للمثقف دور أخلاقي في مواجهة السلطة، وهو كشف البنى الإيديولوجية والثقافية التي تخفي خلفها بنية قمعية يتحكّم من خلالها السياسيون ورجال الدين بالناس. لكشف هذه البنى، على المثقف أن يختار موضوعات معاصرة تشكّل نقاط علّام في الصراع السياسي والاجتماعي؛ وعليه أيضاً أن يناقش هذه الموضوعات بأسلوب واضح ومباشر كي يستطيع القارئ فهم زيف هذه البنى وبنيتها العميقة. نرى في عمل صادق جلال العظم، الذي يجسّد المطلبين المذكورين، أنموذجاً لدور المثقف في مواجهة السلطة.
سنميّز بدايةً بين دور المثقف السياسي المباشر وبين دور المثقّف كمثقف. من جهة، يلعب المثقفون دوراً مباشراً في السياسة، كأعضاء في الأحزاب السياسية وناشطين في قضايا حقوق الإنسان؛ كما يشاركون في مظاهرات واعتصامات وإصدار بيانات وما إلى ذلك. هذا الدور الرئيسي للمثقف يأتي من كونه فاعلاً في المجتمع كجميع أفراد المجتمع، من أطباء ومهندسين وحرفيين وطلاب وأساتذة وعمال. في هذا المقال، لن نناقش هذا الدور السياسي المباشر، بل سنناقش دور المثقف كمثقف.
ما أعنيه بدور المثقف كمثقف هو الإنتاج الثقافي: ما هي الموضوعات التي يكتب فيها، وكيف يكتب فيها. بما أن للمثقف قدرة تحليلية تميزه عن الفاعلين الآخرين في المجتمع، وبسبب هذه القدرة، نرى أن للمثقف دوراً مميزاً في تناوله لموضوعات البنى التي تعتمدها السلطات للتحكم بالناس. هذا الدور هو الذي سنناقشه في مقالنا هذا، من خلال استعراضنا لميزتين رئيستين في كتابات صادق جلال العظم.
يتميز العظم في هذا المجال عن الكثير من مجايليه ففي حين سادت في كتابات المثقفين العرب اللغة المخاتلة التي تدّعي مواجهة السلطات عن طريق طرح قضايا كبرى بأسلوب تمويهي يسعى للكلام عن الثقافة والدين والماركسية والنهضة المجهضة، ويتحاشى تسمية الأمور بمسمياتها، أي أن يتكلم عن النظام السياسي الحاكم وعن البنى الدينية الحالية التي تتحمل مسؤولية مباشرة عن قمع الناس؛ انحاز العظم إلى الكتابة عن موضوعات آنية محللاً إياها بوضوح وصراحة مشهودة له حتى من الخصوم.
فيما يلي تحليل للخصلتين اللتين نراهما تميزان العظم وكتاباته، وتجعلانه ممثلاً للمثقف القادر على مواجهة السلطة.
أولاً، في اختيار المواضيع المعاصرة. نجد في أعمال العظم أن الموضوع المطروح للنقاش موضوع سياسي وأخلاقي آني معاصر. يسمّي العظم الأسماء بمسمياتها، ويسعى لفضح ما يراه كذباً وليّاً للحقائق من طرف السلطات. يبدو ذلك أوضح ما يكون في كتب «نقد الفكر الديني» و«النقد الذاتي بعد الهزيمة» و«ذهنية التحريم». يبدو العظم مشغولاً بالواقع المباشر وبمهمة شرحه وتغييره. في «نقد الفكر الديني»، يسعى العظم إلى طرح موضوع الفكر الديني على طاولة النقاش العقلاني، ويسعى في ذات الوقت إلى فضح السلطات التي تتوسّل الإيمان الديني والغيبيات لتثبيت سلطتها القمعية. ما يميّز كتابات العظم، منذ هذه المرحلة المبكرة، هو نقده المزدوج للإسلام السياسي وللسلطات «العلمانية» في الوقت نفسه. على سبيل المثال، في «معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان»، يربط العظم بين الفكر السحري السائد في الأوساط الدينية، واستغلال السلطات المصرية لهذا التفكير في تبرير هزيمة الخامس من حزيران/يونيو.
