افترض أن الاثر الاجنبي عن طريق الأصل أو الترجمة من مكونات القصيدة الحديثة المفعلة والنثرية ، وقد أقول تجوزا أن من التواريخ الممكنة لهذه القصيدة تاريخ ما دخل فيها من أثر اجنبي. واذا عدنا الى بدايات القصيدة الحديثة وجدنا أن الترجمات تحضر بنفس قوة الآثار المنتجة، لا نشك أن هذه البدايات لم تكن فقط انشودة المطر وأغاني مهيار الدمشقي ولن وأباريق مهشمة وحزن في ضوء القمر ومدينة بلا قلب وأقول لكم وغيرها. ولكن ايضا أربعاء الرماد والرجال الجوف ومنارات وأوراق العشب وأغان غجرية . لقد ولدت هذه القصائد اصلية ومترجمة في الوقت نفسه وربما من المخاض نفسه ، لعل هذه الولادة المزدوجة ميزة مجلة (شعر). فهذه كانت بالدرجة الأولى معمل ترجمة او قل ان الشعراء المترجمين كانوا بين محرريها الاوائل . ولو راجعنا المجلة لوجدنا أن سنواتها الخمس الأولى حافلة بالترجمة ، واذا دققنا في الاسماء وجدنا بين اعلام اعداد 1957 عزرا باوند وخمينين واليوت وايف بونفوا ورينيه شار وايدث ستويل وسان جون برس . بين هؤلاء الاعلام اثر اليوت وبوس بقوة وسيؤثر شار وبونفوا في السبعينات وما تلاها. نقلت اعداد العام الثاني الثلاثة الى العربية اشعارا لأليوت وبول لكوديل وويتمان واثر من هؤلاء ويتمان واذا تجاوزنا الى اعداد الأعوام الثلاثة التالية وجدنا دايلن توماس ولوتر يامون وفاليري وشكسبير ورامبوا وييتس وكواز بمردوا ويبار جان جوف ولوي مكنيس وايف بونفوا وفيليب لاركن و.و.س مروين وارتو والان جوفروا وبيار ايمانويل واندريه دوبوشبه وجاك دوبان واندريه دومانديارغ وتريستان تزارا وميشال بوتور. وسيضاف الى هذه الاسماء فروست واوكتافيوبات ولوركاوميشو… قائمة طويلة حداني الى ذكرها ما تفعليه من رقعة واسعة بلغاتها واعلامها واتجاهاتها. فهنا مصادر خمس للترجمات "فرنسية ، وانجليزية ، واميركية ، واسبانية ، وايطالية ". إلا أن المصدر الفرنسي هنا أكثر تماما فلو احصينا الشعراء المترجمين لخرجنا منهم بانطولوجيا مقبولة للشعر الفرنسي آنذاك . ولا ننسى أن بونفوا لم يكن باشر اربعيناته فيما كان دربان ودبوشيه في ثلاثيناتهما أي ان القصيدة الفرنسية نقلت في وقتها.. تعرف قواء شعر انئذ على شعراء يومهم . وكذلك على اوكتافيوبات المكسيكي ومرون الاميركي. كانت (الشعر) بذلك مجلة واهنة ومعاصرة . تواقتت الترجمة اكثر من أي وقت مضى مع الاثر المترجم ، فكانت اقرب الى معاصرة المعاصر.
