بمقدار ما كانت العروض التي قدمت في أول مهرجان مسرحي تقيمه فرقة الدن للثقافة والفن المسرحية ـ لم يكن المهرجان المسرحي الأول لفرقة مسرحية أهلية عمانية، إذ سبقه قبل ذلك إقامة مهرجانات مماثلة لفرق مسرحية أخرى ـ عروضا ليست بمقدار الطموح الفني والإبداعي الذي نرغب فيه، إلا أنه شكل حالة إبداعية وشكلا مفتقدا في عمان، كونه يؤكد على أن قيام حراك مسرحي ينبغي ألا يركن إلى عمل المؤسسات الرسمية، وزارة التراث والثقافة هنا، التي لديها مهرجانها المسرحي الرسمي المقام كل عامين، ولديها أنشطتها الثقافية المختلفة (مهما كان طموحنا أن تعمد تلك المؤسسات إلى دعم الحراك المسرحي بشكل أفضل مما هو عليه، وألا يكون مرتبطا بموسمية وبجدول مهرجاني هو مهرجان المسرح العماني مع تغييب واضح لمهرجان مسرح الشباب الذي كان في حد ذاته تظاهرة إبداعية وثقافية تنشط قبل عدة سنوات، قبل أن يؤول في تبعيته إلى وزارة التراث والثقافة، ليختفي كمهرجان مخصص للشباب، ويتضاءل مفهوم مسرح الشباب حتى لا يكاد يكون حاضرا فيما نعتقد أنه حراك فني مسرحي إبداعي)
لقد عمد القائمون على فرقة الدن للثقافة والفن إلى أن يقيموا مهرجانا مسرحيا على مستوى عال من التنظيم يحسب لهذا الفرقة الأهلية التي خرجت من عمق قرية صغيرة في ولاية عمانية هادئة يعيش فيها الناس حياة أقرب إلى البساطة وعدم الولوج إلى الصخب الذي تشهده المدن الكبيرة كالعاصمة مسقط أو ما جاورها وكان امتدادا لها.
ومع ذلك فقد خرجت حركة مسرحية من عمق هذا الهدوء وتلك البساطة، حتى فرضت نفسها على مستوى الفرق المسرحية الأهلية العمانية في السنوات الأخيرة، لتكسب جوائز آخر مهرجانين مسرحيين عمانيين أقامتهما المؤسسة الثقافية الرسمية في السلطنة، ولتمثل لاحقا اسم عمان في عدد من المحافل والمهرجانات المسرحية العربية والإقليمية.
وكما يبدو أن الابتعاد عن الصخب والاخلاص والحب سر هذا الظهور، كما أن الدماء الشابة التي تخلصت من التكلس المسرحي الذي أصاب كثيرا ممن يطلق عليهم مسمى «المسرحي» ساهم وبشكل عميق في هذا الظهور، والاصرار على المواصلة في درب يدرك كل المسرحيين العمانيين أنه درب محفوف بكثير من المطبات والمشكلات والعقبات والانتكاسات والخيبات التي لا تنتهي عند حد.
ويبدو أن الطموح برغم كل تلك العقبات والخيبات لم يكن إقامة مهرجان مسرحي محلي، بل كانت الفكرة على ما يبدو تتمثل في إقامة مهرجان دولي، حيث تستضيف عمان عروضا مسرحية من مختلف بلدان العالم، فيستفيد أعضاء الفرقة مما يقدمه الآخرون، وبما تطرحه تلك العروض من أفكار ورؤى، مانحة بذلك لهؤلاء المسرحيين الشباب الذين لم يتعلموا المسرح أكاديميا ولم تتوفر لهم الفرص الحقيقية للتزود بالمعرفة المسرحية الحقيقية ومعرفة ما يدور على الخشبة المسرحية في العالم، مانحة إياهم فرصة كبيرة في الاحتكاك بتلك التجارب التي يمكن أن تشارك في مهرجان تقيمه الفرقة. إلا أن المشي بتؤدة أمر حسن يحسب للفرقة، فالأفضل إقامة مهرجان للمسرحيين العمانيين، للفرق المسرحية المحلية أولا، لتبيان القدرة على التنظيم، القدرة على الابتكار، القدرة على الإبهار أيضا، ومعرفة الإمكانات والقدرات التي تمتلكها الفرقة في التصدي لإقامة مهرجان مسرحي.
هذه التؤدة والخطوات المنتظمة غير المتعجلة هي ما تجعلهم يقيمون مهرجانا مسرحيا عربيا يتجهزون له منذ الآن، وهو المفاجأة التي تم الإعلان عنها في ختام مهرجان الدن المسرحي الأول، ليكون المسرحيون العمانيون على موعد مع مهرجان عربي كبير يقام في نهاية عام 2016، يتضمن مسابقة رئيسية لمسرح الصالة، ومسابقة أخرى لمسرح الطفل، إضافة إلى الفكرة التي تقام لأول مرة هنا في السلطنة، مسابقة مسرح الشارع.
