تعددت تعريفات النقاد للراوي وتصوراتهم لماهيته. ورغم تعدد هذه التعريفات، فإنها لا تكاد تختلف كثيرًا حول طبيعة هذه الماهية؛ إذ إن هذا المصطلح يعني في أبسط صوره في النقد الأدبي: «العلاقة بين المؤلف والراوي وموضوع الرواية».
فميشيل ريمون مثلاً يرى – حسب تقنية وجهة النظر- أن الروائي يتموضع بشكل ما في وعي إحدى الشخصيات، ليكشف لنا الواقع الذي ينظر إليه من خلال زاوية معينة.(1) ويعد مفهوم «وجهة النظر» point of view من أبرز قضايا النقد الروائي التي كثر حولها النقاش, وتشعب بتعدد النقاد واختلاف المدارس والاتجاهات النقدية التي تناولته. لكن هناك ما يشبه الاتفاق بين معظم النقاد والباحثين على أنه مفهوم وليد استحدثه النقد الأنجلو أمريكي في أواخر القرن التاسع عشر مع الروائي «هنري جيمس» Henri James, الذي أكد على أهمية هذا المفهوم، مشيرًا إلى أن ثمة تشابهًا بين عمل الروائي وعمل الرسام.
«فكما أن الرسام يعرض علينا الأشياء لرؤيتها – من منظور ما – فإن الروائي يعرضها من وجهة نظر معينة, يجب على بلاغة الخطاب السردي أن تُدخلها في الحسبان»(2).
وتشير «مارجوري بولتون» Marjorie Boulton في كتابها «تشريح الرواية» The Anatomy of the Novel – عند تعرضها لأهم المفاهيم النقدية المؤسسة لنظرية الرواية – إلى أن الراوي لا بد من أن يكون موجودًا في مكان ما، سواء داخل المشهد أو خارجه :
«فإن القصص لا تحكي نفسها بنفسها, وأيًا كان من يحكي فحتمًا ولابد من أن يكون في مكان ما, وعلى علاقة بما يحكى حتى يحكيه, فلقد أصبحنا نمتلك درجة من التمييز – تعلمناها منذ الطفولة – بين القصة الحقيقية والقصة المتخيلة والأكذوبة. ويبدو أننا سنقبل عُرف القصة بدون ضجيج»(3).
غير أن هناك من النقاد من اعترض على هذا المفهوم، مثل الناقد المعاصر «فيليب ستيفيك»، فقد رأى أنه:
«ربما كان تعبير «وجهة النظر» تعبيرًا غير موفق, إذ يمكن أن يشير بالدرجة نفسها إلى الاتجاه العقلي (السياسي أو الديني أو الاجتماعي) لعمل ما أو إلى موقف المؤلف الوجداني الذي يتضح من النغمة Tone المتبناة نحو الموضوع الذي يعالجه (كأن تكون النغمة ساخرة أو سوداوية) أو إلى الزاوية التي يروي منها العمل القصصي». ثم يضيف قائلا «ورغم هذا, فإن للتعبير أكثر من دلالة أو معنى, فإنه في معناه الثالث قد أصبح أمرا ثابتا, ولم تنجح المحاولات في أن تستبدل به تعبيرات أكثر دقة مثل «بؤرة السرد» Focus of narration»(4).
ولعل ما زاد الأمور تعقيدًا, هو صعوبة المصطلح نفسه وتشعبه, وما اعتراه من ضبابية وسوء فهم عند استعماله من قِبَل المهتمين به. فهو مائع, وغير محدد لدرجة يوحي معها بما لا حصر له من الدلالات والمفاهيم. ولذلك تعددت التعريفات التي تناولت مصطلح «وجهة النظر» بوصفه دالاًّ ذا مدلولات متعددة منها:
(1) قد يعني فلسفة الروائي أو موقفه الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك.
(2) وقد يعني في أبسط صوره، في مجال النقد الروائي, «العلاقة بين المؤلف والراوي وموضوع الرواية»(5).
وإذا بدأنا بعلاقة مصطلح «وجهة النظر» باللغة أو بالظاهرة اللغوية سوف نجد أن «فردينان دي سوسير» de Saussur Ferdinand قد أشار إلى أن ثمة علاقة وثيقة بين الشيء ووجهة النظر التي يُرى من خلالها, وهو ما أشار إليه بشكل واضح في قوله: «نحن أبعد ما نكون عن القول بأن الشيء سابق لوجهة النظر, بل يبدو أن وجهة النظر هي التي تخلق الشيء»(6).
يميز دي سوسير بين اللغة Language والكلام Parole بوصفه-أي التمييز- أحد المبادئ الملائمة لعلم اللغة. وكما كتب دو سوسير فإنه «بفصل اللغة عن الكلام نحن نفصل بين ما يعد اجتماعيًّا وما يعد فرديًّا، أو بين ما يعد جوهريًّا وما يعد إضافيًّا أو عرضًا».
ويفضي التمييز – في نظر دي سوسير – بين اللغة والكلام إلى ابتكار علمين بارزين يدرسان الصوت ووظائفه اللغوية: علم الصوتيات phonetics وهو علم يدرس الصوت في أفعال الكلام من وجهة نظر فيزيائية, وعلم الفونولوجي phonology وهو علم لا يهتم بالأحداث الصوتية الفيزيائية ذاتها قدر اهتمامه بالتمييزات أو الفوارق الخاصة بالوحدات المجردة للدال بوصفها تمييزات وظيفية داخل النسق اللغوي.
ويعود سبب الاهتمام الذي أظهره بعض دارسي أنساق العلامات وسيمولوجيا الأدب الخاص ببحث دي سوسير الخاص بالجناسات التصحيفية إلى رغبتهم في إبراز ما أُطلق عليه «مركزية اللوجوس» Logocentrism في الثقافة الغربية وإلى اعتقادهم أن دي سوسير انتقل بهذا البحث من «العلامة» إلى «الحرف»، ومن ثم فقد أقلع عن التصورات المتمركزة حول اللوجوس لصالح المعنى؛ إذ يقتضي منظور «مركزية اللوجوس» الاعتقاد في أن الأصوات ما هي إلا تمثيل (أو صورة) للمعاني الحاضرة في وعي المتحدث، فـ«الدال» signifier ما هو إلا تمثيل آني ينتقل بواسطته المرء لإدراك «المدلول» signified الذي يميل إليه المتحدث.
أما الكلمة المكتوبة فهي شكل ثانوي ناقص. إنها تمثيل لإحدى المتتاليات الصوتية التي هي بذاتها أحد تمثيلات الفكر. وفي ضوء هذا يصبح «التأويل» بمثابة محاولة لاكتشاف المفهومات الحاضرة في وعي المتحدث أو الكاتب وقت الكتابة(7).
