عبر التشرف المطروح في النص ، لما يجب أن تستوعبه الرواية ، وكيف تكون صوتا لمجاميع من البشر ينبنى السرد في "مدن الملح " مفسحا المجال لجميع الأطراف ان تقول شهادتها.
ويتدفق السرد ، معريا الأحداث ، لا صانعا لها ، لآن الرواية تعتمد الحدث التاريخي ، ولا تصطنع أحداثا خاصة سوى تلك التي يمكن أن تنجم عن الحدث الأساسي وتتجاوب معه، وقد سبق رصد الحدث الأساسي من خلال مقارنة الزمن الروائي بالزمن التاريخي.
فكل الأحداث هي أحداث تاريخية تتم تعريتها في النص وكشف مختلف جوانبها بالحوار، بالوثيقة بالقصة ، تمهيدا لاعادة الرؤية .
نتوقف عند العنوان ، والعناوين الفرعية ، والبدايات والنهايات ، لنستعين بها في الدخول إلى فضاء السرد.
العنوان الرئيسي "مدن الملح " يستدعى في أذهاننا الهشاشة وسرعة التلاشي أمام أي اختلال طفيف في مقومات وجود هذه المدن .
"فالعنوان يعلو انص ويمنحه النور اللازم لتتبعه " . وتظهر في ثنايا النص إشارات كثيرة الى العنوان الرئيسي . يقول مالك الفريج المستشار المال لخزعل ، عن مدينة فنر المزمع انشاؤها في الصحراء والتي تعكس صورة بقية المدن . "وتقول مدن الملح ترتفع تكبر إذا جاءها الماء فش ولا كأنها قامت " اما العناوين الفرعية فتفنى العنوان الرئيسي . فعنوان الجزء الأول “التيه" تبدأ معه الهشاشه ويبدأ معه الضياع “واتيه المفازة يتاه فيها والجمع اتياه ".
ونجتاز عتبة العنوان “التيه " لنفاجأ بالألفة ألفة وادى العيون ، لنعرف ونخبر طعم الألفة ، وليتسنى لنا كقراء أن نعرفها ، ثم نعرف بعد ذلك حرقة التيه واغترابه ذلك التيه الذي سيبتلع المكان كله، وليس وادى العيون فقط .
في الجزء الثاني "الأخدود" تدخل موران الضيقة، صيغة المبالغة من "مور" بعد الاخدود نجتاز عتبة أخرى “تقاسيم الليل والنهار" وهي عزف من ذاكرة الراوي على كليهما ، عود الى البدايات الأولى ، التداخل الأول مع العالم الخارجي، فشهوة المكان سيطرت على خريبط" سنة بعد أخرى يزداد خريبط قوة ونفوذا ويزداد ع” أولاده وعدد زوجاته ، كما أن البلدان الأخرى المحيطة به تثير شهيته ، وتحرضه على أن يضمها".
ومع التقاء هذا بالمطامع الغريبة ، والسيطرة وظهور النفط في المنطقة ، تنتج عن ذلك كله هشاشه المدن القائمة .
ثم “المنبت “ وهو المقطوع من جذوره ، الزائد غير المرغوب فيه تنويع على العدائية وهي عدائية المنفى ، الذي يتسع كل يوم ويزداد.
بعد ذلك نستقر في آخر الرحلة في “بادية الظلمات“ ورغم كل هذا التحول ظلت ملامح الصحراء ثابتة ، لكنها ليست صحراء فسيحة ومشرقة كما كان حالها ، بل مظلمة بالخراب الذي حل بها ومن خلال الشهادات والأصوات التي يضج بها النص ينفتح الزمن على المستقبل. كتب روبرت يونغ في مذكراته:
“ماذا يفعلون بناطحات السحاب الزجاجية اذا أصبحوا عاجزين عن تأمين التبريد لها ؟ هل يريدون أفرانا اضافية زيادة على الجحيم الذي يعيشون فيه ؟ هل يريدون مزيدا من مصائد الغبار اذا راكموا ذلك الفرش والاثاث المصمم للمناطق الباردة ؟ وماذا يفعلون بهذا الكم الهائل من الاجهزة اذا عجزوا عن اصلاحها؟”.
وثمة إشارات أخرى ، الى جانب العنوان تعني فضاء السرد امامنا الا وهى الأقوال التي تعقب العنوان ، وتشير إلى انفتاح النص على نصوص أخرى، ويتم هذا في "تقاسيم الليل والنهار" وفي المنبت ".
في "تقاسيم الليل والنهار" هناك صفحة كاملة تمتلىء بالأقوال :
-المثل البدوى : ذاك الغيم جاب هذا المطر.
-قول أحد أبطال مسرحية تشيخون "الأخوات الثلاثة ".
كل الأقوال السابقة تشير الى أن ما حدث كان له أسبابه وهاكم الأسباب ، لكن يجب التذكر انه وحتى في هذا الوضع القائم تكمن احتمالات المستقبل التي تريدونها . والسود يقوم باضاءة هذه الاحتمالات ويدفع القارىء ال العمل من أجل حياة قادمة مغايرة لما هو حاصل .
أما الحديث الشريف في المنبت ، فمنه يأخذ الجزء عنوانه ، وهو اشارة الى أن كل مكان منبت ومقطوع عن أصله ومنشئه تماما كما حدث لخزعل .
* البداية والنهاية .
يبدأ السرد في "مدن الملح " من تقديم وادى العيون ، من تقديم المكان ، أو بالأحرى من تهيئته للدور الذي سيلعبه في النص ، بألفته وقسوته ، وحيث يفرد وادى العيون على أول سطر في الرواية :
"إنه وادى العيون …"
وينتهى بالجزء الخامس ، بمقتل فنر وتعيين مانع حاكما جديدا ، وليس ثمة غير الوعود التي تقدم وتظل مجرد وعود :
-البدء باعداد الدستور.
-تنفيذ عدد كبير من المشاريع .
-وعد بالعفو عن المساجين .
ويختتم بالأقوال ، بحوار هدله الفرحان جاره بيت عمير خال فنر، مع زوجها. وذلك بعد أن خمد صوت رأس الماعز في بيت عمير وبعد أن أخذ كل من في البيت الى السجن .
"شنهوا اللى بلا الناس ، مايشوفون ، ما يسمعون ؟ ما يمشون بين القبور؟ رد حمد الدولعي :
الناس شايفين كل شيء يا هدلة ، بس يلزم غيرهم يشرف ويسمع ويمشى بين القبور حتى يتعلم.
وغرق الاثنان في الصمت والتأمل .
وبدأت موران تتصنت وتتلفت وتترقب .. من جديد.
إن السرد كله عود من تلك النهاية ، مقتل فنر ، إن نهاية السرد تؤثر في كل شيء موجود، إنها والبداية عمودا الحبكة الروائية .
أما البدايات الداخلية للتقسيمات غير المحددة أو المرقمة ، فانها تتابع تقدم انهيار المكان الأول بزمانه الطبيعي ، وترصد تقدم الزمن التاريخي وتحول الشخصيات في ظل الزمن المتحول .
* بنية النص :
تقوم "مدن الملح " على التحام الرواية بالتاريخ ومن خلال تغلفها به . ان التاريخ يأتي الينا بملابس الرواية ، حاملا معه ملامحها متقنعا بها ، ولذلك فان السرد الروائي هو في الاصل سرد تاريخي يكتب التاريخ من خلال الرواية ، يكتب ما لم تحفل به كتب التاريخ الممزوقة والمصقوله ، تاريخ الناس البسطاء في معاناتهم اليومية . إن الرواية تصبح الوجه الآخر للتاريخ الرسمي "تاريخ من لا تاريخ له " تاريخ امة وتاريخ قطاع كبير من البشر.
