الرواية نمط أدبي لا يمكن أن يوجد من فراغ أو عدم حضاري أو إنساني أو تاريخي ، ولأنها عمل مشروط في نشأتها الأدبية باتكائها على استجابة المتلقي مع محركاتها الفكرية والفنية المواكب لسياقها الثقافي ، يجعلها ذلك متميزة في علاقتها العضوية مع واقعها ، وهو الذي أطلق عليه هنري جيمس مفهوم «الكثافة النوعية للرواية»، لتميزها في تأسيس هويتهـا الكتـابية على علاقة النـص الروائي بالواقـع المعـاش وفلسفة الحـياة في مختـلف الأجيال .
لهذا ، فإن من أهم أسباب رواج الرواية ، قدرتها في فنية انقلاب الأوضاع الفكرية في الحياة ، ورصدها لتحول زمني ، يتفرع منه تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية.ديمومتها في ذلك ،حفرها المعرفي المستمر ، بحثا وتنقيبا عن خفايا الزوايا في مجتمعاتـنا الانسانية ، تستـمد استمرارية ذلك من حـراك الزمن والمجتمع .
من هنا ، كانت الرواية الواقعـية أحد فصول السيرة الذاتية لأي مجتمع إنساني ، يحاول الروائي –ابن هذا المجتمع–أن يعرض التجربة كاملة دون مسافات او فواصل زمنية عن أسباب القلق الساكن في مشهد الحياة العامة .
فإذا كان توماس وارتون، يرى أن فضيلة الأدب تكمن في تسجيله المخلص لسمات العصر، والحفاظ على أبرز تمثيل وأفضل تعبير للأخلاق ، فإننا بذلك أمام عرض نظري يخلو تماما من أية خصائص فنية أو منهجية أو تقنية، غابت وراء جماد الواقع وثبات الصورة، تستبعد جمالية الكاتب وفنية وخيال أدوات الكتابة.
ولعل من أهـم أسباب التركيز على الرواية دون غيرها من الفنون الأدبية الأخرى ، عائد إلى لغتها التي تفترض التضمين الشديد ، ذات الدلالة التعبيرية والتأثير على المتلقي ، لدرجة أنها يمكن أن تؤثر في رأيه ، بخلاف اللغة اليومية المباشرة، التي لا تحتمل أية دلالات أو رموز، تجعلها قصيرة المدى ، على عكس اللغة الأدبية للرواية ذات العمر الافتراضي الطويل .
والرواية في الكويت ،بعدما انحصر عمرها في عدة أجيال ، جاءت الألفية الثالثة لتكون الأكثر زخما وحضورا مكثفا ومتجاورا بين الأجيال الروائية مما شكل ازدحـاما ملحوظا في تعدد العـوالم الروائيــة عند كتاب الرواية .
وهو ما يعني تنوع فضاءاتها الروائية ،و اختـلاف المكان عند بعض منها ، إضافة لتعدد وتجاور أجيال الكتابة في عقد واحد من الزمان . من هنا يمكن الاتكاء على توفر مادة مناسبة للتطبيق والمعالجة قد تسمح للتوسع أكثر في تبني عـدة فرضيات واستخـلاص نتائـج عدة مستقبلا .
فالمتابع لمسيرة الرواية العربيـة في الكويت ، سيجد أنها أخذت طورها الجديد مع الألفية الثالثة ، وتشكل معها وعي جديد بفضل التجاور الأدبي بين أجيال عدة في حقبة واحدة ، حيث تشكلت تجارب روائية في إصداراتها الأولى ، متخذة طرقا مختلفة في التعبير عن مقاصد الكتابة الروائية عند كتابها ، توزعت أنماط الرواية فيها على عدة نماذج سردية مختلفة .
ولعل جيل الكتاب الشباب هم الأكثر حظا، في توفر الوسائل المختلفة للتعبير عن كتاباتهم والوعي الذي يمثلون ، وما تطلب ذلك من اشتراط وجود الوعي السردي القادر في مناقشة قضاياه ، بدوره سيجعل النقد يتحول هو الآخر إلى مفهوم أشمل منه فنيا إلى الأبعد فكريا بحسب تناول الرواية لقضايا أعمق من قبل الكاتب وكيفية ترويضها لمقصده ، بعيدا عن أي ترهل أو استفاضة هامشية تحتسب على السرد عنـوة ، مما قد تفقد النص بريقه الروائي المفترض .
