1- بين المومس العمياء وحفار القبور اكثر من وشيجة فكرية وفنية فهي القصيدة التي تطورت عنها وعمقت مجرى الحياة للكائن المفرد المعزول وجعلتها حياة مليئة بالحس التراجيدي العام، وبالموقف السياسي المشبع بالعراقية اذا فهي قصيدة عن العراق وعن العالم، عن الكائن المفرد وعن الكيان الاجتماعي.
وفى ضوء هذه المداخلة المربكة تمكن السياب من ان يحسم موقفه الفكري نهائيا وذلك بالانتقال من الصور الشعرية الكبيرة والموضوعة تحت اللافتة السياسية الى الصور الشعرية الاكثر تغلغلا فى الحس الاجتماعي الثقافى مع الابقاء على الطابع السياسي غير المباشر ومثل هذا الحس مكنه من الانتقال نهائيا الى الموقع القريب جدا من العتبة حيث تبرز الذات الشاعرة بروزا متميزا دونما نافذة اكثر سعة على العتبة " الذات " تحسم مرحلة التردد بين الانتماء الى القبر – الام او البقاء فى الساحة – المجتمع ، انها تجعل من هذه المواقف كلا متجانسا فى صياغة شعورية تنقل القصيدة الحديثة الى مراتب الملحمة المعاصرة .
1-2 فى المومس العمياء يصبح الاغتراب مشكلة جماعية فالمومس العمياء ليست فردا امتهنت البغاء رغبة بل هي كيان اجتماعي مستلب اختلطت في ابعاده المأساة الفردية بالمأساة الاجتماعية وتحول جسدها الى جسد من طين ومياه ونفط يطؤه المحتلون باحذيتهم كما يطؤها عابروا الليل وطالبو المتعة ، لعلها صورة الام وقد خرجت عمياه تنشد ابناءها، ولعلها الارض وقد منحت منها لكل الواطئين عليها ولعلها الصورة المغبشة لمرأة السياب الاجتماعية .
2- تفصح قصيدة المومس العمياء عن مستويين فكريين الاول هو المستوى الفردي للمومس ككائن وجد العيش يمر عبر بوابة البغاء، وهو مستوى مأساوى لكنه فى الوقت ذاته لا يتعدى حدود الحال المحبطة بفعل الضغط الحياتي العام ، اما المستوى الثاني، فهو المستوى الذاتي . الرمزي حيث يختلط فى المومس الوضع السياسي للعراق وقد تمثل بالوضع الذاتي لامرأة ذات جسد جميل ولكنها مطفأة العينين لاتبصر من هو المحتل ، هي الكيان الانساني الذي حمل فى احشائه ابعادا سياسية واجتماعية ، تداخلت قيم الذات بقيم المجتمع ومتطلبات الفن الشعري بمتطلبات القصيدة السياسية ، ونحن اميل الى اعتماد المستوى الثاني للتعامل مع القصيدة دونما الاغفال للمستوى الاول.
2- 1 فى ضوء هذا الفهم نجد القصيدة ترسو بكليتها على الارض مكانا وزمانا وتتجسد عبر كل معطياتها بفرد معزول وعاجز مستلب بمعنى ان المكانية فى هذه القصيدة لاتناشد العلو ولا الما تحت كما قي قصيدة حفار القبور، بل ترسو على مشارف البيت – القبر، والجسد – الانسان، مع شمولها – رمزيا وواقعيا – للمحيط الاجتماعي لها هي اذا قصيدة لا تأويل مكاني فيها بقدر ما تفصح عن هوية المكان المألوف والكائن فى البيت وفى الجسد وعن الانسان المستلب المعبر عنه بالمومس والشعب .
2- 2وتبعا لذلك نجد القصيدة تتمحور حول :
2- 2- 1- البيت ويشمل فى ابعاده البيت المحدود الذي تسكنه المومس وتزاول فيه البغاء والبيت الشامل الذي يعبر به السياب عن العراق احساسا وتأويلا.
2- 2- 2-الجسد ويشمل فى ابعاده الجسد المحدود للمومس ، الذي هو هويتها هو مكانتها – البضاعة – والجسد الشامل الذي يرمز به السياب للشعب.
2- 2- 3- وكما يتوحد الجسد المحدود بالبيت -الدار المومس -يتوحد كذلك الشعب بالبيت الشامل – العراق وشعبه – اتحادا يعكس جانبا من حساسية الثقافة الشعبية الملتزمة ابان فترة الخمسينيات المعقدة ، مما جعلت السياب يشمل جميع أمكنة القصيدة بـ " العمى " فالمومس العمياء والمدينة مغطاة بليل آت من كهوف الازمنة الغابرة والطرق مطفأة
إلا من عيون ميدوزا، والناس تهرب من القبور الى القبور يقودها عراف ضرير.
هذا العمى المطبق على الواقع جعل القصيدة ترسو فوق ارض موحلة الحركة فيها موضعه، والكلام لا يقال إلا همسا – استرجاع الاسطورة والاحداث الماضية هو شىء من الهمس الفكري فى اذن الحاضر- اما الامكنة فمطفأة إلا من فانوس فنار، اما المومس فليست إلا زهرة فى هذه المستنقعات تعب من وحلها وطينها .. كل شىء فى امكنة السياب مستلب ومغيب ومغطى بالعمى والظلمة ولعل هذا المناخ الملتبس المتجهم هو الذي حمل بعض التقدميين على رفض هذه القصيدة فى حين ان المومس ليست إلا مثالا لشعب مقهور ومستلب يمتلك من الخيرات والثروات ما يجعله شعبا متميزا وحرا، السياب فى هذه القصيدة يركب صورا قاتمة افصحت عن رغبة دفينة فى ذاته اولا وعن ان الحداثة فى الشعر لم تجد طريقها عبر الاضواء والهتافات واللافتات – وهى حداثة فى أولى عهدها.
ثانيا: بل تجد طريقها عبر المآسى المشبعة بالحس الجماعي والمحا كية للحزن الموروث جماعية .
فى ضوء هذه الارضية استعار السياب فيها الاساطير باسماء ذات دلالة وليست استعارة تمثل لمناخ هذه الاساطير، كما انشأ صرحا من الرمز الواقعي الذي يتأسس على مشكلات واقعية ثم يشب عنها الى المطلق والحداثة الثانية بعد -هل كان حبا – تبتدىء بهذه القصيدة وهى حداثة تنأى بالشكل الى الفكر والمعنى والمبنى، بعدما كانت الحداثة وزنا وانطلاقة شعور وتعمل فى الروى.
3-1 المستوى الواقعي: فى هذا المستوى نجد ظاهرة التوحد بين -البيت بمعنييه والعراق وقد تمثلا جميعا بصورة المدينة والليل ، وثمة توحد اخر بين المومس والشعب ، وقد تمثل هذا التوحد بالاستلاب وقد عكستهما القصيدة بالجسد المستلب والشعب المقهور – وقد كان الاب والطفل والمومسات الاخريات وتجار الليل هم ممثلو هذا الشعب .