ويُرجَّح أن أول من تناول مسألة الراوي تاريخيًا هو أفلاطون في الكتاب الثالث من الجمهورية, حسبما أشار «جيرار جينيت» Gerard Gentte، حيث ذكر أن أفلاطون قد عارض فيه بين صيغتين سرديتين, تبعًا لكون «الشاعر نفسه هو المتكلم, ولم يورد أدنى إشارة لإفهامنا أن المتكلم شخص آخر غيره»، وهذا ما يسميه أفلاطون «حكاية خالصة»، أو «لكون الشاعر – على العكس – يبذل الجهد ليحملنا على الاعتقاد بأنه ليس هو المتكلم بل شخصية ما، إذا تعلق الأمر بأقوال منطوق بها»، وهذا ما يسميه أفلاطون بالضبط تقليدًا أو محاكاة(8).
و كان أفلاطون كذلك هو أول من أثار نظرية «الصوت» في الأدب، فعندما تناول التمييز بين الأساليب الأدبية, فرَّق بين القصّ والمحاكاة. فقد بدأ بتعريف الأساطير والشعر بأنهما قص الأحداث الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة، ففي القص الصِّرْف يتحدث الشاعر بصوته ولا يحاول إخفاء نفسه, أما إذا تحدث الشاعر بلسان شخص آخر فإنه يصوغ أسلوبه على شاكلة أسلوب هذا الآخر, وبذلك يحاكي الشخص الذي يتقمص شخصيته(9).
وإذا كان أفلاطون هو أول من تناول مفهوم الراوي, فينبغي الإشارة إلى أنه لم يحدد مفهومه بشكل مفصل، حيث اعتمد في تفرقته بين «المحاكاة» Style Imitation و«السرد» Narration على درجة تدخل الراوي في كل منهما. فعندما تظهر الشخصيات بشكل مباشر في مواجهة شخصيات أخرى, أو في مواجهة القارئ عن طريق الأقوال دون وساطة الراوي, فإن هذا الأسلوب يطلق عليه في هذه الحالة «المحاكاة»، أما عندما تختفي الشخصيات وتتوارى هيئاتها وأفعالها وأقوالها خلف صورة الراوي, فإن هذا الأسلوب يسمى السرد البسيط Simple Narration .
أما الأسلوب الثالث عند أفلاطون فهو مزيج من هذين الأسلوبين معًا, حيث صوت الراوي لا يحجب أصوات الشخصيات الأخرى تمامًا, بل ينحِّيها حينًا ويتصدى للحديث عنها حينًا آخر, وهو ما سماه أفلاطون أسلوب الملحمة(10).
على أن مصطلح «الراوي» نفسه لم يتبلور كمفهوم إلا مع جهود الشكلانيين الروس ومن بعدهم النقاد الأنجلو أمريكيين.
وبشكل عام, ميّز الشكلانيون الروس أولاً بين الخطاب iscourseD والقصة story عن طريق الحكي. ويمكن اتخاذ هذا التمييز مدخلاً لتجاوز النقد السابق, فالقصة تتعلق بالأحداث والأشخاص وتفاعلهم فيما بينهم مع الأحداث التي تجري, ويرتبط الخطاب بالطريقة التي بواسطتها يتم إيصال القصة أو التعبير عنها, وسيصبح هذا التمييز قاعدة يعتمد عليها كل النقد الذي سينبني على تراث الشكلانيين الروس. والذي سيفيد، بهدف التطور، من كل ما يتحقق في مجال اللسانيات بدءًا من أعمال دي سوسير الذي كان هاجسه تأسيس علم اللغة, وسيغدو التعامل مع الخطاب بحسب قبوليته التحليل العلمي هو المدخل الرئيسي لنقد جديد يستفيد من مكونات الخطاب الروائي.
وإذا كانت اللسانيات ترى أن أعلى وحدة يمكنها التعامل معها هي الجملة فإن الخطاب في هذا المنظور (بوصفه مجموعة من الجمل) هو جملة كبرى تعامل معاملة الجملة دراسة وتحليلاً (11).
ويحتل التمييز كذلك بين «الحبكة» Sjuzet و«الحكاية» Fabula مكانًا متميزًا في نظرية الشكلانيين عن القص, فهم يؤكدون أن الحبكة هي التي تنفرد وحدها بالخاصية الأدبية، أما القصة أو الحكاية فهي مجرد مادة خام تنتظر يد الكاتب البارع الذي ينظمها. غير أن مفهوم «الحبكة» لدى الشكلانيين تميز بأنه كان أكثر ثورية من مفهومها الأرسطي، وهو ما وضح في دراسة شكلوفسكي عن لورنس ستيرن.
إن الحبكة في نظر شكلوفسكي هي (بمعنى معين) انتهاك الترتيب الشكلي المتوقع للأحداث, وعندما يقوم «لورنس ستيرن» بهذا الإحباط للترتيب المألوف للحبكة, فإنه يلفت انتباهنا إلى «الحبك» نفسه من حيث هو موضوع أدبي, ومن هنا فقد ارتبطت نظرية «الحبكة» عند الشكليين بمفهوم التغريب, فالحبكة تمنعنا من النظر إلى الأحداث على أنها نمطية مألوفة(12).
وقد ميَّز الشكلاني الروسي «بوريس توماتشفسكي» Tomashevsky Boris بين نمطين من السرد: «سرد موضوعي» و«سرد ذاتي», ففي نظام السرد الموضوعي يكون الكاتب مطلعًا على كل شيء, حتى الأفكار السرية للأبطال، أما في نظام السرد الذاتي, فإننا نتتبع الحكي من خلال عينين (أو طرف مستمع) متوافرين على تفسير لكل خبر: متى وكيف عرفه الراوي أو المستمع فقط (13).
وقد كانت لأعمال «فلاديمير بروب» (1895-1972) حول «الحكايات الخرافية» الروسية أهمية كبيرة, والتي قدَّمها في كتابه «مورفولوجيا الحكاية الخرافية» (1928), حيث استطاع أن يقدم فيه دراسة منهجية, هي أقرب إلى الدراسات العلمية؛ حيث درس بروب الأجزاء المكونة للحكاية الخرافية, وعلاقة كل جزء منها بالآخر. وقد ارتأى أن بنية الحكاية الخرافية تشبه بنية النبات, وأن أجزاء الحكاية الخرافية تتكامل في بناء واحد يشبه تكامل أجزاء النبات تمامًا. ففي النبات كما في الحكاية الخرافية مجموعة من العناصر, وكل عنصر فيها له وظيفة محددة , كالأوراق والساق والجذور وغير ذلك.
ويرى بروب أن للحكاية الخرافية مستويين: الأول ثابت لا يتغير, وهو البناء الوظيفي المكون من الوظائف الإحدى والثلاثين, أما الثاني فهو الطرق المختلفة التي تتحقق بها هذه البنية حيث «تعد عناصر ثابتة وباقية في الحكاية رغم الكيفية التي تحققت بها, أو بواسطة من حققها. وتشكل هذه الوظائف عنده أجزاء أساسية للحكاية، ولهذه الوظائف ترتيب دائم وثابت» (14).
