ثمة اسماء كثر للتجربة القصصية الجديدة فى عمان ، تتبدى لنا بين الحين والأخر عبر ملاحق الصحف ، التي ما فتنت فى تشجيعهم ودفع مواهبهم نحو اطر مكثفة من الرؤى الواقعية التي تسعي الى تحقيق حالات جديدة من التميز والمغايرة .
وعبر هذه الحالات العامة لهذه التجربة تنبعث لنا اسماء ظلت فى هواجسنا متوجسة حيز المحاولة التي تقدم نتاجها بشىء من الوعد بالجديد والمتميز دوما.. وهى بهذه الفكرة التفاؤلية تطمح فى ماهيتها الى تجاوز نصوص التقليد والافتعال ، متخذة معايير عدة اهمها:
"اعتناق القيم التطورية ، والتجسيد المحايد بين العقلاني واللاعقلاني فى العالم القصصي، ومحاولة ايجاد نوع من الخصوصية الفنية " (1) عن طريق التوظيفات والقناصات التاريخية والثقافية العامة ، اضافة الى اعتماد تقنيات واساليب المسرح ، والاتكاء بشكل مباشر على عنصر البناء الشعري فيما يخص الشكل اللغوى للنص القصصي.
والتجربة القصصية الجديدة فى عمان بهذه الافكار مجتمعة استطاعت ان تسهم وبشكل جدي فى خلق نص جديد له شكله وعمقه المتميز، فمنذ ان خرج كتاب القصة فى عمان من مرحلة الاستمرار الرومانسي "التقليدى" والقضية الاساسية امامهم تتوق الى البحث عن الجوهري بين تناقضات الواقع ، والبحث عن اسلوب تتلاءم وسائله مع رؤية العصر الذي تعيشه ويتمثل هذا البحث فى محاولة التأصيل لاسس هذا الفن القصصي الجديد، اضافة الى ايجاد وظيفته فى المجتمع من خلال المنظور الذي شهده المجتمع ، وتبنت القصة الجديدة تحليله وعرضه ونقده.
وقد ادى هذا التطور -من جانب أخر – الى خلق جهود قصصية واسعة النطاق تعددت فيها وسائل التعبير، وسعت فى مجملها الى توجه رصين يلتحم بالظرف التاريخي، ويستمد اواصله من التراث الواقعي الراسخ الاصول فى الذاكرة العمانية .
من كل هذه المعطيات تفتح الساحة الادبية العمانية اساريرها للتجربة القصصية الجديدة باعلامها الواعدين الذين تجاوزت تجاربهم حيز الاصدار الصحفي الى نمط الاصدا رات التأليفية الأولى فى حياتهم الادبية ، ففي ظل فترة قصيرة لا تتجاوز العامين استبشرت ساحتنا الادبية بقدوم مجموعات عديدة اهمها "مريم" (2) لمحمد بن علي البلوشى، و"النذير" (3) ليونس بن خلفان الاخزمى، و" ايام الرعود عش رجبا " و" مفاجأة الاحبه " (4) لعلي المعمري "ونافذتان لذلك البحر" (5) ليحيى بن سلام المنذري، و " المطر قبيل الشتاء (6) لسالم ال تويه، و " قشه البحر." (7) لعبدالله حبيب ، واخيرا . "بوابات المدينه " (8) لمحمد الرحبي.
تأتى هذه المجموعات لتغطى تلك الفجوة التي سادت النص القصصي من جراء تقليديته ، رغم ان ارهاصات مبكرة لهذه التغطية قد حاولت ذلك مسبقا، ونذكر هنا على سبيل التمثيل لا الحصر مجموعة "ساعة الرحيل الملتهبة " لمحمد القرمطى التي صدرت عام 1988، وكذلك
مجموعة "اغاريد الصهيل " لحمد رشيد، وقبل هاتين المجموعتين مجموعة " انتحار عبيد العماني" لاحمد الزبيدي التي صدرت عام 1985، اضافة الى "التباسات الشاعر سيف الرحبي القصصية " التي ربما كتبها قبل ذلك بقليل ولم يقدمها فى مجموعة مستقلة ، وانما ضمنها كتابه
الشعري "الجبل الأخضر. الذي صدر عام1983 وقد حملت هذه الالتباسات عناوين "تجليات النزهة الجبلية" و" الحانة " و " هذيان الليلة الاخيرة " و "الانطفاء الباكر".