يسعى «النقد الذاتي بعد الهزيمة» إلى طرح سؤال مباشر حول هزيمة الخامس من حزيران، دون تبريرات وادعاءات فارغة وتطمين النفس بأن النصر قادم لا محال، ودون تيئيس فارغ عبثي لا طائل من ورائه.
أما «ذهنية التحريم» و»ما بعد ذهنية التحريم»، واللذان يضمان دفاعه عن سلمان رشدي، فيشكّلان نقطة فارقة في الدفاع عن حرية التعبير في العالم العربي. لم يخضع العظم لموجة التشهير برشدي التي سادت بين الكتّاب العرب، ودافع بشراسة لا تمارى عن سلمان رشدي وعن روايته. الأهم في هذا الدفاع هو كشف القوى التي استخدمت الهجوم على رشدي لتثبيت سلطتها، من إيران والسعودية إلى القوى اليمينية في الغرب. ترافق هذا مع نقد واسع للمثقفين العلمانيين الذين شاركوا في جوقة الكراهية بحق رشدي وكتابه، متناسين كل قيم العدل والحرية التي تشدّقوا بها على مدى عقود.
حاول العظم، بصدق وشجاعة لم يملكهما إلا القلة من الكتّاب، أن يطرح المواضيع الخلافية من خلال الواقع المعاش. لا تعنينا حرية التعبير، على الإطلاق، حين يكتب عنها متفلسفون يناقشون مقتل الحلاج أو السهروردي، ويصمتون في الدفاع عن سلمان رشدي اليوم أو عن نصر حامد أبو زيد. لا يعنينا نقد السلطات الأموية والعباسية والمملوكية، في زمن يمالئ فيه الكتاب حكام الخليج والسودان وإيران. تمتلئ المكتبة العربية بأبحاث عن «العقل العربي» و«العقل الإسلامي» و«الثقافة العربية» و«الثقافة الإسلامية»، وبمقالات وكتب ودراسات، بعضها ذات سوية فكرية عالية، عن المعتزلة والتصوف وابن رشد والغزالي وغير ذلك، ولكنها تخلو من إشارة واحدة إلى الواقع المعاش اليومي، إلى السلطات التي تقمع الناس بشكل مباشر، إلى الصراع الفعلي على السلطة في عالم اليوم. تأتي كتابات العظم كإشراقة في زمن يتلبّس الخوف كل من يدّعي الإيمان بالعلمانية والحرية وقيم التقدّم.
الشجاعة المسلّحة بإيمان حقيقي بتحرير البشر الفعليين تجعل من كتابات العظم نبراساً لكل من يريد الخوض في الشأن العام. الهروب إلى تاريخ ميت وخوض معارك وهمية مع ناس وهميين هو ما يميز أولئك الذين لا يؤمنون حقاً بالحرية. الخط الفاصل بين المثقفين الذين يخوضون معارك التحرير الفعلية وبين من يخوضون معارك وهمية هو الخط الفاصل بين صادق جلال العظم ونقاده.
دور المثقف الحقيقي يتجلى في دفاعه عن الناس الفعليين اليوم في مواجهة السلطة، من خلال قدرته على طرح المواضيع الخلافية المعاصرة الكاشفة لبنى الاستبداد. من هنا ندرس التراث والتاريخ الإسلامي. يشرح العظم رؤيته للعلاقة مع التراث كما يلي:
«إن إحياء التراث لا يتم إلا بربطه بأشياء حية أصلاً وبقضايا ومشاكل يعيشها الناس في الحاضر ويتحسسونها ويتفكرون بها ويعانون منها ويعبرون عنها في فنهم وأدبهم وثقافتهم المعاصرة وفي جهودهم الرامية إلى إعادة النظر الدائمة والمستمرة بما يسمى التراث» (نقد الفكر الديني).
الخصلة الثانية التي تميز العظم هي الوضوح والدقة. ربما لا يرى البعض في هذه الخصلة أهمية خاصة تدعو لذكرها، ولكنني على العكس أرى أن لوضوح كتابات العظم بعداً أخلاقياً يرتبط مباشرةً بدوره كمثقف.