ويأتي كتاب فلاديمير بروب ضمن محاولات متعددة لأجل «نزع الطابع التعاقبي عن الحكاية». وتعود أهمية هذه الدراسة إلى كونها مهدت الطريق للعديد من الدراسات الأدبية التي اهتمت بدراسة الراوي, وبخاصة الدراسات ذات الاتجاهات البنيوية.
وفي كتاب «منطق الحكاية» (1973) عاب «كلود بريمون» على بروب إهماله للاحتمالات السردية، وبذلك يكون قد ليَّن من صرامة تسلسل الوظائف عند بروب, فقد استبدل بريمون بالمنطق الارتدادي عند بروب – الذي يَعُد النهاية تبريرًا للبداية – منطقًا تصاعديًّا يأخذ في الحسبان حرية الشخصيات وحرية الراوي, فلم يعد لوظيفة «صراع البطل» نتيجة واحدة ممكنة, كما هو الشأن عند بروب.
أما كتاب «لويس راي» «الرواية» فقد أشار إلى أن الرواية لا تضعنا أبدًا أمام الأحداث كما هي؛ فالروائي يختار من الأحداث ما سيجعله في الواجهة وما سيحتفظ به, ويختار أيضًا أن يقدم لنا معرفة موضوعية أو ذاتية, جزئية أو كلية, داخلية أو خارجية. فالسرديات البنيوية تقرأ بناء التخييل في العلاقات التي يقيمها نص الرواية بين مستوى الملفوظ ومستوى التلفظ من جهة وبين الملفوظ والقصة المحكية (واقعية كانت أو خيالية) من جهة أخرى.
إن الذات المتلفظة «كائن من ورق» هي السارد وليست المؤلف الواقعي, ودراسة الصوت السردي تسمح بالتعرف عليه, فقد يكون شخصية من شخصيات القصة المحكية, إما مركزية, أو شاهدًا كتومًا, وقد يكون أيضًا «ساردًا غائبًا» يعطينا الانطباع بأن القصة تُحكى من تلقاء ذاتها، مع أنه وسيط بين القراء والشخصيات يخبر القراء بما تحسه الشخصيات وبما تفكر فيه أو ما لا تفكر فيه, وذلك أن السارد يلعب دورًا أساسيًّا في بناء التخييل, بما أنه يقرر زمن الحكاية ويقرر وجهة نظر أو وجهات نظر معينة تجاه الأحداث الواقعية أو الخيالية بواسطة ضرب من اللاتعاقب, وذلك بالرجوع إلى الوراء أو بالإخبار بما سيأتي, وقد يبرز مشهدا وذلك بالإطناب فيه، أو على العكس يختصر السرد فيحذف سنوات عديدة من حياة شخصية من الشخصيات. والسارد أيضًا هو من يقدم لنا معرفة كلية أو جزئية, موضوعية أو ذاتية, عن العالم المحكي حسب تبنيه لوجهة نظر العالِم بكل شيء تجاه الأحداث والشخصيات أو يقيده داخل منظور محدود لإحدى شخصيات القصة(15).
أما بوريس أوسبنسكي Boris Uspensky في كتابه المهم «شعرية التأليف» Poetics of Composition، فقد اهتم بالجانب التأليفي لوجهة النظر على هذا المستوى, فركز على مشكلة وجهة النظر التي يتبناها المؤلف حين يقدم العالم الذي يصفه ويدركه أيديولوجيًّا. وجهة النظر هذه، سواء أكانت مستترة أم مصرحًا بها, قد تنتمي إلى المؤلف نفسه, أو تكون جزءًا من المنظومة المعيارية للراوي, بمعزل عن المؤلف (وربما في صراع مع معياره) أو تنتمي إلى إحدى الشخصيات. ويؤكد أوسبنسكي على أنه يجب أن ننظر إلى العمل الأدبي ككائن لـه استقلاله عن مؤلفه، وأنه يجب أن يُنسب المنظور الأيديولوجي إلى العمل نفسه لا إلى مؤلفه، سواء وافقه في الواقع أو خالفه. فقد يختار الكاتب صوتًا يخالف صوته، وقد يغيِّر منظوره الأيديولوجي في عمل واحد أكثر من مرة.
ويمكن – طبقًا لأوسبنسكي- تضمين تأليف النص عددًا من وجهات النظر الأيديولوجية المختلفة, وحين يتحدث عن نظام الأفكار التي تشكل العمل, فإنه يتحدث عن البنية التأليفية العميقة له, في مقابل البنية التأليفية السطحية التي يمكن تتبعها على الصعيد النفسي, أو الصعيد المكاني – الزماني, أو الصعيد التعبيري.
كذلك يتضح التغير في وجهة نظر المؤلف حين تدخل عناصر من كلام شخص أو شخصيات أخرى؛ فتضمين عناصر من كلام الغير هو إحدى الوسائل الأساسية للتعبير عن تغييرات وجهة النظر على المستوى التعبيري، فهي ليست محصورة أبدًا باستعمال الأسماء الشخصية فقط(16).
ولعل اللافت للانتباه أن مفهوم وجهة النظر عند الشكلانيين لم يكن محددًا ومتبلورًا بشكل كامل، بل إنه نوقش ضمنًا في إطار مفهوم «نزع الألفة» Defamiliarization الذي صاغه شكلوفسكي، والذي ذهب فيه إلى أن «الفن وُجِد ليعيننا على استعادة الحياة وليجعلنا نتحسس الأشياء».إن غرض الفن عند شلوفسكي يتمثل في إعطائنا الشيء كما ندركه لا كما نعرفه، أي عبر وجهة نظر. فغرض الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تُدرك، لا كما تُعرف(17) (*).
أما «ميخائيل باختين» (1895-1975) Mikhail Bakhtine الذي وصلت كتاباته بين التقاليد الشكلية والماركسية وصلاً مثمرًا(18). , وتوزعت نصوصه على حقول بحث واسعة ومتباينة منها الفرويدية,ونظرية الرواية, والفلسفة, واللسانيات وغيره(19) ، فقد وسع من مفهوم الأدبية الذي استخدمه الشكلانيون. لا ليقتصر على مفهوم الأدب فحسب، وإنما لينسحب بالقدر نفسه على ما وراء النص. وهو ما بدا واضحًا منذ دراساته الأولى اللافتة «الماركسية وفلسفة اللغة, معضلات شعرية دويستوفسكي»(1929) (20).
