1. من المكان المغلق إلى الفضاء المفتوح:
اعتنت الدراسات المعرفية، في العقدين الأخيرين، بمفهوم الفضاء بوصفه أحد المداخل الأساسية لمعرفة الإدراك الإنساني وكيفية بناء تمثلات الذات عن تحركها في المجال وعن تفاعلها مع معطيات الواقع. وقد أفرزت هذه الدراسات جملة من النظريات المتنوعة والمقاربات المتعددة التي أتاحت للمعرفة الإنسانية تكاملا مهما بين الرؤى المتخصصة وووجهات النظر التحليلية: فيزيائيا وفلسفيا ولسانيا وسيميائيا واجتماعيا ونفسيا (موريس. 1967.Morris ونجهاوان وكورانا.2010.Nijhawan&Khurana). ولعل أهم ملاحظة تستوقف المتتبع لهذا الثراء المعرفي أن التجربة الفضائية للذات الإنسانية تتولد عن التقاطعات الحاصلة والمتوقعة بين الحركة والمكان: الحركة التي تقتضي فعلا متحولا مستمرا للذات المتطلعة نحو الأفق المفتوح، والمكان الذي يستلزم تفاعلا ذهنيا خاصا يتجاوز الأبعاد الهندسية المغلقة ويقفز على الحدود الفيزيائية المرسومة واقعيا. ها هنا، يشكل الخطاب الروائي الشكل التعبيري الأكثر تفصيلا في استثمار سمات الفضاء بمعناه المعرفيوالأقوى ترجمةلعمق التجربة الفضائية للكائن الإنساني عموما والذات المبدعة على وجه الخصوص.
فكما هو معلوم في السرديات وفنون الحكي، يشكل الفضاء أحد المرتكزات الإجبارية في استلهام الحدث الروائي وبناء النسق السردي الذي يقيم علاقات متشابكة إلى أبعد الحدود بين الأمكنة والأزمنة والشخصيات والوقائع واللغة والتداعيات السردية. واعتناء بالبعد الفضائي،يستثمر الخطاب الروائي – خاصة في الممارسات المعاصرة – في تجريب آليات نوعية لاستحضار المجال السردي مقرونا بملامح الشخصية وأفعالها وانفعالاتها ضمن قوالب حكائية تخييلية متنوعة.
ذلكم مدخل أساس للإفادة في المقام الذي نحن فيه، غير أن السياق لا يتسع للخوض في القضايا الراهنة التي يطرحها مفهوم الفضاء في النظريات السردية وباقي ميادين البحث العلمي. الغاية، ها هنا، أن نسحتضر بعض الإجرائيات المتعلقة بتحليل الفضاءات السردية وأن نقارب نسقا نصيا خاصا يتمثل في رواية «اليتيم» لعبد الله العروي للكشف عن طرق وكيفيا تتشييد التمثل الفضائي تصورا ولغة وإبداعا. وتكفي الإشارة إلى أن الخطاب الروائي في «اليتيم» حافل بمعطيات الفضاءات السردية وتجلياتها الكثيفة إن على صعيد اللغة والنص أو على صعيد التعبير والتخيل. أضف إلى ذلك أنه خطاب إبداعي لا يتمحورحول الفضاء بوصفه أمكنة جوفاء لاحتضان الذوات المنفعلة (المكان المغلق)، بل يستثمر بشكل عميق الفضاءات باعتبارها سياقات ذهنية منفتحة على تداخل مختلف العناصر المكونية: الحيز والزمن والشخصيات والعلائق والتفاعلات وغيرها (الفضاء المفتوح). كيف لا؟ ومتن «اليتيم» خطاب الفضاءات بامتياز كما سيتضح عبر إعمال آليات المقاربة المعرفية، أي خطاب السرد المتعالي على البنيات الجغرافية والفيزيائية المكتملة والمولد للأنساق الثقافية الرمزية التي لا حدود لها في عملية القراءة، كما في مغامرة التأويل.
