رغم اعتداد المفكر صادق جلال العظم بثقافته، ووعيه الشامل والدقيق لتنوع هذه الثقافة وعمقها، وإيمانه بصواب وجهات نظره، وتماسك موقفه الفكري وشموله، مما يدعو عادة لشيء من الشعور بالعظمة وبعض الصلف، إلا أن هذا انعكس عليه تواضعاً وبساطة في التعامل، واحتراماً للرأي الآخر، وسماع محدثه باهتمام وإصغاء، فهو بعيد عن استعراض أفكاره وتمجيدها ومحاولة فرضها على الآخرين، ويتصرف وكأن هذه الأفكار والآراء، رغم نضوجها واستكمالها، مشروع رأي أو مقترح غير مستكمل ينتظر من المستمع إغناءه، غير شديد الاهتمام بالمظاهر، فلشدة تواضعه تكاد لا تصدق أن هذا الرجل الذي أمامك هو المفكر التقدمي المشهور والفيلسوف الشجاع الذي امتلك ويمتلك جرأة نقد المحرمات، والتحدث عن المسكوت عنه بصراحة ومباشرة، وهو صلب الموقف تجاه ما يعتقد، ونادر التراجع عن موقفه إلا لقناعات علمية أو فلسفية، يقول رأيه بجرأة وصراحة أحجم كثيرون وما زالوا يحجمون عن التحلي بها إذا كان الرأي يتعلق بمراكز قوى دينية أو اجتماعية أو سياسية، ويتحرش بهذه القوى وآرائها ومواقفها وسلوكها ويزيل عنها وعن أفكارها التقديس وتحريم نقدها، ويتعامل معها دون الاهتمام بالحصانة التي أسبغتها على آرائها ومعتقداتها وعلى نفسها أيضاً، وجعلت من الخوض في نقد آرائها وتعليماتها وقيمها محرمات ليس لأحد التعرض لها، وخاصة الآراء الدينية، التي دخلت منذ قرون في عمق ثقافة الناس كما فصّلها الفقهاء وأسيادهم الحكام، فضلاً عن المؤسسات الدينية التقليدية التي أصبحت شبه رسمية، وحصّنت نفسها بالقداسة والمحرمات، ولم يعد أحد يجرؤ على نقدها إلا في حالات قليلة تفتضي أن يكون الناقد متمكناً من رأيه واثقاً من مراجعه متحلياً بالجرأة والشجاعة، وهذا ما توفر في صادق جلال العظم وهو الذي يفسر نقده الجريء وغير المسبوق إلا نادراً، ولعل تمكنه وشجاعته جعلاه محباً للحوار يحترم محاوره، ويتعامل معه على أنه نده مهما كانت ثقافة المحاور متواضعة، انطلاقاً من أنه يعتقد أن أي رأي يمكن أن يكون نافعاً مهما كان متواضعاً، ولم تمنعه جرأته ونقده الصريح والعلني والمباشر للقوى الدينية والاجتماعية والسياسية وأفكارها، من أن يكون محاوراً متواضعاً مع الجميع من بيئات متنوعة ومستويات متواضعة ومن كل صنف ولون، فبقدر صلابته في النقد وفي الدفاع عن أفكاره بقدر ما هو ديموقراطي أثناء الحوار والنقاش، وهكذا تراه شديد البأس في الدفاع عن رأيه، شديد احترام الآراء حتى لو كانت متهافتة. إنه ناقد صلب وديموقراطي رحب الصدر.
رأيته للمرة الأولى قبل حوالي أربعين عاماً، وكان قادماً إلى سوريا ليدرّس في جامعة دمشق بعد أن طُرد من الجامعة الأمريكية في بيروت وترك الجامعة الأردنية، وكانت الإجراءات تقتضي تعادل شهادته الثانوية التي حصل عليها من لبنان، لأن القانون السوري يقضي أن يتقدم بامتحان لبعض مواد الشهادة الثانوية السورية كمادة اللغة العربية والتاريخ والثقافة القومية والاجتماعية، لقد دهشت من هذا القانون الذي يطالب حامل دكتوراه بالتقدم لامتحان مواد تدرّس بالشهادة الثانوية ولا علاقة لها باختصاصه، وافترضت أنه على السلطة السورية المعنية إعفاءه من هذا الشرط، وهو الأكاديمي المشهور، والفيلسوف الإشكالي، خاصة وأنه كان قد نشر كتابيه (النقد الذاتي بعد الهزيمة) و(نقد الفكر الديني) وفجّر كل منهما حواراً واسعاً، وشكل نقداً لاذعاً وجريئاً وغير مسبوق لمراكز قوى سياسية ودينية، وهذا ما جعلني أستنكر إجراء امتحان له بمواد يدرسها الطلاب، ودُهشت من موقفه الذي لم يكن ساخطاً ولا متذمراً، بل اعتبر ذلك نظاماً لا بد من قبوله، ولم ينوه ولو من بعيد لأهميته الأكاديمية أو أن هذا الإجراء يشكل استهانة به، وكان بدلاً من ذلك مشغولاً (ومربوكاً) باستكمال الأوراق وانتظار (الامتحان) ومن يومها أدركت مدى تواضع الرجل المفكر وعميق الثقافة، وأنه غير مغتر بشهرته وثقافته ومواقفه الفكرية الصارمة من قضايا يرتجف المثقف قبل الخوض بها، ولا ينتظر استحساناً أو امتيازاً مقابل مواقفه وشهرته وشجاعته اللافتة في دفاعه عن رأيه.