ما هو مسرح الشارع؟
هو السؤال الذي طرحه كثيرون، متسائلين أيضا عن طريقة إقامته، والمكان الذي يقام فيه، هل هو مسرح بلا نظام؟ هل هو مسرح المتسولين؟ كيف يمكن للممثلين أن يؤدوا دون أن يكون هناك مكان؟ دون أن تكون هناك منصة، خشبة مسرحية؟
في الحقيقة أنا أيضا كنت أسأل نفسي بعضا من هذه التساؤلات، رغم أنني كنت أحد أعضاء لجنة تحكيم أول مسابقة مسرحية تقام هنا في السلطنة لمسرح الشارع. لكن سؤالي الأهم: كيف يمكن أن نقيم مسابقة جديدة ومختلفة في المسرح ونحن نعاني من مشكلات أعمق في المسرح؟ إشكالات لم تحل حتى اليوم، من قبيل التجريب المسرحي على سبيل المثال فقط، فهذا المصطلح ما زال يأخذ حيزا من الشد والجذب، من الموافقة والرفض، ومن التشويه أيضا.
قس على ذلك مفاهيم أخرى في المسرح، كالسينوغرافيا، والدراماتورج، مما لم تستقر في الذهن بعد، فكيف بفكرة مسرح الشارع؟
وإذا كنا نضع الملاحظات إياها على الدوام عقب كل عرض يقام، ضمن الحيز المتاح: مهرجان المسرح العماني، حول ضرورة الفهم المسرحي للمصطلح، حول أهمية الاعتناء بالأركان الأساسية في العرض المسرحي: النص، الأداء، الفضاء المسرحي، ثم نكرر الملاحظات إياها على الدوام، نظرا لتكرار الإشكالات ذاتها في كل مرة؛ فماذا يمكن أن نعطي من ملاحظات على مسرح الشارع، وهو فكرة قد لا يتفهمها المسرحي العماني ويستغربها بل ويرفضها انطلاقا من مسماها؟
إن مسرح الشارع هو قطعة فنية ضمن مصطلح المسرح ذاته، لكنه يخرج على النسق الكلاسيكي في الطرح المسرحي، كاسرا الجدران الأربعة لمفهوم المسرح، مشكلا نسقه الخاص ومستغنيا في بعض الأحوال عن بعض الجوانب الأساسية في العرض المسرحي المقام في الصالات، كالنص مثلا، أو الديكور، أو الإضاءة، أو الالتزام بأبعاد معينة في الأداء، بل ربما الالتزام بوضع أبعاد لفضاء مسرحي مفترض يكسر فكرة الشارع الممتد والتداخل بين الممثل والجماهير.
ويبدو الارتجال والتمازج مع فنون إبداعية أخرى كالرقص حاضرا بشكل قوي في مسرح الشارع، والأهم من ذلك حالة التفاعل الذي يتم مع الجمهور، إذ قد يدخل بعض الجمهور في الحالة الإبداعية ويصبحوا جزءا من العرض، ليشاركوا في قصته، ويكتبونها أيضا.
لكن ما يهم هو أن يكون طاقم العمل المسرحي فاهما لطبيعة هذه اللعبة التي يدخلها، وواعيا وعيا كاملا لخطورتها، إذ قد تفلت اللعبة منه فيضيع جهده وعمله.
وما يهم أيضا أن يكون هاضما للفكرة المسرحية تماما، عارفا بماهية التشخيص، والتقمص، قادرا على الإيحاء الإبداعي الذي يطرح لنا شخصيات ليست واقعية، شخصيات قد لا تكون مكتوبة على الورق، فيتفاعل معها الجمهور، وتبدو حية وكأنها موجودة على أرض الواقع، دون الانتباه إلى من جسدها إلا ومضات فحسب.
هذا الكلام يسحب أيضا على العاملين في مسرح الصالة والخشبة المسرحية، فالعروض التي قدمت ضمن مهرجان الدن المسرحي الأول كان ينقصها الكثير من الأساسيات التي بها تكتمل الفرجة المسرحية.
وإذا كنا نشيد بفكرة إقامة مهرجان مسرحي أهلي كان تنظيمها عاليا وموفقا؛ إلا أنه من الأهمية أن تكون العروض المقدمة عروضا مسرحية تهتم بالتفاصيل، تهتم بأن تقدم فرجة إبداعية، غير مكتفية برصيد الشعبية التي تمتلكها الفرقة أو الفرق المشاركة، بل إن المهرجان، وبعيدا عن المسابقات وما تفترضه، هو بحد ذاته فرصة للمشتغلين لإيضاح قدراتهم الإبداعية، في الكتابة، في الأداء، في الإخراج، في السينوغرافيا، في كل مفردات العرض المسرحي.
وليس مهما تقديم عروض مسرحية قائمة على الاشتباك مع «أفكار» وثيمات «عظيمة» كمناقشة القضايا العربية الكبرى على سبيل التمثيل، أو الدخول في أعماق نفسية متكسرة ومتبعثرة لا تقترب من الناس ولا تبهجهم، ليس مهما كل ذلك، بل المهم هو الاعتناء بعناصر الفرجة الإبداعية، التي أرى أن في مقدمتها وأهمها هو وجود النص المسرحي، والمعالجة الدرامية السليمة التي تمنح الخشبة حكاية جاذبة ومعتنى بها.
لكنها التجربة الأولى، التي أتمنى ألا تكون الأخيرة، بل أن تحذو فرق أخرى في إقامة مهرجاناتها الخاصة، التي يمكن أن تكون بلا مسابقة، وإنما مهرجانات تقدم الفرجة المسرحية، في مسقط وغير مسقط، علها تكون الورشة الإبداعية التي تنمي القدرات وتصقل الإمكانيات وتزيل العقبات الكثيرة التي تقف في وجه المسرح العماني.
———————–
هلال البادي