ان ابرز ما تؤكد عليه تلك المجموعات الجديدة مجتمعة هو حرية الفنان القصصي فى توظيف وسائله ومعالجة كافة اشكال التعبير التي تكفل له صوره الموضوعية فى التجسيد والتأثير… وهى بذلك تستفيد من عدة اطر اهمها: القناصات التراثية والفلكلورية والتاريخية والاسطورية التي تكفل خصوصية المكان والزمان والظرف الواقعي المعالج للحدث .
كما انها من طرف ثان تلجأ الى توظيف الاحلام والرمز واللغة الشاعرة والطبيعة وتيارات الوعى واللاوعي والمنولوج والميتافيزيقا، وغيرها.. وكل ذلك لا من اجل اظهار تماسك معين، وثبات محدد المعالم ، وانما من اجل كشف اسرار التناقض الكامن فى الحياة الانسانية والوقوف فيها موقفا واضحا وصريحا.
ولعل هذه المواقف قد تحددت من قبل فى البدايات الأولى للقمة العمانية ، إلا انها لم تكن بتلك الجدية والتميز والمغايرة التي نجدها الآن فى مثل هذه المجموعات التي تبدو من اول وهلة بحجم اكبر واوسع فى الامساك بالخيوط الحياتية المختلفة التي تنبىء عن وعي دقيق ومحكم بالزمن ومتغيراته ودقائق اموره وايديولوجياته ، واذا كانت محاولتنا الآن – ونحن نستقرىء بعض الانماط الموضوعية للتجربة القصصية الجديدة ، تقودنا الى بيان بعض مدلولات واشكال التعبير فيها بغية الوصول الى كشف تلك المواقف ، فإن من الاهمية بمكان التراجع الى معلمي النشأة والتكوين فى هذه التجربة الجديدة لرصد الخط التطوري لها ابتداء من ار بعينيات هذا القرن وانتهاء بالمرحلة السابقة للتجربة الجديدة التي اشرنا اليها فى سميات تلك المجموعة "اى مرحلة السبعينيات " فالنشأة القصصية فى حد ذاتها عملية تاريخية تستمد جذورها مما يسبقها من ظروف وتبنى تطلعاتها مما يجد فى المجتمع من معطيات ، فهي تجارب شاملة متعددة الخطوط ، تتضمن بصورة مباشرة ارهاصات الجهود القصصية الأولى(9)، ونحن نجد هذه الارهاصات كثير من القصص المبكرة كتلك التي بدأها عبدالله الطائى(10) ونشرها بل وترك بعضها مخطوطا -مثل " اختفاء امرأة " و" اسف " و " خيانات " و" دوار جامع الحسين " و " عائلة عبدالبديع " و" مأساة صبحية " وغيرها.
وفى ظل هذه النشأة ايضا تطالعنا محاولات احمد الزبيدي وسعود المظفر اللذ ين كتبا نصوصهما فى فترة متأخرة عن هذه البدايات إذ كانت محاولتاهما متمثلة فيما كان ينشرانه فى الصحافة الطلابية فى القاهرة من نصوص غلب عليها البعد الاجتماعي الواقعي، وطغى على سياقها الفنى الطابع التقريري المباشر الذي يلجأ الى التاريخ والرصد و التسجيل لكافة مناحي الحياة فى تلك الفترة .
واذا ما انتقلنا الى المرحلة القصصية التي اتت بعد هذه الفترة ، فإننا نجدها متجسدة بوضوح فى اعمال اتخذت اشكال مجموعات قصصية بينة المعالم والحدود، وان لم تختلف فى جوهرها عن صيغ المحاولات المبتدئة التي لاترقي الى حيز الاصدار الاول لميلها الواضح الى السرد التقريري المخل بالطبع للنص القصصي، هذه الاعمال نلمحها فى مجموعات " فترة السبعينات واوائل الثمانينات " مثل " قلب للبيع " لمحمود الخصيبي، و " سور المنايا" و"اخرجت الارض " و " لا يا غريب " لاحمد البلال ، و" صراع مع الامواج " لعلي الكلباني، و"يوم قبل شروق الشمس " لسعود المظفر، كل هذه الاعمال تندرج وفق اطر موضوعية فى المقام الاول ، مؤكدة فى ذلك النهج صدق توجهها التاريخي لا الفنى، مستمدة نشأة فعلية قوامها تلك المواقف الحاسمة تجاه الشخصية المحلية وما عنيت به من مهام اجتماعية / اصلاحية واخري توجيهية تعليمية ، لعبت القيم والمبادىء والعادات والتقاليد التي يختزنها المجتمع دورا فى اذكاء حصيلتها الموضوعية وذلك عبر صيغة فنية مستمدة من مدارس ومذاهب الادب والفكر من مثل الرومانسية ، والواقعية ، والكلاسيكية وغيرها.