يتوزع السود في الأجزاء الخمسة للرواية ، حيث ينقسم كل جزء الى فصول صغيرة غير مرقمة ، متقاربة في الحجم تصل الى 258 فصلا ، إن هذا التقسيم اقرب الى تلال الصحراء المتشابهة المتقاربة . يبدأ السرد من التيه ، من الوسط ، ويتقدم الى الامام في الاخدود ثم يعود الى الوراء في "تقاسيم الليل والنهار" والقسم الاول من بادية المظلمات ، ثم يعود الى الزمن القريب بادية المظلمات القسم الثاني والذي ينتهى به النص .
يستمد هذا البناء شكله من المكان حيث ان هذا البناء يشبه خيمه البدوى ويتردد هذا القول كثيرا في النص . يقول متعب الهذال وهو يدعو للوادى "يارب يا صحب الخيمة الزرقاء" وشعر ان في موران يردد نفس الدعاء" يأرب يا صاحب الخيمة الرزقاء".
وخيمة البدوي تشبه الصحراء، واسعة ومفتوحة وغير محددة بدقة ، في نفس الوقت تسمح للاشياه بالعبور من جميع الاتجاهات . إن ذاكرة الراوي تشبه الريح التي تتخلل الخيمة . الريح ذاكرة الراوي التي تهب فتحرك الأشياء والحوادث وذاكرة الراوي لا تترتب زمنيا . وهو اختلاط مقصود تفرضه الرؤية التي ترصد الالفة والعدائية فالسرد يبدأ من الحاضر ليغوص في الماضي . يبدأ من الالفة الصافية من وادى العيون ويتابع الانتقال من الالفة الى العدائية .
ولنلمس البناء الروائي عن كثب فاننا نعيد تفكيك الحكاية -لنقوم بالقراءة العالمة .
إن الراوي يعيد صياغة الحكاية وهو يبدأ من لحظة قائمة في الحاضر، لينطلق الى الماضي، انها قراءة حذرة محفوفة بأشواك الكذب والتزوير والقصص المختلقة . وهو هنا يدفعنا معه للبحث وسط ركام الأكاذيب .
"يمكن أن نفكر بتحرك سام ، دقيق ومحدد ، فيصبح القارىء مسؤولا عما يحدث في نواة العمل الادبي الذي هو مرآة وضعنا البشري، وذلك بالتأكيد على غير علم منه كما هو الحال في الواقع ".
فاذا ما استجبنا للقراءة العالمة لنفكك وحدات السرد، تنتهي الرواية بمقتل فنر على يد ابن اخيه ضاري بن عمير، ولم يحدد الراوي سبب القتل ، فضاري زوج لابنة الحاكم المخلوع خزعل، كذلك هو عاد قريبا من أمريكا، ويترك الراوي التساؤلات بلا اجوبة .
وقد تم خلع خزعل نتيجة المنافسة الشديدة بينه وبين فنر، هذه المنافسة تعود لأيام خريبط الذي أراد أن تكون له قبيلة من الأبناء والأحفاد ، لذلك كثرت زوجاته ، وكثر اولاده ، ، وقد أراد أن تكون له هذه القبيلة ، لأنه سبق وأن طرد أبوه مرخان من موران ولجأ الى الفراهيد، وقد قام خريبط باستردادها والاستيلاء على حصنها المنيع ، وقد تسنى له ذلك بمساعدة الانجليز، لأنه لجأ اليهم في وقت ظهور مطامعهم للسيطرة على المنطقة ، في حين لجأ منافسه مزهر بن سحيم إلى تركيا ، الدولة الآفلة في ذلك الوقت ، لذلك كان خريبط هو الرابح .
والبنية الروائية تتجه كلها نحو الكشف عن تلك التحولات .
والراوي في النص راو تاريخي يبدو عليما بكل شيء لأنه يعيد قصة خبرها وعرفها من قبل، وعاش بعضا من أحداثها وعالم يعشه بنفسه سمع به على الاقل ، وبعد ذلك يكتشف ان الحكاية كلها زورت وكتبت بشكل آخر فيكتشف اهمية خاصة لاعادة القراءة لذلك يحاول التذكر ، ومن هنا تقوم بنية السرد على ذاكرته التي تحاول ان تستجمع الملامح الهاربة للأمكنة والبشر، في زمن مضى وكاد ينسى إن هذا النسيان هو مايعمل الراوي ضده فهو يحاول انتزاع صور الاشياء ملامحها ويحاول ان يعيد اليها طزاجتها الأولى ، لعل من يقرأ يفهم ما حدث .. يفهم كيف زور التاريخ وشوه الواقع .
"تذوي التفاصيل " تتراجع ثم تغيب وحتى تلك التي لا تزال عالقة بالذاكرة ولدتها الرغبة او ولدها الخيال الجامح ، لأن أية محاولة لاستعادة صور الأشياء والأماكن والملامح تصطدم بالنسيان الذي يتمدد كالهواء الساخن ، يجعل كل ما جرى أقرب الى الحلم ".
والراوي هنا يكتب على طريقة كتاب التاريخ الاسلامي ، وهي إحدى المميزات المرتبطة بالرؤية حيث أن موقع الراوي وهذه المسافة التي تفصله عن الحدث تناسب انبناء النص القائم على تعدد المحكي والسماح لشتى الانواع الحوارية بالدخول الى النص ، فيظهر النص وكأنه سيرة ذاتية للمكان .
"وبعبارة أخرى فان المنطقة التي تحصل فيها الوقائع هي التي تروى ما جرى بلغة منتظمة متزنة هادئة تذكر بالاساليب المشهورة فى روائع الروايات العالمية وتقترب ، ايما اقتراب ، من أسلوب رواة التاريخ الاسلامي، يذكرون الكوارث تعقب الكوارث فلا تثير لهم جارحة ويبقى الكلام على حظه الوافر من الاتزان الموضوعي.
إلا أن هذه الحيادية خادعة ، ذلك أنه من خلال الوصف والذي يبدو هو الاخر في بعض الاحيان حياديا وتقريرا من خلال الوصف المبطن بالسخرية تظهر رؤى الراوي غير الحيادية، والمنحازة أبدا للألفة ، يظهر ذلك وبشكل خاص في وصف الشخصيات .
وقد تمت الاشارة الى ذلك في فصل "المكان / الشخصية " كما أنه يظهر في بداية السرد ، ذلك انه لم ينطلق من بداية الحدث وانما بدأ من انهيار الألفة في وادى العيون .
وترتبط هذه الطريقة في السرد، طريقة الراوي العليم بكل شىء أو الرؤية من خلف كما يسميها النقاد، بضمير الغائب . فالراوي العليم بكل شي ء هو الذي يروى الحكاية "أن أبسط الصيغ الاساسية للراوية هي صيغة الغائب ".
والراوي من هذا الموقع ، موقع العليم بكل شي ء كثيرا ما يغير مواقعه ليستطيع أن يلم بهذه المساحة الشاسعة من الزمان ومع هذا العدد الهائل من الشخصيات .
فأحيانا يقرر الحالة التي ستقع فيما بعد كأن يصف رحلة صويلح الهديب وفواز الهذال الى عجرة حيث يلتقيان بابن الراشد وحيث تتغير الاحداث .
"ان فراقا من نوع ما كان يرفرف فوق الرؤوس ، كان يصرخ في الظلمة في ساعات الليل الأخيرة او في ساعات الفجر، إن هذا المجهول الذي بدآ يفرقان فيه خطوة بعد أخرى ما ابتعدا عن الحدرة، لن يستطيعا النجاة منه ولن يفارقاه حتى النهاية ".
كذلك الاشارة التي جاءت في "الأخدود" الى مصير سلمى ابنة المحملجى ، والتي تكشف في آخر "الاخدود" وفي المنبت ".
لكنه أحيانا يراقب من بعيد، كأن يصف مرور ابن الراشد بهاجم وخاله دون أن يشير إلى أن الذي مر هو ابن الراشد، وانما يشير الى ذلك من خلال الابتسامة الذاهلة على وجه هاجم .
