بريقة..
شغفي بالسماع التركي قديم، دلني عليه مطلع الستينات أديب متمكن، عاشق للحياة صحبته زمنا، أعني محمود البدوي رحمه الله. كنا نمشي ما بين قبة الغوري ومسجده، كان يحمل حقيبة أوراق سوداء، عندما قال:
«وفي الليل أدير المؤشر الى اذاعة استانبول. اسمع البشارف والموشحات فأجد منها ما يحدث عندي شجنا..».
لا أذكر الآن السياق الذي قيلت فيه العبارة، لكنني أستعيد اصغائي الأول. وبعده لزمت، لا اعرف اللغة، غير أني ألممت بالأصوات، لها عذوبة وتمكن، حددت مواضع البث ومواقيته. وسجلت ما تيسر في ليالي الصفو عندما يصل الصوت نقيا، واضحا، خلوا من التشويش. خاصة ليالي رمضان التي يمتد فيها السهر حتى مطلع الفجر. كلما سافر صاحب إلى هناك رجوته احضار بعض التسجيلات، هكذا تجمع عندي ما لا بأس به، غير أنني لم أكف عن التطلع إلى الرحيل، ونزول تلك الديار لأختار واصغي الى الاصوات الشجية اذا ما سنحت الفرصة. الى ان تحقق ذلك عام ثلاثة وتسعين، عندما جئت الى استانبول وأقمت بها اسبوعا. جئتها من قبل عابرا. مرة امضيت فيها نهارا عندما قطعت المسافة بحرا من الساحل البلغاري في مركب سياحية، والثانية لمدة ثلاث ساعات وكنت في الطريق إلى بغداد من وارسو. والثالثة عندما وقع خلل في الطائرة المتجهة من القاهرة إلى موسكو. امضيت ليلة غريبة لكن ما جرى خلالها لا يناسب هذا التكوين. خلال الايام السبعة جست في دروب المدينة القديمة. تدثرت بظلالها. واحتويت لحظاتها الغروبية. رمادية مبانيها، انتشيت في مقهى علي باشا مدرسة، القائم بين مقابر دراويش المولوية الغاربين. ترددت مرات على المعرض الفسيح للاشرطة والاسطوانات القريب من السوق المغطى. خرجت منه قبل اغلاق بوابات السوق الرئيسية، كنت متعبا لكنني راض بما اقتنيته.
توقفت عند ساحة صغيرة تعبرها العربات، لحظات مغادرة القوم المباني الضخمة والمتاجر، يتدفقون الى الطرقات، الى الحافلات، الى أماكن الانتظار، بعد قليل تقفر الطرقات، تخلو إلا من الغرباء وسفي الرياح وزخات أمطار متفرقة وزمن غارب.
كنت متعبا بعد تجوال ساعات. استندت الى عامود صغير من حجر، لم اتوقع شيئا غير عادي، شغلني الوصول الى الفندق، عند هذا الحد جرى ظهورها.
لم تكن راجلة. انما بزغت راكبة، تقود سيارة رمادية، تتطلع الي كم استغرق بقاؤها في مجال بصري؟
التحديد وعر، لم يكن ظهورها الا عابرا، مفاجئا، لكنه أمتد عندي إلى ما قبله وما بعده، هذا الظهور المباغت، الخاطف ليس جديدا عندي، جرى لي مرات، أذكر منها صباح ذلك اليوم، عندها كنت اقف مطلا من نافذة قاعة الرسم بالطابق الرابع من مبنى المؤسسة القريب من النهر، كنت اعمل بها مصمما للسجاد الشرقي الذي درسته،. خاصة الشيرازي والتبريري وبخاري الياقوتي الذي برعت فيه، كان الضوء حليبيا والوقت معينا والفراغ محل بالوهج القادم من فرن الحلوى هناك في الطابق الاول، كنت افكر في نخلتين بالتحديد قائمتين بفناء وكالة بازرعة في الجمالية، كيف نفذتا من زمن الى زمن حتى وصلتا الى وقتنا؟، فجأة فتح الشباك المواجه، رأيت انثى بهية، روية، تفرد ذراعيها، تواجهني عارية تماما. ولا أظن أنني قابلت نهدين في مثل شروع ونفور واكتمال ما ووجهت به، لم استطع ابداء أي رد فعل، وعندما كدت افتح فمي اغلقت النافذة. وانتظرت اربع سنوات، مدة مكثي في المؤسسة قبل أن أغادرها مرغما، منفيا إلى الجنوب، لم تفتح قط. ولا أراها إلا مغلقة كلما مررت وتطلعت، ولم أنقطع لعل وعسى!.