2. فـي رمزية العتبات السردية:
قبل الخوض في بعض المميزات النصية لرواية «اليتيم» في علاقتها بمفهوم الفضاء السردي، يتعين الإقرار بوجهة نظر خاصة مفادها أن التعاطي مع الإنتاجات الإبداعية السردية لعبد الله العروي ظل رهين النظر إلى الروائي من منظور المفكر والمؤرخ. غير أنه لا ينبغي، على مستوى التحليل السردي، أن نجازف بقراءة النص الإبداعي «اليتيم» بالتوجيهات الآلية للمفكر والمؤرخ عبد الله العروي بما يؤدي إلى إسقاط مقولات مسبقة على البناء النصي ذي المقاصد التداولية المنفتحة، وبالتالي ممارسة نوع من الإجحاف في حق الإبداعية السردية والابتعاد عن الإنصات العاشق للصوت الرمزي والاستمتاع بالمتخيل الروائي.ولا يعني هذا الأمر إحداث قطيعة صارمة بين المبدع والروائي من جهة والمفكر والمؤرخ من جهة ثانية نظرا للتلازم الضمني بينهما، بل اعتماد فاصل إجرائي بينهما بعيدا عن الهيمنة والتوجيه الأحادي البعد قصد معالجة «اليتيم» من منظور إبداعي خالص. فمن الممكن استحضار طبيعة التوجهات والمواقف الفكرية والفلسفية والتاريخية والسياسية للمبدع في قراءة المنجز السردي، لكن تحققات النص الإبداعي تفرض نفسها بقوة لأنها تستطيع التعبير، استعاريا وتخييليا،عن قضايا وآراء لا تتمكن الكتابة الفكرية والتاريخية من البوح بها لاعتبارات تقنية وسياقية.
بناء على هذا الإقرار، يمكن أن نتوقف عند البنيات النصية الموازية في «اليتيم» ودورها في إضاءة جوانب مهمة لفهم كيفية تشكيل الفضاء الروائي اعتبارا لكونها تؤطر عملية التوليد السردي. فقد اختار الروائي عبد الله العروي أن يؤثث نصه الإبداعي بعتبات دلالية قد تسهم في إنارة السبيل الأنسب لاقتناص المقصد، أو بالأحرى المقاصد التداولية للسارد ؛ وتتمثل عتبات التقديم في التصريحات التالية المفيدة للتلميحات المستنبطة كما يلي:
* التصريح، عبر تعبير للجاحظ، باعتماد اللحن والانزياح عن الإعراب، أي الإبانة عما في النفس حسب التعبير التراثي، وهو ما يلمح إلى النص السردي بعبارة «هذا الكتاب»إشارة من الروائي إلى شحنته الرمزية القوية السارية في كافة المكونات بما في ذلك الفضاء السردي ؛
* التصريح، تبعا لما ورد في «ألف ليلة وليلة»، بالوصول إلى مرج أفيح فيه الغزلان والأثمار والأزهار الطيور والجداول، بما يفيد التلميح عبر تلقي جمالية النص السردي إلى الإقامة في فضاء تخييلي فسيح ؛
* التصريح، بعبارة لأندري جيد André Gide، أن الرواية تاريخ متوقع تتجاوز الواقعي المحقق، مما يعني تلميحا أن الفعل السردي لا يمكنه أن يتجسد إلا بوصفه فعلا توقعيا ذي أبعاد تخيلية.
إن هذه التلميحات تساعد في إدراك طبيعة البناء السردي المتطور عبر مختلف المقاطع الروائية لنص «اليتيم» وفي فهم كيفية تشكيل الفضاء السردي المحتضن للأفعال الحكائية حيث تتجلى الأبعاد المشار إليها في العتبات النصية: البعد الرمزي الخاص بالمسكوت عنه، والبعد الجمالي المتعلق بانفتاح الحكاية، والبعد التوقعي المقترن بالتخييل.
وما يعزز هذا المنحى إشارة إضافية تؤطر رواية «اليتيم» تتمثل في النص الموازي المحرر على الغلاف الذي يقدم، من بين ما يقدم، توصيفا مكثفا لمضمون الخطاب الروائي: «قصة خريف يحكيها رجل قتلته الوحدة وشاخ قبل الأوان». إنه التوصيف الذي يحدد ملامح الشخصية الروائية المحورية «إدريس» الذي لا يمتلك أخلاق الوسطاء (عكس شخصية «جليل») ولا يعيش على النمط الإنجليزي (عكس شخصية «حمدون») والذي يتعارك مع الماضي نتيجة سطوة الذاكرة ويصارع الحاضر بفعل قلق السؤال والتخيل ؛ بتعبير استعاري، يمثل «إدريس» الشخصية الظل كما يقول:»انسكبت مني الحياة منذ أعوام وتركتني ظلا أسعى». يتضاعف المعنى السردي للشخصية الظل لكونها ذات ساردة لا ترتبط بالحكي مجردا ومتعاليا، بل لكونها إفراز طبيعي للفضاءات التي تعيش فيها واقعيا وتتفاعل معها مجازيا. وتزداد القوة الرمزية للظل في وصل الشخصية، ومعها الشخصيات الروائية الأخرى، بما تحمله الذاكرة من تمثلات ذهنية عن فضاءات البيضاء والصديقية ومراكش.
