ينوس صادق العظم، ظاهرياً، بين صفتين: الأستاذ الجامعي، الذي درس طويلاً في جامعة دمشق، و«مثقف الشأن العام»، الذي قرأ بثقافته القضايا الاجتماعية والسياسية. وهو في هذه القراءة مثقف مختص، يقارب الشأن العام بمقولات نظرية، بعيدة عن التجريد والعموميات الإيديولوجية، ومثقف غير مختص، بالمعنى الأكاديمي الفقير، يتوجّه إلى المجتمع لا إلى تلاميذ الجامعة. مايز، مبكراً، بين الثقافة – المهنة، التي تضعه مع غيره من الأساتذة الجامعيين، والثقافة – الرسالة التي تشدّه إلى «قارئ عام» ينتظر إجابات مختلفة، مارس حياته، داخل الثقافة وخارجها، من وجهة نظر الاختلاف، التي أقصته، كلياً، عن الثقافة المسيطرة، وعن نسق تقليدي من المثقفين»، ائتلف مع المألوف والأحكام الجاهزة. ولعل هذا الاختلاف، الذي لازم حياته كلها، هو ما يهمش «الأستاذ الجامعي» فيه، ويوسّع «تمرده الثقافي» توسيعاً غير مسبوق.
1ـ المثقف المختلف
يمكن بالركون إلى كلمة «ظاهرياً» المشار إليها، أن تقرن بصادق صفات متعددة: «فهو المثقف العقلاني، الذي يرى الوقائع الاجتماعية في الأسباب الداخلية والخارجية التي أنتجتها، فلا وجود لواقعة اجتماعية تستعصي على التفسير، وهو المثقف التنويري الذي يستنطق في الإنسان إمكانياته الفكرية والعملية، وهو العلماني الحاسم الذي يفصل بين السبب الاجتماعي و«المجال الديني»، مثلما أنه المثقف الدنيوي، بلغة إدوارد سعيد، المشغول بقضايا الدنيا لا بقضايا السماء، بدءاً بسؤال السياسة، الذي يغلب غموضه وضوحه، وصولاً إلى دلالة «الهزيمة»، التي تأمل وجوهها تأملاً متواتراً. وعلى الرغم من تكاثر الصفات، وهي صحيحة أو قريبة من الصحة، فإنها قد تختصر جميعاً في صفة: المثقف الحر، الذي بنى خطابه الفكري من تجاربه النقدية، معترفاً بماركس وكانط والموروث التنويري بعامة، ومعترفاً أولاً بذاته المفكرة، التي لا تأتلف مع الوصايا الخارجية، سلطوية كانت أم كان حظها من السلطة قليلاً. فعمله في الجامعة، وهي من مؤسسات الدولة، لم يضع في كتاباته بعداً تسويغياً أو تبريرياُ، وماركسيته المعلنة لم تأخذ به يوماً إلى أرض «الدوغمائية المتحزبة»، ولم تمنعه ليبراليته، بالمعنى النسبي، عن نقد وجوه السلب في «نمط الإنتاج الرأسمالي».
جعلت صفات صادق العظم، الخارجة عن القاعدة، والغريبة عن المسيطر، من كتاباته وقائع اجتماعية، تفيض على أسئلته المحددة، وبسبب الفكر الحر الذي أنتجها، وكذلك استقبالها من جمهور زهد بالتقليدي وينتظر جديداً فكريا. فقد كان من المألوف أن يكتب الأستاذ الجامعي «كراساً» يقرّره على تلاميذه، أو أن يقدم «الكاتب الحزبي» مساهمة تعرّف بها، سلفاً، حزبيتْها، أو أن يصرّح كاتب السلطة بأفكار لا يحتاجها أحد… على خلاف هذا كان صادق العظم يصطحب فكره الحر، في مجتمع عربي يضيق بالحرية، ويتحزب لمنهج اشتقّه من معارفه، ولا يلتفت إلى ثنائية: المسموح والممنوع، أجاءت من السلطة أم من المجتمع، لا يسترضي ولا يراضي، ولا يتزلّف ولا يجاري، ويوكل إلى ذاته قول ما لا يريد الآخرون قوله، ولا يستطيعون قوله حتى لو أرادوا… ولهذا كانت تأخذ كتاباته صفة «الوقائع الاجتماعية»، التي يدور حولها اتفاق واختلاف، ونفور وتحبيذ، معلنة، في الحالين، عن اجتهاد يثير الحوار.