اهتم صادق جلال العظم اهتماماً كاملاً بما يجري في البلدان العربية وعلى الساحتين الإقليمية والدولية من أحدات وتحولات، وحاول دائماً متابعتها وفهم أبعادها وصولاً إلى تفسيرها، وهو وإن لم يكن يهتم بالتفاصيل التي عادة ما يهتم بها الصحافيون والسياسيون، إلا أنه كان يقترب من الأحداث السياسية ويحللها ويبدي رأيه فيها بشجاعة وجرأة، ويسمع باهتمام لآراء الآخرين. وقد أتاحت له متابعتها في البلدان العربية والإسلامية الفهم العميق لما يجري في هذه البلدان من جهة، والمعرفة الكافية لمرحلة التطور التي تمر بها من جهة أخرى. وعندما تأسس «الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» السوري انضم إليه منذ الأيام الأولى، كما قبل رئاسة رابطة الكتاب السوريين المعارضة أيضاً، دون أن يتردد أو يتذرع بأنه مفكر وفيلسوف ينبغي أن يتثاقل بالقبول، أو يتظاهر بالترفع عن الممارسة السياسية المباشرة مع قوى الثورة والمعارضة، وموقفه هذا ينسجم مع سلوكه وطبيعة شخصيته، فهو هنا ابن بلد ومواطن يتحمل مسؤولياته ويؤدي واجباته، وليس منظراً وفيلسوفاً.
لقد جاهر صادق جلال العظم دائماً بأفكاره مهما كانت صادمة، وكان يعرف غالباً أنها صادمة، وأن مجاهرته بها ستخلق له مزيدا ًمن المصاعب، إلا أن مجاهرته هذه لم تكن لمجرد الاستعراض واللغو، وإنما هي خيار وموقف، لأنه يرى بحزم أنه حر في مواقفه من الدين وفهمه له وعلاقته به، ويرى بوضوح السلبيات المترتية على هيمنة الفكر الديني، وهذا ما أشار إليه في كتبه (نقد الفكر الديني) و(ما بعد ذهنية التحريم) ويعتقد، من طرف آخر، أن الدولة العلمانية هي الوحيدة القادرة على تجنيب البلدان العربية الحرب الأهلية، ذلك أن عدم تطبيقها يفتح الآفاق لصراع المرجعيات الثانوية داخل المجتمع أمثال المذهبية والطائفية والإثنية وغيرها، وكان يردد دائماً (أنا أدافع عن علمانية الدولة وديمقراطيتها واحترام حقوق الإنسان وأعتبرها المعركة الأهم على المستوى السياسي).
كان يعتقد أن الاشتراكية هي خطوة متقدمة على قيم الثورة البرجوازية وأرقى منها، وأنها حققت تطوراً جدياً في بلدان أوروبا الشرقية قبل سقوطها، وبرأيه أعاد انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى الاشتراكيين إلى قيم الثورة البورجوازية، ولذلك رجع القسم الأكبر من الماركسيين بعد فشل التجربة الاشتراكية لخط الدفاع الثاني وهو قيم الثورة البورجوازية، بعد أن كان الماركسيون يعتبرون أنهم يدافعون عن قيم أكثر تقدماً من هذه القيم التي جاءت بها الثورة الفرنسية والثورة الليبرالية مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة.
يتطلع صادق جلال العظم إلى المستقبل ولا يتعلق بالماضي أو يحن إليه، ولا يتجاهل الظروف الموضوعية القائمة، وبالتالي لا ينظر إلى الوراء لرؤية الحاضر والمستقبل من خلال الماضي، وقد صرح أكثر من مرة أنه لا يحن (إلى خبز أمه) أي لا يتعلق كثيراً بالماضي وبالتراث، ويردد أنه لا يريد أن يمشي ووجهه إلى الوراء، وقد رأى فيه البعض مواطناً عالمياً، خاصة وأنه عاش في عديد من بلدان العالم دون أن يستقر في واحدة منها. لقد عاش في بلده سوريا وفي لبنان والأردن والولايات المتحدة وألمانيا، كما زار عدداً من البلدان الأخرى ومكث في كل منها بضعة أشهر بصفته أستاذاً زائراً كاليابان وبلجيكا وغيرهما، ولعل هذا التنقل أكسبه ثقافة سياسية هامة، واطلاعاً واسعاً على شؤون المجتمعات الإنسانية وهمومها وتجاربها، وهيأ له معرفة غنية بتطورها وحرضه على التوسع في البحث المعرفي السياسي والاجتماعي.
