يموت النورس على المصطبة، نينا تموت في النورس الميت على المصطبة، يعلق جيخوف جاكيته على شجرة وحيدة، جسده النحيل يغرف من ماء النهر آخر ما تبقى من المويجات المسافرة في مركب مهدم، فراغ غريق، نسوة يمشطن انوثتهن أمام الرهبان الذين نسوا ذكور تهم في اسطبل الكنيسة، مساحة منتهكة تجر الأضواء من ذيلها لتحمي نفسها من عتمة عنيدة في تقاسيم العنبر المأخوذة من عنبر رقم ستة تستيقظ روح دار يوشكا على صباح من السماور والشاي تنورتها في هواء راكد يشبا ركود حملتها، أكرر، ثمة مساحة مهدمة، مصباح يكسر الفراغ ليضيء وجه اندريه الطبيب في مستشفى الأمراض العقلية الذي يتبادل مع ايقان المسجون في المستشفى جدلا حول الثبات والحركة، بعد قراءة النص القصصي الجيخوفي أحسست بأهمية العري والضوء المسلط على الجسد العاري، منذ القراءة الأولى راودتني أيضا معادلة المزج بين العري والماء، ايقان مكون داخل جسده باعتباره مكانا للاضطراب المادي< ثمة مساحتان، ثمة جسدان، جسد الممثل المسيج بآلامه وجسد المكان المطوق بالوحشية، بوابات، وأردية عتيقة، بق، نشادر، وبودرة تحتضن القطن اليومي على موز أيك من الكافور، منذ القراءة الأول يداهمني ثعبان النستلوجيا في محاولة لترحيل المكان نحو الذاكرة المجروحة أو لجر جرة الأمكنة الأولى لتكون وقود الأمكنة الحاضرة، لم أنس مطلقا ذلك المصباح المتدلي من سقف السجن الذي وضع في لحظة مخاض قدرية من ذات مساء لزيارة خالي في سجنه رأيت أو لمست شيئين، أردية عدمية ومصباح شاهد على الدم المسفوك من قدميه المثبتتين من التدلي في السقف مع قلب الرأس للأرض والقدمين لسماء الله..
بعد عشرين عاما وبعد قراءتي لعنبر رقم (6) أحسست أن ايفان يشبه خالي في سجنه الجسدي والمعرفي، التنوير المعرفي المتمثل في عقل ووجدان ايفان داخل امتحان الموت في فراغ مسرحي أجرد، ومصباح يقضم الوقت مثل الصراصير في الأمكنة والأزمنة المهجورة، فايز قزق الذي لعب دور الدكتور اندريه تعامل مع اندريه بانتماء مفزع، ولكي نعطي لشخصية اندريه ملمحا ثبوتيا، سكونيا، بادرنا أنا والممثل لاقتراح الرداء، جلد ثبوتي فوقه رداء خشن ثبوتي سميك، بهذا المعنى يتحول كوت اندريه الى سجنه، في صيف ملتهب وجحيمي أصر فائز على استمراره في ارتداء الكوت السميك ليعيش مع نكهة العرق المتصبب من جسده، كأنه كان يريد معاقبة نفسا واندريه مرة واحدة، الكوت السميك والمصباح النازل من السقف وجسد ايفان الضئيل هي كل مفردات المساحة لا يمكن بأي حال أن تزدهر الرؤيا الاخراجية والعمل على الممثل بمعزل عن التصوير السينوغرافي المسبق، المكان، مفردات المكان، الزي، الضوء كل هذه العناصر مع بعضها تؤسس فنتازيا التأسيس البصري في الفراغ المسرحي.