وقد اتجه باختين عند تناوله لمفهوم الراوي إلى صياغة منهج لدراسة البنية اللغوية للرواية, وانطلق في دراسته من المستوى اللغوي وليس من البنية الدرامية كما فعل بروب في دراسته. وقد ذهب أيضًا إلى أن الشخصيات في السرد الروائي ليست أشخاصًا من لحم ودم, كما هي الحال بالنسبة إلى الناس في الحياة, بل هم أشخاص متكلمون, مادتهم الحروف والأصوات والكلمات والجمل. فالإنسان في الرواية ليس إلا صوتًا أو لهجة, وكل شخصية في الرواية- وكذلك الراوي – تحمل بين طياتها لهجة وصوتًا ذا أيديولوجية خاصة، وتحمل أيضًا رؤية وموقعًا يختلف عن سائر الشخصيات, وكل هذه الخصائص تبرز من خلال الصورة اللغوية التي تصاغ بها الخطابات وليس عن طريق الخصائص الذاتية للشخصيات(21).
وقد ارتبطت «شعرية الرواية» لدى باختين بمفهومات متعددة مثل الحوارية dialogism, والتناص, وتعدد الأصوات, وغير ذلك من مفهومات تغاير كلية ما يتعلق بنوع الشعر. ومن ثم فإن نظريته الروائية تقوم على إدراك مفهومي «التلفظ» و«عبر اللسان» Trans linguistics إدراكًا يضع «الشعري» اللفظي في رحم «المعيش» خارج اللفظي.
ويمكننا أن ندرك أن مفهوم «وجهة النظر» لدى باختين يكمن فيما ذهب إليه حين تحدث عن «تعدد الأصوات», فهو حينما يتحدث عن التعدد اللغوي في الرواية يطرح مفهومًا آخر هو «البناء الهجين» الذي يعرّفه بأنه «ملفوظ ينتمي حسب مؤشراته النحوية (التركيبية) والتوليفية إلى متكلم واحد. لكن يمتزج فيه عمليا ملفوظان وطريقتان في الكلام, وأسلوبان ولغتان ومنظوران دلاليان واجتماعيان (…) وبين تلك الملفوظات والأساليب واللغات والمنظورات لا يوجد فاصل شكلي من وجهة نظر التأليف أو التركيب»(22).
ويعتقد باختين أن الراوي قد يكون في موقع واحد (ثابت) أو يتخذ وجهة نظر واحدة, لكن الملفوظ ثنائي الدلالة، وهو ما يوضحه في موضع آخر حيث يقول «إن وعي المؤلف لا يحوِّل أشكال الوعي الأخرى عند الآخرين (أي وعي الأبطال) إلى موضوعات, ولا يمنحها تحديدات منجزة ومعدَة بمعزل عنهم (غيابيًّا). إن هذا النوع من الوعي يُشعر بوجود وعي لآخرين يقف إلى جانبه على قدم المساواة »(23).
ويبدو أن باختين في تحليله للبناء الفني في أعمال دويستوفسكي كان معنيًّا بشكل خاص بمستوى التقويم الأيديولوجي، فقد كتب يقول:
«لقد تجلى وعي الشخصية على أساس أنه وعي مختلف غريب Alien ولكنه في الوقت نفسه لم يكن متموضعًا ولا منغلقًا. إنه – ببساطة – لم يكن موضوعًا لوعي المؤلف».
وربما يكون هذا ما جعل باختين يكتشف أيضًا من خلال دراسته لأعمال دويستوفسكي دمجًا لوجهات نظر داخلية وخارجية بالنسبة إلى شخصية معينة, ووجهات النظر هذه قابلة للتمييز على الصعيد الأيديولوجي فقط.
وقد أشار باختين إلى أنه حينما يتحدث عن وجهة نظر المؤلف – فإنه لا يقصد رؤية المؤلف للعالم عمومًا مستقلة عن عمله, بل يقصد وجهة النظر التي يتبناها لتنظيم السرد في عمل معين, فضلاً عن هذا, فإن المؤلف قد يتحدث عن قصد بصوت آخر غير صوته الخاص(24).
ويعتقد كذلك أنه إذا لم تكن وجهات النظر المتنوعة متفاوتة المراتب, بل تقدم كأصوات أيديولوجية متساوية في الأساس, يكون لدينا سرد متعدد الأصوات (بوليفوني). وقد أوضح أن أفضل مثال على البناء المتعدد الأصوات في تاريخ دراسة الأدب يتوافر في أعمال دويستوفسكي. ولغرض مناقشة «وجهة النظر» يمكن تعريف تعدد الأصوات من خلال المتطلبات الأساسية الآتية:
(أ) تشتغل «البوليفونية» Polyphony عندما يوجد بالعمل الفني عدد من وجهات النظر المستقلة والمتعددة.
(ب) يجب أن ترتبط وجهات النظر في العمل البوليفوني (المتعدد الأصوات) مباشرة بالشخصيات المشاركة في الأحداث المسرودة. أو بعبارة أخرى, يجب ألا يوجد موقع أيديولوجي مجرد أو «مثالي» خارج مجال الشخصيات.
(جـ) عندما ندرس «البوليفونية» علينا أن نضع في الحسبان وجهات النظر التي تتجلى على المستوى الأيديولوجي فحسب. وهي تتجلى بالأساس في الطريقة التي تقوَّم بها الشخصياتُ (من حيث هي وسائل ممثِّلة أو مركبات Vehicle للمواقع الأيديولوجية) العالمَ من حولها.
إن«البوليفونية» كما يطرحها باختين في كتابه عن دويستوفسكي, وفي كتابات أخرى له, هي شاهد على ظهور وجهات النظر المتعددة على المستوى الأيديولوجي(25).
ويمكننا أن نلاحظ أن النقاد الأنجلو أمريكيين قد استطاعوا أن يقدموا إسهامات مهمة في موضوع الراوي «وجهة النظر» point of view وذلك من خلال عدد كبير من النقاشات والدراسات حول هذا الموضوع، وخصوصًا على يد الروائي والناقد الإنجليزي المعروف «هنري جيمس» Henry James.
ومن الناحية التاريخية وجدنا أن الاهتمام بوجهة النظر أو بعلاقة الروائي بالراوي وبموضوع الرواية من أحداث وشخصيات – جاء مرتبطًا بالنظرة الحديثة إلى الرواية بوصفها «وحدة عضوية» متكاملة من ناحية، وصدى لدور الروائي أو الراوي – إذ لم يكن التمييز بينهما إذ ذاك أمرًا ذا بال – في الرواية الواقعية الفضفاضة, ذلك الراوي العارف بكل شيء Omniscient والموجود في كل مكان Omnipresent الذي لا يجد غضاضة في تحريك الشخصيات وتوجيه الأحداث وإصدار الأحكام بدرجة متفاوتة من اللاموضوعية, بل يرى ذلك حقًّا مكتسبًا من حقوقه يدافع عنه بوصفه مبدع ذلك العالم بشخصياته وأحداثه.
وكان الراوي (أو المؤلف) يظهر على مسرح الأحداث تارة ويختفي تارة أخرى, يخاطب القارئ مباشرة أحيانًا محاولاً خلق علاقة وثيقة معه بأن يقحمه في أحداث القصة وفيما يصدره من أحكام, وأحيانًا يبتعد الراوي كلية بحيث لا يشعر القارئ بوجوده.
