في ضيافة الرقابة هو كتاب يعيد تفكيك العلاقة الملتبسة بين الكتابة بما هي فعل حر والذهنية السائدة، ولعل هذه العلاقة الملتبسة بين فعل احتمالي وسلطة أحادية، يعجل بإحداث التصادم الحاصل بين امتدادين مختلفين، لهذا عمدت الأكاديمية المغربية زهور كرام إلى تفكيك خطاب السلطة من جهة، وتشريح أنماط المغايرة في أعمال ليلى العثمان التي تعرضت للمحاكمة بتهمة الإخلال بالأدب بسبب أعمالها القصصية، ولعل هذا الكتاب هو من الكتب الأوائل التي تصدت لرصد علاقة الذهنية السائدة بالكتابة، وقد وزعت الناقدة خطابها إلى فصلين، الفصل الأول عالج مفهومات من قبيل الإبداع والخيال والسلطة، والفصل الثاني عالج مفهومات من قبيل الكاتبة والمغايرة والصدمة، أما الفصل الأول فيتسم بتفكيك خطاب الذهنية السائدة وتأزيم تصوراتها وكشف اختلالاتها، بينما الفصل الثاني ينبني على التحليل والتأويل عن طريق الاعتماد على مقاربات نصية/ تأويلية، سواء أفي ارتباطها بالدلالة أو الشكل أو المعنى الكلي المستخلص، ومن ثمة وازنت الناقدة المغربية زهور كرام بين وصف الظاهرة الشمولية وتخصيصها إبداعيا.
الكتابة والمغايرة
تنطلق الناقدة زهور كرام في المحور الأول من خلال طرح مرتكزات متداخلة، وهي: الإبداع، الخيال، السلطة. حيث تسعى إلى تأزيمها معرفيا عبر تصحيح المغالطات، وملء الفراغات الكفيلة بتبرير فعل الكتابة على نحو يبرر للمبدع جنوحه نحو الكتابة بما هي أفق واسع ومفتوح على احتمالات لا نهائية، حيث تميز الناقدة بين التركيبة المعقدة لسؤال الكتابة المختلفة عن أنماط الخطاب التواصلية؛ إذ يخضع سؤال الكتابة لفعل التفجير بما هي رؤيا غامضة لا تخضع لمنطق التبرير أو الحصر، فسؤال البداية سيظل سؤالا غامضا غير مبرر، لهذا سعى الدرس النقدي إلى تجاوز القراءة الخارجية التي تنبني على منطق الحقيقة الواحدة، والجزم بوعي الكاتب بالعالم الذي ينجزه منذ لحظة انفجاره إلى لحظة اكتماله، ولأجل ذلك اقترح الدرس النقدي مفهوم الكاتب الضمني بوصفه تجاوزا لورطة المؤلف، فالكاتب الضمني هو استراتيجية نصية تسعى إلى برمجة الكتابة وتوزيعها للأدوار من داخل منجزها، كما اقترح الدرس النقدي مفهوم النص المكتفي بأدواته الداخلية التي تسعى إلى تبرير تمثلاته من دون اللجوء إلى ربطه بكاتبه الفعلي. ومادام هذا الكاتب لا يستطيع أن يمتلك تبريرا واضحا لزمن الإبداع، فإن الناقدة تستخلص جملة من النتائج لعل أهمها أن الكاتب لا يمتلك الأدوات التي تقمع خياله ورغبته غير الواعية في التفجير والهدم، إنه يمارس قسطا من الحرية التي لا تخضع للقيود أو الأسوار.