مرة أخرى. كنت في روما. بعد منتصف الليل توقفت العربات عند ظهور الضوء الاحمر، إلى جواري واحد ممن أحببت وصحبت وتمنيت دوام الرفقة، غير أن القدر لم يسعفني ولم يمهله، أعني شادي عبد السلام صاحب المومياء رحمه الله. كنا في نشوة بتأثير نبيذ جيد، وطعام بحري ممتع، ولا أذكر الآن موضوع حوارنا، لكنني أكاد أرى لحظة فتح باب العربة المجاورة واندفاع شابة عارية تماما، حافية، ضفيرتها الشهباء الغليظة، تهتز على ظهرها وتناوش مفرق ردفيها الأشمين، صحت:
«انظر يا شادي..»
تجري بين السيارات التي بدأت الحركة.
"شادي.."
تطلع متمهلا، قال بتأنيه الذي عرف عنه إنه لا يرى شيئا، وحتى الان لا ادري اذا ما كنت رأيت ام أنه لم يشاهد شيئا كما أصر. غير ان تلك الملامح التي برقت قرب السوق المغطى احاطت بجهاتي، لم ادر ان جملة نطقها محمود البدوي ستتجه بي الى حيث ألقى ما ألقى، ولا أعني انبثاق هذه الملامح البديعة، انما جرى لي ما يتصل بتلك الديار ما سأذكره في موضعه. علق الوجه كالأيقونة في فضاء روحي، اعتبرت سنواتي كلها منذ أن أصغيت إلى عبارة البدوى مقدمة لرؤيتها، لكن.. ما هذا كله إلا تفسيرات ومحاولات للتهدئة، لتقوية الأمل الحاث على وقوع البصر عليها مرة اخرى. احتواء طلعها النضيد.
استنفرت
التشبيه وعر، لكن ما بقي عندي منها لونان أشنان، أصفر وأزرق بكافة درجاتهما، واشتقاقاتهما، صيغ شعرها الأشم، المسترسل من كافة اللحظات الغروبية.
موضع عينيها حقان من فيروز مصهور. زرقة صافية تفيض وتضفي عمقا، وكان ممكنا أن تطفى لولا أنها مؤطرة بالضوء. عنق نفرتيتي الميل، وضع الجلوس ملكي، سيادي، منه الأمر وله الطاعة.. هل أومأت ؟
اختفت عند المنحنى، من المستحيل اللحاق بها، هي راكبة وأنا راجل، تطلعت إلى الجهة التي قدمت منها. حدقت، أمعنت. لو اشرقت تلك الطلة، لو تكرر هذا الظهور، يبدو أن انتظاري طال. أوحشت الطرقات. وأعتقت الاركان. ودنا شرطي مدجج، طلب اوراقي. اعاد الجواز الأخضر بعد تفحصه وتطلعه الي مرات، لم أعبأ. كان ثمة دفء كامن يتحول ببطء الى لهب، هل بدأ معها؟ تذكرت النقاش القديم حول النار، أهي كامنة في الحجر أم نتاج تفاعلات ؟
نسيت حذري، خشيتي من المخاطر المجهولة التي أتوقعها وأخشى وقوعها في المدن النائية، هوت الى حال خبرته من قبل، لكنه لم يبلغ هذا العنفوان، لا القعاد ولا الوقوف ولا الرقاد جالب للراحة، أثق أن توقفها لحيظة في مواجهتي، تطلعها الي يتضمن رسالة، يحوي نبوءة.