يميز بين قراءة الأثر الاجنبي في لغته وقراءته مترجما، والفارق ليس نظريا فقط . فقراءة الاثر الاجنبي في لغته عملية تفاعل بين لغتين غريبتين عن بعضهما بعضا، محله ذات الشاعر وعقله . والارجح ان هذا التفاعل يفعل في عمل الشاعر بقدر ما يستطيع الاثر الاجنبي ان يثير في لغة الشاعر نظيرا له من ايقاع وصدى، وان يستنبت في لغة الشاعر نزوعا مختلفا ويستنبش فيها قابليات نائمة ، وهذه عملية مدارها ذات الشاعر ومردها اليها. فالارجح ان ما يستولده الاثر الاجنبي في لغة الشاعر مرهون بهذه اللغة واستعداداتها ونوازعها، والايقاعات التي تستنبشها نائمة في الاصل فيها، والارجح ان يستثير النص الاجنبي في لغة شاعر مالا يستثيره في غيرها وان يدخل في نسيج هذه ´للغة ونحوها وتراكبيها بقعا لشاعرية الشاعر ومراسه اللغوي. هنا يغدو الكلام عن النسخ والنقل واهيا. فما اضعف ان ندخل فى قصيدة الشاعر صورة ومعنى لغيره .. هذا ان حدث لا تقوم به قصيدة ولا شعر والارجح ان التأثر اعم من ذلك . انه في الايقاع وفي الجملة والتخييل وهذه امور لا تنتقل مباشرة من لغة الى لغة ولا يتأتى لها ان تنتقل الا بعملية تحول وخلق توليد عملية هي في صلب الابداع الشعري وتلاقح ليس مؤداه النسخ والنقل ولكن الابتكار والتوليد. هذا بالتأكيد لا يرضي من يظنون ان للأدب اصلا واحدا ويحسبون له نسبا صريحا وأبا متسلسلا لا نسبا مختلطا ومولدا. والحال أن رد كل شاعر الى آخر اجنبي وكأنه شيطانه وشيخه قلما يجد دليلا وقلما يقوم بدليل. لا تكفي صورة من هنا وعبارة من هناك فالعبرة في قوام النص وبنيانه كلا ولا احسب ان من اولعوا برد شاعر الى شاعر يفحصون بنيان النصين ويوازنون بينهما في الايقاع والتخييل .
اغلب الظن ان مثل هذا لا يدخل كثيرا في النقد. اذ يغفل اهله عن ان الشعر ابن لغته وانه يستولد منها ايقاعاته وعادته ، ولا يسع الشعر ان يكون خلوا من كل لغة ، وان يكون مادة تنتقل كما هي من لغة الى لغة ، فلا يكون للغة سوى دور النقل البرىء. هذه الدعوى اقرب الى ان تكون أيديولوجية فاصحابها في الغالب قلما يبحثون عن معنى وصورة مجلوبة ولكنهم يصمون بالترجمة والاجنبة كل معنى يحسبونه غريبا مخالفا، وهم غالبا يحملون على الترجمة كل ما ينافي ذائقتهم وفهمهم ، وعلا لما وصموا بالاجنبة والترجمة كل ما يغمض عليهم او يدق عن تناولهم ، وكأن الغموض والتجريد والتركيب امور ليست من لغتنا. هكذا تتهم بالا جنبة احيانا كل فرادة وكل خروج .
طالما استعار صلاح عبدالصبور من اليوت اولمح اليه لكن ذلك لا يجعل لعبد الصبور جملة اليوت ولا ايقاعه كما ان ترجمة ادونيس لبيرس وهى ادونيسية على حد قوله تختلف عن شعره والامر ابعد حين يتعلق بالسياب فشبهة اليوتينية واهية .
للنص المترجم حين يقرأ في اللغة التي نقل اليها شأن ثان ، فهو قد استوى في كلام عربي واستوى نصا عربيا. ان له جملة وايقاعا عربيين ، واذا كان الامر كذلك اشبه ان يكون اصلا، وقرىء معنى وصوتا وتركيبا كما يقرأ لكل نص . عندئذ جاز ان نجد في بعض الترجمات اصولا ونماذج أولى تستلهم وتحاكى وينسخ عليها. واذا كان لنا ان نتصفح اعداد مجلة (شعر) الأولى وقابلنا بين الترجمات والنصوص الاصلية . وجدنا انفسنا اميل الى الترجمات اذ لا مجال آنذاك للمقارنة بين نصوص في متأنه اربعاء الرماد ومنارات ومرثاه اغناثيو مخياس وما يكتب قبالها من نصوص مؤلفة . معظمها بالقياس اليها اقرب الى تمارين . لقد بدا النص المترجم في اوقات كثيرة اصلا اكثر من الاصل . ولا نشك ان افتتان قرائه به ليس افتتانا بمعانيه وحدها، فمن العبث ان نفصل هنا الصوت عن المعنى عن الصورة عن البناء ولا تستقيم قراءة على هذا النحو، انما نقرأ صوتا ومعنى نقرأ ايقاعا وتركيبا، يستوي في ذلك المترجم وغير المترجم ، وقراء النصوص المترجمة فتنوا بالتأكيد بلفة المترجم لو بدت هذه اللغة اقل استواء وتآلفا وجزالة ومراعاة للأذن العربية . ولا نشك ان شيئا من لغة المترجم ) قد دخل في الشعر.