وهنا في هذه الورقة سنركز على تجربتين روائيتين ، كنموذجين فقط ضمن المشهد الروائي للكتاب الشباب ، نحاول تقديمهما كمثالين عن الوعي السردي لديهم .
لهذا اخترنا دون حصرية مقصودة ، رواية (كبرت ونسيت أن أنسى) للروائية بثينة العيسى ورواية (لا تقصص رؤياك) للروائي عبدالوهاب الحمادي .
الماضي وحش الحاضر
كنت قد طرحت سابقا سؤالا حول رواية (كبرت ونسيت أن أنسى)(1) :
هل النص الروائي مجرد وعاء سردي يحتوي تقنياته المجردة (الحدث/الشخصية / الزمن / المكان) ، أم أنه كائن حي جسده الكتابة التي تعتاش على أعضاء الكاتب المعرفية وأوعيته الأدبية ، لتشكل أنسجة هذا الجسد عبر خبرته – الكاتب – اللغوية ؟
نجيب بما قاله باختين «الرواية هي النوع الوحيد الذي لا يزال طور التكوين والنوع الوحيد الذي لم يكتمل بعد». على اعتبار أن الرواية سليلة ووريثة الملحمة ، وهي القصيدة الطويلة . ديدنها – الرواية – في ذلك اللغة . فما مكانة اللغة في الرواية ؟
«يصحو الوحش .. يستيقظ وحشي الداخلي .. الساكن في اللغة» . هكذا جاءت اللغة في رواية (رجيم الكلام ) للأديبة القديرة فوزية شويش السالم التي اعتمدت في مجملها على وحشي الذاكرة واللغة ، محاولة الخروج عن ما هو مألوف في خط مسار النص الروائي ، على اعتبار أنه – الرواية – بحث في الذاكرة لقراءة الحاضر وغده في خلخلة النظام السائد وقوانينه المستبدة ، ومنها أنظمة (العيب الاجتماعي) التي لا تزال منتصبة باسم الدين والعادات !
في روايتها (كبرت ونسيت أن أنسى) ، تنطلق الروائية بثينة العيسى من جملة شعبية عامة (تكبرين وتنسين) فربطتها مع حال بطلة العمل ( فاطمة) التي نسجت من هذه الجملة بوحا ذاتيا برعاية الكاتبة ، متجولة بين ردهات مجتمع واقعي / تقليدي في عاداته ، مجوقلة إلى سماء عالية باللغة والحرية . وهو ما شف عنه السرد في بدايته (كبرتُ..) ، لتلخص لنا فاطمة حياتها سريعا كإغراء للدخول ومعرفة حكايتها التي كتبتها ، والآن ترويها .
الملاحظ أن فاطمة هنا قد لا تختلف كثيرا عن فرح في (ارتطام لم يسمع له دوي ) أو سعاد في (سعار) أو أسماء في (عروس المطر) أو موضي في ( تحت أقدام الأمهات) أو عائشة في (عائشة تنزل إلى العالم السفلي) ، فيكاد كلهن يجتمعن في ذات واحدة ، ولا أقول مكررة لاختلاف القص بينهن . ولعل هذا الرابط السري / السردي بينهن عائد إلى الوعي المشترك برصد انكسارات الذات الأنثوية باختلاف أزمنة / أمكنة الحدث الروائي . فتوحدت اللغة بينهن كملاذ للبوح ، ومعاذ بها عن الواقع .
فالرواية الحالية ، لم تكن فقط صراعا بين فاطمة وأخيها صقر، بل بينها كامرأة والمجتمع ، وهو ما يعني إعادة انتاج الماضي بكل تراكماته وثوابته بصور معاصرة ، تعيد هذا الصراع مجددا إلى الحضور سرديا . فصقر يلعب دور الرجل المحافظ كما في روايات الأديبة ليلى العثمان وفوزية شويش السالم ، الذي يرفض بصورة مطلقة أية فرصة للمرأة تحت ظله أن تمارس حقها في البحث عن الهوية المستقلة ككيان إنساني له .