ما مضمونها؟
هذا ما أحاول أن أقف عليه، لم ألجأ إلى عربة أجرة إلا بعد منتصف الليل، في الفندق تجاهلت الاسئلة وأجهضت أي سعي للحوار، نزوعي الى الانفراد أقوى من أي دافع آخر، في اليوم التالي جئت، رهبة الفسق تقكم قلبي، لم يكن مشروع اقامتي مجرد فكرة، انما وضعت الخطط قبل نومي، لم أدر أنه سيتفق لي بعد حين غير بعيد، صباح اليوم التالي رتبت حاجاتي، سفري بعد الظهر، كنت امشي كالمنفي مع أنني أعود الى موطني.
لم أكف عن استعادتها في لحظات صفوي، ونوشي، عند إقلاعي، عند وصولي، في كل جمع شاركته. لكنني لم اتوقع قط أن استعيدها. أن يتجل لي بريقها الناعم، النفاذ، القارىء المقرىء، هناك حيث لا أتصور. ولهذا تفصيل أذكره ليس لغرا بته، إذ عرفت امورا عجيبة، واخرى مثيرة للروع، لكن أدون ما عاينت لخروجه عن كافة ما عرفت، وسائر ما تمنيت.
جبرينية
رأيتها، انفردت بها وجرى بيني وبينها ترسل في عمان، انفجر حضورها في استانبول وجرى التحقق في حصن جبرين، لكن.. قبل التطرق لابد من وصف حال عرفته، أعني تحقق ما نتوقع حيث لا يخطر لنا ببال، وربما كان الموت اجل مثال. ذلك أنه يواتي بغتة، حتى مع تهيؤ الحال، مثل الحرب وسلسال المرض، لا يمكن تعيين اللحظة التي يكتمل عندها ويحل، لا يرصده إلا صفوة من خلاصة القوم أوتوا قدرة على رصد دبيبه والمصالحة معه، ومن هؤلاء ندرة يمكنهم التنبؤ بدقة.
أما حالي فوعر، ذلك أني دائم المنازلة لمن لا يدرك، لذلك طال صراعي مع نفسي، ليال ثقيلة الخطي تدب علي أتوقع اكتمالي، الا تطلع علي الشمس، غير أن ما أتوقعه لا يتحقق. لم اكف رغم يقيني غموض اللحظة، وجهلي بالمختتم، يطول عنائي فيخيل الي أن احتضاري بدأ عند ميلادي!
ما نرغبه، ما نرهبه، يحل دائما حيث لا نتوقع، خرجت من الفندق ذلك الصباح الحاد، مضيت بصحبة صديق حميم، أحمد الفلاحي نزيل مسقط، عرفته عند اقامته القاهرية التي امتدت سنوات عديدة، نادر لقاؤنا إلا أن الود موصول. واذ نلتقي بعد غيبة سنين نستأنف حديثنا فكأننا لم نفترق إلا بالأمس.
مررنا بنزوى، توقفنا بأسواقها وحصنها، وتحسر صاحبي على نقص المياه في أفلاجها وموت كثير من النخيل، وتناقص الخضرة، جلنا بقلعة الرديدة توقفت مصغيا الى الصمت داخل الأفنية الداخلية حيث اللانهائية مستوعبة، والأسرار لا تلغي الإحساس بالخلاء الممتد، ثم.. بلغنا جبرين. وعند دنونا أدركت أن ما مررنا به مجرد مراحل، مدارج وصول إلى هذا الحصن وردي اللون، منذ اقترابنا بدأ عندي استنفار غير مبالغ فيه. بيوت قليلة متباعدة، متواضعة، النخيل غالب والاشجار قليلة.
بعض الأماكن تمنحني الاحساس بالبداية، وأخرى تؤكد لي نهاية ما، هنا مفتتح الخلاء الكوني، أفق راسخ هادىء قريب، بعيد، وسطه ينبثق البناء، من مسافة معينة يبدو دائريا، مصمتا، مع قطع مسافة باتجاهه يبدو مربعا، ثم مستطيلا، متصلا ببعضه ومنفصلا، إذا وقف المرء القادم من عمق المدى يرده كما يشاء، مستطيلا أو دائريا، جدران مصمتة تماما أو مرشوق الفتحات، بالنسبة لي جرى عندي توقع وتشوف.