اذن نحن امام تجربة قصصية جديدة تتمثل الواقع وتغوص فيه بكل قيمها الوصفية التي ترتكز على المجتمع بما فيه من موروثات هي فى حد ذاتها حميمية للنمط القصصي، لصيقة به ، كتلك التي تستوحى مواضيع الذاكرة العمانية ، بما ارتبط بها من اساطير، وخرافات احيانا وبما تشبعت به من ذخائر تاريخية نفيسة ، وبما ارتوت منه من قيم دينية راسخة الاركان اذ تؤول كل هذا السياقات فى شكل قصصي جديد حملته تلك المجموعات .
واذا ما عدنا الى التجربة الجديدة فى القصص التي اشرنا لها، فإننا نجدها قد خرجت فى جو مفعم بروائح الواقع الحياتي، مقتحمة بذلك سابقاتها مستمدة من روافد الرومانسية التي بزغت فى المجموعات السابقة لها، وبخاصة فيما يتصل بتصوير ردود الفعل من الصراع مع التقاليد، والمعايير السلوكية المتخلفة … او ما يتصل بتصوير قلق العلاقة بين الرجل والمرأة التي عنيت بها المجموعات السابقة ايما عناية .
ولعل اهم ما يميزها على هذا الصعيد هو ذلك القدر من الجهد الذي يحرص على المواءمه بين الشكل والمضمون ، المتمثل فى حالات الصراع والتمزق ، والقلق ، والمعاناة فى حياة البطل الرومانسي الذي يستحوذ على جانب مهم من شخصية كتابها، الذين يميلون الى تجسيد ذواتهم كمعيار لتلك الحياة ، متخذين المنهج النقدي الكاشف لمظاهر تلك الذوات .
ومن جانب أخر ارتبطت مفاهيم القصة فى المجموعات الجديدة بجو من الاقتران الواقعي الذي يدرك تصورات جمالية ، واخري فكرية تنبعث من وضوح الشخصية المحلية ومن رغبتها في ادراك خصائص الاستقلال مستفيدة من تقنيات العصر الفني، كتلك المرتبطة بالتحليل النفسي، وتيار الوعى والمنولوج وغيرها.
تأتى هذه المجموعات القصصية الجديدة ، لا لتخلق لها اتجاها مغايرا، ولكنها لتؤكد التطور الفنى الكبير الذي افادت منه الواقعية عندما حرص كتابها على هدف اساسي هو التلاحم بين الموضوعات والمتغيرات الجديدة التي سادت الحياة ، وبين الوسائل الفنية ، فهي تعيد لتلك الواقعية مبدأها التطوري الذي ينبغى ان يتجاوز نصوص الافتعال والتشظى والسرد التقريري المباشر، الذي ساد بعض التجارب فى مرحلة السبعينات كما اشرنا.
ولأجل الخروج من دوائر التقليد " القصصى " سنركز على مثال جديد له من الاهمية بمكان فى التجربة القصصية الجديدة بتلك المعايير التي طرحناها والتي تشكل نافذة لذلك البحر، كما اراد مؤلفها بها، اي نافذة لتجربة حديثة جديدة بكل معانى الجدية والتجديد معا، نافذة تطل على بحر الحداثة القصصية والفكرية العميقة ، انها تجربة الكاتب الشاب يحيى بن سلام المنذري فى مجموعته الموسومة بذلك العنوان "نافذتان لذلك البحر".
* نافذتان لذلك البحر افق قصصي جديد:
هذه المجموعة صدرت في طبعتها الأولى عام 1993، فيما يقارب المئة صفحة من الحجم الصغير وتحتوي على عشرة نصوص ، تتضمن مقاطع قصيرة ، شبيهة من حيث البناء الدرامي بما يسمى " التداعيات و الخواطر" على نحو ما سنرى.
