة كطيور مهاجرة إلى الغياب، وستظل غافتك صادقة ودافئة، وستسقط دموعنا من غافتك في الليل لتنبت قصائد تشبهك يا حمد تشبهك جدا. كل هذا الألم يا حمد، كل هذا الحُلم يا حمد، كل هذا الدمع يا حمد، وأنت لم تذهب أبعد من الحدود، أنت على الحدود واقفا. حدود الكلام، حدود الصدق، حدود الإنسان، حدود القصيدة الصادقة، حدود الإنسان العُماني الحالم بلقمة عيش، حدود الذاكرة والذكرى، حدود هذا الليل الطويل، أنت في الحدود يا حمد، لترجع خطوة واحدة، تكفنا لنسمع منك قصيدتك الأخيرة، ثم نغيب خلف الحدود معا.
– 7 –
من زمان وخاطري أرحل بعيد ولا أعود
يا احتياجي للرحيل
يا حنيني للحدود..
** الصبيخي هي إحدى قُرى ولاية السويق، وهي موطن الشاعر.
حمود سعود / كاتب من عُمان