تكشّف فكره الحر في كتابه الشهير: «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، الذي واجه فكراً إيديولوجياً سلطوياً، قوامه التسويغ، في لحظة أولى، والتزوير والتلفيق، في لحظة ثانية، وقوامه الحقيقي الاحتفاء بالركود الفكري والاجتماعي، الذي يعيد إنتاج ثنائية القامع والمقموع… لم يقمع صادق فكره ولم يعترف بهؤلاء الذين يقمعون فكرهم، وسار مع منهج نقدي قرأ هزيمة حزيران 1967، وقرأ لاحقاً أمراض المقاومة الفلسطينية في سياق عربي جديد «أطلقته هزيمة حزيران» التي تحوّلت إلى هزائم.
2ـ ملامح المثقف الحديث
آثر صادق العظم أن يمتثل إلى قانون تقرّه ذات حرّة، عيّنت قضاياه الفكرية وأشكال معالجتها. ولهذا بدا مغايراً «للكاتب» الذي يمتثل تاريخياً، إلى السلطة ويرى في الكتابة فعلاً يؤمن الراحة و«النفوذ الاجتماعي». ولعل الفرق بين كاتب مرجعه من خارجه و«عامل في الثقافة» مرجعه داخله، هو الذي يحدّد معنى المثقف. فعلى خلاف الكاتب، الذي يحيل على التقليدي والقديم والاتباعي، فإن المثقف من ملامح الأزمنة الحديثة، التي أعطت الثقافة والسياسة صياغة نقدية، تنتسب ممارسة صادق الثقافية، نظرياً، إلى فضاء تتحرر فيه الثقافة السياسية وتنتسب، عملياً، إلى أفق اجتماعي متحرر يعترف بحق الإنسان في الكلام والتعبير. وهذا النزوع هو الذي أملى عليه مبكراً أن يضع دراسة ممتازة عن الفيلسوف الألماني كانط، الذي أعطى التنوير صياغة فلسفية، وحّد فيها بين الإنسان واستعمال العقل بشكل نقدي. قاده هذا النزوع إلى شكل من «المعالجة العقلية» لم تألفه السلطات الفكرية المسيطرة، أكان ذلك في حقل السلطة للسياسة، أم في مواقفها «المدرسية» من الدين وتصور العالم بشكل عام.
حايثت ممارسة صادق العظم الثقافية، بلغة معنية، أو ممارسة الفلسفة بشكل عملي، بلغة أخرى، مقولات «نظرية» استمدها من «كانط» ومن تجاربه الحياتية، وهو «المثقف العملي»، الذي يقرأ الظواهر في سببيتها الاجتماعية، بعيداً عن النظر القدري، الذي يرمي بالتاريخ وبالسببية الاجتماعية جانباً. أعلن في مقولاته عن أولوية العقل على الوجود، إذ في الفعل العقلي ما يوسع مكان الإنسان وزمانه، وأن الممكن الذي يراه العقل الحر قابل للتحقق عملياً، أكان ذلك في حقل العلم الطبيعي، أم في حقل الممارسات الاجتماعية. ولعل أولوية العقل الفاعل على الوجود الاجتماعي هي التي أملت على كتابات الدكتور العظم، في أشكالها المتنوعة والمتفرقة، أن تتناول «الكل الاجتماعي»، من حيث هو نظام مترابط، وأن تظهر أن ما يبدو متقطعا وموزعاً على السياسة والتعليم والشأن الاقتصادي يتحوّل في المنهج العقلي إلى كل موّحد، لا جملة ظواهر متراكمة. والأساسي في كل هذا عالم يرى بعين الإنسان المقتنع بالتحرر الذاتي للفكر، وبإمكانيات الفكر المتحرر أن ينتج آثاراً عملية.
لم يكن صادق يميل، في فترة امتازت بتعويم الخطاب السياسي، إلى التصريح بخطاب سياسي مباشر، فقد كان ذلك مهنة «عطّاري الفكر والسياسة»، ذلك أنه أوكل إلى كتاباته وظيفة أكثر عمقاً وطموحاً و«خطراً»، بلغة طه حسين، تتمثل في إيقاظ العقل وتسريع يقظته، وذلك في مجتمع عربي يميل إلى الركود والعطالة، على مستوى النظر والعمل معاً. أدرج هذا القصد التنويري في كتاباته بعداً إشكالياً، اختصره «العقل الضعيف» في «استعراضية خفيفة»، تأخذ بيد صاحبها إلى الشهرة والنجومية، بينما كان يمثّل فعلياً «واقعة اجتماعية»، مطلوبة فكرياً وسياسياً، ذلك أن على القول التجريدي، الذي لم يألفه «الجمهور» أن يكون عالي الصوت إلى تخوم الضجيج، كي لا يضيع بين أصوات كثيرة، ترتاح إلى اللغة الجاهزة وتطمئن إلى «تربيع الدائرة». كان صادق وهو يرفع صوته عالياً يمتثل إلى «قانون أخلاقي» يضع الفكر النقدي فوق حسبان الفرد المتحرر الذي يقول به.