3- 2-المستوى الرمزي: وينطلق من التوحد بين المومس والشعب عبر تتالي صور الاحباط والقهر والظلم والاسطورة وهو المستوى الاكثر تغلغلا فى الفن والاكثر اشباعا لحاجات الحداثة فى الشعر، لذلك لا نفصله ضمن المستوى الواقعي، ولكننا سنشير الى واقعيته من خلال تنوعه الرمزي، ممثلو الشعب الذين اشرنا اليهم فى النقطة السابقة ليسوا إلا تنوعا للمومس وقد غطوا بحيراتهم المضطهدة جوانب من الحياة الواقعية .
لذلك فأية اشارة الى جانب واحد منهم تعني بالضرورة اشارة للكل .
المستوى الواقعي
3-البيت – العراق
الليل يطبق مرة اخري، فتشربه المدينة والعابرون الى القرارة مثل اغنية حزينة وتفتحت ، كازاهر الدفلى ، مصابيح الطريق كعيون " ميدوزا " تحجر كل قلب بالضغينة ، وكأنها نذر تبشر اهل " بابل " بالحريق من اي غاب جاء هذا الليل ؟ من اي الكهوف من اي وجر للذئاب؟
من اي عش فى المقاب دف اسفع كالغراب ؟ قابيل اخف دم الجريمة بالازاهر والشغوف ربما تشاء من العطور او ابتسامات النساء ومن المتاجر والمقاهي وهى تنبض بالضياء عمياه كالخفاش فى وضح النهار، هي المدينة والليل . زاد لها عماها.
والعابرون:
موتى تخاف من النشور.
قالوا سنهرب ، ثم لاذوا بالقبور من القبور: 509- 510
3- 3-1 الليل والمدينة هما العنصران الفاعلان فى مخيلة الشاعر فالليل مطبق على المقطع كله .
المقطع يفصح عن تدرج مكاني – تأريخي مهم .
فالليل آت من ماض مثقل بالظلمة والماضي هنا محدد بأمكنة هي:
الغاب – الكهوف – الوجر – العش – ا لمقابر – وكلها اماكن مولدة للموت، الليل فيها تكوين تراثي متقادم ، والمصابيح المضيئة فى الطرقات ليست إلا عيون ميدوزا القاتلة .
فهي نذير لبابل – المدينة – بالحرق ، وهي نذير للعابرين – الناس بتحويلهم الى حجر او مسخ.
اما المدينة فهي: المتاجر – المقاهي، الامكنة التي تعشعش بالضياء ا لمخمور بالظلمة ويمثل هذه الامكنة يفترض حضور الناس .
أزقة المدينة وشوارعها مضاءة بمصابيح – ميدوزا – القاتلة .
أما الناس فى مجتمع الليل والمدينة ، فليسوا إلا عابرين وجلين يمرون فى طرقاتها كي يختفوا بالمقابر انهم يخشون الضياء كخفافيش الليل ويلوذون بالصمت عندما يتكلم احد ملجؤهم الماخور والخمرة .
المدينة فى عرف السياب شىء مطلق وليست محدودا مكانيا فأمست فيه عمياه المدينة هي العراق ، والليل الجاثم فوقها هو الواقع ا لملتبس به اولئك الذين لا يرون ملجأ لها منها إلا المأخوم وقد انيرت طرقاتها بمصابيح قاتلة بينما تخفى حجراتها دم هابيل القتيل المدينة فى عرف السياب هي مجمع ا لمتناقضات القاتلة .
هذه الصورة البانورامية هي ا لمفتتح الاستهلال للقصيدة لذلك نجدها قد القت بظلها القاتم على كامل اجزائها فواقعية السياب تنطلق من رؤية حسية عيانية لترسو فى خيال مولد، ومن النظر المعاشة المشبعة سياسة الى التأويل، عندئذ يصح القول ان هذه القصيدة قد وطنت السياسة فيها مواطن خفية ، واستعارت المومس للتكلم عن الطبقات الاجتماعية الكادحة وقد اشار السياب إلى هذه الطبقات المستلبة القوت والجسد – " الاب المقتول ".
3- 4- المستوى الرمزي
المومس – الشعب
7- 4- 1….. وتتوزع امثلة هذا المستوى على مواقع عدة منها الذاتية ، ومنها الموضوعية الخاصة والعامة ، الحسية والمجردة وفيها ومن خلالها تمكن السياب من ان يستوعب ابعاد موضوعه الاساسي بطريقة فنية تجمع بين تراكم الصور والترابط الشعوري ولعل سمة الطول فى هذه القصيدة – التي لا تعتمد التقابل بين قضيتين كما فى فجر السلام والاسلحة والاطفال -يأتى من الحس الدرامي الفاجع المتنامى بموقف مأساوي متصاعد النبرات وبامكانية فنية تجعل من الكلام العادى شعرا، ومن الجمل الاعتراضية شرطا نفسيا للامساك بكل ما يختلج فى النفس ساعة الابداع، هي اذا لملمة غير مترهلة لموضوع شعري شخصيته مستلبة العرض والبصر وفي واقع لا يختلف عنها سياسيا ولو كان السياب مسرحي البناء، لما تقاعس عن ان يظهر صوت الجوقة اليونانية وهى تسرد حال الشعب وتهيىء المشهد التالى فالمومس العمياء صوت للجماعة المقهورة المستلبة ، التي تساوى فيه النغمة المفردة الفاجعة ، بالمعزوفة الحزينة الهادئة .
صوت مشبع بمليودرامية ربما اتت من قراءاته للروايات الجنسية او العاطفية . 3- 4- 2فيما يلى النماذج الدالة على المواقع المختلفة فيها.
1- يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد؟
لا تمهليها، العذاب بأن تعرى فى اتئاد.
قصى عليها كيف مات وقد تضرج بالدهاء
هو والسنابل والمساء.
وعيون فلاحين ترتجف المذلة في كواها
والغمغمات : " داراه يسرق …" واختلاجات الشفاءه
بخزين ميتها فتصرخ : " ياآلهى، ياآلهى.. لو ان غير "الشيخ "! وانكفأت تشد على القتيل .
شفتين تنتقمان منه أسى وحبا والتياعا
حيث البيادر تقصد الموتى فتزداد اتساعا!!
ص 520
ب – وتحس بالاسف الكظيم لنفسها: لم تستباح ؟
الهر نام على الاريكة قربها لم تستباح ؟
شعبان أغفى، وهى جائعة تلم من الرياح
اصداء قهقهة السكارى من الازقة ، والنباح
وتعد وقع خطي هنا وهناك : هاهو ذا زبون
هو ذا يجىء – وتشرئب ، وكاد يلمس … ثم راح .
وتدق من احد المنازل ساعة .. لم تستباح ؟
الوقت اذن بانتهاء والزبائن يرحلون
لم تستباح وتستباح على الطوى؟ لم تستباح كالدرب تزرعه القوافل والكلاب الى الصباح ؟
ص 526
ج – …… فامضي عنها يا أساها!
ستجوع عاما او يزيد، ولا تموت ففي حشاها
حقد يورث من قواها
ستعيش للثأر الرهيب
والداء فى دمها وفى فمها ستنفث من رداها
من كل عرق من عروق رجالها شبحا من الدم واللهيب
شبحا تخطف مقلتيها امس ، من رجل آتاها
سترده هي للرجال ، بأنهم قتلوا آباها
وتلقفوها يعبثون بها وما رحموا صباها.
ص 527
د – وتحس فى دمها، كآبة كل امطار الشتاء
من خفق اقدام السكارى، كالاسير وراء سور
يصغى الى قرع الطبول يموت فى الشفق المضاء.