أن العلاقة بين الممثل والفراغ تنبع من فكرة الاقتراح الروحي والمعرفي بين المخرج والممثل، المخرج يحث التمثيل لأداء عزفي، سيمفوني، في محاولة لإعادة الاعتبار للمنحوت على المسرح، الفراغ هو المشهد النحتي الذي يكونه الممثل بجسده وبدون أن يكون للمخرج والممثل فهم مشترك لشروط العمل الجسدي، على الخشبة، فإن ثمة فوتوغرافية تحنيطية ستعم في روح الاخراج والتمثيل، لا يقدم المخرج والممثل اقتراحات مكانية، بصرية، أدائية مسبقة، انما تمثل الجسد واستعداده العضوي واستنفارا لعقل وتفتحا في التعامل مع معنى التمثيل ومفهوم الاخراج هو الذي يعطي الاضاءات لفكرة الاخراج والتمثيل في مناخ تحديثي يعطي للاشارات والمناخ والايقاع والاحساس الموسيقي التشكيلي معنى جديدا للفراغ المسرحي.
لا تنبع فكرة السينوغرافيا من ثرثرة الموبيليا، ولا من بهرجة الألوان والأضواء، حتى ولا من الأشكال الهندسية التي تشكر الفراغ تشكيلا عضويا، بناء البيت على الخشبة أو الاستعارات الواقعية بحذافيرية مقيتة، لا ربما جسد الممثل وأداؤه الحداثي للفراغ بأرقي المعاني الجمالية، الفراغ، يستدرج الضرورة الإخراجية لفهم معنى السينوغرافيا، الحركة على المسرح هي روح الفراغ، بالطبع لا أقصد بالحركة التلفيقية الميكانيكية، انما التي تطلع من لحظة الخلق المتوهج لترسم معنى مستعصيا وسهلا، شكل جسد نمسان مسعود وفايز قزق في مشاهدهما الثنائية بؤرة النص السينوغرافي البصري.
تماما كما في العمل عل رأس المملوك جابر الذي لعبه فايز قزق أيضا في فراغه، ثمة اخراجان للمملوك جابر، الأول في دمشق حيث عمت روح المزج المكاني بنزعة تراجيكوميدية انطلاقا من المقهى باعتباره معطى موروثيا ومرة أخرى، بنزعة بصرية كما حدث مع ممثلي فرقة مسرح لا كاسولا في اسبانيا بفلانسيا، الكراسي والأراجيل شكلت العضوية البصرية داخل سياق العرض، ما زلت أشد على أهمية تعويذة الجسد كمساس شعري لروح المكان، ما زلت أشدد على أهمية تعويذة الجسد كمساس شعري لروع المكان، جسد فايز قزق يشبه الى حد كبير جسد الأسباني (بيب)، كلاهما لعب المملوك جابر من خلال الحرث في معمار الجسد، ومعمار المكان، في العرضين ومع المسكين كدسنا المعنى الروحاني للأداء الداخلي في الذهاب لأقصى حالات التقمص وأكثرها تطرفا في العزف على ينابيع التأويل في اطلاق النص من أمكنته المغلقة الى الأمكنة الأكثر رحابة، يتجل الاحساس بالمكان الجسدي من خلال مشهد الحلاقة، كرسي واحد فقط، جسد واحد فقط، وموسي حلاقة ذي لمعان حاد، طاسة كبيرة للبخار، ورقص جنوني لممثلين يدورون حول سقوط شعر المملوك الذي اعتبره في أحيان سقوط رأس المملوك الوزير العلقمي يكتب عل رأس المملوك بعد قشط الشعر، الكتابة على الرأس تأخذ عدة معان لتؤدي الى أكثر من تأويل : فراغ المسرح برمته مقابل الرأس، الرأس وفراغ المسرح في لحظة التحامية انفجارية، العمل عل إعطاء الرأس قيمة مطلقة، في الفراغ هو بمثابة نحت مكاني يشكل رأس المملوك معه أبجدية سينوغرافية قلقة، على المملوك أن يطير الى بلاد العجم، إذن علينا أن نحلق ونسافر مجازيا، فراغيا، لهذا فان السجادة الكبيرة التي حولناها الى طائر كبير كان حلا سينوغرافيا منح الممثل سفرا، طيرانا، نشوة، فتحا جسديا، أربعة ممثلين يقذفون المملوك جابر الذي تربع وسط الجادر الى تفوق، بعد مرور عشر سنوات عل اخراج المملوك في دمشق وعندما أخرجته في اسبانيا لم ألجأ الى الحل نفسه، انما استغنيت عن فكرة الجادر لأركز على التحليق الجسدي في داخل الجسد، الممثل ثابت في المكان لكن أداءه كان طيرانيا، احساسه علويا، حلان يكملان بعضهما، الأول جسدي شعوري والثاني شعوري جسدي.