لقد رأى كثير من الروائيين أن هناك أساليب متعددة، وأن الإيهام بالواقع من واجبات الروائي, ولكن اختلفت نظرتهم في تحقيق ذلك, فمنهم من فضّل إسناد دور الراوي إلى «شاهد عيان» يروي ما حدث له أو لغيره من شخصيات الرواية، وذلك إمعانًا في تقوية الإيهام بالوقع، ومنهم من ادّعى أن فى قد الحالتين استخدم الروائي ضمير المتكلم «أنا» فتحددت بذلك «وجهة النظر» ومجال الرؤية على نحو ما, بخلاف الراوي الغائب «هو» الذي يتبع أسلوب «العارف بكل شيء» حيث يصبح تحديد وجهة النظر أكثر صعوبة، ذلك أن استخدام هذا النوع من الراوي يتضمن الاعتراف بوجود المؤلف على مسرح الأحداث, وقد يعني اقتصاره على تقديم الأحداث, وقد يعني أيضًا قيامه بالتعليق وإصدار الأحكام, مع ما في ذلك من ضرر ينتقص من فنية الرواية في رأي بعض النقاد، وإثراء للرؤية التي تقدمها في رأي البعض الآخر.
أما الراوي «العارف بكل شيء» فعدَّه بعض النقاد امتدادًا للشاعر الملحمي الذي يجمع بين الخلق والتأريخ، ويتمثل هذا في رائعة «سرفانتس» «دون كيخوته» وبعض الأعمال الروائية في القرن الثامن عشر.
وقد ثار النقاد ومنهم«هنري جيمس» على هذا النوع من الرواة وعلى الرواية التي يظهر فيها, وأكد جيمس على أهمية وجهة النظر الواحدة المحددة في كتاباته.
طالب جيمس باختفاء المؤلف من الرواية, مؤمنًا بأن القصة يجب أن تحكي ذاتها, وذلك عن طريق «مسرحة الحدث» أو عرضه وليس عن طريق «السرد» أو «التلخيص»، ومن هنا برزت «وجهة النظر» أو «الوعي المركزي» central consciousness الذي تُرى مادة الرواية كلها من خلاله, فيحقق استقلالها عن العمل الروائي من ناحية, ويضفي عليها وحدة وجدانية أو ذهنية من ناحية أخرى(26).
ومما لا شك فيه أن أعمال هنري جيمس وكتاباته النقدية قد فجَّرت وعيًا جديدًا بأساليب الصياغة لدى النقاد, واختلاف طرق تقديم المادة الروائية على تعقدها وتشابكها. وقد برز من أتباع جيمس فيما يتعلق بوجهة النظر ناقدان هما: وارين بيتس Warren Beach, وبيرسي لوبوك Percy Lubbock, حيث طرح الأخير بدقة في كتابه «صنعة الرواية» The Craft of Fiction (1920) -الذي قام على أساس أعمال هنري جيمس – علاقة الراوي بالرواية(27).
وهو ما وضحه بيرسي لوبوك بقوله:
«وفي مجال حرفة الرواية, فإني أرى أن وجهة النظر التي تحكم مسألة وضع الراوي من الرواية, إنه يرويها كما يراها «هو» في المقام الأول, ويجلس القارئ في مواجهة الراوي يستمع. وقد تُروى القصة بحيوية يُنسى معها وجود الراوي, ويتجسد المشهد حيًّا بشخصيات الرواية»(28).
كما رأى أنه إذا أراد المؤلف أن تبدو روايته صادقة, فعليه أن يحقق ذلك ليس عن طريق القول, لأن «الصدق الفني» يستوجب إيهامًا بالواقع. فالمؤلف الذي يتحدث باسمه عن حياة الشخصيات ومصائرهم إنما يضع عقبة إضافية بين القارئ والخيال بمجرد وجوده، ولكي يتخطى هذه العقبة فعليه أن يحد من وجود صوته بشكل أو بآخر(29).
كما أن بعض النقاد اعتبروا هذا الكتاب بمثابة وثيقة مهمة في باب النقد الروائي؛ فقد ربط بين وجهات النظر المختلفة وبين النوعين المعروفين من قديم الزمن لتقديم مادة الأدب وهما التقويم المباشر وغير المباشر(30).
وقد انحاز الناقد «واين بوث» إلى عرض لوبوك إلى حد بعيد، فقد رأى أنه أكثر وضوحًا ومنهجية من عرض جيمس نفسه, فهو يقدم لنا تصورًا بارعًا عن العلاقات بين تعبيرات مثل البانوراما والصورة والمسرحية والمنظر. إنه تصور لا يمكن لجيمس نفسه سوى أن يؤيده, وخاصة أن تصور جيمس يحيطه الكثير من التحفظات التي تمكن بيرسي لوبوك من إعادة صياغته(31).
ويحسب لـ «بيرسي لوبوك» في هذا الكتاب أنه تمكن من أن يستثمر الأصول الأرسطية المؤسسة للدراما لفهم العنصر الدرامي في الرواية, وخصوصًا في الحالة التي يكون فيها الراوي محايدًا, بحيث يجعل الشخصيات تظهر وكأنها تعبر بتلقائية عن نفسها كما هو الشأن في المسرحية. وهكذا يتولد العنصر الدرامي في الرواية في نظر لوبوك عندما يحاول الروائي مسرحة dramatization الأحداث الروائية. إن الروائي في نظره :«يتجه نحو الدراما فيأخذ له موضعًا وراء المُحدِّث فيبرز ذهن المحدث على حقيقته نوعًا من أنواع «الفعل»، وهذا هو السبب المباشر في رأيه لتفضيل الأسلوب غير المباشر على الأسلوب المباشر, بحيث تبلغ الرواية أعلى درجة من الدرامية دون حاجة إلى التدخل المباشر بأفكاره الخاصة».
وقد يكون أهم ما قدم لوبوك فيه جهدًا علميًّا واضحًا أيضًا هو «وجهة النظر» أو الأشكال المختلفة للسرد، وهذا ما لاحظه الناقد «إدوين موير» Edwin Muir عندما قال «إنه (أي لوبوك) لا يكشف لنا ماهية الشكل (شكل الرواية)، بيد أنه من الواضح أنه يعني به شيئًا يختلف عما نقصد به «البناء» هنا, فالشكل كما يفهمه يعتمد على ما يسميه «وجهة النظر»(32).
ومنذ ظهور دراسة لوبوك تعاقبت البحوث والدراسات حول قضية وجهة النظر، وتناولها بالتنظير والتحليل والتطبيق كثيرون، منهم الأمريكيان فريدمان وسيمور شاتمان، والفرنسيون جان بويون وتودوروف وجينيت, والألمانيان ستنزيل وكايزر، والروسيان باختين وفولوزينوف. وقد توجت هذه الجهود إلى حد كبير على يد أوسبنسكي في كتابه «شعرية التأليف» A poetics Of Composition.