هي والبقايا خلف سور، والسكارى خلف سور
يبحثن هن عن الرجال ، ويبحثون عن النساء
دميت اصابعهن تحفر والحجارة لاتلين
والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين :
نصبا يخلد عار ادم واندحار الانبياء،
وطلول مقبرة تضم رفات "هابيل " الجنين
سور كهذا: حدثوها عنه فى قصص الطفولة
"يأجوج " يغرز فيه من حنق ، اظافره الطويلة
وبعض جندله الاصم ، وكف "مأجوج " الثقيلة
تهوى كأعنف ما تكون على جلامده الضخام ،
والسور باق لايثل … وسوف يبقى الف عام ،
لكن " ان – شاء – الاله – "
طفلا كذلك سمياه –
سيهب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير
لاتتركونى يا سكارى
هـ – فى موضع الارجاس من جسدي، ومن الثدي المذال
تجى دماء الفاتحين لوثوها بالرجال
آواه من جنس الرجال .. فأمس عاث بها الجنود
الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود
انا يا سكارى لا أرد من الزبائن اجمعين إلا العفاة المفلسين
انا زهرة المستنقعات اغب من ماء وطين
واشع لون ضحى.."
ص 525- ص 538
و – ها هو ذا يضىء فأي شىء تملكين ؟
ويح العراق !أكان عدلا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمنا لملء يديك زيتا، من منابعه الغزيرة ؟
كي يثمر المصباح بالنور الذي لاتبصرين ؟
عشرون عاما قد مضين وانت غرثى تأكلين
بنيك من سغب ، وظمأي تشربين
حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين !
وكزارع لهم البذور
وراح يقتلع الجذور
من جوعه ، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور
ولا تنفست السنابل فيه
ليس سوى الصخور
ص 539
ى – والجوع والادواء والتشريد حظ الكادحين
وانت بنت الكادحين
فأت الضجيج ، وانت بعد، على انتظارك للزناة ،
تتنصتين فتسمعين
رنين اقفال الحديد يموت فى سأم صداه :
الباب اوصد
ذاك ليل مر…
فانتظري سواه
ص 542
3- 4-3 النظرة الأولى الى المحتوى الظاهري للمقاطع الشعرية تفصح عن تدرج فكرى فالمقطع " أ " يتكلم عن موت الاب بعد ان اتهمه الشيخ واعوانه بالسرقة فقتل ، وهى قصة طالما اعتاش عليها الادب القصصي فى العراق وطالما كانت لشدة واقعيتها اعتيادية لكن السياب لايجعل من موت الاب إلا احباطا لابنته .
اما المقطع " ب " فتتحدث هي عن نفسها واستلابها المزدوج من قبل الناس ومن قبل الحاجة الى الحياة هنا تشبه المومس حفار القبور، حيث مناجاة النفس طريقا الى الصراخ العلني المصور.
فى المقطع " ح " تنبىء عن النقيض الذي سيلد من أحشائها ليس بالطبع فيها فهي مومس، ولكنه دلالة لكل ام فهي الارض النقيض ذو مهمة محدودة عليه ان يدفع العابثين عنها وغاية ما تطلبه سلامة لذاتها.
فى المقطع " د " توسع المومس الراوي – مدار الحدث ، ها هي تجد المأساة قد تشربت فى المجتمع فكما هي خلف سور، كذلك العابثون ، فالسور هو ما يجعل الناس من الجهتين فى عزلة لذلك لن يزاح فالاستلاب عام والوباء شديد الوطىء وعبثا تنفع كل الدعوات ، فما زال الماضي حاضرا وفى ذاكرة الزمن شىء من الاسطورة التي تقول بعبث ازاحة الاسرار بين الخاطئين فالسور باق لا يثل … ولكن ربما استطاع النقيض الطفل بعدما يفض العابثين عن امه من ان يقلع ذلك السور الكبير لكن هذا الامل معلق " بسوف ".
فى المقطع " هـ " ترسو المومس على ذاتها فتتحسس جسدها فاذا به ارض ومياه وطين ، واذا بها هي زهرة عمياء فى مستنقعات الفاتحين هاهي المومس تتحول الى عراق ، وهاهو جسدها المستباح يتحول الى دلالة لايرا من الزبائن سواء أعانوا فاتحين ام من اهل البلد فالكل يطأ الجسد والكل بوطأته سوطا.
فى المقطعين " و،ى " تنفرد المومس كشىء أزل مداوم البقاء، منكرا ما حدث وبانتظار ان يستمر كل شىء كما كان ، فما حدث سوى ليل مر على المدينة واوصد كل باب وعليها ان تنظر ليلا اخر النهاية هي بداية استهلال القصيدة ، ثم يتركنا السياب نعيد قراءتها ثانية فسنجد ان قصة المومس " سليمة " هي قصة ياسمين وحسنة وهيلين هي قصة العراق والفاتحين، هي قصة الفانوس الذي لايجد – بفعل الاحتلال – زيتا يداوم الاشتعال به : هي قصة الاستلاب الذي يتعدى الفرد الى الجماعة والحالة الى الاحوال ، والبيت – الجسد، الى البيت، الشعب، ثم لاتضع القصيدة حلا كأية دراما معاصرة ، بل تترك الباب مفتوحا ليأتي ليل آخر على المدينة ، وسوف تقف المومس فى عتبة دارها بانتظار الزبون العابر، او الزبون المحتل.
3- 4- 4 ألا ان هذا التحليل الشديد الفقر لمقاطع القصيدة يوقعنا بما تعارف عليه نقدنا العقل السلفي فالمقاطع تفصح عن ارضية غاية فى التعقيد لتقول لما اشرنا اليه .
وحسبنا أن نلجأ الى القصيدة ذاتها كنص يقول فكرة فهو وحده الذي يفصح عن المحتوى.
ولكن قبل الدخول فى التفاصيل ، او ايضاح نقطة مهمة ، تلك هي ما يتصل بالله والسماء ففي هذه القصيدة ثمة سخرية من مشيئة الله – حسب ما تقوله المومس – فالله كان غائبا عن كل شىء عن موت ابيها وعن استباحتها وعن استباحته بلدها، وعن ان يأتي لها برزق وهو كفيل الارزاق ولذلك تجىء سخريتها من قدرة الله متساغة اجتماعيا لانها مومس والمومس لاتخشى احدا فكيف الله ، والناس فى بلادنا يسمعون السخرية من الله من السنة لا يقال عنها إلا السنة المومس … عندئذ تأتى منافحة السياب للحس الديني على لسان غير متزن طبيعية ، رغم ان القارىء يشعر بأن السياب يخفى هذه السخرية متقصدا وبذلك يخرج السياب على الحس الديني الذي اشبعت به بطولاته السابقة .
وهذا ما يهمنا هنا فالسياب يتناول موضوعا شديد الفنى غائرا فى المجتمع متكامل الابعاد ينتمى اليه كليا، ولكنه عندما يتناول موضوعا يشربه النقص يلجأ الى سده بموضوعات عاطفية عدة وهذا ما فعل سابقا، اما فى هذه القصيدة فقد قطع صلته بها نهائيا مهيئا نفسه للدخول الى منطقة العتبة لذلك استعان بالله فسماه الاله تارة واله تارة أخرى والله ثالثة تمشيا مع الاستعارة الاسطورية ومع تشاؤمية الدين وفقدان المومس لكل امل .