ربما يختلف المكان الذي كان ، عن المكان اليوم ، حيث المدينة ، الضواحي ، الشوارع ، المظاهر ، المطاعم ، المتاجر وغيرها ، وبرغم تعدد الجغرافيا ، إلا أن قوانين البيت القديم تجسدت في بيت صقر . والسرداب الذي عاشت به فاطمة ، بعيدة / منفية عن الأعلى حيث السماء / الفضاء ، أشبه بالوأد على قيد الحياة ، حيث رميت بالحفرة بدلا من أمها التي سبقت أبيها ، فنزلت ذاتها نهائيا إلى القبر بعد رحيل الآخر ، وبعد أن أحيل أمرها إلى وصاية أخيها غير الشقيق (صقر) الذي بدأت عيناه في اقتناصها والحد من طيرانها . وهو ما عبرت عنها :
«سقطت في الحفرة ، والحفرة التي سقطت فيها موجودة في داخلي ، الحفرة هي أنا ، السقوط هو أنا ، السقوط لا ينتهي» .(2)
وبلغة الوصف سردت الفرق بين المكانين بالنسبة لهذه «الأنا». الأول حضن الوالدين ، والآخر كفن الأخ الوصي:
« شرعت أنظر . السجاد زيتي داكن ، يخدش الروح من قاع القدم ، وعلى السقف فوق رأسي بقع صفراء تتسع في البياض العدمي ، كانت وحدة التكييف تئزّ بإلحاح ، أطفئها فتتعفن الغرفة في خمس دقائق ، ولأنه السرداب ، فهو بلا نوافذ ، لا يطل إلا على قبحه الداخلي ، ولا يعرف من العالم إلا تأملاته النابتة من أحراش الظلمة . الهواء مثقل برائحة النفثالين ، الكرات البيضاء مرشوشة هنا وهناك ، وهو الأمر الذي يعني أنني لم أكن وحدي ، كنت دخيلة على يوتوبيا القوارض ، أجيال وأجيال من الصراصير والفئران دشنت حضارات وحضارات هنا قبل أن آتي ، بقرع نعلي وتشنجات رعبي ، لأزاحمها المكان» .(3)
ليمارس عليها الأخ الأكبر قوانين جمهوريته المحافظة ، تنفيذا لدوره كوصي عليها ، مما اجتمع في شخصيته من ذرائع الشريعة التي تبيح له ما يحرمه على غيره ، ويلقنها كل ما يجده واجبا وحقا معا ، اجتماعيا لا إنسانيا ، مغفلا أن حق الإنسان في الاختيار بمن يخالط ويصاحب هو حقه في تكوينه شخصيته الاجتماعية والإنسانية عموما:
« كنت طفلة في نمو النضج ، توشك أنوثتها على الاكتمال ، ولذا ينبغي عليه – وهو الأخ الأكبر المسلط على حياتي مثل لعنة – أن يحضرني للقيام بدوري «السماوي» و«المقدس» في هذا العالم . أن يجعل مني زوجة صالحة ، ودودا ولودا ، تنجب المزيد والمزيد من الأطفال – بنيات يرتدين الحجاب منذ الرابعة ويتبعنني كالكتاكيت المصبوغة ، وأولاد يذهبون إلى مخيمات «براعم الإيمان» و«الفانوس المنير»، يتباكون على سقوط الأندلس ، يفتحون الفتوحات الوهمية وينتظرون تلك اللحظة – التي ستكون وبالا على العالم – عندما تؤول إليهم السلطة لكي يمعنوا في تدمير كل شيء» .(4)