نستولجيا العربات
على خشبة مسرح مهجور تموت البروجوكتورات، ويتبدد على متن المطحنة الكبرى التي نسميها زمن الفقدان، تقفل المسرحية بواباتها، يخرج الجمهور،ليبقى المسكون عرا يا أمام مرايا الوقت والمكان، في ذلك اليوم المدلهم عندما قضمت الطائرات ضريح الحسين، حريق الخيام وصل حتى حدقات العين، كنا أنا وثلاثة سكين نعيد تكوين ماكبث، طاولة أنيسة تستدرج الساحرات مقصلة نشطة تذبح الحرية ساعة الصلاة البتول، وملاك الاسطبل والمواخير يرمم جسده المغدور ويدربه على حمل الصليب المثلوم، كم من الوقت تحتاج أيها البهلول الشكسبيري كي ترتب آيات القتل ؟ أيها الوغد أما شبعت من طواحين المذابح ؟ أي شبق يحرك نصوصك المعدنية ؟ قل لي أما من نهاية لكرنفلات انتهاك الروح ؟ دائما وخلال التمارين كنا نحاول اطلاق العنان للبهلول الذي أدمن على فقدان رأسه، كلما ضربت المقصلة رأس البهلول يعيد البهلول رأسه الى جسده مرة أخرى، تكرر المقصلة بتر رأس البهلول في دوامة من الاحتضار اللانهائي واعادة وصل الرأس من جديد حتى يتحول الى ساحرة فريدة في اشعاع جنونها، الطاولة كانت معنا ساعة بساعة، يدرب الممثلون أجسادهم وأرواحهم على الولاء لها، كأنما تلك الطاولة تريد أن تتآنس مع أرواحنا، أو تتبادل الحسرات، المذياع يعوي خلال فترات استراحاتنا لينبئنا من جديد عن غارات أخرى على بغداد الروح، أحد الممثلين ضرب رأسه بالطاولة، الآخر دفعها الى الحائط الثالث جرها بعد أن صار حصانها، تنمو العلاقة بين الممثل وأغراض البروفات بعضوية لا مثيل لها، أصلا لم تكن الطاولة ضرورية لنا خلال تدريباتنا الأولى بالمصادفة تعرفت علينا ثم مثل مصل يقدم قداسه الجليل قدمت الطاولة جسدها الينا.