أحيانا يكون الراوي في موقع المراقب فقط ، العين المشهدية المفتوحة على المدى الرحب ، تمر عبرها مختلف التغيرات ، والصور بحيادية مطلقة ، فها هو يصف جهاز الراديو الذي وصل أول مرة الى حران كهدية من حسن رضائي الى الأمير خالد، امير حران .
"كان اثنان منهما يتعاونان على حمل كيس متوسط الحجم ، ويبدو أن عافي الكيس ثقيل وثمين لأن طريقتهما في حمله ، ثم عندما انزلاه على الارض ، أوحت بذلك ، أما الثالث فكان يحمل قطعة مكعبة من حجر أسود يشبه الفحم ".
لم يقل بطارية ولم يسم شيئا ، وانما وصفه بعين ترى الاشياء لأول مرة دون أن تعرف عنها أكثر مما يبدو في مظهرها الخارجي.
أما عثمان الاصقي ، الذي حضر السهرة عند الأمير، ورأى الراديو فقد حاول ان يصفه بعد الحاح الناس في المقهى عليه :
"أما حين حاول، وقد حصل هذا بعد الحاح وانتظار وبعد تردد طويل ، فقد قال إن لدى الامير شيئا عجيبا: صندوق لكن ليس كأي صندوق . مثل سحارة الشاي.
ورغم هذه الهيمنة الواضحة على كل شىء ، فاننا نكتشف كثيرا من الأصوات المتعددة والتي يفسح لها الراوي المجال لتدخل في سرده ولتكون شهادة على عصرها ، أنه يستعين بعدد كبير من الرواه ومدوني الحوادث ، أحيانا باسمائهم ، وأحيانا أخرى، حسب جنسهم أو وظائفهم : قالت النسوة قال المسنون ، قال التجار في السوق .
"إن سيطرة أحادية الراوي العالم بكل شي ء أصبحت غير محتملة في العصر الحديث مع التطور الثقافي العريض للعقل البشري، بينما أصبحت النسبية المتشعبة في النص القصصي اكثر ملاءمة ".
* الحوار :
تكتسب كلمة البطل ، والمتمثلة في الحوار ، اهمية استثنائية في "مدن الملح " ذلك ان هذه الكلمة شهادة على عصرها، شهادة على الانسان "ووظيفة البطل الاساسية هنا ان يتكلم وان يقول : "فما يتصف به الجنس الروائي ويتميز به ليس صورة الانسان بحد ذاته ، بل هي صورة اللغة ولكن على اللغة، كيما تصبح صورة فنية ، أن تصبح كلاما على شفاه متكلمة وتقترن بصورة الانسان المتكلم ".
والراوي كلى الحضور ، يعلق على الحوار بين المتحاورين وينقله بينهم ، لكن رغم ذلك يبقى للشخصية استقلالها الكامل عنه وعن لفته تنطلق من رؤى ومواقف يفرضها دورها وموقفها من التغير.
"كان متعب الهذال في حالة من الغضب والانفعال الى درجة قد يفعل شيئا غير عادى ، أحس هديب بذلك اكثر من الآخرين ، قال في محاولة لان يغير الجو :
-يا أبو ثويني ، أردنا أو لا العفاريت ستصل ديرتنا ، والقضية ما منها حيلة .
رد متعب بعصبية :
"العفاريت وصلت ياهديب .. وصلت .. وصلت ".
وتقوم الرواية على المشاهد الكبرى سواء كان ذلك في تقديم الانسان في مكانه أو في تقديم الأحداث ، لأن الحدث يتم في الفضاء المفتوح أو فضاء «العتبة» ويتم ذلك من خلال الحوار المشهدي.
وهنا يسمح الراوي للغة العلوم ، اللغة الشفهية بالدخول الى الرواية ويستخدم لهجات ورطانات مختلفة ، ويتم في نفس الوقت الكشف عن مواقف الشخصيات من التغير، من الحدث وتعليقها عليه، وعلاقتها به ، خصوصا أن الحدث ، هو حدث عام يهم كل الشخصيات الروائية والذي يخلق الفرق بين شخصية واخري هو موقفها منه .
وتختتم أجزاء الرواية الخمسة بالحوار المشهدي الذي يوضح موقف الشخصيات .
ففي التيه .. ينتهى الجزء بحوار ابن نفاع وخزنة الحسن ، رغم أن كلمة ابن نفاع تنهى السرد تفاءلوا بالخير … لكن لا أحد يعلم الغيب ".
إلا أن السياق يشى بأنهما لا يتوقعان اي خير.
في الأخدود ينتهى الجزء بزيارة شمران لحماد المطوع مع شداد بخصوص ابنيه نجم وبدر الا ان وزير الداخلية يرفض الافراج عن نجم لأن نجم "سالفة ثانية " ويرفض شمران الافراج عن نمر ويفضل بقاءه مع اخيه في السجن ويقول "كل واحد له حق يصله ، وخلى نمر يونس اخوه يا حماد .. ونشوف ".
وتستمر موران تسمع وتنتظر وتتوقع من ذلك الكثير.
كذلك تنتهي تقاسيم الليل والنهار بأقوال شمران ، وفي المنبت بجوار شايع السحيمى مع زيد الهريدي عن الخيل .
وقد سبقت الاشارة الى نهاية بادية الظلمات في حوار بين هالة الفرحان وزوجها حمد الدولعى.
وتأتى اللهجات ، بما فيها اللهجة المحلية ، أو كلام العوام كما يسميه منيف ، لتكمل السرد وتنفتح عليه ، ان الابطال هنا يدخلون مميزين بلغاتهم والتي تحمل رائحة المكان الذي جاءت منه الشخصية .
ان هذا التعدد في اللجهات ، وهذا الامتزاج ، وبهذه الطريقة الحوارية يعبر عن تعدد الأصوات الكامنه خلف هيمنة الراوي العليم بكل شي ء، ويعبر كذلك عما حل بالمكان من تغير وكيف عبرت اليه أمكنة أخرى ، بواسطة الشخصيات الأخرى، من غير المكان وسواء كانت هذه الشخصية مع التغير ام ضده . إن توزيع الأصوات من خلال كلمات الأبطال ، وتنوع هذه الكلمات بتنوع القائلين ومواقعهم من التغيير ، هو بالضبط ما يهم منيف لكي تكون الرواية شاهدة على عصرها – ص 167- مبلله بالتفاعل ألحى بين الانسان والاحداث التي تغير حياته، وهذه الكلمة مرتبطة اساسا بالحدث الخارجي.
وغالبا ما يميز كلمات الشخصيات حسب العلاقة بالمكان وحسب تطور الزمن وتغير الاحداث ، فالشخصيات المعارضة يتم حديثها في الخارج في فضاء العتبة اما الشخصيات القابلة فان حديثها يتم فى الداخل ، القصر ، الصالة ، جهاز الأمن والسلامة .
كذلك نلاحظ أن الشخصيات المعارضة يتغير حديثها مابين الرواية ونهايتها ففي البداية كان حديث الرفض مع الحيرة ، لكنه في آخر النص يصبح حديث الرفض مع الفهم ومع ذلك فان هذه الشخصيات لا تملك سوى كلماتها ، لا تملك سوى شهادتها "البطل فيه هو الانسان العاجز عن الفعل ، المحكوم عليه بالكلمة المجردة : بالحلم بالوعظ الباطل ، بالاستاذية بالتأمل العقيم الخ ".
وعلاقة السرد بالأجناس المدخلة ، إلى جانب كونها موقفا خاصا من الروائي في معالجة موضوعة تعكس طريقة خاصة في القص ، وفي رؤية الروائي للتراث والاستفادة منه فإنها هنا ومن جانب آخر تعمل كمعادل لعلاقة المكان بأصله وجذوره ، فإذا كان الناس قد اقتطعوا من جذورهم وقذف بهم في تيه مظلم وأصبح مكانهم مشوها ، فإن السرد يعيد الصلة بجذوره سواء كانت جذورا شعبية أو غير ذلك ، وذلك عن طريق استلهام التراث وخلق التواصل معه وبعث القديم من خلال الجديد، ويتم ذلك تبعا لرؤية الروائي وتوظيف التراث في الأعمال العربية الروائية رهين الى حد كبير بوعى الكاتب ، بموقعه التاريخي، وخلع قناع القدسية عنه والتعامل معه كأداة وليس كهدف .