ليكون المكان فرصة للعزلة، لكون الذات في اقصى لحظات عزلتها تظل نموذجا اجتماعيا لا يمكنه أن يصوغ انفعالاته المتنوعة بعيدا عنالصور التي يبلورها المجتمع لهذه الانفعالات. «فالأنا هي النموذج لكلا لأنات الممكنة. فما يعود إلى الذاتيه وحالات اجتماعية، وليس مضمونا في نسخة واحدة» .(5)
حتى في محاولة الخروج من السرداب ، ثمة آخر حبس ذات فاطمة عندما زوّجها صقر من صديقه فارس، الذي يشبه ولكن بدرجات أقل ، فوجدت فاطمة مرغمة في هذا القران الباهت ، فسحة لكي تتنفس بل وتتحدى صقر في شخص فارس بما ما أوتيت من لغة ومعرفة :
« كان علي أن أتعلم – أهم من أي شيء – البحث عن آراء شرعية متعددة ومختلفة ومتضاربة ، حتى صرت ناشطة في مجال الفتاوى ، مجال البحث عن فُرج ونوافذ وثقوب للنفاذ إلى وجهات نظر تخالف السائد. كلما قال لي الشيء الفلاني حرام أقول له العالم الفلاني له وجهة نظر أخرى ، طوال الساعات كنت أجادله وأمتحن معرفته وأحاول أن أجبره على الاعتراف بوجود الاختلاف ، كنتُ أفشل» . (6)
الآخر لغة
وتستمر الأنا هنا في محاولات الخروج إلى بقية الأنوات المشكلة لهذا الكيان الاجتماعي ، حتى وجدت في الشعر ، ملاذها وحريتها ولغتها التي عوّضتها عن فترات اليتم والقمع ، وتعززت علاقتها به بعد تعرفها على زميلها بالجامعة عصام .لنلاحظ أن عصام وفارس لم يكونا سوى وسيطين متناقضين بين فاطمة وعالميها ، تمكنت الكاتبة بواسطتهما أن تسترسل بسرد الوعي . فعصام كانت رسائله المتبادلة مع فاطمة وسيلة الكاتبة لفتح كوة سقف سرداب جمهورية الأخ الأكبر إلى العالم العلوي ، وفارس كان نقطة اتصال فاطمة بالسرداب بعدما صعدت إلى فوق بعد خروجها المفاجئ من عش الزوجية الشكلية والذي تصفه بأنه مجرد سرداب / سجن آخر لم يحررها من الأول . وكأننا نعيش تبادل أدوار بين فاطمة الصاعدة هنا ، وعائشة التي نزلت إلى العالم السفلي !
لتصبح اللغة لفاطمة نظامها السري ، الدفاعي والهجومي ، في الحوار مع الآخر ، فكانت حصنها ومكمن سرها خارج وصايته – الآخر – كما تسرد في فصل ( أمي بالتبني ) : « كنت آخذ الكلمة وأجردها ، أخلعها من السياق ، أتنكر للتاريخ والمكان الذي جاءت منه ، أجعلها شفافة وعارية ويتيمة مثلي ، ثم أدشن منها عالما ، كانت اللغة هي خبزي ومائي ، ملمس كف أمي والصدر الشاسع لأبي .
كانت اللغة هي كل شيء ، وأنا لهذا الـ «كل شيء» كتبت ..» .(7)
وهنا الوحش الداخلي الذي شكل وحش التمرد لدى فاطمة ، ليخرجها من سردابها / سجنها إلى العالم العلوي لأول مرة في فصل (القصيدة ما تزال في فمي) ، فوجدت في الشعر أيضا ضالتها الحرية / السخرية ، الحرية في أن تبيح لذاتها ما حرمت منه ، والسخرية من الواقع البائس الذي فرض عليها ، كما جاء في إحدى رسائلها إلى عصام :
« أخي ما يزال يلعن السيارة ويمتدح البعير
لا أدري أينا على حق .