في ذلك الليل وفي أحد ممرات المسرح كانت الطاولة تتثاءب كأنها تنتظر من يبث في روحها الجمر، حثثت الممثلين بشكل تلقائي ومن خلال لحظات الارتجال لملامسة حوافها البهلول محتسب عارف رمقها بمودة، مال عليها، ومكر حصان هرم جرها، وضعت على رأسه شرشفا برتقاليا، طلينا وجهه بالطحين حول أحدى يديه الى ذيل ثم دفع جسده الى الأمام وجر العربة، في أول محاولة لكسر الثبات المكاني تحرك زمن التمثيل من خلال بهلول يريد ان يرجم الزمان بشتائمه، ولأجل خلسة خاصة ومن أجل حفلة تنكرية مع امرأة ارتدت قفازات الساحرة اجتمع البهلول وساحره ماكبث في ليل شتوي ممطر، النبيذ على الطاولة، شمعدانان على حوافها، كأنما استأنست الطاولة بالاقتراح الجديد كي تبدد عزلتها الأبدية، عيد الطاولة يزهو حين ينبش الممثل جسدها النائم، عندما تنتهي البروفات أو في لحظات الاستراحة تحتوينا الطاولة أيضا، الشاي عل الطاولة، عرق الأجساد، الدخان، النوم أو الاسترخاء، الضحك، اللعب، المودات، وأسرار الشبق الوجدانية لم تنفر الطاولة من فرحنا ولا من دموعنا، كانت تحتضن جنوننا وترتب أعضاءنا، في أحيان كثيرة تنقلب على ظهرها، قوائمها الى السماء وظهرها على الأرض، أهي رحم، قبة، سفينة، امرأة تطلق مفاتيح الشبق الأنثوي أم ذكورة مجنحة تعانق نون النسوة.. بعد تراكم البروفات صارت الطاولة بمثابة ممثل له قلب، عينان، ساقان، وروح تهفو، كلما يأتي الممثلون الى البروفة مبكرين تكون الطاولة قد سبقتهم، عندما يغادر الممثلون الخشبة الى بيوتهم تبقى الطاولة مثل حارس في كنيسة بلا قداس، أصبحت الطاولة في مسرحية ماكبث ضرورة نصية أدائية، انها تشكل المساحة برمتها، لم نر بأي حال من الأحوال أن نعطي لأي شي ء قيمة توازيها سوى التمثيل، الممثل الذي امتزج نصه مع نصها، يتسلل ماكبث في الليل وحيدا، يخلع ملابسا، يتعرى ثم يمدد جسده على الطاولة،كل مؤامرات ماكبث، كل دمويته، كل ضعفا ولحظاته الإنسانية، كل شبقه يبدو عاريا أمام السيدة الطاولة.
في يوم من الأيام وبينما كان ماكبث يخطط لحرق بابل سقطت ساق الطاولة فعرضت جسد ماكبث الى الارتطام بالأرض !! تعاقب الطاولة جسد الطاغية !! كأنها في تلك البروفة أرادت أن تمرغه في الوحل صارت الطاولة مهندسة المكان، بيني وبينها تواطؤ خفي،كأنها تؤسس معي تحت المكان، عليها وبها حولها ومعها كنت رسم أجساد الممثلين، في حضرتها نسلط البروجوكتورات على الأردية، ضوء على جسد عار وخلسة خاصة، عتمة ونوم حبيس، مؤامرات، مطحنة ودعاء ومظاهرات احتجاج ضد القهر، كل هذا هو مشهد اللحظة السينوغرافية التي تنوي الابحار في المغرب، اعادة كتابة الجسد، الجسد كلام سراني مكسور على ألفة أو مفتوح على يقظة، الجسد في زحمة مطحنة الطاولة وقرقعتها عاصفة هوجاء توقظ الخليقة على هول السفر، الطاولات في أحيان كثيرة عربات تجرها خيول الى منامات ومنافي الهجران، نحن نبني سينوغرافيا الأمكنة المهجورة، ليس لنا أمكنة مجبولة بالحنين ما من دف ء رباني يحميها ولا سورة تقرأ في حضرتها، ولكي نرمم تصدع أرواحنا المكانية المستحيلة فاننا نبتكر أقاويل زمانية تحمي الأمكنة من التفكك لهذا فان العمل على زخارف النستولوجيا يعطي لعناصر العمل المسرحي دفئا، حنوا، تذكارا يصبح الشغف بالعباءة مثلا مركبا لأن العباءة عند رجل خلعه القدر عن فرات روحه تعطيه مساحة من الرؤيا، العباءة إذن هي بيت بمعنى من المعاني، فردوس بمعنى أخر، نطوي العباءات على أجسادنا ليس لأننا نخشي الموت على الأرصفة ولا لأننا لا نعرف لأية مقبرة سيجرون أرواحنا، بل أيضا لأن العباءة خبز التنور الصباحي، رائحة العجين للأرغفة الساخنة، العباءات قاموس الذكرى، أعمدة الضوء للنفوس التي غادرتها المؤانسات المسائية في العباءة نشيد القبب، التكيات، من العباءات تطلع دجلة الخير، الجولة، السفر في اللجج الأزقة والدهاليز والثلاوات، استدعي العباءة في ماكبث لتكون بمواجهة المقصلة، العباءة والمقصلة أرجوحتان، احداهما تقضمنا وأخرى ترفعنا الى حلم المنام البعيد: العباءة والعربة قنديلان أبديان يتحريان في حضرة الضوء.