فالليل يكرر ذاته على المدينة وباستمرار.
3- 4-4 النظرة التحليلية الاخرى للنماذج تكشف عن العلاقة بين مكونات المشهد -المكان المختلفة والموضع النفسي والاجتماعي للمومس .
فالمقطع " أ " تتمحور الصور فيه حول الاماكن التالية .
العمى – الدم – السنابل – الكوى – المساء – القتيل – الشفة – الجدول – الحقل -البيدر.
وبتوزيع مكونات المشهد نجد أن :
1- الرائى – وهو المومس العمياء والرؤية هنا ذكرى من الماضي مستحضرة بوعيها المحبط.
2- المكان – وهو الارض بحقلها وسنابلها وبيادرها ومسائها ودمائها.
3- الحدث – وهو القتل – قتل الاب .
العلاقة المشهدية هنا علاقة مفارقة : الحقول – الدماء.
الحقول بكل ما تملكه من خضرة وبهاء وسنابل والدماء وبكل ما تملكه من بشاعة وموت وامحاء فاستحضار المومس لهذه المفارقة هي بمثابة رسالة مقترنة بحدث موجهة الى الحاضر واقع المومس اليومى وعماها – وتحمل تفسيرا لوضع المومس فالقتلى لابيها كان قتلا لها والدماء التي لطخت الارض هي دماؤها، وان المساء الذي قتل فيه ابوها هو نفسه الليل المخيم – الضحى – عليها وعلى بيتها والمدينة والكوى فى اعين الفلاحين ، هي الكوى فى عينيها وفى وضعها.
فى المقطع " ب " تتمحور الصور حول الاماكن التالية .
الاريكة – الازقة – المنازل – الدرب .
والنظرة الأولى لها نجدها تتدرج فى المعنى والدلالة من الغرفة – الاريكة – الى المجتمع – الدرب إلا ان هذه الاماكن لاتجىء هنا إلا بمعناها المنتهك ، المحبط فالأريكة مكان فارغ الا من الهر دلالة على فوات اوان الزبائن .
والازقة مكان فارغ ايضا إلا من سكارى عابرين خائفين ، وا لمنازل مكان فارغ كذلك تعلن الساعة وحدها عن حضورها الليلى والدروب مكان فارغة هي الاخرى بحكم اعتيادية من يسير فوقها، وهى هنا تشبيه بالمومس التي يمر عبرها كل عابر وقاصد وكلب .
الفراغ ، او الاماكن المنتهكة هي دلالة المقطع الثاني، ويمثل هذه الاماكن وحدها اوضح لنا الشاعر سعة الفراغ المحيط بالمومس والذي يبتدىء من غرفتها وينتهى بالمجتمع وعبثا تبحث هي او غيرها عمن يملأ هذا الفراغ القاتل لذلك تجىء صرختها " لم تستباح " على لسان الراوي كتكملة مأساوية لها وللمجتمع .
ويرتبط المقطع " ب " بالمقطع " أ " بدلالة الظلم العام والشامل الذي امتد منذ طفولتها حتى سيرورتها امرأة ، ومن استغلال الارض الى استغلال الجسد، ومن زمن موت الاب الى احتمال موتها جوعا.
فى المقطع " ج " تتمحور الصور حول الاماكن التالية :
الاحشاء – الدم -الفم المقلة.
والنظرة الأولى لها نجدها اماكن ملتصقة بالجسد، ويوضع داخل هاهي المومس تستقر على ذاتها تبحث عن مأساتها ضمن جسدها.
ففي الاحشاء حقد.
وفى الدم والفم داء.
وفى المقلة أسى ولده شبح آتاها.
وسوف تجمع الحقد والداء والاسى لتقذفه بوجه الذين قتلوا آباها وبوجه من استباحها وما رحم صباها.
المقطع " ح " انتفاضة بوجه الاماكن المحبطة فى المقطعين السابقين ورفض للماضى وللحاضر معا ودفعة قوية باتجاه ان تعيد المومس انسانيتها ولكنها تفطن بعد حين ان مثل هذا الرفض لا يتعدى حدود المباهاة بالقدرة الذاتية لها وانها مهما حاولت لن تستطيع اكثر من اعلان سبة على اللسان ولكن صوت المومس هنا يتعدى فرديتها ليصبح حدود الجماعة المستلبة المقهورة فالحقد الذي يورث القوة والدم الذي يصنع الثأر والداء الذي ينشد القدر كل هذه ليست إلا صوت الجماعة المغمورة من انها ستفوض ذات يوم لتأخذ بثأرها وتعيد كرامتها وشرفها، فمهما تجوع ومهما تأسس ففي الاحشاء يولد الثائر.
في المقطع " د " تتمحور الصور فيه حول " السور " الفاصل بين البغايا والسكارى وبين نوعين من الناس متشابيهن فيصبح كلا وجهي السور " خلف " حيث لا " امام " فيه واللعبة المأساوية تتم بين فئتين رجال يبحثون عن النساء ونساء يبحثن عن الرجال وكلاهما مغيبان محبطان .
والسور فى هذه القصيدة يوجد بعض المغنيين ويستعيره السياب من اسطورة قرآنية . شعبية هي اسطورة الملكين يأجوج ومأجوج وسعيهما المستمر منذ الازل لازاحة السور بالسنتهما حيث يلعقانه اثناء الليل، وعندما يوشكان على الالتقاء يتركانه عند الصباح املا – ان شاء الله- سوف ينفذان اليه وهكذا يعود السور كما كان حاجزا ثم يعاودان لحسه فى المساء انهما ككثيرين يحملان قدرهما الى ما لانهاية ، وعندما يتوسلان بابنهما -ان شاء – الاله – ان يهدم السور، يكون الامل المعلق ، هو غاية الذين حكم عليهم باستمرار الحياة دونما نتيجة .
فى ابعاد هذه الاسطورة تكمن حقيقة المومس العمياء والسكارى الزائرين فكلاهما يبحث عن ملجأ يصل اليه، لكنهما سوف يبقيان مستمرين بالبحث وبتهديم السور الفاصل بينهما وعبثا يحاولان فقد حكم القدر عليها بأن تبقى المومس مومسا.
اذا ما هو السور؟ فى عرف السياب ؟ هل هو الواقع الشائك المعقد؟ ام القدر الذي شد اليه الطرفان ؟ فى القصيدة يتضح ثقل الواقع وعنفه ، الموت الذي احاط بها وهى طفلة ، العمر الذي شبت عليه ، الدنس الذي اصاب شخصيتها وها هي تنشد عابرا من اجل لقمة خبز تسد بها جوعها القصيدة تفصح عن اجتماعية السور، وغياب اساس الهادمين له وبقاء العجلة الدوارة فى مجتمع تسود فيه لغة الغاب لعل هذه التشاؤمية ، هي التي دفعت بعض التقدميين الى ادانة هذه القصيدة إلا ان السور سوف يرد فى العديد من قصائد السياب اللاحقة وقد اكتسب معانى شتى مما يعنى ان الاسطورة التي اختارها السياب هنا تكتفي بالدلالة الخاصة لوجهي القصيدة المومس والناس ، فما زال الحاجز بينهما – لانهما متشابهان – قائما وسوف يزول بفعل " وليد " اخر سيأتي من العمل – الاضطهاد – المستمر ومن ذلك تخرج القصيدة من مثالية الاسطورة الى واقعية الحياة المعاشة .