وتنقسم الاجناس المدخلة فى الرواية الى ثلاثة اقسام :
– التراث الشعبي ويشمل : المعتقدات والأساطير ، والأمثال ، والشعر العامي.
– التراث العربي ويشمل : ألف ليلة وليلة ، القصص ، الأهزوجة الشعبية في التراث ، الأقوال المأثورة ، الآيات القرآنية ، الشعر بالاضافة إلى المقال الصحفي ، والكلمة والرسالة ، والخطبة.
وسيتم البدأ بالتراث الشعبي ، لأنه الأقرب إلى الحوار والحوارية في السرد ويمثل التراث الشعبي روح المكان والانسان وتفاعلهما ألحى ، ويأتي كرد على ذلك التحول الهائل الذي يقض مضجع الأشياء ، ويرمى بالانسان في متاهات لا حدود لها ، ولا مخرج منها ، ويأتي هذا التراث وبمختلف أشكاله كرد فعل ، كمقاومة لما يحدث من قطع لجذور الانسان فمن خلال ذلك العدد الهائل من الأمثال والأقوال والمعتقدات والأساطير والأشعار تنشأ علاقة قوية بالمكان بالشخصية المحلية ، والتي بدأت تفقد ملامحها تتشوه ولذلك نجد ان التراث الشعبي يمثل الرصيد الثقافى الاساسي الذي تعتمد عليه الشخصيات الرافضة للتغير والذي باستخدامه طوال الوقت تجد فيه مددا وقوة ويقينا في مواجهة هذه التغيرات التي تخلع الانسان من جذوره ونشوة ملامحه . ومن هنا ، فان التراث الشعبي الذي يرد بكثرة في الرواية وخاصة في اجزاء معينة ، كما يحدث اثناء عمل العمال مع الامريكان في الصحراء وكورواه في مظاهرات العمال في حران وفي موقف موران من اتفاقية السلاح الذي احتفل به الحكيم في فندق الرابية، وفي مواقف مختلفة من الرواية ويلعب التراث دور الحفاظ على الهوية والمكان .
* المعتقدات والأساطير الشعبية :
توظف الأسطورة الشعبية والمعتقدات الخاصة ، والطقوس والعادات لاعطاء خصوصية لملامح المكان وعلاقته بالانسان به وما يميز هذه العلاقة خصوصا في حالة الأماكن النائية المعزولة كحال الناس في الصحراء .. وحيث تظهر علاقة خاصة بالطبيعة وحيث يحفل النص الكثير من العادات والطقوس والتقاليد التي تميز حياة الناس ، كايلام الولائم في المناسبات السعيدة ، واختيار الليل كوقت لها ، الذبح واراقة الدهاء على عتبة البيوت ، خصوصا الجديدة، لطرد الأرواح الشريرة والعين الحاسدة والإيمان بالجن والعفاريت ، وتفسير الكثير من الاحداث من خلالهم ، كاصابة متعب ووضحة بالحمى تفسير تصرفات الامريكان واعمالهم وآلاتهم التي يصعب على الناس فهمها فيتم ارجاعها الى الجن والسحرة ، تماما كفعل الانسان الأول في تفسيره للعالم من خلال الاسطورة .
فقد ظل شمران مرابطا ثلاثة أيام وثلاث ليال في سوق الحلال ، وكان خلال هذه المدة صامتا، حزينا وغاضبا، ولا يفعل شيئا سوى إيقاد نار كبيرة تعبيرا عن الحزن والغضب لغياب الكحلة. أولا لأنه الذي باعها للحاكم ، وثانيا لأن فرسا مثل الكحلة لا يمكن ان تذهب هدرا هكذا".
* المثل:
يأتي المثل في ثنايا الحوار ، تلخيصا لمواقف مختلفة ، وتمتلىء حوارات الشخصيات بكثير من الامثال .
إن الأمثال من التراكيب المسكوكة التي تدخل في صياغة النص الروائي والأمثال مقولات تصلح للتعبير عن عدد لا يحصى من المقامات المتكررة عبر العصور".
وتنعكس من خلال استخدام المثل علاقة الناس بالمكان عبر التفاعل تطلق تلك الأقوال التي تصبح مثلا يلخص حياتهم ، ومن الامثال التي ترد في النص:
– اذا تصادقت الرعيان ضاعت الغنم .
– ذاك الغيم خلف هذا المطر.
– ابو الحصين في بلاده سبع .
* الشعر العامى :
أما الشعر باللهجة الدارجة فهو لصيق بحياة الناس ، يحمل إيقاع المكان بشكل مباشر ، فيتناقله الناس بيسر وسهولة ، إنه تراثهم اللصيق بحياتهم ، وكثيرا ما ترد الأبيات في أوقات السمر أو حينما يحدث موقف يستدعى تلك الابيات .
فلو قوله ياليت تطفى عن الحشى
سعير الضماير قلت ليته تهيالى
فكل ماقضى وما فات عنا وما انقضى
غدا طرق ريح واسمر الليل جلجال
* الاهزوجة :
وقريبا من الشعر العامي تأتى الأهزوجة ، وهى ما يخترع في التو والحال ، وباللغة الدارجة او لغة العوام كما يسميهم الكاتب ، وهى في الغالب تعبير واضح عن الموقف من الحدث العام.
وأول أهزوجة في الرواية كانت لمجلى السرحان ، عشية الاحتفال بالانتهاء من بناء خط أنابيب حران /وادى العيون ، وتعكس الأهزوجة موقف العمال من الأمر مكان والذي سيتضح بشكل اكبر في مظاهرات العمال في حران . وفي اثناء هذه المظاهرات ضد قتل مفضى الجد عان وضد تسريح عدد منهم دون أية أسباب أو ضمانات وتعكس هذه الأهازيج وجهة نظر العمال ورؤيتهم الفكرية المتبلورة ومطالبهم الواضحة من الحكومة ومن الشركة .
* التراث العربي :
يأتي التراث العربي فى النص كمعادل للتغير الذي حدث للمكان ، والانسان قطع جذورهما ، إنه محاولة لوصل ما انقطع بفعل التغير . إن أول نص تراثي، في "التيه " يأتي الينا عبر المذياع الذي يصل لأول مرة إلى حران ، فبرغم أن المذياع الة صدمت الناس وحيرتهم لوقت طويل ، الا أنه معها وعبرها يتسلل التراث الينا والى الشخصيات في الرواية في نفس الوقت الذي تحدث فيه الخلخلة والقطع يمد السرد جذوره في تراثه ، يعود اليها ، والناس فى حران العرب ترقب حران الامريكان وما تمثله من تحد مشوب بالحيرة في بادية الظلمات حيث بلغ التغير حدا كبيرا وحيث انقطع كل شي ء عن اصله ، بما في ذلك الكثير من الشخصيات ، فهنا تكثر النصوص التراثية والاشعار وكأنها رد على ذلك الانقطاع والانبهار بالغرب .
ومن أهم النصوص الحاضرة في "مدن الملح " وان كان ذلك بشكل غير مباشر "الف ليلة وليلة " من خلال البناء والقصة داخل القصة ، ومن خلال انتقال الحدث وتداخل الشخصيات . ومن خلال تردد اسم "شهريار" في النص . وتتمثل "ألف ليلة وليلة " على مستوى البناء الاعتماد على الليالي حيث هي زمن مهم في النص ، زمن للتوقف والاستيعاب للحدث الخارجي المباغت والليالي كفضاء تبدو في اول النص مقاربة لفضاء "الف ليلة وليلة " حيث هي فضاء مؤانسة وسهر، وسمر بالحديث وحيث هي فضاء لنقل التراث الانساني عبر العصور ، عن طريق الحكاية، والمثل والاغنية .