في طريقنا لعرض ماكبث في المغرب حملنا العربة معنا وحملتنا، سافرت معنا سوية مع الاكسسوارات الأخرى، أسسنا علاقة متينة معها، ها نحن جميعا في طائرة واحدة، عندما وصلنا مطار المغرب لم تنزل معنا العربة، أحسسنا بالهول، نادرة عمران ومحتسب عارف وهشام حمادة أحسوا بالرعب، أين الطاولة، اضطراب عنيف وأسئلة وخوف !! يبدو أن العربة بقيت في مطار تونس، عندما بدلنا الطائرة الى المغرب، نسي العمال عربتنا! لم نفلح على استقدامها، غدا سيكون عرض مسر حيتنا، جن جنون محتسب قالت نادرة كيف سنتمكن من التمثيل، صرخ هشام بألم، لن نعرض بدون العربة، لأننا فقدنا ركنا أساسيا من أركان العرض، فراع وصمت وحسرة كبيرة، حاولنا التأقلم مع عربة من عربات المستشفيات، التي جلبوها لنا، لكننا لم نتمكن لقد تعثر العرض فعلا، تلكأ أداء الممثلين بشكل حقيقي وفعلي، لم نلتذ ولم نستمتع مطلقا مع عرض فقد حميميته في حضرة قطعة خشب تحولت بالنسبة لنا الى ما يشبه الآدمي.
من المفارقات المضحكة المبكية وخلال عودتنا الى عمان عبر تونس شاهدنا العربة نفسها مرمية في قاعة الترانزيت، صرخ المحنكون وركضوا باتجاهها، جرجرناها أو جرجرتنا مرة أخرى الى حيث بدأنا.
لم تبد الطاولة على عاداتها
انكسر ظهرها، ماتت أذرعها
أما جسدها المذهب فقد تاه في الغفلة المديدة
خراب النستولوجيا
أيها الطائر الذي يسكن عل حافة شبابيك ابنة الجلبي يا طائر الفلوات المحصن بالأناشيد الصباحية، يكفيك خفقانا قرب ضريح الفرس، أوما تدري أن فرس الأمكنة المستحيلة يفر هذه الأيام الى المقابر حيث يرتدي قبة الوحشة والندب يسكب الرمال على عينيه ويغطي جبهته بالرماد، فرس مات فارسه، فارس غمد سيفه في طواحين الوقت ثم استسلم لعبث الانتظار.
تسحبني الأمكنة كما تسحب العربات دوي القطار أو كما الخيول التي تخب خبا بحثا عن موطيء قدم للحوذي التائه في النوم، حملت الفضة على رأس المتبنى بين قميصي ورفيف القلب، أبو حيان التوحيدي والغربة الغريبة، ثم قررت الولاء للمحطات فلاذا تموت ذوبانا بالأمكنة الأولى، النبع الأول، أول جمر يستيقظ على تنور الأرغفة، الثيلات والعلاكات الأولى، أول فرات يغسل الجسد والقيظ، أول صباحات للسيوف والنقر والدفوف، أول دخان، يطلع من بين السك، ناح عل الأمكنة الأولى لأنها تهجي روحي، نقوش زمنية عل أمكنة توع صبواتها ثم تؤول الى ماض يجر حاضره الى العدم.