فى المقطع " هـ " تتمحور الصورة فيه حول – الجسد – المستنقع – البحر.. فالمومس فيه تستصرخ السكارى " من خلف السور" بأنها ليست إلا " بلدا " تجرى فيه الدماء، دماء الفاتحين وهى " عراقا " عاث جنود الاحتلال فيه فسادا وهى " زهرة المستنقعات " هاهي المومس تستحيل الى صوت مكلوم وجسد محتل 0.
فى المقطع " و " يصفى مناخ القصيدة من الالتباس بين الواقع والرمز فالمومس هنا عراق فقط والعراق الملء بالزيت يجوع والعراق الملء ينابيع يجف ، كما جفت عيناها من الضياء اما الصورة فى هذه المقطع فتتمحور حول : المقلة الضريرة – المصباح المطفأ – السغب – الظمأ – البذور المقتلعة – الجذور – السنابل – الصخور – وكلها صور ارضية يتزاوج عليها الربيع والصيف ، المنح والجفاف ، المومس والعراق ، السكارى والشعب البيت الصغير والبيت الكبير.
فى المقطع " ي " لا تتمحور الصور فيه حول " الباب الموصدة – والليل الذي مر والضجيج الميت – والصدى اما الكادحون فليسوا إلا هى المنتظرة ابدا املا معلقا بعيون ميدوزا – السيف والحجارة – فالجوع والتشريد من حظ الكادحين اما الليل الذي مر على المدينة وسكانها قد اقفلت ابوابها سلاسل الحديد والناس مازا لوا معقدين لا يسمعون الا صدى الاقفال ، الليل مر، والمدينة نائمة ، وغدا سوف لن يكون فيا إلا صباح ، وعندئذ سيعود – السور – من جديد الى وضعه السابق حاجزا يحتاج الى يأجوج ومأجوج ، اما المومس فسوف تعاود وضع المساحيق، وسوف يخرج شعبان لاصطياد الزبائن الجدد، ويعود الجميع ، المومس والشعب ، بيتها والعراق يلوكون حكايات الامس . .. وما على القارىء الا ان يبتدىء بقراءة القصيدة من جديد.
قصيدة
انشودة المطر
1 – المحطة الاخيرة فى رحلة السياب ، قبل الوقوف كليا فى العتبة كانت قصيدة
" انشودة المطر" فقراؤها يشعرون ان كثافتها وتركيزها يوحيان بالرحيل من المطولات الى القصائد المشبعة بالغنائية ومن الموضوع الانساني المتمثل بشخصية ، او حادثة الى الموضوع الشعري المرتبط بحيرات مجموعة من الناس ومن اللمسة الواخزة والدعوة الدينية المبطنة الى حقائق الواقع ورموزه هي اذن محطة اخيرة وقف السياب فيها ململما افكاره وعدة سفره ليقول من خلال ما يجمع بين ماض له خصوصيته وحاضر مغترب عنه ، فعل يتصل بالذات والطفولة وواقع يربض فيه الجوع والقحط رغم خصوبة الارض ونزول المطر.
والقصيدة سياسية بحت ، كما هي عاطفية مما حدا بها لان ترخى اسبابها لرياح جديدة بدأ السياب يتشممها، تلك هي الريح التي تفش الصيف والذاكرة ونقصد بها ريح التحول الايديولوجي المبطن ، كما هي قصيدة لوع وندب وحزن حتى لتحسبها مقدمة لاسطورة يحاول السياب خلقها، وهى قصيدة مكتنزة الحياة موشومة بعذاب الجسد العراقي موسومة بملكية الناس البسطاء كحاجتهم للريح والمطر والوطن مرهونة كخلاص الام ، مربوطة بجذع نخلة تدلى حملها على شواطىء الخليج وبويب ، قصيدة ليس فيها إلا ذلك الانين الاتى من اعماق الغربة والمحلى بصوت عرائس البحر ومشاعل الطناطل الليلة واصوات القبور المنقوعة وعندما تكون القصيدة هذا كله فهي النقلة الاخيرة الى العتبة حيث يتربع السياب بعدها موطئا طينيا ليرى الناس والحياة الماضي والحاضر وهو جالس – مقعد – بعدما كان يجوب الساحة والكهف وهو راكب – متنقل – ويشهد تاريخه الشعري، ان السنوات التي اعقبت كتابته لانشودة المطر لم تشهد مطولة أخرى -عدا ايوب – ولا موضوعا عراقيا صرفا آخر-عدا ما اتصل بذاته ولا تركيبة ذهنية وحسية كتركيبة هذه القصيدة ، ان السنوات التي سبقت ثورة تموز 1958 كانت سنوات مراجعة وتمحص ، حتى تأتى الثورة فيضيع السياب ، كما تضيع الثورة فى موضوعات الساعة ومشكلاتها وعندما تشرف على السقوط يسهم السياب بمعوله فيها، وكأنها يحطم السور الذي لم يستطع يأجوج ومأجوج تحطيمه ثم لا يدرى ان احدى ضربات المعول كانت بساقية ، لقد تحطم بقلمه حتى أمسى القلم تجارة لكاسدي الكتابة، ثم واذا به يصبح سلعة لمثل هذه الاقلام بعد موته .
ان محنة السياب هي محنة شعره .
2- فى هذه القصيدة تأكيد لدور المشهد الاستهلال الذي ابتدأه فى حفار القبور وهو مشهد يستوعب مناخ القصيدة كلها ويتشرب فى مفاصلها وحتى لتجده متكررا بصور مختلفة اللفظ موحدة المعنى فى كل جزئياتها.
والمشهد الاستهلال هنا تكثيف شعوري لحالة ملتبسة بالمناخ الشعري للمنظر ومتغلغلة فى الحس فى المكان والزمان ثم تأتى التشبيهات مؤكدة لمناخ القصيدة ومعبرة عنه .
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
او شرفتان راح ينأى عنهما المطر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الاضواء… كالأقمار في نهر
يرجه المجداف وهنا ساعة السحر
كانما تنبض فى غرريهما النجوم
2- 1- يتمحور المشهد الاستهلال حول : العينان – الغور والمخاطب فى القصيدة مجهول ، فهو اما الحبيبة التي يتذكر السياب عينيها الان وهى فى شرفة بيتها، او الام التي ترد كقطعة من الماضي وقد تركت وليدها رخوا فى المهد وفى اللسان أوهى الارض التي ترد فى القصيدة وكأنها : العراق الملء بالريح وبسماء ممطرة يمنح لها كل ما هو كائن فى المجهول .
ولما تختلط صور المخاطبة فى ذهن السياب تصبح كلها في بوتقة الارض – الام : المانحة الجائعة – والحاضرة الغائبة وضمن فهمنا هذا للقى يخاطبها السياب يصبح موضوع غربته فى الكويت هاربا من شرطة ومباحث نوري السعيد اطارا عاما للقصيدة فى حين يصبح مركز القصيدة هو العراق – جيكور لاحقا – اي الواقع والرمز، البلد والارض متحولا عن الغابة -المطر.