كانت الترجمات جمة على نحو ما ذكرنا رغم نقص في المتابعة الاميركية والانجليزية وفقر في المتابعة الاسبانية والايطالية وعدم في المتابعة الروسية والالمانية .
القراءة اصعب واقل ذاكرة . هكذا ضاعت اسماء ولم يبق سوى اقطاب قلائل لوركا، وولت ويتمان ، اليوت ،بيرس ولسنا نعلم لماذا تقدم هؤلاء وتأخر غيرهم . لا شك ان لتبني البعض اثرا في ذلك ، لكن الاثر الاول لما استثارته اعمالهم من صدى في وجداننا اللغوي والشعري او بالاحري لما اطلقته اعمالهم في وجداننا الشعري واللغوي. لم يكن ذلك الا باحتواء هذه النصوص وتحويلها، ولعل جريانها في بعض شعرنا كان لملابستها نوازع كامنة في باطننا اللغوي والشعري والثقافي . لقد استقبلناها من جهتنا ووجهناها لمطالبنا. بذلك غربناها عن اعملها وحولناها الى وسيط لنا، ما ناب النص البيرسي مثل على ذلك ، فقد تحول هذا النص الذي نشق ترجمته وقراءته في اصله الى احد اصولنا الشعرية وقد فعلت ترجمته الادونيسية ولا تزال تفعل في نتاجنا الشعري. ولم يكن ذلك لولا ان النص البيرسي توسط بين الشاعر العربي ولفته ودخل هذا منه عليها. فالنص البيرسي المترجم بتوسعة القاري ونزوعه المتحفي وبنائه من طبقات لغوية ومعرفية مختلفة متفاوتة استفز نزوعا عربيا الى تظاهر لغوي، الى نوع من توحيد اللغة في ايقاع اصلي وعبارة أولى ، والى نوع من استنفار اللغة في نص شامل ، وبتعبير اخر استفزت القصيدة البيرسية نزوعا عربيا الى توحيد الذات وتظاهرها في اللغة ، وحينئذ الى الاصل والهوية والوحدة . اي ان القصيدة البيرسية الاصل توسطت لقصيدة متحفية عربية تقوم باستنفار او ابد لغوية من كل مكان وباحتفال بلاغي سيأتي وبتر جيع متصل للحن اصلي . وهذه كما ترى عناصر عربية . السنا نرى الترجمة هنا وقد استحالت اصلا.
ليس المثل البيرسي على قوته وحيدا بيد ان النص المترجم يفعل في احوال أخرى مختلفة وربما معاكسة يفعل النص المترجم حين يقرأ – مهما كان اصله – نثرا. هكذا يبدو متكاملا موارا متوفزا وهو على حالة من النثرية . ومنذ اسفار التوراة الشعرية الى القصائد الكبرى المترجمة وجدنا امثلة باهرة على شعرية النثر.