كل مدينة كربلاء العذاب نامت في حضن أبي، لم يكن كاظم ابن سمية ابن حمادى الأسدي سوى قناص أمكنة، يستهويه العري في دجلة الخير والضرب بالسيف على رأسه ساعة حرق الخيام، تجمع السبايا ثم يشدها الى ظهره، ومثل حمال أبدى للآلام يكظ على ضيمه بأسنانه ثم يسحب الخيول وعاشوراء برمته نحو كوفة الله أو نجف المقابر، صفيرا ثنت، يجرني الى الحمام الشعبي جرا، يحك جسدي بالحجر الأسود حكا، ثم يسرق من قدمي حذاء الطفولة ويلبسني الدشداشة يضع السيف بطول قامتي ثم يدفعني الى الأرصفة حيث يدوزن أهل كربلاء أرواحهم ليوم السبي العظيم، مثل طفل يتيه في قبة من الخرز أهرول في الشوارع، بين الجوامع والمآذن، على حافة جنون الضاربين بالزناجيل على ظهورهم، ومع الوالد والمدعيين على الأحصنة، وحيدا كنت يتلمسني أبي في ليلة عرس القاسم، جرتني العرافة من ذيل قلبي الى التكية كي أحدث المرايا عن مرارتي، ربي أما من حد لخراب المدن في روحي، ربي أما من مخلص يدس سيفه في جبتي ساعة الصلاة ثم يوصله الى رمانة قلبي.
في ذلك المساء الجحيمي رأيت أبي يصلي قرب نخلة مال قلبها نحو قلبه، ما الذي يبكي أبي حين يركع على الأرض، لماذا يستمر الركوع طويلا، أثمة سر بين نحيب أبي وسكوت الأرض المديد؟! عندما نما عود روحي وكبرت السنين في جيبي أدركت أن أبي لم يكن يركع على الأرض ليصلي فقط انما كان يهمس في أذن الأرض عن خراب روحه ! هذه الأمكنة الأرضية المرجومة المشيدة على المآسي، انما هي الطفولة البكر لأحلامنا القادمة !! طفولة الأمكنة تشبه أعياد طفولتنا، النخلة المنتصبة في روح البيت، تنور البيت، جمر الصباح الطفولي، أرغفة الغبشة الحنينة، الباب المهزوز مرير الباب، صرة المساء، المرأة النائمة على الجدار، المشط المكسور، المخدة الغافية، اللحاف الرصين، السلالم التي تؤدي الى العلالي، صبايا الصيف، غزل البنات، المؤذن الذي يوقظ رمضان في الليالي، على الأرصفة بائعات الكراث، القيمر والقمر، نسوة يتنزهن في الأسواق، عباءات تنفرج عن أجساد مدفونة بالحناء، خلاخيل عروس، يشماغ عريس، صراخ في حفلة من الأصوات التي ترن في الشارع، أخ من ذلك الشارع المفتقد، المفقود الذي لم يعد في متناول اليد، الشارع المستحيل، البيت المستحيل، الجنة المستحيلة.
بوابات الاغتصاب
كنت وما زلت أحاول أن أدوزن روحي وأرتب بيتها من أجل تأقلم قسري مع الأمكنة في حضرة المدن التي دفعتنا اليها جرثومة المنفى، ان البيت الوحيد الذي أمس بالانتماء اليه هو بيت البروفة، حيث تتحول خشبة المسرح الى وطن صغير أكتب عليه توجساتي، أفته له بواباتي، انثر غباره على رأسه، انه بيت المؤانسة الفعلي حيث تصير الغربة فعلا والزمن معنى،بهذا المعنى أحث جسدي برمته للنوم والصلاة والتبتل في حضرة المسرحة اليروقة، يشاطرني عدد من القديسين، هذه الصلاة، سعدالله ونوس، فايز قزق، غسان مسعود دلع الرحبي.