نعم ، لقد كتبت هكذا دائما ،
كلما ضاقت الزنزانة اتسعت القصيدة» .(8)
لتجد فاطمة الفرصة في اللحظة المواربة ، لتهرب من سحن الزوجية ، وذلك الفصل المعنون بـ(قطة شوارع) الذي حملت عناوينه سرد الفرار من السجون كلها /المجتمع ، حيث يشهد المكان على قبورها الكثيرة :
«منذ المرة الأولى وقبوري الصغيرة تملأ المكان ، إنني أتفتت ويدفن بعضي بعضه ، ولي أعضاء غير مرئية مطمورة في الحدائق العامة والشواطئ والأصص المهجورة . قبوري كثيرة جدا ، أكثر من اعضائي وأيام عمري ، وأكثر بكثير من جسدي . لقد تعرضت للوأد بشكل منهجي ، وعندما انتشلت نفسي من الحفرة وخرجت .. اكتشفت بأنني لم اعد قادرة على السعادة . لقد تم تفريغي من قدرتي على الحب ، والمنح ، والحياة . لقد جففوا أنوثتي . إنني لا شيء» .(9)
لتقول في موقع آخر : «علي أن انتصر لي ! أن أهرب من السرداب !» .(10)
وبهذا فإن الذات هنا انتصرت بفعل واسطة مهمة جدا ، وجدتها فاطمة وسيلة لتحقيق غايتها في الخروج من السرداب ، ونعني الشعر ، وهو ما ختمت به الرواية :
«الحكاية المعتادة : رجل وامرأة ، كثير من الذاكرة وقليل من النسيان . باستثناء أن البطل في الحكاية ليس الرجل ولا المرأة ، ولا الذاكرة ولا النسيان . إنه الشعر» .
لا تقصص رؤياك(11) : السيرة المحرمة
في روايته الأولى( الطير الأبابيل ) الصادرة عن دار مدارك عام 2012 ، دارت أحداثها حول بطل الرواية الذي عائد إلى الولايات المتحدة ، حيث ما تبقى من فترة تحصيل المعرفة ، فلا غرابة أن يصعد الطائرة بطل الرواية متجها لإنجاز تحصيله العلمي ، فينزل منها في أرض أخرى غير بعيدة تسمى «غوانتنامو » !
لهذا ختم الرواية بجملة «لم تنته القصة بعد..» لأربطها بما ذكره في بدايتها :
«كل قصة تنتظر أختها أن تفرغ فتبدأ هي فتروي نهارات فرح ملونة بالبهجة ورائحة المرح والطرقات المبللة بالسعادة ، وليال صامتة ذات مصابيح من الماس لا نهاية لها . عندما يقفل راجعا إلى الوطن ، سيعود « باش» مهندس بحجم الدنيا ، ينتظره فصل جديد ليكتبه .. أو يكتبه ».
( الطير الأبابيل : ص11 ).
يبدو أن القص ما يزال مستمرا من الرواية الأولى ، في عودة البطل إلى الوطن ، ولكن في شكل آخر وذات مختلفة ، ليجد أرضا أخرى تدور عليها أحداث مختلفة ، ربما يتكرر بعضها في أراض / أوطان / مجتمعات ثانية ، إلا أن المكان كان مسمى فعلا ، بواقعه الملموس وتاريخه المتجسد في شخصيات الرواية .
في رواية الثانية (لاتقصص رؤياك ) ينطلق الروائي عبدالوهاب الحمادي من عنوانها المتناص مع الآية القرآنية في سورة يوسف ، ولسنا في محل البحث عن التناص بين الرواية والنص القرآني ، بقدر ما نحاول رسم معالم المجتمع والمكان الذي جاء واقعيا تماما بكل أحداثه ، مع تخييل مفترض من قبل الروائي . حيث اعتمد الحمادي في الرواية على مسألة مهمة ، في أن تكون سيرة للمكان ، بما يدمج الواقع بالتخييل ، بما يحاكي المكان ويحلّ عقده ويسبر أعماقه ويفكك طبقاته عبر حلم أو رؤية ما لأحد شخصيات العمل – بسام – على اعتبار أن « اللاوعي يبعث إلى الوعي بكل الأشياء المهزوزة ، المبتورة ، المخاوف ، والصور المضللة سواء أكان ذلك في الحلم أو في وضح النهار»(12).