ضمن هذا الفهم يصبح المكانان : العينان – الغور محورا المشهد الاستهلال وقيمته .
2- 2-2 فى " العينان " تكمن حال الاستقبال الانتقائي لصور العالم وقد استحضر برؤية حركية ضاجة ومنسربة فأصبح غابة النخيل – الشرفتان – الكروم – الاقمار . المجداف – السحر – النجوم ، ويمثل هذه السعة المكانية – الزمانية تشمل فى ابعادها الارض والمياه متجمعة دونما تداخل مشوش – انها – غابة الاشياء المرئية – اما فى " الغور" فيكمن العمق – النجوم النابضة – الماضي الآتى من سماء الذكرى والاحلام – وكأنما الغور – النجوم هو الذى يعطى للينين – الغابة ديمومتها وحضورها اما المسافة التي تمتد بين الغابة والنجوم فقد ملئت بالشجر والماء والنهر والشرفة والضوء والقمر والسحر بمثل هذه المسافة البانورامية الحية ، نجد الصور الشعرية تنساب رخية فيها من الثراء والعمق ما تجعل السياب يكررها كينبوع ماء دافق .
2- 2- 3- وكأمكنة نوعية نجد " الغابة " هي تجميع لاشياء متفارقة ومتباعدة لكنها مشتركة الحياة ، لذلك جاءت افعال هذه الغابة نابضة ، حية منها " ينأى – تسم – ترتص – يرج – تورق – تنبض – افعال كلها مضارعة مليئة بالحركة ، حياتها متوثبة ، ليست لفعلها حدود مكانية ، فهي على الارض وفى الحياة ، وفي السماء تشترك كلها بالنبض والرقص والابتسامة والترجرج ، لذلك يفصح المشهد الاستهلال عن امكانية احتوائية لكل الموضوعات التي يعالجها السياب لاحقا بهذه القصيدة .
1-2- 4- فى توزيع الامكنة نجد شمولية البصر الرأى فهناك امكنة كائنة فوق الارض "الشرفات – الكروم " وامكنة كائنة فى السماء " النجوم والسحر" وامكنة
رأسية فى الاعماق " الماء -النهر-السحر ".
واختلاط الامكنة ينتج اختلاطا فى الرؤية وامتزاجا ماديا متداخلا هي اذن دلالة على انبثاقية كونية مليئة بلحظات التوثب وبلحظات معتمة يعود بها الشاعر الى تكوينها البدائي " ساعة السحر" وخلق الشعر كخلق العالم ، وما الشاعر إلا اله صغير مادته كونيات الحياة المعيشية وما لغته إلا الصور المنعكسة من الاشياء هكذا تولدت الصورة الكلية لدى السياب جامعة جدليتها " صورة الموت والميلاد الظلمة والضوء، الشتاء، والخريف " ويمثل هذه الجدلية الثنائية التكوين راح الشاعر يجسد لحظة خلق الصورة -الفعل .
1- 2-5 وتبعا لما جرت عليه هذه الدراسة ، نتقصى عن هيات المكان فنجد الساحة الخضراء المنبسطة السائدة فى المقطع الاستهلال وهى كما راينا فإنها تعبير عن الوطن الاخضر، الارض العراقية المنبسطة ولكنها الجائعة للمطر، وتكمن خلف هذه الانبساطية صورة الماضي "الغور" وصور الحاضر المتألق "العينان " وقد اجتمعا فى هيئة " العمق " ليلتقى فيها النجم بالغابة ليشكلا مشهدا بانوراميا حيا ويقظا.
يفتح المشهد الاستهلال على جسد القصيدة فاذا بها تحمل نغماته ومناخه ولغته المكانية .
فيما يلى نماذج من توسيع معنى الاستهلال فى جسد القصيدة
النماذج
ا- وتفرقان فى ضباب من أسى شفيق
كالبحر سرح اليدين فوقه المساء
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
ونشوة وحشية تعانق السماء
كنشوة الطفل اذا خاف من القمر
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب فى المطر
وكركر الاطفال فى عرائس الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر…
مطر…
ص 475
ب – اتعلمين اي حزن يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
كالحب ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر!
ص 476
ج – ومقلتاك بي تطفيان مع المطر
وعبر اعواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار،
كأنها تهيم بالشروق
فيسحب الليل علها من دم وثار
اصيح بالخليج " ياخليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى "
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
" ياخليج
يا واهب المحار والردى "
ص 477
د – اكاد اسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق فى السهول والجبال
اكاد اسمع النخيل يشرب المطر
واسمع القرى تثن والمهاجرين
يصارعون بالمجاديف وبالقلوع
عواطف الخليج والرعود، منشدين
" مطر…
مطر…
مطر…
وفى العراق جوع …."
ص 478
5- ومنذ ان كنا صغارا كانت السماء
تغيم فى الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام -حين يعشب الثرى- نجوع
مامر عام – والعراق ليس فيه جوع
مطر…
مطر…
مطر…
ص 479
و- وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام فى انتظار مبسم جديد
او حكمة توردت على فم الوليد
فى عالم الغد الاتى واهب الحياة
مطر…
مطر…
مطر…
سيعشب العراق بالمطر
ص 480
ز- ويهطل المطر
ص 481
2- 1- بدءا لاتمثل هذه النماذج إلا
العينات المراد فحصها هنا وما عداها فهو تعليق شعري عليها.
وبدءا يمكننا القول ان السياب يخفى في مناخ القصيدة النغمة الشعبية المستحبة لدى سكنة القرى الجنوبية المطر اولئك الذين تمتد جذور قراهم فى المياه ، بينما تغطى الامطار رؤوسهم النغمة الشعبية المضمرة موزعة على القصيدة كسدي يشد اوصالها من دون ان تظهر مغناه كما فى المومس العمياء – او شناشيل ابنة الجلبي او سواهما فى هذه القصيدة يحمل السياب النغمة ايقاعا شعبيا متساوقا مع الحزن الدفين المولد، من هنا يتأكد لنا القول بأن السياب شاعر بدائي بالتقاطه لحيثيات الروح الشعبية وهى تنتشر احيانا من اشياء ومواد القرية والمحيط دونما الانسياق وراءها فى اشعاره ومن شعبيته يوازن السياب بين بدائية المادة المصورة والموقف الانساني من الحياة وعندي ان التوازن هذا مرجعه الى تلك الاصالة والى تلك النفسة الحزينة المعجونة مع الكلام .
2- 2- تتمحور الصورة الشعرية فى المقطع " أ " حول الامكنة التالية :
ضباب – البحر -المسا. الشتاء – الخريف – الموت – الميلاد – الظلام – الضياء – الروح – السماء – القمر – السحاب – الغيوم – القطرة – المطر – عرائس الكروم -الشجر.
1- اول ما يلاحظ على هذه الامثلة الامكنة هو هلاميتها او عدم ثبوتها على هيئة واحدة كما لا يحدها زمان ، وفيها انسيابية متنامية وامكانية تحويلها المستمر من حال الى حال ، ان عدم الثبات على هيئة او صورة واحدة يعنى ان السياب فى حالة نشوة شبه مأخوذ بطبيعة ما تزال غير مستقرة انه يستقرىء الحلم عن طريق الواقع ويحول صور الواقع الى نغمة غنائية مشبعة برومانسية ، بغيمة تحلق اما فى القمر والسحاب واما تستقر فى البحر والمطر.