وتستطلع المجموعة لوحة لمقطع صخري داخل ، تتشكل فيه الجزيئيات على هيئة نقوش منسجمة الالوان والتصاميم تنبىء بانتظام لا محدود في هيكل المجموعة البنائي وذلك عبر اختيارات الكاتب لعناوين القصص واوسعتها الفرعية ، وقد قام بهذا التصميم الاخراجي القصاص الجيولوجي محمد البلوشى ليدلل به علي ذلك التجاوب الروحي بينه وبين المؤلف .
تحاول تجربة المنذري فى هذه المجموعة ان تنحو نحو ازاحة كثير من تراكمات التراث الواقعي التقليدي، وتتخطى المعوقات التي تفرضها المقولات الواقعية الجامدة من هنا جاءت وسمتها الأولى ، " نافذتان لذلك البحر" لتعبر عن ذلك الرفض بشىء من المغايرة والترصد معا.
فالنافذة تعني الانفتاح على كل شىء، تعني الهاجس المؤرق والتطلع المستقبلي البعيد نحو كل افق اوسع ، كاتساع ذلك البحر الذي عناه الكاتب بحر الكلمات الحرى المعبرة ، بحر عذ ابات الذات ، بحر أهازيج النفس المحملة بالشوق والقلق والتمزق والانتصار ومواجهة المجهول .
من هنا كانت تداعيات المشاهد القصصية فيها تطالعنا كلما اقتربنا من عمل قصصي منفرد، فانظر كيف استفتح به مشهد قصة نافذتان " وحدقت مستنقعة عن البحر فحسبني خياليا يبالغ، وحدثت البحر عن المستنقعة فظنني مغتربا".
تمنح هذه التجربة افقا من الحرية تحرر من خلالها العمل القصصي من تفاصيل الواقع اليومى التي ابعدته عن اكتساب الوعى الشعري بالحياة ، وتعيد خلق الواقع لا من خلال تفاصيله ومظاهره الخارجية وانما من خلال منطقه الداخلي الذي يكشف عن حقائق جوهرية كاملة لايمكن استبصارها بالرصد الظاهر، بل لابد من وسائل تعبيرية جديدة ، كانت رموز البحر، والنخلة ، والمرأة ، والليل ، والابواب القديمة والصخرا، والقلعة ، وتلك الكواكب المتناثرة احد ابعادها المشكلة لذلك المنطق الداخلي الذي عنيناه بكل ما تراءت له مشاهد اللاوعي من افعال بعيدة .
* المنحى الرومانسي فى المجموعة :
تقدم تجربة المنذري هذه رموزا دلالية تستوحى المنحى الرومانسي، بل وتغوص فيه ، لكن هذه الرومانسية شبيهة بتلك التي يقول عنها ارنست فيشر: ان لها صفات مشتركة في كل مكان. شعور بالقلق الروحي في دنيا لايستطيع الفنان ان يشعر فيها بالاستقرار، وشعور بالعزلة والغربة ، نشأ عنه توق الى قيام وحدة اجتماعية جديدة (12)، وهذا التوق هو ما تكتسي به كثير من قصص المجموعة مثل "زكريا" و" اللوحة " و" هنا الليل ".
تنحاز الرومانسية لدى المنذري الى الماضي، لتستمد منه كثيرا من الصور التي تشكل لها عالما خاصا يركن اليه الوجدان باطمئنان شديد، فالماضي فى ذاكر ته الرومانسية هو اساس الحياة ومبدؤها وهو الذى يخلو من شروع العصر وهو موطن القيم والاصالة ، الصمود والمجد، والقوة والصلابة ، من هنا يستأنس الكاتب لهذا الماضي لانه من جانب آخر يحتضن مواقف الانثيال والتذكر لان القصة لديه تكاد لاتنفصل عنه ابدا بل تتحدث عنه باعتزار شديد ولعل قصته " اللوحة " غنية بهذا الاحساس :
" الموطن الذي قذفك الى هذه المدينة
الجرة الساخنة التي كنت تقوم فيها ليل نهار
ساحة اللعب المتبقية للريح والشمس
حياة الجمال والخيام .. وحياة الرمال …(13)
والماضي فى قصص أخرى " كأبى ذلك الصياد العنيد" و" ذلك المائي الفحل " هو ذلك البحر الذي يحتضن بمجده البطولى القديم اعباء الرجال من الكادحين ، فهم حين يحملونه فى ذاكرتها يحملون نضالا وصراعا مع شقاء المهنة ، وقسوة الطبيعة بل وشظفها الذي يكتسب الماضي فيا خصائص انسانية تبث فى شخصية القصة احساسا قويا بالذات عبر تراكمات نفسية "……" عبر عنها الكاتب بشىء من التشظى والاندثار، ولهذا نواه يستنطق البحر فى قصة " هنا الليل " بقوله البحر ليس وهما.. انما سوف يداعبكم من البعيد… وسوف تشاهدين انت منه العجائب .