من هذه الفضاءات الليلية :
– فضاء الليل والسمر في وادى العيون .
– فضاء الليل بالنسبة لنفر في "عين فضة ".
لكن وبعد دخول الزمن التاريخي أخذت الليال شكلا مختلفا ومفارقا فأصبح الليل فضاء السكون، حيث يتم تأمل أحداث النهار ومحاولة استيعابها وحيث يكبر الهم ويزداد.
وفي الزمن الجديد يتحول معظم الأبطال إلى رواة ، خصوصا أولئك الذين يجيدون الحديث عن الأماكن الغائبة ، وحدهم يستطيعون مد الجذور في الأماكن الغائبة . تماما كما يفعل الراوي ، إنه بهؤلاء يوسع عمله في الرواية .
وفي الليل وحيث يصبح البوح حاجة ملحة ، ويتحول الحديث الى حديث شجي وحزين ويحاول الناس عقلنة واستيعاب احداث النهار وفهمها من هدم للبيوت واقتلاع للاشجار وظهور للآلات، وللبشر الغرباء وموت كثير من الناس كضحايا لهذا التغير.
كذلك يظهر الليل كفضاء غرائبي تتألق فيه الاشياء الغريبة ، باخرة الامريكان التي وصلت حران مساء وجعلت حران الامر يكان تشتعل بهجة وأصواتا وأضواء وغناء وجعلت حران العرب تشتعل حيرة وحزنا.
وحين عرض الأمير خالد الجهاز (الراديو) على أهل حران في الليل ، صفعتهم الحيرة من الأصوات ومن الموسيقى والحديث .
إن ليالي "مدن الملح " وان شابهت ليال "الف ليله وليله" بوصفها فضاء سهر وغرابة ، وحتى فضاء غناء ، فانها تفارقها في الاتجاه ، فشهرزاد تحكي لتحمى نفسها من الموت ، ولتخلص شهريار من ظلمه وقسوته وتعيد اليه انسانيته أما الحديث هنا في "مدن الملح " فيتم لاستيعاب الحدث الخارجي المحمل بمزيد من الحيرة . في كل يوم جديد ، ويمتلىء أكثر من سابقه بالأحداث الكبيرة والصغيرة ، في رحلة التحول إن الليل المظلم يصبح مرآة يرى فيها الناس حالهم ، وليس الليل هو المظلم ، وانما حياة الناس هي التي أظلمت بفعل التحول .
وفي العلاقة مع "الف ليلة وليله " تظهر القصة كأداة مهمة في بناء النص ، حيث تأخذنا الحكاية إلى أخرى وكل شخصية تدور حولها اكثر من حكاية ، وأحيانا تكون الحكايات متضاربة ، حيث يجرى الصراع ، وحيث الخبر الواحد يروى بأكثر من طريقه .
وتقوم القصة بدور مزدوج في السرد، حيث تبنى شكل السرد ومساره ، وفي نفس الوقت قد تضلل القصة او الحكاية السرد، حين تتضارب القصص والروايات . والليل هو الفضاء الأربح للقمة ، بل هو فضاؤها الأساسي ، وحين تتألق القصص مع السهر والسمر ، وحين تنام عين النهار، وتبدأ لواعج البشر في صوغ وسرد الحكاية . وفي هذا الوجه تتشابه "مدن الملح" مع "الف ليلة وليلة " فالقصة داخل القصة ، والحكاية تسلمنا الى حكاية أخرى.
وتقوم القصة في "مدن الملح " بوظيفة أخرى وهى خلق علاقة بالمكان . ومد الجذور فيه ، فمتعب الهذال يروى عن "وادى العيون " قصصا تعود لأيام نوح . وأهم الأشخاص في معسكر العمال أولئك الذين يجيدون الحديث عن الأماكن الغائبة ، حيث يعيدون التواصل معها ويجعلون الأرواح تحلق فوقها وتتواصل بطريقة حية . كما تقوم القصة باعطاء الحيوية لحياة الناس الرتيبة ، فهي تنتقل من مكان إلى آخر ، حاملة صوت الحياة المتغيرة من خلال امتزاج الإنسان بالمكان .
هذا بالاضافة الى دور القصة في بناء عالم بديل لهذا العالم المتهاوى المنهار.
"والنساء المسنات " وهن ينمن الاطفال ، لا يجدن حديثا أمتع من حديث الذين مروا من الحكام، والشيوخ والذين اغتنموا فجأة ."
كان الخيال يحمل الأطفال والعجائز بعيدا، يعطيهم القدرة على إعادة تشكيل العالم ، بحيث يبدو كل شىء هنا ومؤقتا ، ولابد أن يسقط نتيجة أول هبة ريح ، أو إذا ما رفع الرجال في وجوه بعضهم السيوف !".
* القصة :
إن النص التراثي ، القصة والقول والخبر، يتخلل الرواية ، ويدخل كل نص بصوته الخاص . يفضح الحاضر في نفس الوقت الذي يخلق معه علاقة .هذه النصوص القديمة التي تتخلل النص المعا هو ، وتحاوره ليقول النص من خلالها مالا يستطيع أن يقوله مباشرة ، وبايجاز شديد ودون أن يقع في المباشرة والخطابية ، وتتنوع مصادر التراث وتتنوع كلمته : امرؤ القيس ، السيرافي ، ابن المقنع ، المدائنى ، الاسكافى ، «كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك» رسائل الجاحظ ، أبو حيان التوحيدي.
ان القصة الأولى التي تأتى الينا عبر فضاء الليل العجائبي ، وعبر المذياع الذي يسمعه أهل حران ولأول مرة عند الأمير.
وعبر نفس الجهاز نسمع مقولة عمر بن الخطاب حين فتحت عليه كنوز كسرى «ما الفقر أخشى عليكم» إن كنوز كسرى فى النص هي النفط وأن الخشية الآن أشد وأقوى .
حديث امرىء القيس ووصفه للمرأة .. إن هذا النص يصل الينا عبر ابن البخيت ، أهم نوافذ النص على التراث وأهم رواته ، يحفظ الغزوات والفتوحات ، يحفظ الأمالى للقالى عن ظهر قلب.
ثم إن هذا الوصف للمرأة يعكس نظرة الأمراء اليها وانشغالهم بها.
وقصة الملك الذي يشرب وأهل ناحيته من ماء السماء.
ولا يكف خريبط عن ترديد هذه القصة على مسامع أبنائه ليبين لهم ضرورة السيطرة على عقول الناس ، واقناعهم بكل ما يريد وبكل السبل ، وهذا ما فعله خريبط ، وان كانت القصة لا تقول ذلك مباشرة وانما استخدامها هنا وفي هذا الموضع يقول ذلك ويتبعها بهذا المثل . "إذا جن قومك فعقلك ما يفيدك ".
كذلك قصة المنصور وانشغاله بأمور رعيته ، تشير الى انشغال خريبط عن رعيته فالقصة المدخله ، تفارق القصة في النص وتكشفها ، كذلك تتم المفارقة في الشخصيات عبر استحضار شخصيات مشرقة في التاريخ عمر بن الخطاب ، المنصور، عمر بن عبد العزيز، ابن سينا.
الرسالة التي كتبها ابن البخيت للعجرمى ، نزولا عند رغبته في كتابة رسالة الى علماء العوالى لينبههم إلى خطر الساحر الذي ذاع صيته في العوالى ، وكان خريبط من ضحاياه ، وكانت من احد الكتب التي احضرها من مصر.
رسالة ابن البخيت الى العجمرى وقد أخذها من كتاب ايضا ، وكانت حول تسمية ثروة زوجه فنر ملكه .
والقصة التي قرأها ابن البخيت لشداد عن الحاكم الذي أنفق أهواله على جارية في حين كان شعبه يعانى من الفقر، فاجتمع الأمراء عليه وتتلوه ، وفي المفارقة تقول القصة ان حكام موران الذين يفعلون كما فعل الحاكم في القصة الا يستحقون نفس المصير:
والى جانب القصص هناك الاقوال المأثورة والتي يأتي معظمها عبر ابن البخيت ايضا :
– قول مسلمة حول ممن تطلب الحاجة .