باب صغير مؤد إلى الفناء التمهيدي، باجتيازه يتم العبور من حضور إلى حضور، من واقع الى آخر مغاير، بل.. من كون إلى كون، باب ضيق. لا ينبىء أبدا بما يليه، لا يتيح الولوج للقامة المنتصبة، لابد من انحناء شديد، لعمق الصمت يمكن الإصغاء إلى صوته. هسيس يرى بالنظر.
سجن الى اليمين، عند الحافة، أول ما يقابل الداخل، وآخر ما يرده الخارج، فتحة لا تتيح الدخول الا للمنحني، مخزن التمر، تمتد داخله ألواح خشبية بينها فرجات تتيح للعسل أن يتدفق إلى أوان خزفية، نرتقي درجا سهلا، محرضا على الصعود، على الإيغال، عند مستوى مرتفع قليلا حجرات النساء، تحتهن مباشرة السجن، سقفه أرضية جناحهن، أرصد الرغبات المكسورة والفورات المقموعة، والأحلام الكابية. أجيل البصر مصغيا، أصغى إلى المتبقي لا أدري أي تعبيرات مرت، بدت، دعت صاحبي أحمد يتساءل:
«فيه شيء».
نفيت، عاد يستفسر
انت متعب ؟
قلت: أبدأ.. أبدأ.
لكنه بدأ يتخلف عني، يتيح لي الانفراد، ولا يتكلم إلا نادرا. حتى أدركت بعد لحيظات أنني بمفردي، وأنه ينتظر في مكان ما، وأن اللقاء سيتم في النهاية، المسار محدد، صارم، مرتب.
ممر قصير، بداية سلم متعدد الدرجات، ضيق، زاوية ارتقائه مصممة بحيث لا يمكن رؤية آخره حتى مع الصعود،مستمر، ما من شي ء يليه. هذا ما خيل الي في الممر القصير، أيضا في جناح النساء، يبدو أي جزء وكانه الكل، لا يليه شيء.
قوس حجري يطو السلم، وللاقواس عندي شأن، ولي في مواجهتها أمور، وللأقواس أمة في مسجد قرطبة الجامع، المنحنى عندي أقرب، إنه الانسب والأدق تعبيرا عن المسيرة، فكل الخطوط. كل المطرق بها ميل، ولو أنها مستقيمة لما أدت الى غاية، فلا يؤدي الطريق إلى آخر الا اذا كان به ميل، الاستقامة وهم، لان الكوكب دائري، والكون اكري.
أعلى القوس أبيات، اتوقف لأقرأها، ثم لأنسخها..
نزلنا ها هنا ثم ارتحلنا
كذا الدنيا نزول وارتحال
ظننا ان نقيم بها ولكن
مقام المرء في الدنيا محال
31 محرم 1139 هجرية
ما يقرب من ثلاثة قرون، من انشد الابيات رحل، ومن كتبها مضى، ومن يقرأها الآن سيتبعهما.. اقرأ ما يلي الأولى.
ولابد أن اسعي لأشرف رتبة
واحجب عن عيني لذيذ قيامي
وأقتحم الامر الجسيم بحيث أن
أرى الموت خلفي تارة وأمامي
ينتهي الدرج إلى بسطة تليها زاوية. باب خجول متوار. حجرة فسيحة، نقية الضوء، تبدو مصمتة، لكن بعد تدقيق أرى نوافذ وبابين، لا تظهر الفتحات الا عند الحاجة اليها.
أتأكد مما وضعت يدي عليه. كل موضع يبدو كأنه الغاية، المحطة القصوى التي لا تليها اخرى، لكن.. عند لحظة معينة، موضع بعينه، ربما مع الحركة،مع النظرة، مع حلول خاطرة وافدة، مع بلوغ نفس معين إن شهيقا أو زفيرا، ربما مع دفقة قلب، ترى.. كم دقة، كم خفقة منذ رجفة الأولى حتى رعشة الاخيرة، هل يمكن الإحصاء والتدقيق، مع مراعاة التمهل والهروع خاصة عند تحقق العشق ؟
مع توالي الانفاس تظهر الانفراجة، تبدأ الصلة بالمرحلة التالية، هكذا يتقدم المكان مصحوبا بالزمن الخاص به، تولدا لغرفة من سابقتها، يخرج الممر من الممر، ويلي الدرج شبيهه، هكذا يمكن الاستمرار إلى ما لا نهاية، او.. إلى حد معين يصعب التنبؤ به، بل إن بعض الأماكن توجد بمجرد التفكير فيها. وتختفي مع اضمحلال التصور، هكذا تتباين المساحات طبقا للحالة النفسية التي يمر بها المرء، فاذا كان مغموما وعنده شجي تتقارب الاسقف وتدنو الجدران. وبحلول الفرح وتفجر النشوة تتسع الصالات ويبدو بعضها افسح من ميدان.