واذا كانت تلك توجهات الكاتب نحو الماضي فإن الحاضر من طرف آخر يضج بالتأزم ويمتلىء بالسرور من هنا كانت شخصيات القصة وخاصة " الرحيل الى كابوس مؤبد " و" هنا الليل " محاصرة بالهزيمة والخضوع والعجز وحين تفتش فيها عن جانب يتلاءم مع سرير تها الصافية لاتجد إلا مشاعر الطفولة وتناغمها الاثير مع تناقضات الواقع المنبعث من اجواء سوداوية قاتمة عاشها الكاتب وامتزج حسه بها، ولهذا يستصرخ صمته الابدي نحو هذا الحاضر فيقول فى قصة " زكريا ".
" الصمت موال حزين فى هذا الليل
احمل جثتي القصيرة وسط الظلام وأمشى
ثمة خوف طفيف يتحرك في قلبي… ربما هو خوف المجهول
ربما خوف من هذا الظلام الذي يكسر عظامى.." (14)
* البطل ومشاهد العبث الواقعي
تحمل شخصية البطل فى كثير من قصص المجموعة كزكريا والغرفة والمشهد الليل نزعات العدمية ، والعبث والتشظى عبر اشكال واطر واقعية ، ولعل الكاتب متأثر فى ذلك بأجواء قصص الكاتب العربي «زكريا تامر» او اتجاهات " كافكا" وغيرهما اذ تنبعث فى شخصية البطل اطر رومانسية ممتلئة بالاحلام والاماني المجهضة فهي تحمل السعادة والسلام ، والحب والفضيلة والانسجام ولكنها تعثر على نقيضها بحلم مفقود يقود الى تجربة قلقة متناقضة مع الواقع .
* المرأة واطر الرومانسية
واذا كانت تلك نزعة الرومانسية لمحناها فى اختزان الماضي والحاضر الضاربين "تاريخيا " فإن نزعة الرومانسية متأججة فى عالم المرأة هذا الكائن الذي تجلى واضحا فى شخصيات المجموعة ، عبر تجليات واوهام " شبقية احيانا" فالمرأة اتخذت شكلا جديدا فى عالم المنذري القصصي، عالم مدجج بالانفعال والحلم والتصور اللامعقول واحيانا العبث الطفولى المستوحي لصفة المرأة المادية فعقدة ددالمرأة " جاثمة على صدره يحلو له ان يدخل فى تصويرها ورسم كيانها المبهر فيخلق بذلك انفتاحا آخر على صعيد البلورة الفنية للقمة وهو بهذا التوجه المضاد لمفهوم المرأة الواقعية الذي يستهلك جهدا كبيرا منه ، متداخلا به كواشف الصراع الحضاري مع منطق التقاليد الاجتماعية او النظرة المادية لكنه فى نهاية المطاف ينتصر ال حالات الوعى الحضاري واواصر التفاعلات الحياتية الجديدة ولعل قصص المجموعة تمتلىء حتى الثمالة بالمرأة ورما نسيتها التي اكتشفت رؤاها بهذه المعايير، ففي قصة "زكريا" يصورها بمشهده الدرامي التالي :
" شعرها الذهبي يرسم خريطة اللذة والعذاب
يستيقظ الفأر فى قلبي بعد ان كان نائما
تأتيني انفاسها على شكل فقاعات وهمية جميلة
وكأن صدرها ينادى وينادى" (15).