ليأتي العمل الروائي هنا متجاوزا للأنا وأوهامها الفردية، مما يخلق من الذات الساردة نفسها حالة وعي جماعي بالاستناد فقط إلى تجربة مخصوصة لا امتداد لها خارج الدائرة الضيقة لفرد ما .
وهنا نتساءل.. هل اشتغل الكاتب على سرداب آخر مجهول ، أم وجد ضالته في مكان ما في الواقع ؟
المكان الكويت ، المُرهق بالطبقات وزحمة الوسائل المؤدية لمختلف الغايات ، والناس من مختلف الأصول ، الثقافات والظروف مما شكلت طبقية اجتماعية ، برزت خلال أهمية النظام العائلي ، حيث حضورها كمتنفذ في كواليس الإدارات ، احتكار الصفقات ، تعتريها كافة الأشكال المعلبة والمطوية على كم هائل من الأسرار ، بما يشكل لنا المشهد العام للمكان ، وما يفصّل عنه في سرده لاحقا لا يقل سخرية عن جديته ، لتبدأ الرواية بالشخصية الرئيسية فيها ( بسام ) الذي طارده حلمٌ ما ، بحث عن تفسيره ، فيبدأ السرد عن المكان بتفصيل دقيق ، محتشدا بكل ملامح من فيه ، متضمنا بعضا من معالم تاريخه وأطيافا عابرة من عوالمه:
« ما كتبته يمثل يوما نموذجيا من أيامي لأعوام خلت ، عدا عطلة نهاية الأسبوع التي تكون في الشاليه أو في يختي الصغير . أتوقف وسط البحر وراء سوق شرق ، أنظر إلى مباني المدينة وسأروي هذه التفاصيل في محلها . أيام تمر بصخب كتلك الدراجات النارية التي تملأ الدنيا ضجيجا ثم تختفي وتُنسى» .(13)
الآخر حلما بألف وجه
تبدأ الرواية فعليا بقصة الحلم ، ومحاولات بسام في تأويله ولقائه بالشخصيات المعروفة المنتمية لمختلف المشارب في المجتمع ، مفسر الأحلام الشيخ عبداللطيف الغسال الذي يستخدم طاقته الايمانية لتفسيره، والدكتور النفساني المحتشد بأفكار ثورية وعلمية، بما يشف عن صراع متجدد بين الدين والعلم في تجاذب طرف ضحية الحلم كل بحسب حُججه .
ولم يكن الحلم سوى حيلة سردية استغلها الحمادي ، لكي يكشف لنا ثقافة المجتمع ، وما ارتبط بعالم الرؤيا والأحلام ، واستغلال البعض لما يملكه من قدرات تؤهله ليكون بطل الشباك والجماهير الغافلة بكل اقتدار . فبعد أن أخبره بسام بحلمه ،سأله بعض الأسئلة الشخصية ، ليعلق بعدها مظهرا قدرة الله فيه :
«الناس يجهلون أمورا كثيرة . معبّر الرؤى الذي منحه الله هذه الهبة العظيمة يجب أن يسأل ويتقصى من صاحب الرؤيا ، ولا يخبر فورا أي شيء يعنّ في باله» . (14)
وفي هذا الفصل لم تغب السخرية من قبل السارد (بسام) من هيئة الشيخ ، وطريقة حديثه معه ، خاصة بعدما أنهى كلامه عن قصص الأنبياء والأحلام ، ليصفه :
« أشاح بوجهه شمالا ، بعد أن أدخل راس سبابته في فمه ، التقط شيئا ورما بعيدا ، ربما يتبرأ من مقولته فقد رأيت كبار السن في قرى السعودية يفعلونها عندما يحدّثون عن أيام الطيش أو عند خوضهم في سيرة ما « . 15
إلا أن السرد الخاص بالشيخ الغسال ، كشف باطنه المتمصلح على خلاف ظاهره المصلح في مصلحته منبسام :