رغم فرحي وانبهاري باكتشاف الخاصية لكن قلقا بدأ يسرى، اصبحت الان اتوقع غرفا أو قاعات تالية، هكذا يقوم ما تخيلت، ويمتد ما رغبت، فمتى المخرج ؟
اين سألقى صاحبي احمد الفلاحي؟
لابد ان من سبقوني كان لديهم تصور محدد، مسبق، يعرفون عددا معينا من الغرف والصالات والطوابق، اوصاف مدونة لا يستطيعون تجاوزها، لكن ما وقعت عليه، ما تأكدت منه لم يخبر عنه احد.
استعيد ملامح صاحبي، هل كان يعرف ؟ هل اطلع على ما بدأت أدركه منذ بلوغي أول الدرج؟ عندما بدأ يتراجع ليتركني اتقدم وحيدا. لماذا لم يطلعني اذن ؟ دائما ينظر الى حائرا، مستفسرا. حجمه الدقيق، نحوله الهادىء، لحيته وعيناه العميقتان، كيف لم انتبه الى طلته الماضية الى بعيد، كيف لم انتبه ؟
أتمهل.. كم مضى علي ؟
تنبىء الساعة حول معصمي انني امضيت ساعة او ساعتين منذ ولوجي، لكن يمكن ان يكون ذلك اليوم او امس او الشهر الماضي أو منذ عامين أو بعد سنوات !. للزمن ايقاع خاص. والا لماذا أوقن انني تقدمت في العمر مدى، وانه دفع بي عدة مراحل بعيدا عن لحظة ميلادي. جرى الكثير في الزمن القليل وهذا ما سيقع لي مرة أخرى في وضع أجلى وأوضح، أمني بطيئا مستوعبا ما يتكشف لي. خصائص وأحوال لا تبدو الا لمن عنده التمكن واحتمالات القبول. من يحدد؟ من يفرق بين من يتفقد البناء فلا يدرك منه الا الجدر ار والقاعات والممرات والمنحنيات، وبين من ينشىء التكوين طبقا لما يتراءى له، لما يرد على مخيلته ؟
لا اعرف، وما من اجابة شافية عندي، او لدى صحبي من أهل عمان، الذين عرفتهم على البعد، أو اولئك الذين اقتربت منهم مثل صاحبي الفلاحي والرحبي، عند مرحلة معينة تفتحت لى طاقات اربع، كل منها توازي جهة من الجهات الاصلية، من احداها كان الامام بلعرب يتطلع في لحظات معينة فيرى الضفاف كها قبل حوالي اربعة قرون، يجتاز الواحة المحيطة ببصره، والمرتفعات النائية او الدانية، يبلغ ضفاف الافلاج والانهار الجارية والبحيرات الشاسعة والمحيطات الخضم، الضفاف الفاصلة بين اليابسة والماء، بين المحدود واللانهائي،بين المدرك المعاين وما لا يمكن بلوغه، انها الفوارق !، ادقق حتى أدرك مسارات كل تطلع تم عبر تلك الطاقة، بل وألم بالانعكاس الواقع على الحدقتين، أصفى الى اصداء شهيق وزفير لعابرين قدامى.
ابلغ قاعة النجوى، مستطيلة، ممتدة، لا يتم الجلوس فيها إلا لفرد، بشرط ان يصمت، ان يتأمل، ان يطرق متأملا، مدبرا فحص الاحوال، فاذا خرج عن هذا الحال اختفت.