– قول عمر بن عبد العزيز عن أهمية حديث عبدالله بن عتبة بن مسعود.
«إن في المحادثة تلقينا للعقول وترويحا للقلوب وتسريحا للهم وتنقيحا للأدب ».
والأقوال التي وردت في رسالة ابن البخيت للعجرمى . وتوصيته له ان يحفظ سره .
كذلك قول ابي بكر عن الملوك وكونهم أشقى الناس .
إن الاقوال تقوم بنفس وظيفة القصة ، تعبر عن المواقف المختلفة من خلال لفة التراث ومن خلال أقوال تفارق الواقع وتكشفه .
ومن الوظائف الهامة التي تؤديها هذه القصص والأخبار لربط النص الروائي بالتراث ويقسم خاص منه هو الفن القصصي الذي يمثل نوعا من الخبرة الجماعية ، تلجأ الشخصيات الى هذا الكرد الجماعي للتعبير عن رغبتها الخاصة .
* النصوص الدينية :
كذلك يتم إدراج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، إما بالنص أو بالمعنى ويظهر النص الديني كجزء من ذاكرة الناس الحية ، وغالبا ما يظهر في لغة الحوار ، ولموا جهة مواقف الحياة الصعبة مع دخول الزمن التاريخي ، ففي اليوم الذي وصلت فيه اكبر باخرة امريكية الى حران ، حاملة عصرا بأكمله اليها .. فان عبدالله الزامل يذكر الناس بالصوم وبالحديث الشريف الذي يعتبر الصوم وسيلة للعصمة من الغواية والمتمثلة في السفينة الامريكية ونسائها المتبرجات . تلاوة ابن الراشد لأية قرآنية عند خوفه من ركوب البحر مع الأمير في حران الأمريكية .
ويحفل النص بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، تقال خلال المواقف المختلفة،. كذلك لغة الراوي، تحفل أيضا بهذه المعاني . كأن يصف حران العرب في مكانها الجديد بعد أن طردت من مكانها الأساسي قرب البحر ، بأنها انتبذت مكانا قصيا لتهرب مما يراد لها.
ووصفه لموران بأنها كانت قبل ذلك نسيا منسيا.
إن هذين التعبيرين مشتقان من سورة "مريم ".
"فحملته فانتبذت به مكانا قصيا . فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا".
* الشعر:
يقول منيف عن الشعر في الرواية:
"فهذا الرصيد الشعري عند العرب يثقل ذاكرتها ويقتحم عليهم حياتهم اليومية ولذلك لابد من الوصول إلى معادلة جديدة تأخذ بعين الاعتبار طريقة البيان اللغوى والذاكرة التاريخية ، إضافة الى لفة العوام كما أسميهم ".
فالشعر يوحى بالجو العام ويختزل الكثير من الكلام ، فأم حسنى وهى تقرأ الفنجان لزهرة تردد الكثير من الأشعار التي تحفظها لتحقيق غرضها والايحاء بما تريد. ويحفل النص بالكثير من الأشعار ، تأتى على لسان الشخصيات ، خاصة ابن البخيت رواية التراث في النص .
هذه الأشعار تتخلل لغة الناس اليومية ، تلخص مواقف حياتهم ، فالموقف يتضح فور ربطه بالموقف الذي يعبر عنه الشعر والذي أصبح خبرة عامة ، وتجربة مكتملة مشابهة وسابقة .
كان زيدان صاحب مقهى الأصدقاء يردد ليخفف عن نفسه وعمن حوله واقعهم المظلم وحياتهم الصعبة ، فرغبوا أن تكون عابرة ولا تدوم :
مأ بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال الى حال
كذلك الابيات الشعرية التي يترنم بها
مغنى العوالى عمر زيدان ومساعده رضا الجاوي إن الفناء يعبر عن المعاناة من قسوة السلطة، والغناء والشعر كشف لحالة الشخصية وموقفها من الحدث العام ، وفي الغالب ليست هناك مشكلة شخصية تؤرق الناس ، إنما هو الحدث العام الذي يهدم حياتهم ويجعلها لا إنسانية ، كما أن الشعر يربط الناس بتراثهم الثقافي .
* الشخصيات التراثية :
يتردد في النص كثير من أسماء الأنبياء والشخصيات التاريخية : سيدنا الخضر ، وموسى ، يوسف ويعقوب ، الأعور الدجال ، المهدى المنتظر.
تستحضر هذه الأسماء في المواقف المشابهة والقصص التي ميزت حياة هذه الشخصيات لكن من أهم هذه الشخصيات ، شخصية المهدى المنتظر، والذي كثيرا ما يتردد اسما في النص ، ويظمر متعب الهذال وكأنه المهدى المنتظر، يظهر كروح للثروة والتمرد وينتظره الجميع من عرفه ومن لم يعرفه ، وتؤكد نبؤة نجمة المثقال ذلك .
"نجمة المثقال ، عرافة الحدوة وما جاورها ، قالت لما سئلت عن متعب الهذال انه لابد عائد، وقالت انه يتجول في الصحراء ، ينتقل من مكان الى آخر ، لكنه ينام في مكان بعيد ، وهذا المكان قريب من البحر ، سيبقى هكذا سنين لكنه سيعود ، وحين يعود ستكون عودته كريح السموم ، قوية كاسحة ، لا يمكن لأحد أن يردها أو يقف في وجهها".
كذلك يحضر مشهد استشهاد الحسن والحسين من خلال مشهد الاعدام في ساحات البلاد كلها ، حيث يهوى سيف الجلاد على رأس الضحية ليتدحرج الرأس على الأرض وتفور نافورة الدهاء.
" ما كاد يقول ذلك حتى استعدت صورة كدت أنساها : الجلاد الاسود ، الممتلىء ،يهز سيفه، كأنه يلعب به ، والناس كأنهم يشهدون تمثيلية ساخرة ، من جملة مشاهدها : ذلك الأسود المرح، المختال بقوته ، وهو يدور ويصوب نظراته الى الناس ، ثم فجأة يتحرك بطريقة مختلفة، إعلانا عن بدء فصل جديد، فيخيم الصمت ، وخلال دقائق قليلة يؤدى دوره باتقان، يهوي على الرأس ، وغالبا ما ينفصل بضربة واحدة ، وتنفر الدهاء ، ثم تغور في الرمال ، بعد فترة قصيرة تهرول مجموعة من الحرس لكي تجمع الأجزاء وينتهى المشهد ويسدل الستار ويتفوق الناس ".
*التراث الغربي :
يظهر التراث الغربي كتدعيم وتعبير عن الوجود الغربي وعن ثقافته ، ويظهر مع أول أجزاء الخماسية حسب الترتيب الزمني " تقاسيم الليل والنهار" وفي آخر جزء " بادية الظلمات " وحيث تنصرف اليه الشخصيات الممثلة للسلطة . ففي مجلس الحل والربط حيث يجتمع فنر واخرته كثيرا ما يردد على مسامعهم أجزاء من كتاب " الأمير" لميكافللى . وإذا كان خريبط يطبق بعض تعليمات الأمير بسليقته ودون ان يعرفه ، فان فنر يصبح تلميذا مخلصا لميكافللى ، وذلك ومن خلال هاملتون رسول الغرب في الصحراء.
ويعتبر كتاب "الأمير" من أطول المقتبسات في الرواية، حوالي ست صفحات بالاضافة الى تكرار مقاطع عديدة من هذه الصفحات في مواضع متفرقة من الرواية .
يأتي كتاب "الأمير" الى فضاء السرد عن طريق هاملتون ، الذي كان يحلم بتشييد مملكة من طراز خاص .