وأمام هذه الرومانسية المؤرقة التي احتضنتها قصص المنذري الثماني، نقف مذهولين بعمق على ما ازجته من معالم ايجابية واخري سلبية فهي من جانب آخر تنم عن اضطراب صورة البداية من الوجهة الفنية " فاللوحة " مثلا و" زكريا " و" هنا الليل " جاءت فى مستوى ذهني متجانس ، تحدوها تلك الجوانب التأملية فى السيمياء الفكرية للشخصية ، بينما نزعت "الرحيل الى كابوس مؤبد" الى حيز من الاوهام والخيال الذاتي المفعم بتطلعات درامية شبيهة بالشكل المسرحي عنه القصصي نتيجة جنوح الكاتب بشكل مكثف الى تقنيات الحوار داخليا وخارجيا.
وفى تلك القصص تظل مأساة البطل الرومانسي قائمة على التنازع الشديد بين آمال الذات، وبين تناقضات الواقع ، مما يخلق جدلية مؤرقة منطوية ذهنيا على شخصية الكاتب نفسه.
* ابعاد التجربة ومميزاتها:
تطرح – اذن – تجربة يحيى المنذري في هذه المجموعة حسابات فنية جديدة "تأتى" فى مقدمتها تلك المميزات التي تتخذ الابعاد التالية :
1- استبعاده لأطر الحكاية المتسلسلة زمنيا فى عالمه القصصي، واستخدامه لمفردات الواقع المتسمة بالوضوح ، والشفافية ، والسلاسة ، مما يقرب القصة من وجاهة الواقعية التي سرعان ما تناقض نفسها نحو استخدام مضاد على شكل نسيج من العلاقات الجديدة ، المتداخلة توحى ولا تصرح يحدوها فى ذلك معالم اللغة الشاعرية التي توحى ولا تصرح ، ولعل اغلبية قصصه اتخذت هذا المنوال الذي قد تناط اليه المهمة السلبية على صعيد النقد الفنى الموجه اليها، فمثلا تجد مثال ذلك فى قصته " حوار الكواكب " التي نقتطع منها الوصف التالي:
«ايتها الكواكب البعيدة …. أنى اناديك
من اين ينبعث صوتك ايتها الفتاة
ان صوتك مخنوق …»(16)
هذا المقطع يستظهر مظهر اللغة الشاعرة التي تعبر قصص المجموعة شأنها فى ذلك شأن المجموعات الاخرى، التي احدثت التجديد بلفة يجب ان تعالج لتستعيد هويتها القصصية التي قد يؤدى غيابها الى متاهات الوعى القصصي الجدير بالحسبان .
2- محاولة تطبيق بعض مدركات النزعة التحليلية التركيبية المكتسبة فى
عمقها الانساني ابعادا جديدا، بحيث غدت نظرته الى الشخصية لا فى حالتها العادية فحسب بل فى حالة اتصالها بدلالات الواقع الاجتماعي على نحو ما نجده فى قصة " هنا الليل " التي تحوي القصص التالية " الشبح الاخضر" و" جنى الارق " ففي الأولى تنتظم التداعيات تجاه الشخصية مختلقة حيوية لها مردودها على الصعيد الفنى، فالكاتب حين يصف حالات الشخصية غير العادية تظهر لنا تلك المعالم على النحو التالي :
"جني الارق .. كرامات الظلام … المقبرة وطيور الصدى..
عالم مفتت ينحت فى رأسي مشاهد مسحورة (17).
وهذا الليل .. ليل الغرائب البعيدة "..
وتنبض الاشارة هنا ايضا الى استحداثه للوعن الداخل كوسيلة للاقتراب من لحظات ذلك التحول النفسي العميق التي عاشته تلك الشخصية المتمزقة .
3- تستوحى قصص المجموعة اجواء من القلق الزائد، والتيه ، وتشظى الشتات المؤدى الى متاهات الرعب اللامعقول احيانا، كما تغطى صفتها البنائية على صعيد الموضوع صيغة الحكم الذي يتشابه به مع ايديولوجية التعبير القصصي، اذ لاينقل الواقع على حقيقته بل يعيده بانتقاء الصور الواقعية الممكنة والمستحيلة معا، كما فعل فى قصة «المشهد الليلى» و«اللوحة».