وفى إطار علاقة الراوي بالرواية، يمكن استنتاج وجهات النظر كما حددها لوبوك، وإن كانت بشكل غير منظم كما يلاحظ على النحو الآتي:
– في التقديم البانورامي نجد الراوي مطلق المعرفة يتجاوز موضوعه، ويلخصه للقارئ.
– في التقديم المشهدي كما في الدرامي نجد الراوي غائبًا، والأحداث تقدم مباشرة للقارئ.
– في اللوحات تتركز الأحداث إما على ذهن الراوي أو على إحدى الشخصيات.
وسنجد أننا أمام أربعة أشكال سردية كما يلخصها لنا «لينتفلت» بوضوح من خلال:
– التجاوز البانورامي، حيث هيمنة الراوي.
– الذهن المعروض، حينما يتركز التقديم على شخصية محورية.
– الدراما الخالصة، حيث غياب الراوي.
– الراوي الممسرح، حيث يكون التقديم من خلاله هو وشخصية محورية (33).
ولعله من المفيد أن نذكر هنا أن فلسفة جيمس وأتباعه قد لاقت بعض المعارضة حتى في ذروة انتشارها, فقد تصدى «فورستر» E. M. Forster للرد على بعض آراء لوبوك وتفنيدها، ووصل الأمر للسخرية في بعض الأحيان. وهو ما طرحه بقوة في كتابه «أركان الرواية» Aspects of the Novel , فهو يعتقد أن هذا الأمر لا قيمة له في الحكم على الرواية، وأن هذا النوع من القضايا لا يشغل بال القارئ. كما يرى كذلك أن المعرفة اللامحدودة التي يتمتع بها الروائي تعد من أعظم الميزات التي تجعلنا أكثر فهمًا للحياة. ويذهب إلى«أن خصوصية الرواية تكمن في أنها تمكن الكاتب من أن يتحدث عن شخصياته بحرية أو تمنحنا فرصة الإصغاء إليهم وهم يناجون أنفسهم»(34).
ويبدي فورستر رأيا مناقضا – تمامًا – لما ذهب إليه «هنري جيمس» ,حيث ذهب إلى أن الروائي العالم بكل شيء هو امتياز لا ينبغي أن يحرم منه الروائي، فعن طريقه: «يمتلك أسرار العالم كافة, وهو امتياز ينبغي ألا يُسلب منه, أحيانًا يُسأل: كيف عرف الكاتب هذا؟ وما وجهة نظره؟ إنه يغير وجهة نظره من محدود المعرفة إلى العارف بكل شيء. ثم يعود مرة أخرى إلى الموقف الأول, إنه ليس متسقا, وإن مثل هذه النوعية من الأسئلة تحمل كثيرًا من أجواء المحكمة. إن ما يشغل بال القارئ هو ما إذا كان التحول في موقف الكاتب ونقله للحياة مقنعًا أو لا»(35).
وقد حاول فورستر تجاوز المفهوم الدرامي الأرسطي, مبرزًا الفرق الجوهري بين الرواية والدراما, فإذا كان العمل الدرامي يفترض شكلاً واحدًا هو استقلال الشخصيات وتعبيرها عن نفسها, فإن «ميزة الرواية أن الكاتب يستطيع أن يتكلم عن شخصياته ومن خلالها، أو يُؤمِّن لنا الإصغاء إليها عندما تناجي نفسها. وهو مُطَّلع على أحاديث شخوصه النفسية. ومن هذا المستوى يستطيع أن يهبط أعمق وأعمق ويرمق الحس الباطن»(36).
ولعل فورستر قد تمكن في كتابه هذا من الاقتراب من الفهم الدقيق لبعض القضايا التي أثارها «بيرسي لوبوك» وخاصة مسألة وجهة نظر الراوي, وحدد لنا بوضوح تام نمطين أساسيين من الراوي/الكاتب(*).
-الشخص المحدود المعرفة.
-الشخص العارف بكل شيء(37).
أما نورمان فريدمان Norman Friedman, وهو من أهم النقاد الذين عالجوا موضوع وجهة النظر, فقد رأى في كتابه «وجهة النظر في القص» Point of View in Fiction أن أهم إضافة للموضوع من وجهة نظر المؤيدين قد حدثت في الأربعينيات من هذا القرن في كتابات الناقد المعروف مارك شيرور الذي يعدها لا مجرد وسيلة لجعل «التقديم» أو «العرض» أكثر ترابطًا ووحدة, أي شكلاً من أشكال التجديد المسرحي, بل بوجه خاص وسيلة لتحديد الموضوع، وفي رأيه أن:
«الرواية تكشف عادة عن عالم مبدع من القيم والمواقف, ومما يساعد المؤلف في بحثه عن تعريف فني لهذه القيم والمواقف أن يكون هناك وسط ضابط عن طريق أساليب وجهة النظر ووسائلها, فعن طريق هذه الوسائل يمكن الفصل بين تحاملاته وأفكاره المسبقة بشكل مسرحي عن طريق علاقة كل شخصية بالأخرى داخل إطارها»(38).
ويعتقد «نورمان فريدمان» أنه يمكن حل المشكلة إلى حد بعيد بالبحث عن وسيلة يمكن عن طريقها تحديد أداة للسرد، وذلك بوضع الحدث داخل إطار من وعي إحدى الشخصيات من داخل الحبكة ذاتها(39) , وأنه لم تعد هناك ضرورة لأن نبين أن «وجهة النظر» قد أصبحت واحدة من الاهتمامات الرئيسية لهؤلاء الذين يرغبون في صنع جماليات للقص تكون مماثلة لجماليات الشعر الذي لوحظ أنه تطور في وقت مبكر من النقد الجديد، حتى بعد أن ظهر كتاب «بلاغة القص» The Rhetoric of Fiction لـ«واين بوث» Wayne Booth منذ ما يزيد على عقد من الزمان, بينما الهجوم يمتد ليشمل المبادئ العقائدية الجديدة لجماليات الفن القصصي, والمجادلة والنهج التعددي للموضوع الذي يخدِّم في المقام الأول على تأكيد الاهتمام المعاصر بتقنية «وجهة النظر»(40).
وأوضح أنه عندما نتتبع تطور هذا المفهوم «المفتاح» ربما سنجد تعريفًا متماسكًا ومحددًا في كثير من أجزائه وعلاقاته. وسوف يكون هذا التعريف مثمرًا – فيما يعتقد – إذا نحن تمكنا من تقنين الأسئلة لهذه الفروق التي تكون إجابات, وإذا استطعنا ترتيب هذه الإجابات داخل بعض الأشكال المنطقية المتسلسلة(41).
أما «واين بوث» Wayne Booth فقد ميّز في مقالته «المسافة ووجهة النظر» Distance and point of view بين المؤلف الضمني وبين السارد المقدم، المصرح به وغير المصرح به، كما يميز في الوقت نفسه بين السارد الجدير بالثقة وغير الجدير بها. أما الصنف الثالث عند بوث فهو ذاك الذي يكون فيه السارد شخصية تعلن عن نفسها في الرواية بأشكال مختلفة.