في البداية حاول تحقيق الحلم من خلال خريبط نقل اليه بعض وصايا "الأمير" خصوصا وخريبط يحاول توسيع حدود سلكته ، وذلك بعد استيلائه على العوالى ، فقد قال له هاملتون مرة :
"لدينا مفكر نعتز به ، يا سموكم ، وقد قال عن بناء الدولة والسيطرة على الشعب كلاما حكيما، ولديه رأى لمعالجة وضع مثل وضع العوالى . وأرى أن تسمعه ".
وقد قدم هاملتون لخريبط تلك النصائح والوصايا .. لكن هاملتون وجد في شخص فنر الأمير الاقرب الى احلاله فانصرف الى تعليمه وتهيئته ، فقدم له الكثير من وصايا "الأمير" بعد أن ترجمها الى العربية لتنفير حياة فنر بشكل حاسم .
تشير هذه الوصايا الى العلاقة الأساسية بين الغرب وبين السلطة في "مدن الملح" هذه المدن التي أوجدها الغرب تظهر مقاطع كثيرة منها وتتردد في السرد بعد ذلك يتذكرها فنر في "بادية الظلمات " في مجلس الحل والربط ويرددها على مسامع اخرته ، وصار يسميه بالصاحب صاحبنا.
"حتى صاحبنا، قال بكتابه ، ولابد قربتوه " تتخذ التدابير اللازمة لارتكاب العنف والقسوة فورا ومرة واحدة . ويجب ان لا يعاد اليها من يوم لأخر وهكذا يتمكن الامير عن طريق عدم القيام بتبدلات جديدة من خلق الطمأنينة عند شعبه واكتسابه الى جانبه عن طريق القيام بالمشاريع النافعة له ".
والحقيقة أن هاملتون قد اختار لننر من الوصايا ما يناسب وضعه تماما ، ويناسب الدور المطلوب منه ، وتنعكس الوصايا خلال الدور ، الذي لعبه فنر في موران .
* الاجناس الاخرى
إلى جانب الأجناس المدخلة السابقة ، والتي تعبر عن غنى النص وانفتاحه على النصوص الأخرى، فان هناك اجناسا غير ادبية تدخل السرد مضيفة مزيدا من تعدد الاصوات في الرواية هذه الاجناس هي : الرسالة ، المقالات الصحفية ، المذكرات ، اليوميات ، أصوات متعددة تتجاوب فيما بينها ، وقيما بينها وبين مختلف مكونات السرد الأخرى ، بما في ذلك الاجناس السابقة معبرة عن الصوت المعاصر للرواية ، صوت اليومى والمعاش ، دونما أي حلية أدبية ودونما اي تزويق لفظي ، وتعبر عن المواقع المختلفة للشخصيات ، من رفض او قبول او محايدة من هذا الواقع المتغير، وهذه الأجناس هي :
– الرسالة . تظهر الرسالة ككشف للشخصية ، وفي نفس الوقت شهادة على عصرها وكثيرا ما تكشف الرسالة حقيقة الشخصية وموقفها ، ومن الرسائل المهمة في النص :
رسالة الدكتور المحملجى لابنه غزوان ، وهو مسافر إلى أمريكا ، ورد غزوان عليه تكشف عن شخصية الحكيم وكذلك تكشف شخصية غزوان واهتمامه بالمال والدور الذي لعبه في صفقة الأسلحة ، ويظهر ذلك في رسالة بعث بها الى أبيه ليمهد لزيارة الوفد الأمريكي.
والرسالة "بعث بها غزوان الى الحكيم وهو مع الحاكم المعزول خزعل في بادن بادن .
"ولذلك فان السؤال الذي أطرحه على نفسي صباح مساء هو كيف أستطيع أن أصل الى الثروة، وكيف أصبح ثريا".
رسائل حماد ، رئيس جهاز الامن ، من أمريكا ، أثناء فترة التدريب والتي بعث بها الى الحكيم ومطيع ، تكشف مقدار الانبهار الذي أصيب به ، وصدمة الحضارة الأمريكية التي أصابته .
"وإمريكا يا أخ مطيع عظمة لا توازيها عظمة أخرى".
أما في بادية الظلمات وبعد التبدلات الكثيرة في موران ، وحين اصبح حماد سفيرا لبلده في طوكيو، فان رسالته الى صديقه سفير بلاده في برن ، تكشف مقدار خيبة الامل التي منس بها بعد ان نبذ الى طوكيو.
رسالة مس ماركو عمة هاملتون الى فنر تكشف ولعها وعلاقتها بالشرق .
وهناك رسائل كثيرة في الرواية رسالة فنر الى ابن مشعان ، رسالة خريبط الى فنر وهو في العوالى .
رسالة ابن مباح الى ابن مشعان حول <خلافهما مع خريبط ، وهى باللهجة الدارجة وقد كانت رسالة شفوية .
وبعث اليه ابن صباح يقول: وإذا مقامك بالعوالى صار صعب ، فمن رأي أن ترجع إلى الأهل والحمولة، لأن حسابنا مع خريبط ما يكون ولا ينحسم الا بموران ، وأنت أدري منى بأهل العوالى، أهل العوالى مطبلين بالدنيا مزهرين بالاخرة ، وأبدا ما يتأمنون ، أمس كانوا مع ابن ماضي ، واليوم مع خريبط ، وما تدري باكر مع من . جماعة يريدون ويدرون مصلحتهم وهو البحر غيرهم ، فالرأي ان ترجع وتحضر نفسك ، ويلزم تطرش لنا مراسيل بين يوم والثاني ، وحنا ، هنا ، شاغلين الدنيا والآخرة وخريبط ما يقدر يتقرب ، وابنه خزعل ترك الحويزة من شهور ، وانشاء الله ينصرنا على خريبط .
الرسالة السابقة ، هي الرسالة الوحيدة باللهجة الدارجة ، وهى رسالة شفوية لكنها تعكس موقف ابن مياح من خريبط والصراع على السلطة والرسائل السابقة بشكل عام تعكس مواقع الشخصيات وعلاقتها بالحدث الاساسي، التغير في تعدد حالاته ، انها تنويع على الأصوات وتعميق للتعددية التي يسعى اليها الروائي.
وإلى جانب الرسائل ، هناك المذكرات واليوميات والمقالات الصحفية ، وكل هذه الأجناس شهادات على عصرها ، تتنوع وتختلف مواقع من يكتبها إما قريب من السلطة ، يشاهد عن كثب واما غريب يراقب من بعيد وينقل ما يرده بحياد ومن هؤلاء القناصل مستشارو السفارات والمؤرخون ، الصحفيون ، الزائرون للمكان ، وكل هؤلاء يقدمون شهاداتهم . وما يفرق بين واحد وآخر هو تقديما ضمن السرد، الحكاية الأساسية .
وهؤلاء الرواة الذين يوظفهم الراوي العليم ، ضمن حكايته الأساسية يستفيد من تعددية أصواتهم ومواقعهم التي يرون منها.
ويتم تقديم هؤلاء الرواة بصوت الراوي العليم "أحد الذين كتبوا سيرة الحاكم ورغم أن رسائل القناصل كانت تفيض بالعاطفة وتمتلىء بالتفاصيل / كتب رأفت شيخ الصاغة في مذكراته / كتب مؤرخ خريبط بعد سنين / كتب يونس شاهين في يومياته عن تلك الفترة / قال يونس شاهين في أحدى الافتتاحيات التي كتبها / كتب هاملتون في مذكراته / كتب روبرت يونغ في يومياته / كتب ديفد الى جريدته / كتب زائر أجنبي / كتب طالب يعد أطروحة جامعية ، كتب السفير الامريكي في أحد التقارير.
إن الراوي لا يترك كلمة تمر دون أن يغنى بها سرده وحكا يته ، الخطب والبلاغات . الحكومية ، والتعليمات ، كلها تخدم تعدد الأصوات الذي يسعى اليه الروائي.