مثل مدمن أبدي على حفلات التراتيل في جمعة الجموع أو الأحاد الميتة أشد ممثلي "الاغتصاب" الى شقة صغيرة في دمشق للبده بالتمارين عل الاغتصاب، عندما نذهب الى البروفات كي نلتم الى طاولة صغيرة نفك عليها بيت النص انما نحاول أن نفتح الباب على أولى تحجيات الاحساس بالسينوغرافيا عندما أفرغ من قراءة النص الذي أرشحه لعملي من خلال انتقائي الفكري والوجداني تلح عليه فكرة المكان يحتل المسرحية أبطال يهود على أرض فلسطينية أو بمعنى ثان يلوي اليهود عنق الأمكنة الفلسطينية ويقسرونها بعنف على ذاكر تهم غير المتجزرة في المكان نفسه، فان قلقا مريبا راودني فيما يخص الاحساس بالمكان، كأنما لهذه الأحداث التي تعصف بالشخصيات ما يشدها الى مكانها المخترع، الملفق في رؤوسهم، أو ميل الى بوابات الأوكورديون التي انتصبت امامنا، انها بوابات تشكل مع المبنى نفسه علاقة قديمة، لهذا فإن أي تواطؤ أو أية إشارة فيما يخص تأويلها كانت غائبة عن العين، انما كان يربكني الاحساس بوطأة عالم اليهود، راحيل، اسحق، مائير، جدعون، ديفيد، كمخرج فإن ذاكرتي موجهة ضد ذاكرتهم المكانية، الشخصيات تتحرك في النص وكأنها تخوض في امكنتها الأبدية، واحساسي كمخرج ينقض احساس أبطال النص واحساسي بالولاء لفلسطين جعلني في حيرة مكانية خطيرة، ليس من عرض مسرحي بدون احساس بالمكان، المكان بالنسبة للمخرج ليس مجرد معطى سينوغرافي انما هو محصلة لخلق بصري، بدون أن يحل المخرج بعد قراءته للنص علاقته بالمساحة المقترحة فان خللا جسيما ستنعكن آثاره على العلاقة مع الممثلين، الاخراج والتمثيل بنائية بصرية تخيلية مبتكرة تضع النص في حالة خلق حركي، الحركة وليدة النص المكاني المتمحور حول زمن أو مجموعة أزمنة، مركبة تخلط الماضي بالحاضر مع المستقبل أو حاضرية فقط، الحركة النابهة من الفعل الداخلي للممثل لن تزهر أو تنمو الا مع الانتماء العميق للمكان، الا اذا كان التشرذم المكاني سياقا فلسفيا يشكل روح النص.
ماكنة مكانية تحاول أن تؤسس لنفسها معاني ميكانيكية من خلال لمفيق نفسي تاريخي فلسفي لمصادرة المكان، هذه فكرة الاغتصاب في مطحنة التضاد بين الفلسطيني (الأصيل) واليهودي (التلفيقي) اذن لا يمكنني بأي حال من الأحوال الانطلاق من الثبات في المكان، الارتجاج في المكان لابد أن يشكل جوهر النص، قصدي جوهر الشخصيات اليهودية خلال البروفات وبامتزاج وتلاقح عملي مع غازي قهوجي السينوغرافي اللبناني تفتحت أفاق العمل على خيار بوابات الأوكورديون التي تعطي المكان تفسيرا مهزوزا يتناسب مع أرواح الشخصيات اليهودية، أربع بوابات من الأوكورديون كلما فتحت يهتز الاحساس بالمكان، كأن اليهود معلقون من أقدامهم في أرض تقلقهم بارتجاجاتها، البوابات لا ترتبط بالأرض، غير ثابتة، وهي لا سماء لها أيضا، اذن هي طارئة، مؤقتة قابلة للسقوط، أو الانكسار، بهذا المعنى تم تحريك الأفعال المسرحية التي تأسست على تحويل فتح الأبواب الى قصدية ودلالة، كأنما أصبحت البوابات في مشاكسة دائمة مع احساس الشخصيات اليهودية بثبات وجودها المكاني الزماني.
تحررت العلاقة مع الممثل بعد حل معضلة الفراغ، ازهرت البروفات عددا هائلا من الأفعال النفسية والجسدية في مساوقة خشنة وقاسية مع التمثيل المسرحي، علينا اذن أن نحمل تلك البوابات من الأكوارديون الى بيروت حيث افتتاح المسرحية الفعلي بالنسبة لي.