في ممارسته الفلسفية المختصة بقضايا الشأن العام، بدأ صادق العظم موحداً، أفكاره تعكس قضايا مجتمعه، ومنهجه في تناول القضايا يعكس أفكاره. أراد أن يكون «المثقف النقدي» بلا حسبان، يقصد «الصحيح» ولا ينتظر مكافأة، باستثناء ما يأتي به خيار فكري شجاع، تنكّب عنه الكثيرون. ولهذا كان بعيداً عمّا يمكن أن يدعى: المثقف الجماهيري، على اعتبار أن الجماهيرية تجهض الفكر وتمنعه عن الارتقاء، ولم يشأ أن يكون ذلك «المثقف الشعبوي» الذي يطلق أفكاراً تعيد إنتاج العطالة والركود. قصد المفكر السوري إلى أمرين: الإعلان عن اتساق خطابه التنويري، الذي يعالج التجهيل والمنظور الظلامي بأدوات تنويرية أو الإعلان، بشكل أدق، عن اتساق الفكر التنويري، في فضاء ثقافي عربي ملتبس يعطي «للتلفيق التنويري» مكاناَ واسعاً. وتأكيد، وهنا الأمر الثاني، أن المفكر النقدي يعيش في زمنه ويحاور قضاياه ناظراً، ضمناً، إلى مستقبل مغاير لا تعترف به سلطات متعددة ترى حاضرها سرمدياً، لا يقبل بالحذف أو بالإضافة.
تختصر المسميات التي يمكن أن تطلق على صادق العظم في مسمّى وحيد: المفكر التنويري المتسق الذي تترجمه اهتماماته الفكرية اليومية إلى صفة مجاورة هي: المثقف (بالألف واللام) البعيد عن مفردة المثقف في استعمالاتها الدارجة الطافحة بالاستسهال: لم يرتض أن يكون مثقفاً مؤسساتياً، وحين عمل في مؤسسات حافظ على تكامله الفكري والأخلاقي، وأدرك أن عمله الفكري نقدي بامتياز، يتمحور حول مبادئ أساسية مرجعها «الهنا – الآن»، على اعتبار أن الحاضر هو ما انتهى إليه الماضي، وهو الزمن الذي يبدأ منه المستقبل. أدرك مبكراً أن التراث لا يقصد لذاته، فلا تراث إن لم يرهّنه الحاضر ويترهن به، وأن للقومية مجتمعها المدني، الذي تصدر مدنيّته، عن الحرية التي يعيشها.
ولأنه مثقف حديث كان يقارن بين المجتمعات الإنسانية ويرى الحداثي في كونيتّه، ولا يفصل بين تقدم المجتمعات وتقدمها العلمي (انظر كتابه الهام: «دفاعاً عن المادية والتاريخ»). ولهذا قرأ «هزيمة حزيران» بنظر مختلف عن غيره، وقبل من الماركسية «علميتّها»: وترك إيديولوجيتها المبسطة لـ:«دراويش الثورة». وواقع الأمر أنه كان قريباً، في استراتيجيته الكتابية من فكرة «الجمهور القارئ»، لا مما دعته الإيديولوجيا السائرة «بالطبقة الثورية»، ذلك أنه كان يسعى إلى «ما يمكن تحويله»، بعيداً عن «ثبات فكري مبارك»، يقول بالتنوير ويمارس نقائضه، فالثبات لا يحتاج إلى الفكر والمفكرين.
اندرج صادق في مشروع فكري يقرأ الظواهر الاجتماعية في سببيتها الموضوعية، إذ للوعي الديني الزائف أسبابه، وإذ للفقر الفكري في «المقاومة الفلسطينية» أسبابه ونتائجه وإذ «للحقبة النفطية» التي جاءت بكيسنجر و»السلام الزائف» مصادرها وآثارها، وإذ في «تكفير الإبداع الأدبي» نظر اتباعي، يرفض الجديد الذي يقترحه الأدب، قبل أن يرفض ما يدعى بالأدب. وسواء قبل صادق أو لم يقبل الشعار القائل: «لا ثورة من دون نظرية ثورية»، وهو تصور ذهني على أية حال (يعلي من شأن الفكر ويهمش الممارسة)، فقد سعى إلى بناء منظومة من المفاهيم النقدية تقلق في الإنسان تفكيره: العقل، الإنسان الذي يحرر عقله ويتحرّر به، المقارنة بين العقل الطليق والعقل المعتقل، التراكم النقدي الذي يضع العقل على عتبة جديدة، التجرؤ على البديهي والمسيطر، مواجهة الفكر المستقر بمعارف جديدة، وتحويل السجال الفكري إلى مقاربة معرفية، حيث السجال لا تسوّغه البلاغة الموروثة بل الوقائع المستجدة…
إذ كان للإنسان الحقيقي أسلوب خاص به، يتجلّى في النظر والعمل والكتابة، فقد كان لصادق أسلوبه، بقدر ما كان إنساناً ـ أسلوباً، لا يختصر إلا في ذاته. فله ذلك المظهر البسيط، الذي يتاخم التقشف واللامبالاة، ولغته السجالية الحادة التي لا تساوم، وله وضوحه الفكري الذي لا يحتجب وراء لغة معقدة أو مراوغة. وبالمحصلة فإن أسلوبه يتضمن فكره وكتاباته وردود أفعاله ومحاضراته، وتلك الضحكة الساخرة العالية الصوت التي تقتصد الكلام. بما يكون في الحديث عن العلاقة المتبادل بين صادق وأسلوبه ما يذكّر باجتهادات معينة عن الثقافات وأساليبها تقول: كل ثقافة تمتلك أسلوباً خاصاً بها، بقدر ما أن لكل أسلوب ثقافة تتعرَف به. وأسلوب صادق، في علاقتيه، يقوم على وحدة العقل والوضوح، التي تقرأ المجرد والملموس في تعييناتهما المحددة.