« منصبه في شركة عمه سيقوي من فرصتي في الاستحواذ على لجنتها الشرعية الوليدة . أعلم أن عمه في جيبي منذ أشهر ، لكن جيبي يسع اثنين وثلاثة واكثر ، فما المانع ؟! «المنافسة بين شركتي الوليدة مستعرة وبين الشركة التي تركتها لشريكي . ظن أنه أقامها بذكائه لا بعلاقاتي ، الآن فرصتي لإثبات غبائه « . 16
إلى جانب هذه الانتهازية ، نجد الحرمان عند الآخرين في أن يمارسوا حياتهم بدلا من قيود المجتمع ، ومنها الأصول – كما هي الألقاب – التي باتت العملة الصعبة للتقارب والمصاهرة والوسيلة لتدرج المناصب ، كما في سرد وكيل النيابة : « يجافيني الرقاد ، أتبع سير حياتي وهو يعرج إلى المنصب الذي ادخر والدي معارفه وعلاقاته حتى قُبلت فيه بتوصية ثمينة قوامها كلمتان : هذا ولدنا ! مع التبريكات أدركت أنني أسير قضبان وظيفة يحرّم على ممارسها نشر أي انتاج أدبي ، فرجعت إلى ملاذي القديم .. منتديات الانترنت ، ورجعت إلى الأسماء المستعارة . « 17
(يتبع البقية بموقع المجلة على الانترنت)
في حين يأتي حلم / سرد يوسف المتمرد على كل شيء ،بالفتاة التي اشتهاها ، زوجة صديقه بسام « نادية « ، ليتصور علاقة ما معها في الحلم ، متسائلا عن الواقع الذي فسد بالشرائع المهترئة المتعلقة بفعل التاريخ المعيب للزواج عند العرب ، والحياة التي أثخنتها التقاليد والعادات حول أهمية الأصول في عملية الزواج بين العوائل بالكثير من الجراح والآلام :
« نفصل أحلامنا عن واقعنا كأنها لا تعنينا ، فقط ، لأن لا أحد يستطيع أن يقتحمها ويعرف في أي أرض نحن عندما ننـام . كـلـكم تبتـعدون عن الحقيقة ، تتجـاهلونها وهي لن تكترث بكم ، لكن ، هل أنتم مخطئون ؟ « . 18
في حين يأتي رأي العلم في الرواية عبر الدكتور النفسي الذي زاره بسام عارضا عليه أحلامه ، ضاربا بالغيبيات بعرض الحائط ، فربط وإياها بمقولات فرويد وغيره ، إلا أن الحديث بين الاثنين اتجه إلى آخر سياسي والوضع المكهرب الذي يعيشه البلد ، وأطياف المجتمع التي باتت سلاح الخصوم السياسيين . وهو ما فسره الدكتور بقوله :
« ما يقوله الناس عبر أحاديثهم مهم والأهم هو ما لا يقولونه « .19وكان أن سبق له أن ربط الحلم بتاريخ الأمم وحروبها وفتوحاتها، وأنها ليست مقتصرة على الإنسان بمفرده :
« الأحلام عالم كبير لا أول له ولا آخر ، ومنذ فجر التاريخ اكتسب أهمية قصوى ، فلا جيش يتحرك إلا وفي طليعته كتيبة من مفسري الأحلام « . 20
ويستمر الحلم متنفسا لبعض سرد المكان عبر كائناته / شخصياته ولكل منها حلمها / رؤاها التي لم يجد لها تجسيدا على أرض الواقع ، ولا تفسيرا لها وهي في مهد الوهم . ونلاحظ أن العناوين جاءت بأسماء الساردين في العمل :(الشيخ الغسال ، يوسف ، وكيل النيابة ، نادية زوجة بسام ، الدكتور النفسي ، نواف ، مبارك ، وشخصيات ثانوية في السرد كالمحقق ، البنغالي والمدعو علي .ش ، و(ن) التي تشاركت مع بسام سردا وحبا سريا ، واكتفى برمز عنها ، باستثناء بسام حيث لم تعنون الفصول الساردة بصوته باسمه كالبقية ، بل بالأرقام كدليل لترتيب سرده الأساسي في الرواية .