3. الفضاء السردي : بلاغة الذاكرة وعمق اللغة
يعتمد الحكي الروائي في «اليتيم» على فعل التذكر في استحضار الفضاءات السردية حيث التصوير اللغوي للمحيط والأمكنة في تجلياتها المجازية التي تبرز تأثير التفاصيل الفضائية في نفسية الشخصيات، خاصة شخصية «إدريس». فالتيه الملازم للسارد في مجمل المقاطع الروائية لم ينتج عن السمات الذاتية المستقلة سياقيا، إنما نتج عن العلاقات التفاعلية بين ذات السارد (الذاكرة السردية) وفضاء «البيضاء» اللامتناهي (الصورة الذهنية). فالأزمة الشخصية للسارد نابعة من طبيعة الشكل المعماري للمدينة إذ، وفقا لبنيات السرد، ثمة ترابط وثيق بين المكون المعماري والشخصية السردية: «الميادين في البيضاء قليلة أو قل منعدمة. لهذا ساكن البيضاء غير مرتبط بمدينته. الميدان عالم مقفل مثل مراح الدار والبيضاء مدينة مفتوحة على المستقبل غير المتناهي» (ص. 14).
إن الذاكرة السردية التي يعمد إلى إعمالها السارد في منجزه الحكائي تتوفر على مخزون هائل من المعطيات المعرفية المنتظمة على شكل تمثيلات فضائية تعيد تشكيل الذوات والأحداث والأمكنة والأزمنة بطريقة ذهنية خاصة بالسارد لا بالمتحقق الواقعي. ومعنى ذلك أن التمثيلات الفضائية في «اليتيم»، من منظور معرفي، بنيات سردية ذهنية تتجاوز الرصد المباشر والتقريري للوقائع، بل تمتد لتشمل كل التداعيات السياقية والتداولية الخاصة بالحدث السردي. لنقرأ بتمعن المقطع التالي: «الذاكرة آفة. يمحى المسجل على الشريط. ولا ينسى المخزون في الذهن. لابد من حيلة. مع الإلكترونيات اليوم. حتى قبل الإلكترونيات كانت حيل كثيرة يعرفها أجدادنا وآباؤنا. لكني أرفضها. لماذا؟ لأني أحترم نفسي. اليتيم يحترم نفسه، خاصة في الأيام المظلمة، عندما يفكر في تريستا وجنيف، اليتيم…»(ص13). وعلى هذه الجديلة، تستند الذاكرة الحكائية الموجهة لتوليد نص «اليتيم» إلى قوة الوظيفة الاسترجاعية التي يتمتع بها ذهن السارد ؛والسبب في ذلك أن ذاكرة السارد مقاومة للنسيان لأنها ذاكرة اليتيم الذي يحرص على احترام نفسه في تذكر الفضاءات («كنت أقول إنها الإسكندرية وبيروت وأثينا في حيز واحد. أنا فيها وإليها إلى الأبد.» (ص.10) وفي تذكر الشخصيات («ظل اسم علية مدفونا في فؤادي: نسيت مدة طويلة علية الثانية، الجارة الأخرى …» (ص.16).