4- تكتسي تجربة المجموعة بأشكال القصر، والتكثيف ، والشاعرية ، فحجم بعض القصص لا يتجاوز الصفحة الواحدة ، كما ان لغتها تتضمن معطيات الشعر، وبعض ايحاءاته ورموزه وكلها نكهة واضحة تتحدد عبر رؤى الكاتب وافكاره التي يمارسها كفنان اصيل ، يكتسب اصالة من خصوصية الذات ، وروح التفاعل مع الأخوين .
تظل – اذن – تجربة القاص يحيى بن سلام المنذري وفقا لتلك المقاييس وسابقاتها احد النماذج الجديدة فى التجربة القصصية العمانية ، لا من خلال سعيها فى اكتشاف مظاهرها الجديدة ، وانما بفعل طرحها الفنى الخالص ، وموقفها من كافة البنى الابداعية الحديثة على مستوى الادب ككل ، شكلا ومضمونا وذلك من خلال مواقفها ايضا من البنية الحياتية التي تعاملت معها تجربة هذا الكاتب بما فيها من احلام ، ومعاناة ، ومتاهات ، وهى بوادر كلها وعد، وانجاز ومراهنات لمستقبل واعد للقمة الجديدة فى عمان .
الهوامش والمصادر المرجعية
1- القصة القصيرة فى الخليج العربي "الكويت والبحرين" ابراهيم عبد الله غلوم ، ط 1، مطبعة الارشاد، بغداد، 1981، ص 643 وما بعدها.
2- صدرت مجموعة "مريم " عن دار جريدة عمان للصحافة والنشر سنة 1992 وتتكون من اربع عشرة قصة اهمها "مريم " و" طارق " و" نداءات الازمنة القادمة ".
3- صدرت مجموعة «النذير» عن المطابع العالمية ، سنة 1992 وتتكون من عشر قصص اهما " للذاكرة رائحة الاقحوان " و" حمدان " و"النذير" و" قناديل مطرح "
4- صدرت مجموعة "عش رجبا " سنة 1992 عن مطبعة الالوان الحديثة بسلطنة عمان وتتكون من تسع قصص مثل "الاحلام " و" ايام الرعود، عشا رجبا" وغيرها بينما صدرت مجموعة "مفاجأة الأحبة " سنة 1993 عن دار الصحراء للطباعة والنشر بالمغرب وتتكون من احدى عشرة قصة من مثل "الروح " و"طفولة " و" وهم " و«الوادى الخفى».
5 – صدرت مجموعة "نافذتان لذلك البحر" سنة 9193 عن المطابع العالمية بسلطنة عمان وتتكون من عشر قصص اهمها "اللوحة " و" زكريا" و"هنا الليل " وغيرها.
6- صدرت مجموعة "المطر قبيل الشتاء" سنة 1994، عن مطبعة عمان ، وتتكون من احدى عشرة قصة من مثل «سقوط » و«التابوت » و"الرحيل الاخير".
7- صدرت مجموعة "قشة البحر" عام 1994 وتتكون من عشر قصص من مثل «الشلال » "دامواه " و«العائد متوحدا» و"ذات يوم كل يوم "… وقد صدرت عن مطبعة الالوان الحديثة بسلطنة عمان .
8- صدرت "بوابات المدينة " عن دار جريدة عمان ، سنة 1994 وتتكون من عشر قصص تقريبا
9- الفن والتطور المادي للتاريخ "بليخانوف جورج " ترجمة جورج طرابيشي ط 1، دار الطليعة ، بيروت ، 1977 ص 116
10- كتب عبد الله الطائي القصص الثلاث الأولى عام 1940 محققا بها ريادته للتجربة القصصية العمانية بينما تعود كتابته للقصص الاخرى الى فترة متأخرة من ستينيات هذا القرن «ابان تواجده بدولة الكويت " .
11- النقد الفنى جيروم ستولنيير ترجمة فؤاد زكريا، ط1 مطبعة جامعة عين شمس ، القاهرة 1974ص 368.
12- الاشتراكية والفن ارنست فيشر ترجمة اسعد حليم ط ادار القلم بيروت 1973 ص 172.
13- نافذتان لذلك البحر، يحيي بن سلام المنذري، ط 1، المطابع العالمية مسقط 1993ص16.
14- المجموعة نفسها ص 28.
15- المجموعة نفسها ص 39.
19 -المجموعة نفسها ص 19.
17 -المجموعة نفسها ص 52.
محسن الكندي: باحث من سلطنة عمان .