إذا كان فعل الإبداع تفجيرا لطاقات غامضة ومجهولة تقبع في مناطق مجهولة منا، فكيف يمكن للذهنية السائدة أن تحاكم زمن الإبداع؟ ومادامت لا تمتلك مقومات تبرير هذه الملكات الغامضة هل ستكون المحاكمة عادلة بخاصة أنها تتحرك وفق مرجعية تتعامل مع الخطاب في أحاديته وليس في تعدده؟
إن الكاتب يشيد عوالمه الإبداعية من دون الحاجة للخضوع للذهنيات السائدة؛ لأن الكتابة تنتصر للمغايرة والاختلاف وخلخلة الثابت، ولعل هذا ما صرحت به إحدى شخصيات ليلى العثمان حينما قالت: «من حقي أن أصنع لنفسي عالما أعيش فيه بعيدا عن هذا الواقع التافه». إن هذه الصرخة الجوانية الأنثوية المواجهة للبراني الذكوري، تختزل السعي إلى الاختلاف والتبرير، غير أن الذهنية السائدة التي مازالت تتعامل مع الكتابات النسوية بمكر عبر ربطها بوجودها المادي، لذلك تسعى إلى الاقتصاص منها وتشويه صورتها كلما اقتربت من المسكوت عنه، بهدف إخراس هذا الصوت ونفيه؛ لأجل ذلك تلجأ الكاتبة إلى التشويش على آليات الرقابة عبر التوسل بالاسم المستعار الذي يبرز بجلاء وضعية الأنثى الكاتبة المرفوضة؛ لأنها اقتربت من مجال ذكوري، لهذا ترى الناقدة زهور كرام أن اتخاذ الموقف من المرأة بوصفها لغة منتجة للدلالة، وصوتا مشخصا لنمط من الوعي، بالإضافة إلى تحديد مجالات تحركها، ومراقبة خطوها داخل سياق الإبداع، عبر استحضار أسئلة غير نقدية، فيه نوع من سلوك الوأد الذي ميز العصر الجاهلي» ص31، مقابل ذلك تطالب الناقدة بضرورة إعادة النظر في المسافة ما بين الذكر والأنثى عن طريق استبعاد الأحكام الجاهزة واستحضار أسئلة التطور الحضاري برؤيا تنبني على المعاينة والمقاربة وليس النفي والاقصاء.
تجليات الكتابة المغايرة
إن الإبداع منفلت ومجابه للثبات والجمود والمطلق، إنه فعل متعال يتأسس على الاحتمالي والنسبي والتشكيك في اليقينيات، وبهذا يظل مصدر تشويش دائم للسلط المشكلة للبنية الهرمية للمجتمع، وتأتي تجربة الكاتبة الكويتية ليلى العثمان في سياق تفجير أسئلة الكتابة عبر لغة الإبداع التي مازالت تحاول الذهنية السائدة ترويضها لتتماشى مع وصاياها. إن تأمل عوالم ليلى العثمان السردية يكتشف أنها اتخذت من الأنثى في تعالقها مع الذكر موضوعا لها، وهو ما جعل كتابتها تتسم بالمغايرة في تلقي الخطاب القصصي لدى الكاتبة ص41.
إن الذات المتلقية للخطاب المغاير تنبني على منظومة معيارية تتأسس على ضوابط وأعراف قبلية، وأي منتج إبداعي ينبني على المغايرة والخلخلة والتصادم من شأنه أن يعرض منتجه للمحاكمة والاقصاء والنفي، وهو ما حصل في تجربة ليلى العثمان، لهذا عمدت الناقدة زهور إلى تفكيك الخطاب القصصي لديها من خلال رصد مظاهر المغايرة التي تؤسسها النصوص التي تعرضت للمحاكمة.
حينما يتعرض نص تخييلي ما للمحاكمة، فهذا يعني أنه خرق الأفق المشترك، وأحدث شروحا عميقة فيه، ولأجل تحقق شرخ في التلقي ينبغي طرح خطاب مغاير، وهي المغايرة التي تشكلت في الخطاب السردي في مجموعتين هما «الرحيل» و«في الليل تأتي العيون» حيث تعين الناقدة جملة من نصوص المجموعتين، وتعمد إلى استخلاص البنى الدلالية والشكلية الثاوية فيهما قصد الكشف عن أنماط المغايرة وتمثلاتها، حيث تحلل الباحثة حركة المغايرة في تعالقها بلغة الاشتهاء الممزوجة بالجرأة ص44، ويقدم نص من ملف امرأة الأنثى التي تحولت من الموضوع إلى الذات، ومن ثمة تحول فعل التبئير من الذكورة إلى الأنوثة؛ فالذات الأنثوية اتخذت من اشتهاء الذكر موضوعا لها يتعين الموضوع عن طريق رفض ذكر مبرر اجتماعيا وتعويضه بذكر آخر منبوذ، فالساردة تطلب رجلا يعوضها الفحولة الفاشلة لزوجها، بل وصل إلى حدود فكرة قتل الزوج، إن هذا النص السردي المدروس في الكتاب يعيد فهم العلاقة بين الذكر والأنثى بما هما جسدين لهما حاجات جنسية، ومن ثمة طرح موضوع الجنس بأي شكل من الأشكال من طرف الأنثى يعرض صاحبته لمنطق الرقابة، ناهيك أن النص يحاول أن يأزم وضع الذكر وينفيه ويشككه في وجوده، إن هذا النص هو خرق للممنوع والمحرم، وتشويش على الذهنية السائدة التي ترفض أن تقترب الأنثى من مملكة الذكور.