ويستطيع المحلل لأجزاء «اليتيم» أن يلاحظ التنظيم المحكم لمعطيات الذاكرة السردية الذي يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الحدثية المميزةلكل فضاء على حدة (البيضاء والصديقية ومراكش) مع اعتماد استراتيجية الإدماج في ما بين الفضاءات كلها. تتجلى هذه الاستراتيجية الإدماجية في الفترات التاريخية المتعاقبة بدء من الطفولة مرورا بمرحلة المراهقة ووصولا إلى الدراسة الجامعية وما بعدها: «سمعت وأنا طفل ألعب في الصابة، أن الجارة الساكنة في الطابق الأول تدعى علية، […،] وسمعت وأنا طالب أن شاعرا أمريكيا ألف دراما في شأن فتاة تمشي فوق الرمال الذهبية على شاطئ المحيط الهادي وتدعى علية، ثم بعد سنوات تتقدم امرأة صفراء لتقول لي: أنا علية وتفهمني أن اسمها كان منبع الأشواق الدفينة» (ص. 14/15). وعليه، ينطبق على الذاكرة السردية التمييز الذي أقامه علماء الحاسوب والذكاء الاصطناعي في عملية تخزين المعلومات المرتبطة بالمعرفة حول العالم بين نمطين متباينين: نمط عام يشير إلى المعرفة المعممة بما هي معطيات ثابتة تدمج باستمرار الجديد في القديم، ونمط خاص يحيل على المعرفة المخصصة المقترنة بمعطيات وضعية معينة ضمن سياق محدد (العاقد2006). ويتراوح فعل الحكي في «اليتيم» بين النمطين معا:
* أولا، تفعيل الذاكرة العامة في التقاط المدركات الدلالية المتعلقة بالفضاء السردي في صورته الشمولية التي تتجلى في وصف المكان ورصد الأحداث السردية اجتماعيا وتاريخيا وسياسيا ؛لنتمعن: «انحرفت القافلة وخرقنا أرضا قاحلة مليئة بالحجر والدوم، تطل على الفحص، موعد المجاهدين. أحجار محروقة. أرض مدكوكة، أسوار مهدومة، ككل المناطق التي فاجأها الكفر ودكتها الثورة. رجع القائد إلى حبيبته البيضاء ذات العينين العسليتين. ربطت الخيل في الأروى. سكنت النساء في الأرضي واستقل القائد بالفوقي المطل على أجنة المدينة وزرقة المحيط.» (ص84).
* ثانيا، تفعيل الذاكرة الخاصة في حكي التفاصيل السردية المرتبطة بالفضاءات في اتصالها بلحظات سردية عاشها السارد في علاقته بشخصيات معينة (الأب، الأم، علية، جليل، …)؛ لنقرأ: «هل حاولت أن أدخل ثانية على أمي الذاهلة عني وعن جسمها أم غادرت الدار إلى الصابة؟ لا أتذكر. كل ما أعلم يقينا هو أني لم أستعمل أبدا، بعد ابتهالي إلى الباري، أول كلمة يتعلمها الطفل وتكون ركيزته في الحياة. أصبحت أسمع وأقرأ كلمة «أماه» ولا أستعملها أبدا» (ص. 163/164).
في المقطعين السرديين، يخضع تفعيل آلية التذكر لمقتضيات الصياغة اللغوية القائمة على الوصف الدقيق لتفاصيل بعينها مما يجعل التعبير اللساني مكونا حاسما فيالبناء الحكائي والتوليد السردي لأحداث «اليتيم». وبشكل مغاير، تأتي الصياغة اللغوية في العديد من المقاطع السردية في النص الروائي لتترجم التصور الاستعاري للفضاءات السردية نتيجة استحضار السارد للماضي بشكل حكائي تخيلي. ومن ثمة، تتوجه الأمكنة والشخصيات والوقائع على الصعيد السردي نحو الأفق الدلالي المفتوح إذ حتى وإن ضاق المكان هندسيا، فإن ترجمته سرديا يؤهله ليكون «مكانا فسيحا»، أي فضاء رمزيا يشكله السارد في ذهنه بناء على التمثيل والتخييل.
وعلى هذا الأساس، يتأسس الفضاء الرمزي المستمد من الذاكرة على التركيب اللغوي الاستعاري المعلن الذي يمزج بين فعل الإثبات وفعل النفي في الآن نفسه: «.. وتابعت الشارع الكبير قاصدا ملتقى المدائن. أمشي في أزقة البندقية (ما ذهبت قط إليها)، في ممرات تريستا (ما ذهبت قط إليها)، في جوارع جنيف (ماذهبت قط إليها)، على كورنيش الإسكندرية (رأيتها في بياض الصيف فكانت غير الإسكندرية). ماذا حصل بين البارحة واليوم؟ لم أعد أحب هذه المدينة. كنت بين سكانها الوحيد الذي أحبها فعلا» (ص. 9/10).ولذلك، ينبثق الفضاء السردي بطريقة مجازية تقترن بمجازية الشخصيات الروائية حيث التوازي بين فعل المشي في البدقيةوتريستاوجنيف مع عدم الذهاب إليها وبين فعل المشي في الإسكندرية التي هي غير الإسكندرية المرئية.