الان السياب يجعل من الخيط الرابط بين العلو حيث السماء -روح -الضباب – القمر – السحاب – الغيوم ، وبين الاسفل حيث البحر-الكروم -الشجر هو المطر، فالمطر كما يسميه " انغام السماء" هو الحال المادي المجسد لوضع اللاثبات فى الامكنة ولعل المطر الساقط هنا هو المحصلة لصراع القوى الطبيعية التي اورثتها ثنائية الموت – الميلاد، الظلام – الضياء، الشتاء -الخريف وهى ثنائية انبثاقية ، تحل التناقض فى احشائها وتولد عبر صراعها الداخل بديلها المطر.
اذا فالمطر فى هذا المقطع هو النص الدلال للامكنة الدكناء اللامحدودة وهو الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي صلة تحيى وتميت ، تولد وتتولد وفق هذا التصور الكلى لفعل المخيلة الشعرية المستمدة عادتها من بيئة وحياة ريفية فينهض الشاعر قصيدة هي الترديدات الخفية لروح المادة الكائن بالطبيعة فى الانسان .
ب – ويكون المقطع " أ " مع المشهد الاستهلال وحده عضوية لعل الفعل " تفرقان " الذي يبتدىء به المقطع يعود على " العينان " ولعل المناخ الملتبس فى ذهنية الشاعر يمتد ليشمل مساحات اخري، وعموما فافعال المقطع تدل على مثل هذا الترابط : العينان -الغور فى الاستهلال والضباب -المطر فى المقطع الثاني وما بين الاثنين مساحات وازمنة متداخلة يحيا فيها الطفل -العصفور، الفرح -البكاء، الموت -الحياة وكد لالة على هذه الحيوات المتداخلة تنوع افعال المقطع : افعال فى الماضي: سرح ، خاف ، شهد، الى جانب افعال المضارع الكثيرة : تفرق ، تستفيق ، تشرب ، تذوب ، وكلها افعال سيولة وتحول تعايش مرحلة الى أخرى وتؤكد تبدل تركيبة الى أخرى وهو ما يؤكده المقطع ككل فى نتائجه ، المطر، -فانشودة الحياة المتيقظة المتحولة من الضباب الى المطر: من العدم الملء بالاسي الى المطر المانح الارض صبوتها وتكمن فى فاعلية هذه الصورة الشعرية فى احساس السياب بمستقبل العراق حيث الغربة ضباب "غور" وحيث العينان رؤية تستشرف المستقبل وحيث المطر الامل وتستمر هذه الصورة – الرؤية فتتبع فى القصيدة لتشملها كلها موضحة عبر نغماتها وتردداتها غنى الموضوع السياسي عندما ينبثق من احاسيس الذات ، وهو ما يجعل السياب يقف فى مشارف العتبة دون ان يكون للمجتمع او للكهف الام – ذلك الفعل المؤشر السابق .
2- 3- فى المقطع " ب " تتمحور الصور الشعرية حول فاعلية ا لمطر وتأثيره : المطر الباعث للحزن – والمزاريب الناشجة – وشعور الوحيد بالضياع – والدم المراق – والموتى – المطر.
والمطر النتيجة من المشهد الاستهلال والمقطع " أ " تصبح هنا تساؤلات تفصح اول الامر عن ارتباك في مخيلة الشاعر قد ساقته اليه الاسئلة لكن فحص المقطع مجددا يؤكد ان المطر فى عرف السياب المغترب ليس المانح بل المميت ايضا وهذا ما يؤكده فى مقاطع أخرى عندما يصبح تهديدا بالفرق وضياعا فى الزورق الذي استقله هربا من ايران الى الكويت ، المطر في مخيلة السياب الشعرية ، موت وميلاد، طفل وقبر، دم وضياع ، كركة ونشيج وتؤكد هذا كثرة التشبيهات وسعة المشبه به ، كما ان كثرة افعال المضارع فيه: تعلمين – تنشج – يشعر – دلالة على فاعلية ا لمطر الاتى من 0 الغور . الضباب ، ان ا لمطر فى المقطع لايحيا إلا ضمن جدلية مولده هي جدلية : الموت والميلاد.
2- 4- فى المقطع " جـ " يدخل الشاعر والقصيدة ميدان الصورة الفعلية ليجسد الرؤية والواقع معا وضمن هذا المدخل نجد صورا لمقطع تتمحور حول الامكنة التالية : مقلتاك المطر – اعواج – بروق – سواحل ، نجوم – محار – شروق – الليل – الدثار – الخليج .
1- المقطع مقطع استغاثة وندب وطلب لذلك فامكنته كلها من تلك الامكنة الرأسية على ارض والمحتواة بالنظر وا لمعايشة با لممارسة والحياة ومن تلك التي يسامرها المريض فى خلوته انها اما لحن النغمة الشعبية المضمرة فى القصيدة .
ينقسم المقطع "جـ" الى اربعة اقسام – صور
الصورة الأولى : هي البيت الاول منه
الصورة الثانية : هي الابيات الثلاثة المنتهية – " كأنها تهيم بالشروق ".
الصورة الثالثة : هي البيت الخامس منه .
الصورة الرابعة : هي بقية المقطع .
فى الصورة الأولى يستحضر السياب من المشهد الاستهلال صورة " المقلتان – الغور" ويجمعها مع صورة المقطع " ب " المتمثلة – " المطر " ليكون منهما رؤية تطوف بالشاعر المغترب لقد امسك السياب بمفتتح جيد لرؤيته بحيث لاتحجب عنه – الصورة الثانية – رؤية الاعواج الصاخبة وهى البروق المانحة وهى تمسح سواحل العراق الجائع "النجوم والمحار" الشيئان المتناقضان مكانيا – فى العلو النجوم النابضة الحية فى العينين – الاستهلال – وفى العمق -المحار التكوين لكل حي سيولد – والمجتمعان سوية لاستقبال الشروق الاتى من داخل المقلة والمطر، إلا ان هذه الصورة التأملية المستحضرة والمستوحاة من قصص السندباد المغترب فى السفر-تمحى فالليل -الصورة التالية -مازال يجثو على السواحل العراقية مغطيا البروق والشروق – خلق العالم فى الاساطير. بدثار من الدم المراق ، فلا "النجوم تنبض ولا المحار يولد فالعراق منقوع بالليل وعبثا تنفعا الاقوال والكتب فليجرب – الصيحة "حيث تنهض البشرية يوم القيامة اثر صيحة آتية من السماء" الصورة الرابعة – لكن الصيحة نفسها – اصيح بالخليج الواهب المحار واللؤلؤ والردى -تذهب سدي وتصبح نشيجا منكسرا وترديدا لطلب مغترب لا يمتلك اي فعل تغيير حاسم.
ب – ولو تأملنا افعال المقطع "حـ" نجدها كلها افعال مضارعة – تطيف – تمسح -تهيم -يسحب -اصبح -يرجع – وافعال من هذا النوع تجمع بين حالتين متناقضتين ، فالأفعال ليست من تلك الافعال الضاجة بالحركة والصاخبة فى الصوت ، بل هي افعال هادئة شبه مغمى عليها، او قصيدة بحالة توازن بين نقيضين لذلك لم تنفع ،" لصيحة " رغم صخب الفعل "اصيح" وحتى فعل الصياح هذا يعود منكسرا مسحوبا، مشوبا بصوت داخل حزين هو "النشيج " الذي يضيع فيه حتى صوت البيت الاخير من المقطع فيمحى " اللؤلؤ " ويبقى على " المحار والردى" .. متبوعين بنقاط ثلاث دلالة على تلاشى الصيحة وخفرتها.