ويبدي بوث معارضته للقول بالمفاضلة بين أسلوب من أساليب وجهة النظر على غيره تفضيلاً مطلقًا, ويشكك في قيمة التعليمات التي يصدرها النقاد بصدد السرد أو الإيهام بالواقع أو المسافة التي يجب أن تكون بين الروائي ومادته, مؤكداً أن هذه النواحي الفنية ليست هدفًا في حد ذاتها, ولكن أهمية تحليلها ترجع إلى الكشف عن أسباب نجاح العمل الفني أو فشله. ويذهب بوث إلى أن الفرق بين استخدام ضمير المتكلم وأسلوب ضمير الغائب مثلاً ليس بالصرامة التي نظنها, وأن الأهم بكثير هو أن نحدد بدرجة أكبر من الدقة والوضوح ارتباط صفات معينة بتأثيرات أو نتائج محددة مرغوب فيها.
وفي سبيل ذلك يميز بوث بين هذه التصنيفات لصوت المؤلف:
(أ) المؤلف الضمني (ذات المؤلف الثانية) Implied Author
(ب) الراوي غير المعلن (غير الممسرح) Undramatised Narrator
(جـ) الراوي المعلن (الممسرح) Dramatised Narrator
والفرق لا يكاد يُذكر بين التصنيفين الأول والثاني, أما في التصنيف الثالث فيصبح الراوي شخصية معلنة في الرواية, تعلن عن ذاتها باستخدام ضمير المتكلم أحيانًا وباسم المؤلف أحيانًا أخرى.
ثم يصنف «الراوي المعلن» إلى:
(أ) المراقب Observer
(ب) الراوي المشارك في الأحداث agent Narrator
(جـ) الراوي الذي يعكس الأحداث Reflector
ويلاحظ أن هذا التصنيف ينطلق، كما هو واضح، من معيار المسافة التي تفصل بين المؤلف والقارئ وشخصيات الرواية، ويتناولها النقد تحت هذه المفاهيم: المفارقة, النغمة, البعد الجمالي(42).
ومن التصنيفات الأخرى التي ذكرها بوث وهي تركز على تحديد نوع العلاقة بين الراوي ووجهة نظره, والمؤلف ومادته, ما يأتي:
(أ) الراوي الذي يعتمد عليه, والراوي الذي لا يعتمد عليه.
(ب) الراوي الواعي بذاته, والراوي غير الواعي بذاته.
(جـ) الراوي صاحب الامتياز Privileged.
(د) الراوي المحدود Limited.
أما الأول فهو العارف بكل شيء, وهذه المعرفة تختلف درجتها من راوٍ إلى آخر. ولكن أهم مظاهرها هو المعرفة بما يدور في داخل الشخصيات, أما الثاني فهو الذي تقتصر معرفته على ما يمكن الحصول عليه عن طريق «الرؤية الواقعية» و«الاستنتاج»(43).
ويتعرض «بوث» لموضوع وجهة النظر بشكل أكثر تفصيلاً في كتابه «بلاغة الفن القصصي» The Rhetoric of Fiction, فيتخذ موقفًا رافضًا لظهور الكاتب بشكل مباشر, ويرى أن إحدى الحيل الأدبية التي يستخدمها الكاتب – والتي تعد ميزة من وجهة نظره – هي أن يكون اللفظ وراء الأحداث للحصول على رؤية صادقة لعقل الشخصية وقلبها. ومهما كانت تصوراتنا بشأن الطريقة المثالية لسرد الرواية, فإن عملية الإبداع كانت تتم بدون شك عندما يستطيع المؤلف أن يسرد لنا ما لم يمكن لأي شخص آخر أن يخبرنا به في الحياة الواقعية, ففي الحياة الواقعية لا نعرف أحدًا سوى أنفسنا عن طريق إشارات داخلية معتمدة وشاملة(44).
ويشير بوث إلى أنه إذا ما أردنا الدفع بالمؤلف بعيدًا عن «مجال الخيال» The house of fiction فعلينا أن نتخلص من جميع أشكال التخاطب المباشر مع القارئ, بالإضافة إلى استبعاد جميع التعليقات المقدمة باسم المؤلف.
ويعتقد بوث أيضًا أن أهم الرواة المعترف بهم في الفن القصصي الحديث هم مراكز وعي في صيغة الغائب, حيث استطاع المؤلفون من خلالهم بلورة طريقة سردهم, أن يكونوا مرايا مصقولة جدًّا, تعكس تجربة عقلية معقدة. إنها تؤدي بدقة عمل الرواة المخلصين رغم أنها تستطيع أن تضيف زخمًا في ذاتها(45).
إن الرواة، في نظر بوث, الذين يسمحون لأنفسهم بالسرد وفي الوقت نفسه بالعرض – يختلفون كثيرًا اعتمادًا على قدر التعليق المسموح به ونوعه, إلى جانب إيجاد علاقة مباشرة في الأحداث بين المشهد والعرض scene and summary. مثل هذا التعليق يستطيع أن يشمل أية خاصية عن التجربة الإنسانية, وكذلك يستطيع أن يتصل بالعمل الأساسي في طرق ودرجات لا تُحصى. وعندما ننظر إلى التعليق على أنه أداة فريدة, فإننا نتجاهل اختلافات مهمة بين التعليق الذي يعد بمثابة ديكور «شيء زخرافي» ornamental, والتعليق الذي يخدم أغراضًا بلاغية(46).
ويوضح أنه يمكن للموضوعية Objectivity أن تعني بالنسبة للمؤلف موقفًا محايدًا تجاه جميع القيم المطروحة أو محاولة سرد حيادية Neutrality لجميع الأشياء الجيدة أو الرديئة.
ففي أية تجربة قراءة – في رأي بوث – غالبًا ما يكون هناك حوار ضمني بين المؤلف والراوي والشخوص الآخرين والقارئ, فكل واحد من هؤلاء الأربعة يحدد مداه بالعلاقة مع الآخرين, وهذا المدى يتراوح بين التطابق التام في أي ميزان للقيم ,بغض النظر عما إذا كانت هذه القيم أخلاقية أو عقلانية أو جمالية أو حتى عضوية, ويمكن للمؤلف أن يتدخل بصورة مباشرة لكسب عواطفنا شريطة أن يقنعنا بأن «تدخلاته» على الأقل- مقنعة بشكل دقيق- وفي صلب الموضوع(47).
أما البنيويون المعاصرون فقد استعادوا كثيرًا من بحوث الشكلانيين، وأخذوا – مستعينين في ذلك بالمبادئ اللسانية «السوسورية» التي تميز بين اللغة والكلام – بمبدأ اللغة التزامنية synchroniqe للنص الأدبي، أي أنها تحلله في سكونيته بغض النظر عن علاقته بصاحبه أو بالوسط الذي برز فيه.