جرجرنا التاكسي الى فندق مهجور، انزلنا الديكور الذي احتار بنا واحترنا به، لوهلة صغيرة أحسست ان لديكور "الاغتصاب" قلبا وعينا وآذانا وفما، عندما عرضنا المسرحية في القاهرة سافر الديكور معنا، في عمان كان شاهدا علينا، برفق أيها السيد قلت لعمال الفندق، بعد برهة تمدد ديكور الاغتصاب على أرض من موزاييك وبرد منعش طالما اعطيناه فرصة للتثاؤب والنوم بعد رحلة شاقة، ليس في الفندق ما يدل على وجود انسان باستثناء الرجل الأعمى الذي يتنزه بين الدهاليز يحمل بيده اليسرى كومة مفاتيح عمياء.
غدا العرض، أطفئت الأضواء تسلل الممثلون الى صالة المسرح عبر لسان خشبي طويل يربط الصالة بالعرض مكانيا وزمانيا ودلاليا، وقع أقدام اليهود ترن، الجمهور تحتهم، أردنا أن نكرس مفهوم الغزو في تبادل العلاقة، غاز ومغزو، سالب ومسلوب، اللسان يربط الخارج بالداخل، اللسان الخشبي واسطة العبور على المكان والإنسان واللسان منشار يخرق البيت الشارع والأرواح، ثمة اضطراب في الأمكنة تخلخل في الأبواب الجانبية والباب الرئيسي يؤدي الى تخلخل في بنية النفس اليهودية أو بالعكس، أبواب البيت اليهودي تصطفق، انها أبواب مرتجة سرعان ما تؤدي الى عمق قسري يلغيها من الناحية التكوينية عندما يفتح باب الأكورديون الكبير تتهشم جغرافية المكان، حدود لاغية ليس لها حضور فاعل. الاهتزاز في الأبواب والأرواح في اتصال دائم وتصاعد عمودي، يؤدي الى حطام مزدوج، الأمكنة والأرواح تتوقد شيئا فشيئا وصورة المكان تنازع وتقاتل كي تعود الى جوهر وجودها الأصلي.
في هذه اللحظة الجحيمية هل ثمة ممر للتنوير في دهليز اليهود القائم على الشبهات، شبهات تؤدي الى تآكل النفس والمكان باعتباره نفسا ثانية.
منذ خمسة عشر عاما وانا أحاول عبر عملي مع المسرح الفلسطيني ان أفك بيت النص والمكان لألفي أعمدة التمثيل الميت، ليس هناك أي تمجيد للثبات، لا في النص ولا في العرض، ولا أية ركيزة للونين اللفظي الخطابي ولا أي توق لابتزاز الجسد، التمايل المركب في الفراغ المسرحي كان وما يزال غاية جوهرية في تشكيل التمثيل والفراغ، الجسد عمود المساحة، الجسد ضوؤها وروحها الجسد حياة، بالجسد نكتب مالا تستطيع الكلمة أن تكتبه، في عتمة الجسد يسكن طائر التقمص، أيضا تسكن الآلام الكبرى،في الجسد تتأصل الروح، ثمة ثعبان يسكن ملكوت الجسد، لهذا الجسد خمر الأجنحة المرفرفة،في الجسد شجرة للعيون، عل سطح الجسد تنام الحشائش والمراكب والمواويل والمزيد من الخيام والأرغفة والعطش، على المسرح اطلق مدفع الجسد للعويل، في جسد الممثل تزدهر الخيول والقبائل، الطوفان والفيضانات أيضا تخبي، نفسها بين ثنيات الجسد في كل عضو من أعضاء الجسد تختبيء عناوين الجسد الآخر، الجسد احتمال لم تفتح أبوابه، محطة مشرعة ليوم قيامة فتي، هذه هي ترتيلة الجسد في مناخ من السينوغرافيا المذهبة.
جواد الأسدي (كاتب ومخرج مسرحي عراقي)