أقترح هنا أن الأسلوب الواضح والبسيط هو جزء لا يتجزأ من دور المثقف. الغموض والتخفي خلف المصطلحات الكبيرة والتعالي على القارئ تعبّر عن نوع من النرجسية الثقافية، وغالباً ما ترتبط بتقديس الكاتب الذي يرى في نفسه نوعاً من نبي. أسلوب الكتابة ليس مسألة جمالية يختارها الكاتب على هواه. إن كان للكتابة دور ما في حياتنا، فعليها أن تكون مفهومة للقراء. العظم في نقده لإدوارد سعيد، وللكتاب الإسلاميين في «نقد الفكر الديني» و«الاستشراق والاستشراق معكوساً»، ولأدونيس في «النقد المنفلت من عقاله»، يكرر مطلب الوضوح. لا يريد البعض إيضاح ما يقوله، خوفاً من النقد أو من نقاش أفكارهم بصراحة. على سبيل المثال، أن يكون للإسلاميين رأي صريح بأن بعض منجزات العلوم الحديثة تتعارض مع الدين، أو أن يكون الإيمان بالماورائيات في حالة أدونيس يعني حكماً التخلي عن الماركسية وعن العلمانية، يجعل هؤلاء الكتاب يلجؤون إلى لغة مقعرة غير مفهومة. يستمتع العظم بكشف مغالطات وتخبط هؤلاء، ويقوم بترجمة أفكارهم وتهويماتهم اللغوية إلى أفكار واضحة ومفهومة، تمهيداً لنقدها.
لا أريد القول إن اللغة الواضحة تعني بالضرورة أن الكاتب ملتزم بدور تحرري. كل الحركات الشعبوية والفاشية، على سبيل المثال، تعتمد على اللغة البسيطة المباشرة. ولكن أريد القول إن اللغة الغامضة تعني بالضرورة أن الكاتب لا يلتزم بأي مهمة تحررية ولا بأي دور في مواجهة السلطات القامعة. اللغة الغامضة أسلوب الكاتب المكتفي بنفسه والمترفّع عن قرّائه.
في عصرنا اليوم، اللغة الغامضة والمخاتلة ملجأ للمترددين وللخائفين، ولمثقفي ما بعد الحداثة وتهويماتهم الفارغة، ولمتفلسفين يعتدّون بأنفسهم أكثر مما يهتمون بقرائهم وبدورهم في الحياة العامة. صادق جلال العظم رفض كل هذا الزيف الفارغ وأعاد للكتابة ألقها وبهجتها. للرجل قدرة عجيبة على شرح الموضوعات العويصة بسلاسة وفتنة يُحسد عليهما.
ختاماً، نرى أن الدروس المستفادة من تجربة العظم متعددة ومتنوعة الاتجاهات. على مدى أكثر من أربعين عاماً نشط صادق جلال العظم في معركته من أجل العقلانية والعلم والعلمانية والتحرر الاقتصادي والسياسي. أخطأ وأصاب في مواضع كثيرة. خاض معارك فكرية على جميع الصعد. كتب في السياسة والفلسفة والاقتصاد والحب العذري والأدب. تنقّل بين دمشق وبيروت ألمانيا والولايات المتحدة. اليوم، وقد جاوز الثمانين، ما زال يخوض معاركه بدأب كالشاب الذي كان حين افتتح معارك نقد الفكر الديني في منتصف الستينيات.
من إرثه الثري سيبقى للأجيال القادمة الكثير. نرى أن أحد أهم العبر المستخلصة من مسيرته الطويلة هو هذا الالتزام بدور المثقف في مواجهة السلطة: اختيار المواضيع المعاصرة التي تفضح السلطات، والكتابة بأسلوب واضح وبسيط ومباشر للوصول إلى القارئ.
سيذكر التاريخ أن كاتباً سورياً دافع عن سلمان رشدي بحماسة منقطعة النظير، وأن هذا الكاتب ذاته انحاز لثورة السوريين في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حين انحاز معظم «العلمانيين» إلى الاستبداد خوفاً من الإسلام السياسي.
هذا الانحياز الأخلاقي إلى الحرية هو الدور المأمول من المثقفين، الانحياز الذي تشكل أعمال صادق جلال العظم أنموذجاً له.
——————-
عديّ الزعبي