كما أن صور المجتمع تمثلت بشخصيات العمل ، كل على حسب وجهة النظر التي يمثلها :
1) بسام : المحكوم باطار اجتماعي يفرض على من فيه العيش داخله وعدم الارتباط مع من هو خارجه ، بما في ذلك الزواج . وبرغم قناعته الطبقية ونظرته العنصرية للآخرين ، إلا أنه وقع ضحية لها بنفس الوقت .
2) الشيخ عبداللطيف الغسال : يمثل البعض المتمصلح من فكرة الغيبيات بيد من هم مثله للتحكم في شؤون العباد ، وجني الفوائد والمصالح تحت عباءة الدين والأمور الشرعة .
3) الدكتور النفسي : المثقف الثوري في إحدى صوره ، غير المتحالف مع عالم الغيبيات وكل ما هو سائد في المجتمع الباحث عن جذوة ما لإشعال
4) وكيل النيابة : يمثل صورة رجل القانون الذي يكون مؤطرا هو الآخر بالقوانين التي يحميها ويطبقها ، في حين تحرمه من حقه في ممارسة الحرية بالقوانين الشخصية في حياته الخاصة .
5) يوسف صديق بسام : يمثل الصديق والعدو في نفس الوقت ، خارج الاطار الاجتماعي الذي يمثل بسام ، يطمع بما لدى غيره من نعم لا يثمنها أو يقدرها ، كما هو طمعه بنادية زوجة بسام ، يشاهد ثروة البلد حق للجميع دون استثناء .
6) نواف :المعارض لأي تهميش لأحد مكونات المجتمع – القبيلة ، الثائر لكرامتها الرافض ، الضحية لغواية / انتقام ما .
7) نادية زوجة بسام : الضحية الأخرى من زواج الطبقات العليا المتكئ على التكافؤ، المهجورة ، الباحثة عن الدفء والتعويض النفسي ، المحبة للغربان / الغرباء خارج الاطار حتى وإن جلبت العار / النحس معها .
8) ن:النون النسوية الأخرى ، وما تمثله من الآخر المجهول / الغواية / الشؤم / التعويض / الفقد / الثروة / السلطة / الهروب / وكل ما يمكن أن يكمل نصف آخر في حياتنا !
بقي أمر أخير أشير إليه ، وهو حضور الروائي – الحمادي- حيث جاء محايدا جدا ، باستثناء التوضيح الذي جاء في آخر الرواية ممهورا باسمه ، كما هي عادة الروائيين عند تتمة عملهم في نهايته ، مما يدلل على حضور الروائي بعد انتهائه من العمل نيابة عن بسام ، موضحا اشكالية العنوان والعمل والنشر ، مشيرا إلى ذلك بما يوهم المتلقي وكأن ثمة حلم واحد تنوعت أطيافه بحسب رؤية كل شخصية له في العمل :
« أغمضت عيني ، ماذا لو كان كل ما مرّ من كتابة ، وشخوص ، بسام ، ن ، يوسف ، وكيل النيابة .. إلخ كلهم مجرد وهم ومحض حلم ، ماذا لو كان ؟!! ليتكم تنبئوني إن كنتم للرؤيا تعبرون « .21
1 بثينة العيسى : كبرت ونسيت أن أنسى ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، الطبعة الثانية 2014
2الرواية ، ص 30
3الرواية ، ص 36
4الرواية ، ص 42
5 سعيد بنكراد : السرد الروائي وتجربة المعني ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى 2008 ، بيروت ، ص 267
6الرواية ، ص 85
7الرواية ، ص 96
8الرواية ، ص 128
9الرواية ، ص 215
10الرواية ، ص 230
11 عبدالوهاب الحمادي : لا تقصص رؤياك ، المرز الثقافي العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى 2014
12 جوزيف كامبل : البطل بألف وجه ، ترجمة حسن صقر ، الطبعة الأولى 2003 ، دار الكلمة للنشر والتوزيع ، سورية ، ص 21
13 لا تقصص رؤياك : ص 16 – 17
14الرواية ، ص 43
15الرواية ، ص 45
16الرواية ، ص 49
17الرواية ، ص 26
18 الرواية ص 53
19الرواية ، ص 120
20الرواية : ص 91
21الرواية ، ص 236
—————
فهد توفيق الهندال