* الأسلوب أو شاعرية اللغة :
يقصد بالأسلوب جمالية السرد وجمالية السرد في "مدن الملح " تأتى من جهات عديدة : تناغم اجزاء السرد ، حكاية وحوارا ووصفا ، اضافة الى الأجناس المدخلة والمختلفة أشكالها ثم تلك العلاقة المتبادلة فيما بينها وبين الحكاية الأساسية من مفارقة واقتراب إن الراوي يرتب تلك الأجناس والحوارات حول المحور الأساسي : التغير والانقلاب ويصلها به ، لذلك يصبح السرد وحدة متكاملة ، ويصبح جمال أجز ائه آتيا من ذلك التناغم مع بقية الأجزاء :إن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب بل بمجموعها".
كذلك تأتى شاعرية السرد وجماله من نضوحه بالمكان حتى لكأن المكان يتشكل من خلال الوصف ومن خلال تلك التشبيهات اللصيقة به .
فالأخبار "تدور مثل زوبعة الصحراء" والكلمات "تتساقط كما يتساقط المطر" والراوي وهو يصف صدمة ذلك الصوت الذي يقطع سكون الصحراء لأول مرة ، بنضح أيما نضوح بالمكان وكان دويا يشبه الرعد البعيد ، أو يشبه سقوط أعداد كبيرة وهائلة من قرب الماء الممتلئة على أرض سبخة ، فيرتج الهواء ، وتصطحب الآذان حتى يصعب تمييز الصوت أو مكانه ".
كذلك صوت أم الخواش وهي نائمة في آخر ليلة للناس في الوادي وقبل ان تموت ادانها تشبه ولولة ريح مقبلة او استغاثة من بعيد " والبدوى يشبه طائر الصحراء القمري وصالح الراشدان حين يستثار يرتد نحو الناس كالزوبعة ويصف السرد عويد المشعان " سهل مثل الثمر الناضج " هذا بالاضافة الى تشبيهات أخرى كثيرة : نهض مثل جمل ، ضحك كحصان نهض مثل قط ومشت كالبطة «أو قولهم ، اذا تكلمت بالليل فاخفت وان تكلمت بالنهار فالتفت».
هذا القول ينطبق على الانسان في الصحراء والمفتوحة كراحة اليد ولذلك فان الوصف ، وصف الاشياء ووصف الأشخاص ، ينطلق من هذه العلاقة بالمكان ، ويشترك في ذلك السارد والشخصيات ، فها هو غافل السويد الأمير السابق لحران ، يصطدم حين يعود الى حران بوجود الأمريكان – إذ يرى أشكالهم المغايرة لأول مرة ، فيخلع عليهم أوصافا فاضحة بالمكان، قال لمساعده ميمون "وكدتهم ؟ شفت وجوه ؟ مثل الجرابيع أو مثل خبز الفطير مبقعين وعيونهم خرز ، اذا تحملوا الشتاء ما اظنهم يتحملون الصيف ".
ومما يضفى جمالية على السرد تلك النبوءات التي ترد على لسان الشخصيات وتبدو نسيجا خاصة ، وصوتا مختلفا ضمن الأصوات التي تتردد فى النص ومن هذه النبوءات نبوءة نجمة المثقال ، قبل أن تموت ، في ذلك الطقس من الضحك الذي استولى عليها ثم انتقل الى بقية النسوة من حولها ، واذا كان موت نجمة قد ترك فراغا ، لأن الناس تعودوا أن يلجأ وا اليها ويستضيئوا بأقوالها ونبواءتها ، فان نبوءتها الأخيرة قد تركت الحيرة وما يشبه الفزع لأنها تنذر بخراب المكان ومن وادى الجناح حتى الضالع ومن السارحة حتى المطالق ، النار تلهم النار والصفير يموت قبل الكبير ، أولها عد وآخرها مد الولد لا يعرف أبوه والاخ لا يعرف اخوه وتبدأ كل فقرة من فقرات نجمة بالازمة السابقة من وادى الجناح حتى الضالع ومن السارحة حتى المطالق تحدد المكان الذي ستتحقق فيه النبوءة .
كل أجزاء السرد السابقة بتناغمها وشاعر يتها ، يربطها ايقاع متوار خفى في أغلب الأحوال ، ومن خلال "لغة الراوي إنه ايقاع الفقد، فلولا افتقاد الراوي لعالم بأكمله ، لما كان لنا أن نسمع الحكاية ، إنه يذكرنا بوقوف الشاعر الجاهل امام الطلل الدارس يسائله ويناجيه ويعيد اليه الحياة التي يتذكرها ويتمثلها من خلال الذكرى "والطل ذكرى ، هذه تصل الشاعر بحياة انصرمت ، أو بحضارة انقرضت ، الحياة والذكرى فترتا خصب ونما، وعيش .. إنهما الماء حين كان يهب الحياة ".
هذا الوقوف الذي يقفه الراوي امام المكان في وادى العيون حران " "موران" وغيرها من الأماكن ، التي يرحل بنا اليها يجعلنا امام لفة حزينة شفيقة ، تأتى من خارج المكان الواقعي تنحدر من لفة الملحمة والأسطورة ، وهى لفة تزيد مقاطع الوصف شفافية وجمالا تختفي وتظهر حتى لكأن الفضاء كله يعتلى ء بها لآخر مرة ففي لفة تقترب من الشعر او تكونه يصف الصحراء في اندماجها الكامل مع كل عناصر الكون وكل عناصر النص "الشمس وهي تداعب حبات الرمل وتغسلها من ندى الليل ورطوبته ، تفعل ذلك بحياء أقرب الى الكسل لكن بتقدم النهار ، وارتفاع الشمس تتحول الدعابة الى عناق دافىء بين عشيقين ولدا معا منذ الأزل فتنفعل خبات الرمل ، تتغير ، يميل لونها تدريجيا الى الصفرة المقتولة الى البياض الشمعي ، ثم تلتحم بالزرقة الكلية ، والهواء الاغبش فيصبح اللون كله أقرب الى لون الملح لحظة استخراجه ، أو إلى لون الصمغ السائل ، فإذا هبت ريح تهتز الصورة ، ويرى اهتزازها على شكل رجات مائية تبدأ من أقصى الأفق وتنتهي في بؤرة العين" .
يستمر الراوي بالوصف ، لكن قبل ان نهنأبه يعلمنا أن هذا كان قبل أن تصلها مئات السيارات ومئات اكثر من الخواف ، وعدد محدود من المدعوين ، اثناء الحفلة التي اقامها المحملجى لخزعل في بادية المليحة .
أما الوصف الآخر الشفيق والذي يبدو أقرب الى رثاء الذات أو رثاء عزيز فهو وصف المنفى، ورغم ان من فى المنفى هم خزعل ورجاله ومهما كان النفى معاديا لهم ، فان الوصف الذي يقدمه الراوي يتجاوز حالهم بان يمتد ليصل حال المثقفين المطاردين من مدنهم المطرودين من اماكنهم .
وفي وصف المنفى يفرده الراوي على السطر ، اظهارا لتفرد» وأهميته كما أفرد من قبل وادى العيون وكما أفرد القحط .
* النفى:
المكان البارد الموحش ، الذي يشعرك دائما أنك غريب ، زائد وغير مرغوب فيه المكان الذي تفترضه محطة ، أو مؤقتا ، فيصبح لاصقا بك كالعلامة الغارقة ، وربما لانه مؤقت يصحب وحده الأيدى ، كالقبر ، لا يمكن الهروب منه او مغادرته .
حتى الفرح والمسرات الصغيرة ، وأيضا الانتصارات العابرة أو الموهومة ، إن لها في المنفى مذاقا مختلفا . إنها ليست لك ، انها مؤقتة ، هشة ، وتتحول بسرعة الى حزن كاو، والى بكاء لا يعرف التوقف .
أما كيف تذوب وتتراجع كالحلم ، ولا تشبه مثيلاتها التي تحدث في الوطن فإن في الامر سرا يستعصى على الفهم أو التفسير.
مريم خلفان: كاتبة من دولة الامارات.