إن طبيعة الكتابة لدى ليلى العثمان تنبني على محاكمة واقع أنتج جسدا أنثويا مرتبكا إلى حركة المغايرة بوصفها فعلا تقويضيا لأفق انتظار الذهنية السائدة، تحلل الناقدة زهور كرام تركيبة البناء الذي يقوم على تفجير سؤال المغايرة سواء أمن خلال الافتتاحيات أو اعتماد لغة عارية أو تشييد بناء يتسم بالجرأة أو الكتابة، إن ليلى العثمان وهي تشيد بلا وعي عوالم خطابها، كانت في العمق تحاكم البنى التقليدية السائدة، وتسخر من هندسة المعمار الاجتماعي، إنها كانت تدين المجتمع، ومن هذا المنطلق يتحول الإبداع إلى سلطة لطرح المغيب ومعالجته.
أما مجموعة «الحب له صور»، فقد عالجتها الناقدة من زاويتي المشهد، حيث قسمت نمط الكتابة بالمشاهد إلى قسمين مشهد الرغبة ومشهد العتبة، فمشهد الرغبة يتمثل من داخل المحكي عن طريق تحويل الذكر إلى موضوع، وهو ما جعل الخطاب يتسم بالمرونة والسيولة والتوليد الحدثي وتفجير لغة الأزمة، أما مشهد العتبة فهو مشهد مضاد للمشهد السابق حيث تتعرض الرغبة للمنع خصوصا حينما ترفق بلغة المرأة، وتختار الناقدة الافتتاحيات السردية لتنتهي إلى أن الشخصية تعيش ما بين بين، ويتخذ مستويات كثيرة كالتردد والحيرة وزمن الأزمة، أما البنية التركيبية في هذه المجموعة فتوظف آلية التذكر المرتبطة بالطفولة بحكاياتها القادرة على إنعاش الذاكرة بصور الماضي الذي ينشط الحاضر، وآلية الزمن الذي يقوم على مبدأ الانحراف السردي الذي يوهم بالتشتت، فالعودة إلى الماضي ليست لحظة حنين، وإنما يحضر الماضي بكل تجلياته بوصفه محطة أساسية لفهم الخلل، ومن ثمة يصير الماضي أساس الحاضر.
لتنهي الناقدة رحلتها في تأويل تمثلات المغايرة عند ليلى العثمان من خلال استخلاص مجموعة من المفاهيم، فمفهوم الحب يرتبط بالرغبة، فإذا كان الذكر يميز بين الحب والجنس فإن المرأة تقدم فهمًا مغايرا للحب الذي يتلاحم مع الجسد، أما مفهوم المرأة فتحولت من موضوع إلى ذات، ومن هوية ناقصة إلى هوية قائمة بذاتها ومستقلة بموقعها؛ فالأنثى في النصوص تصرح بالحب وتعلنه بجرأة وترغب وتشتهي وتتحول إلى فاعلة، أما مفهوم الرجل فيتحول إلى سؤال وموضوع للمساءلة والكشف.
إن «في ضيافة الرقابة» هو كتاب يزاوج بين الفكر والنقد، أو لنقل إنه النقد الأدبي بأدواته ومفاهيمه استخدم أداة لمناقشة قضايا فكرية شائكة، ولعل ذكاء الناقدة زهور كرام وتمرسها بالخطاب، جعلها تشغل آليات النقد من أجل تفكيك ظاهرة اجتماعية، والارتفاع بها من المسكوت عنه إلى المفكر فيه، وحينما ترتقي الظاهرة المنفية إلى المفكر تحصن علميا وتستخلص النتائج، ولعل هذه النتائج كفيلة في توجيه خطابات كثيرة والتأثير فيها من أجل إعادة النظر في مفهوم الرقابة.
———————
محمد العناز