مراجع
(1) فرانسوا فان روسو، وجهة النظر أو المنظور السردي، نظريات وتصورات نقدية، نشر ضمن كتاب نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة ناجي مصطفى، ط1، منشورات دار الحوار الأكاديمي، المغرب، 1989، ص7.
(2) عبدالعالي بوطيب, « مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الائتلاف والاختلاف»، مجلة فصول , المجلد11, العدد الرابع،الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة، 1993، ص69.
(3)
Boulton, Marjorie; The Anatomy of the Novel, Routledge & Kegan Paul,
London, Boston, Melbourne and Henley, (1975).p 29
(4) أنجيل بطرس سمعان،« وجهة النظر في الرواية المصرية»، مجلة فصول، المجلد الثاني، العدد الثاني ،الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة، 1982، ص 104.
(5) سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، الزمن، السرد، التبئير، الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993. ص286.
(6) فردينان دي سوسير، دروس في الألسنية العامة، ترجمة صالح القرمادي، محمد الشاوش، محمد عجينة، الدار العربية، تونس، 1985، ص27.
(7) جوناثان كلر، فردينان دي سوسير، ترجمة محمود حمدي عبد الغني، مراجعة محمود فهمي حجازي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص44.
(8) جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث فى المنهج، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلى، ط2، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص 178.
(9) المرجع نفسه، ص184.
(10) أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص260.
(11) توماشفسكي، نظرية الأغراض، ضمن كتاب نظرية المنهج الشكلي , نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، ط1, مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت, 1989، ص 189.
(12) رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر، 1981، القاهرة، ص ص (33، 32).
(13) توماشفسكي، نظرية الأغراض، نشر ضمن كتاب نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، مرجع سبق ذكره، ص190.
(41) فلاديمير بروب، مورفولوجيا الحكاية الخرافية، ترجمة أبو بكر أحمد باقادر وأحمد عبد الرحيم نصر, طبعة النادي الأدبي، جدة , 1989، ص ص(77- 79).
(15)
Uspensky, Boris; Poetics of Composition: The Structure of the Artistic Text and Typology of A compositional form Translated by Valentina Zavarian and Susan Wittig, University of California Press, Berkeley,Los Angeless, London, (1973). p p. (10-15).
(16) Uspensky, Boris; Poetics of Composition.pp (55-56).
Stanzel, F.K; A Theory of Narrative,Translated by Charlotte (17) Goedsche, with a preface by Paul Hernadi. Cambridge University Press, (1982) , P10.
(*) استخدم شكلوفسكي مصطلح «التغريب» وهو واحد من أكثر مفاهيمه جذبا للانتباه، حيث يذهب إلى أننا لا نستطيع الحفاظ على نضارة إدراكاتنا للموضوعات، فمهمة الفن تحديدا هي أن يعيد إلينا الوعي بالأشياء التي أصبحت مألوفة لوعينا اليومي المعتاد.ويوضح شكلوفسكي ذلك في دراسته المهمة«الفن تقنية» (1917) بقوله:
«إن غرض الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تدرك وليس كما تعرف، وتقنية الفن هي إسقاط الألفة عن الأشياء أو تغريبها، وجعل الأشكال صعبة، وزيادة صعوبة فعل الإدراك ومداه».
انظر: رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور: ص ص (32، 33)، مرجع سبق ذكره.
(81) المرجع نفسه، ص ص (17-27).
(91) تزفيتان تودروف، باختين، المبدأ الحواري، ترجمة فخري صالح، سلسلة آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة, 1996، مقدمة المترجم، ص 7.
(20) المرجع نفسه ، ص 96.
(21) ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، ترجمة يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة السورية،دمشق, 1988، ص 108.
(22) ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة،، الطبعة الأولى، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة ،1987. ، ص 38.
(23) ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، مراجعة حياة شرارة، ط1، المعرفة الأدبية – توبقال ،الدار البيضاء، 1986، ص96.
(24) المرجع نفسه، ص 105.
(25) بوريس أوسبنسكي، شعرية التأليف، بنية النص الفني وأنماط الشكل التأليفي، ترجمة سعيد الغانمي وناصر حلاوي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة, 1999. ص20.
(26) أنجيل بطرس سمعان،« وجهة النظر في الرواية المصرية»، مرجع سبق ذكره، ص ص (103-105).
(27) بوريس أوسبنسكي، شعرية التأليف، بنية النص الفني وأنماط الشكل التأليفي، ترجمة سعيد الغانمي وناصر حلاوي، مرجع سبق ذكره ، من مقدمة المترجمين، ص 3.
(28)
Lubbock, Percy; The Craft of Fiction; Jonathan Cape, Thirty Bedford Square,London, (1954),p 62.
Lubbock, Percy; The Craft of Fiction، p. 251. (29)
(30) أنجيل بطرس سمعان،« وجهة النظر في الرواية المصرية»، مرجع سبق ذكره، ص105.
(31)
Booth,Wayne C; The Rhetoric of Fiction, Chcago: University of Chicago Press, (1961).p24.
(32) أدوين موير، بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة،القاهرة, 1965، ص4
(33) سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الزمن، السرد، التبئير، مرجع سبق ذكره، ص 286.
(34)
M. Forster; Aspects OF The Novel, New York، Harcourt, Brace and Company, 1927, P 118.
(35)
M. Forster; Aspects OF The Novel, P P(120-121).
M. Forster; Aspects OF The Novel, P 123. (36)
(*) نلاحظ هنا أن فورستر لا يضع تمييزًا بين الراوي والكاتب.
(37) إ. م. فورستر، حبكة الرواية، نشر ضمن كتاب النقد، أسس النقد الأدبي الحديث، ترجمة هيفاء هاشم، وزارة الثقافة، دمشق، 1966، ص128.
(38)
Norman, Friedman; point of view in Fiction,The Development of Cricical concept, The Theory of the Novel, The University of Georgia Press, Athens, (1972), p117
(39)
Norman, Friedman; point of view in Fiction, p118.
(40)
Friedman, Norman; Form and Meaning in Fiction, The University of Georgia Press, Athens, (1975), p 143.
(41)
Norman, Friedman; Form and Meaning in Fiction, p144
(42)
Booth, Wayne C; «Distance and Point of View: An Essay in Classification» Essentials of the Theory of Fiction, 2Edition,MichaelJ And Patrick D.
Murphy,Durham, North Carolina: Duke University Press, 1996, pp (109-110).
Booth,Wayne C ;»Distance and Point of View, P P (92-99). (43)
(44)
Booth, Wayne C; The Rhetoric of Fiction, Chicago: University of Chicago Press, (1961) , P 5.
Booth,Wayne C; The Rhetoric of Fiction ,p18. (45)
Booth, Wayne C; The Rhetoric of Fiction, p 155. (46)
Booth, Wayne C; The Rhetoric of Fiction, p 67. (47)
—————–
نجاة علي