القاعة التالية للمفاوضة، كان الامام بلعرب بن سلطان اليعربي يجتمع فيها بمن جاء لمشاورته، او نصحه، او مفاوضته، لا يكون بمفرده رغم انه يبدو للقادم، الغريب وحيدا، ذلك ان الحجرة محاطة بخندق يكمن فيه حراس اشداء مدربون على الظهور المفاجىء عبر الابواب المتحركة المخفاة بابسطة فارسية،، يظهرون عند سماع صوت معين فلا يقدر على ردهم احد.
مكثت وقتا غير محدود في قاعة النجوى، لا أظن انني بلغت مكانا في شتى مرات ترحالي يجسد الاحساس بالعزلة كما ادركت في تلك القاعة، بعد قصي، ونأي موغل. لم اعرف هذا التوحد بالصمت حتى في ايام سجني بزنزانة القلعة المعزولة. هنا.. تنبت كافة الصلات، حتى لتكف الصور عن التدفق الى الذاكرة، يتلاشى كل صدى.
دخول من باب، ودخول يليه، ما من خروج. لا يتشابه ارتفاع بآخر، كل موضع طابق بمفرده حتى وان كان موازيا، كل غرفة او ممر أو موضع ذو قياسات وزوايا مغايرة. كأنه
غير متصل بما يليه مع أن الجدار واحد في احيان كثيرة.
لا اعرف كيف وصلت الى قاعة الشمس والقمر، المؤكد انها لا تلي غرفة النجوى. عبرت قاعات متتالية لابد من المرور بها بسرعة. احيانا.. يجب الركض، ولكثرتها من الصعب استعادتها او استرجاع تفاصيلها. عند الوصول لا يمكن للداخل الا التطلع تجاه النوافذ الطولية، المزخرفة، الزجاج الملون المحيط بها المعشق في الجبس ناصع البياض. تتوزع على مجموعتين، كل منها تضم سبعا، متصلة، منفصلة.
سبع نوافذ للشمس
سبع نوافذ للقمر
ضوء الشمس الاصفر بكل درجاته لا يتخلل نوافذ القمر. ضوء القمر الازرق لا يعبر فتحات الشمس، اما هسيس النجوم فينفذ منها كلها، يتركز في ليالي غياب القمر حتى ليمكن قراءة كتاب دقيق الحروف.. هكذا جرى التصميم، وهكذا شاء المصمم، لكن.. هذا ليس كل شيء،، اذ وضع الامر بحيث تكشف السماء من كل نافذة عن بعض مكنونها،فمن النافذة الأولى – شمسية او قمرية – يمكن رؤية الابراج كلها، ومن الثانية تبدو مجرة درب التبانة بما تحوي، ومن الثالثة تلوح كوكبة الفرس كانها في متناول اليد، ومن الرابعة يمكن بعد تدرب وصيانة رؤية الأكوان الموازية..
في كل لحظة يتبدل الضوء، يتغير، من هنا تلوح درجات يصعب حصرها لكل من الازرق والاصفر، اما دخول الشمس فيتم بهدوء خافت، لا تبعث قيظا ولا تنبىء بحرارة، يكون الفرق شاسعا بين ما هي عليه في الخلاء الصحراوي المحيط. والفراغ الرطب، العفيف.، اللطيف، المضموم، لا تتغير الحرارة ولا تتبدل ان صيفا او شتاء.
استعدت وقفة صاحبي الفلاحي. رعدة سرت عندي.. بقدر ما فيها من رقة بقدر ما تحوي من غموض. هل توقع امرا؟
يغمرني الاصفر بصحبة الازرق، يتدفق ليحتويني، عند درجة معينة، تتشكل ملامحها موزعة على نوافذ الشمس. نوافذ القمر، كونية الطلع اذن، تلك الملامح لا تمت الا لمن اخضعتني لها عند السوق المغطى في مدينة استانبول، جبرين هناك. السوق المغطى هنا.. لافرق، تتضام الامكنة عندي بعد ظهورها متنقلة بين النوافذ الاربع.عشرة، مصاغة من لونين لا غير، تماما كما طالعتها اول بارقة، دانيا من ممشوقية قوامها، وأنوثية فيضها عبر الخلاء السحيق، لاغيا كل ما عداه. طاويا كافة ما عرفت..
جمال الغيطاني ( كاتب من مصر)