لم تتح لصادق جلال العظم الفرصة في بلده سوريا كي يشارك بحرية في محاضرات وندوات ويمارس نشاطاً ثقافياً واسعاً، ويتواصل مع الجمهور بشكل كثيف. كما لم تتح له وسائل الإعلام والصحافة السورية مثل هذه الفرصة، وكأن السلطة السياسية كانت تخشى آراءه ووجهات نظره، وخاصة تلك المتعلقة بالأنظمة السياسية وهي منها، او التي تتناول نقد الفكر الديني، خوفاً من الوقوع في ورطة مع المؤسسة الدينية وبعض المتدينين والدعاة لأنها سمحت بذلك، ولكنه باعتباره رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة دمشق أخذ يعقد أسبوعاً ثقافياً كل عام يختار له موضوعاً سياسياً أو اجتماعياً أو فكرياً معيناً، ويدعو محاضرين من مختلف البلدان العربية للمشاركة فيه، وطالما كانت المدرجات التي تعقد فيها المحاضرات تغص بالحاضرين بسبب نوع المواضيع المختارة وحرية الحوار التي كانت تتوفر، وقد أتاح صادق العظم من خلال هذه الأسابيع الفرصة لنشاط ثقافي وحوار حي ومثمر لم تشهد مثله دمشق قبل ذلك. وباعتبار أن هذا النشاط كان يتم داخل الجامعة فقد تعذر على السلطة أن تمنعه باعتباره نشاطاً جامعياً، لكن وسائل الإعلام السورية وكلها شبه رسمية لم تكن تسهب في الحديث عن هذا النشاط بما يستحقه أو الاحتفاء به.
مثلما لازمته سيارته الفرنسية (ذات الحصانين DEUX CHEVAux) رخيصة الثمن والتي يقتنيها الفقراء عادة، وحافظ عليها سنوات طوال، لازمه دائماً نقده للفكر الديني سواء مع أصدقائه أم مع الناس جميعاً، لأنه كان يعتبر الفكر الديني على النقيض من العلم وإشغال العقل، وأن الإسلام السياسي يدمّر الدولة والمجتمع، وتوجد في رأيه ثلاثة أنواع من الإسلام: الإسلام التقليدي وتمثله المؤسسات الرسمية التي قامت منذ مئات السنين وما زالت، وترفض نقد الفقه وتسكت على الخرافات والأساطير، ويخدم هذا الإسلام تقليدياً السلطة والحاكم. أما الإسلام الثاني فهو الإسلام الإرهابي العنيف المسلح الانتحاري والتفجيري، وهو الذي شهدناه خاصة منذ ما بعد هزيمة حزيران/يونيو. والإسلام الثالث هو (إسلام البزنس) الذي تبنته الطبقة الوسطى ويمثله حالياً (حزب العدالة والتنمية التركي). ويرى أن دعاة الدولة الإسلامية اختزلوا الدين في الشريعة، والشريعة في العقوبة، والعقوبة في الحدود وقطع الأيدي وحجاب المرأة. وهذا ما يدافع عنه الإسلام التقليدي ومؤسساته، وعلى العموم لا يوجد برأيه تعريف جامع للدولة الإسلامية، وهي على أي حال دولة المسلمين كما يتصورونها وليست دولة الدين الإسلامي.
يجاهر صادق جلال العظم في كل مناسبة أنه من بيئة أرستقراطية مستقرة وأنه يفخر بعائلته العريقة، ولا ينكر تأثيرها على تربيته وتعليمه، ولم تكن تحرجه الإشارة (الثورية) إلى أنه من عائلة أرستقراطية أو وصفه بأنه بورجوازي نبيل، بل كثيراً ما كان يتحدث بسعادة عن عائلته ومنبته الكريم، ولا يضيره الحديث في هذا الأمر، وعليه يمكن القول إن اختياره الاشتراكية العلمية لم يكن نتيجة صدفة أو حقد طبقي أو ما يشبه ذلك، وإنما نتيجة فهم واع لهذه الاشتراكية ولموقفها الفلسفي من الكون والحياة، اختياراً واعياً بملء الإرادة وبعد تشغيل جدي للعقل، وإجراء محاكمة واسعة وعميقة وبحث معرفي كاف أهّله للاختيار.
—————–
حسين العودات