4. الذهنالروائي: البعد المعرفي للفضاء السردي
استنادا إلى كل ما سبق، يمكن القول بأن تجسيد الفضاءات السردية في نص «اليتيم» ينبني على رؤية السارد التصورية المؤسسة على التمثل الذهنيللأحداث الحكائية الجارية في الأمكنة المألوفة والأزمنة الماضية. ويفضي هذا التمثل الذهني على صعيد التوليد السردي إلى التعبير الاستعاري الذي يتوسل به السارد للحكي عن المدن،ليس كما يراها،ولكن كما يدركها ويتخيلها تحت تأثير التوتر والانفعالات والتأزم والبحث المستمر عن الأمل.ومن ثمة، تتيح استعارية السرد انفتاح العمل الإبداعي على الدلالات الرمزية والإشارات الإيحائية التي تفضي إلى تأويل معاني النص السردي في اتجاه الكشف عن أبعاده النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية. وعلى هذا النحو، لم تشتغل رواية «اليتيم» على المعنى السردي في حدوده النصية اللسانية، بل أتاحت للقارئ احتفاء خاصا بما يسمى «المعنى الثقافي» الدال على شمولية المعرفة والتجربة الفضائيتين (بسارا.2009.Psarra). ولذلك، لا يستوي المعنى السردي في حصر مدلوله ضمن فضاء واحد بعينه من قبيل البيضاء أو تريستا أو الإسكندرية أو جنيف أو الصديقية أو مراكش، بل يتطلب – في إطار المعنى الثقافي – السعي إلى القبض على التفاعلات عبر الفضائية التي تجعل كل فضاء مقترنا إدراكيا بالفضاءات الأخرى وكل فضاء مستلزم ذهنيا لفضاء مغاير ومختلف؛ «ليست البيضاء كالقاهرة. ليست كباريس. قد تشبه الإسكندرية. قد تماثل أثينا. ماذا ينقصها؟ قلب؟ ميدان تتوحد فيه المدائن؟ تحتاج إلى استقرار القاطنين بها. هذا ما ينقصها، حب ساكنيها. لو توقفوا عن التفكير في غيرها لنظروا إليها نظرة أخرى، لجعلوا من المقاهي أندية ومن الطرق ميادين. ينقصها جيل وليس لي صبر لأنتظر طلوع الجيل الجديد» (ص. 151).
وانطلاقا من ذلك، نذهب إلى أن البناء السردي في الخطاب الروائي كما تحقق في نص «اليتيم» يحتكم إلى مفهوم أساس هو: «الذهن السردي» الذي نقترحه على شاكلةمفهوم الذهن الأدبي(تورنر.1996.Turner) للقول بأن تصور الذهن للوقائع وتوليدهللمعاني والإبداعات يتأسس على التمثلات السردية للفضاء الروائي. إنالأمر يتعلق بذهن سردي يمتد ليشمل مؤثرات خارجة عن النص الروائي تدل دلالة مفتوحة على التجربة الفضائية الإنسانية في مستوياتها الأكثر إبداعية وعمقا. ومن ثمة، يمكن أن نعتبر الذهن السردي مفهوما متفرعا عن مقولة الذهن الموسع الذي يقر بتفاعل محتوى النص السردي مع مقتضيات الخطاب الروائي وبترابط تمثلات السارد والمؤشرات السياقية الخاصة بفضاء الحكي (ميناري.2010.Menary). وبهذا الامتداد السياقي، تتحول الأمكنة الروائية إلى فضاءات سردية دائمة التأثير في الإنسان والتاريخوالحكاية : «بهاء مراكش لا يؤثر في الحين. قد تشعر أول الأمر بالملل والخيبة. قد تشك في حقيقة بهجة مراكش حتى تفارقها ويطول الفراق ويتضاءل الأمل في العودة إليها، حينئذ تنفجر الذكريات وتحس إحساسات عنيفة لم تجربها وأنت داخل أسوار مراكش.» (ص. 130).
المراجع:
العاقد، أ. 2006 : «المعرفة والتواصل : عن آليات النسق الاستعاري» دار أبي رقراق، الرباط.
العروي، ع. 2001: «اليتيم» المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
Menary, R. (ed). 2010 : “The Extended Mind“ MIT Press, Cambridge.
Morris, D. 1967: “The Sense of Space” State University of New York Press,Albany.
Nijhawan, R. &Khurana, B. 2010: “Space and Time in Perception and Action”Cambridge University Press, Cambridge.
Psarra, S. 2009: “Architecture and Narrative: The formation of space and cultural meaning” Routledge, London.
Turner, M. 1996 :“The Literary Mind” Oxford University Press, Oxford.
—————-
أحمـــد العاقـــد