لكن السياب لايستسلم فالمغترب يمتلك الف سبيل ، واذا خانت الصورة المتأملة تحقيق مطلبه يمتطى غيرها، فالطريق الى استحضار العراق الجائع والممطر مازالت سالكه والشعر فى زمن نهوضه فتح له نوافذ اسلوبية وفكرية عديدة لذلك لا تنتهى القصيدة – تلك اللحظة اليائسة ولا عند مشارف الخليج المغطى بالموج والدم الدثار.
5- هكذا نجده فى المقطع «د» ينهض حاسة "السمع " بعدما تلاشت الرؤية فى اعماق المقلتين وتحولت الى صدى نشيج يعود ليتسمع ما كان قد عاشه ورآه فالعراق لايستعيد فعل تغييره بل يخزنه ، يدخره وينمو من خلاله ويبعث القوة فى سواعد الملاحين ليصارعوا عواصف الخليج ولينشدوا اغنية "المطر النازل كأنغام السماء".
1- من أمكنة المقطع يكمن فعل السماع فالأمكنة هي:
السهول – الجبال – النخيل – القرى – المجاد يف – القلوع – العواصف – وكلها امكنة نامية حية ليست فيها سكونية متطلعة الى أعلى وضاجه بالنمو والحركة والحيوية ، ويمثل هذه الامكنة يخزن الامل ويذخر ليوم آت ، فالصيحة التي اطلقها الشاعر وتحولت الى نشيج فى المقطع السابق تصبح هنا رعودا مذخرة فى سهول العراق وجباله صوره انبثاقها للمياة فيها "فالرعد" فى العراق الشعبي ينبت الاجنة . الكمأة ، ويخزنها للجياع والنخل فى العراق الشعبي يخزن ماء المطر اذا ما جفت الانهار والمهاجرون يصارعون ماء عواصف الخليج من الوصول بعيدا مغتربين عن العراق ومن اجل العراق .
ب -ازمنة المقطع كلها فى المضارع وفى الحالة المتسمعة لما يخزن ويدخر ويسمع
ويثن ويصارع وينشد افعال مؤجلة الفعل مستوفرة فى الامل متهيأة لما سيأتي مقتدرة على الولادة فهي الرعد الواعد، والمطر الساقي والانين الفردي وصراع المجاديف والقلوع – والنشيد المنغم بـ "مطر… مطر… مطر" كل ما فى المقطع مهيأ لميلاد جديد ومتساوق مع شعور شاعر مغترب لايملك مالا ومهاجر سياسي متأمل ومنشد اشعار فى جوقة اسرا فيل الابدية ان فى العراق جوعا لكل ذلك وجوعا من النوع المؤجل الحمل ، جوعه للرعد وجوعه للمطر وجوعه لمغن لا يفسد" الصوت النشاز.
2-6 ويوضح السياب جذور هذا الجوع فى المقطع "هـ" مذ كان طفلا كانت السماء ترسل المطر، وكانت الارض تشب وتفرح ومع ذلك كان العراق حاملا للجوع وللجوعي… انها لمفارقة …. هذا ما يؤكده المكان فى هذا المقطع ، حيث تمحورت الصورة الشعرية على مكانين مهمين هما: السماء – الثرى المكانان المتباعدان موقعا والمقتربان زمنيا يوصل ما بينهما المطر ويدلان باجتماعهما على العراق مكانا متسعا ويوضح السياب "فى كل عام " استمرارية الدورة السماء تمطر والارض تعشب ومع ذلك فا لجوع باق .. هذه الاستمرارية جعلت مكاني الصورة الشعرية السماء – الثرى عقيمين " ما مر عام والعراق ليس فى جوع ".
اما زمنية المكان فتتراوح بين الماضي والمضارع ، ديمومة الجوع ، واستمراره هكذا جاءت صورة بافعال ماضية ناقصة كان – ليس وافعال ماضية دالة على استمرارية الماضي " مر" اما افعال المضارع – تغيم -يهطل -يعشب -نجوع -فهي افعال احياء ونمو وتغيير لكنها محكومة بماض متكرر ولذلك لاتستطيع مثل هذه الافعال احداث نقلة ما لم يتوافر لها فاعل انساني يجعل الارض المعشبة مليئة بالزرع والعمل .
2- 7- فى المقطع "و" يوفر الشاعر هذا الفاعل المغير الذي يستطيع المبسم الجديد انه "الدم" الذي يصنع الابتسامة والحكمة والفد والمطر والعشب و" فاعل ".
السياب خلاصة التاريخ وتجسيد الفكر وممارسة المواقف – انه الثورة التي ستنهض من بين ربوع العراق بعدما يهطل عليه المطر وتعشب ارضه وتزال كل الاحزان وتوضح امكنة المقطع مثل هذا الامل – الدم – المبسم – الفم – الحياة – العراق .
ونظرة أولى على طبيعة هذه الامكنة نجدها بشرية – دم – فم – مبسم – وهى زمنية مستقبلة – الغد الواهب للحياة – وهى مكانية سياسية – العراق – ولاول مرة في طبيعة امكنة القصيدة يصبح الانسان ميتا كان – دم – ام حيا – الوليد – هما محورا الصورة الشعرية ومثل هذا التناقض المولد – الدم – يولد – الوليد – هو القيمة الفكرية للمطر حيث ينتهى المقطع "سيعشب العراق بالمطر" اي اتحاد دائم ومستمر بين مكاني الصورة السابقة – السماء الثرى وكأنهما ماكانا ليظهر هكذا دونما تضحية فالدم -الوليد – فى المقطع "و" هما اللذان بعثا الحياة مجددا فى اوصال القصيدة ولذلك بالامكان قرادة القصيدة من اخرها صعودا الى اولها عندئذ نرى كم هي العينان مليئتان بالامل النخل -وكم هو المطر مهم كي يعطى الواقع صيغة الرمز السياسي وتؤكد افعال المقطع "و" مبدأ التناقض المولد "الدم يولد الوليد" فالأفعال .تراق .. توردت -يعشب أفعال نضارة وخلق وانماء، وافعال تجسد الميلاد وترسم خطوطا واضحة لعالم الحياة الانية …افعال كلها في الفعل "يراق " فالدم الذي اريق فى مساحات العراق ومدنه سوف يجعل من العراق معشوشبا بالمطر.
ضمن هذا السياق يؤكد المقطع الاخير "ز" استمرارية النمو "ويهطل المطر" ديمومة حياتية وصلة ابدية بين السماء والثرى – وتحقيقا زمنيا للماضى وللحاضر وتوقا لمغترب يريد العودة وسعيا لشاعر ينبىء عن طريقا الجديد فى الحداثة الشعرية .
ياسين النصير: ناقد من العراق .
إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية فحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي، بل بكل ما في الخيال من تحيز، إننا ننجذب نحون لأنه يكثف الوجود في حدود الحماية.
* غاستون باشلار