عثر مبكراً على أناه المفكرة، واحتفى «معها» بمبدأ الوضوح، الذي يستدعي الأسئلة ولا يتركها بلا إجابات، مقترباً من فكرة تقول: إن الأنا التي حققت استقلالها الذاتي تعيش في حقيقة مستمرة، علماً أن العقل النقدي لا يرحب كثيراً بما يدعى: الحقيقة.
3 ـ كلمات ناقصة
في مسار صادق العظم، على مستوى النظر والممارسة، ما جعل منه مثقفاً نقدياً عربياً بامتياز. فعلى خلاف نمط من «الأكاديميين» يفصل بين المعرفة والحياة الاجتماعية، آثر هذا الأستاذ الجامعي أن يقرأ، نقدياً، الظواهر السلبية الأساسية في المجتمع العربي، مساوياً بين النقد والمعرفة الموضوعية، ومعتبراً النقد أداة لمواجهة الوعي الزائف. فبعد أن نقد الأفكار السلطوية التي سوّغت هزيمة 1967، في كتابه: «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، قدّم كتابه الرائد «نقد الفكر الديني»، الذي أطلق ضده أصواتاً تكفيرية دفعت به إلى «المحاكمة»، دون أن يساوم على خياره الفكري العقلاني، الذي اتسم باتساق واستمرارية يقتربان من الندرة.
وإلى جانب دفاعه الحاسم عن العقلانية وحرية الرأي والتعبير أعطى صادق العظم دراسة علمية نموذجية عن الصهيونية عنوانها «الصهيونية والصراع الطبقي»، بقدر ما اقتفى آثار النزوع الانهزامي السلطوي العربي في دراسته عن «السلام البائس». ومع أنه اندرج، في فترة من حياته، في العمل الوطني الفلسطيني، فإن هذا الخيار لم يمنعه عن نقد «انحرافات العمل الفلسطيني» في سبعينات القرن الماضي، وما جاورها متكئاً في مواقفه كلها عل منظور حداثي لا التباس فيه.
عمل صادق العظم، حال كل مثقف نقدي حقيقي، على قراءة العلاقة بين الفعل السياسي والنظر إلى العالم، ذلك أن النظر السياسي الفقير يفضي إلى لا شيء. ولعل جهده في إنارة هذه العلاقة هو الذي حمله على وضع كتابه الكبير: «دفاعاً عن المادية والتاريخ»، الذي واجه به سياقاً فكرياً عربياً متداعياً طغت عليه أشكال مختلفة من التلفيق وإهدار الحقائق. عبّر هذا الكتاب، الذي هو علامة فكرية فارقة في زمنه، عن اتساق فكري ـ أخلاقي في ثمانينات القرن الماضي أقرب إلى الندرة، بعيداً عن «آخرين» وضعوا الأفكار في خدمة السياق، وعبثوا بالمبادئ الصغيرة والكبيرة.
ولعل هذا الاتساق، داخل الفكر وخارجه، هو الذي حوّل صادق إلى مثقف وطني من نوع خاص، يقرأ الواقع من وجهة نظر تحويله، مؤكداً الحرية الإنسانية قيمة عليا، ذلك أن مجتمعاً حرم من حريته لا بد أن يسير إلى خرابه.
انفتح صادق على الحياة واشتق منها مواضيعه، التي تضمنت السياسة والفلسفة والأدب والدين والعولمة، محاذراً أن يكون «مثقفاً مختصاً»، يرضي الاختصاص ويجانب الحقيقة، ومحاذراً أكثر «الانغلاق الفقير»، الذي تأمر به جامعات عربية، تحتفي بالانصياع وتناوئ الانعتاق.
———————-
فيصل دراج