فقد كانت هذه في ترجماتها، ودعك من اصلها الذي قد يكون موزونا بقصائد نثر. لقد قرئت على هذا النحو. والارجح ان قصيدة النثر العربية استمدت كثيرا من الترجمات ، لقد كان هذه بحق اصولها المباشرة اما تراث الامس القريب من شعر النثر العربي (الريحاني، بشر فارس ، البير اديب ) فهو واهي الاثر والتراث النثري الشعري العربي القديم على تأثيره القوى اقل مباشرة . لقد كان فى وسع قصيدة النثر الحدثية ان تكون وارثة حركة الترجمة الشعرية . من هنا بعض قوة هذه القصيدة وضعفها غناها وغربتها في ان معا.
يبدو النص المترجم فاعلا في بساطة عبا رته التي هي عادة الابسط تركيبا هنا تبدو العبارة بدون مؤثرات ، محايدة نوعا ما، ويبدو الكلام قليل الشحنة الصوتية والشعورية التي تطو احيانا فوق الصورة وفوق المعنى وتتأكل الصورة والمعنى في موروثنا من الشعر والخطابة ولنقل ان في خلو العبارة من الجزالة وفي تركيبها البسيط والمحايد نسبيا ما يجعل الصورة والمعنى اكثر قوة وايحاء. ثم ان في ضعف اللغة نفسها اذا جاز القول ما يغوى،.. فثمة ضيق بدوي اللغة وفخامتها. وثمة شعور بان في رجولية اللغة هذه ادعاء وطنطنة وتجريدا ومفارقة . ولا اشك ان ثمة من يجدي في العبارة الابسط والاضعف حقيقة وجمالا اكثر بل ومباشرة وعودة الى الراهن والحياة الجاري ولنقل ان مغويات الضعف هذه كثيرة فالعبارة الابسط والاقل تركيبا اقل اضمارا لمعنى ملازم واقل ادلالا بصوت وايقاع ملازمين وهي لذلاك اطوع لتوليد ايقاعات مختلفة واجتلاب معان ومشاعر جديدة . ثم انها اقدر على التجرد من بلاغة موروثه هي في الغالب بلاغة الحماسة او الخطابة او الفناء الاقصي وتوليد بلاغات مختلفة ثانية : بلاغة الجفاف ، أو بلاغة الهمس ، أو بلاغة النسك اللغوي او بلاغة الصمت .
الجزالة تكاد تلازم الحماسة والفناء الاقصي، خالدوي الحربي او الخطابي والكلام من نهايات الوجد او الحزن والانفعال قوام الجزالة . وطالما تطلب التدرج والتفصيل والاحتفال بالآني والمباشر واليومي، تجاوز هذه الجزالة كما وجدنا في شعر ابن ابي ربيعة وابن الرومي وأبى نواس وأبى العتاهية واخوين . واذا للضعف غوايته عند هؤلاء فهو اكثر غواية في زمن تزداد فيه الجزالة مفارقة وتعاليا وتجريدا.
ثم ان النص المترجم يصعب ان يتوالد بالمشاكلة الصوتية والتداعي اللفظي والسيولة ، فهذا النص يتوالد من علاقات الصورة والمعنى الداخلي ، من الهندسة والتوزيع والمعمار الكلي . هكذا يبدو للنص اذا جاز التعبير داخل وخارج ، وباطن وظاهر. واغلب الظن ان القصيدة الحديثة ستتأثر في ذلك بالترجمات من جملة ما تتأثر به .
النص المترجم هو بمعنى ما البلاغة المعاكسة ، انه وقد استوى نصا عربيا بين اصول القصيدة الحديثة ولعله يفضل بين حوازيها الدائمة وتحدياتها المثابرة ولا نستطيع الا نجد بلاغة النص المترجم امام كل ضيق لمتحفية اللغة واسرها بيد ان هذه الهرطقة البلاغية ، بل هذا الضرب من الخيانة المستعذبة يظل دائما علامة حب للغة نفسها. وهو نادرا ما يعمل وحده ، بل يتضافر مع غيره ، ويعمل في وجدان لغوي ليس قفرا ولا خاليا تسحرنا بلاغة النص المترجم تجعلنا نسخر من ركاكتها وضعفها ولربما شعرنا هنا اننا بمنجى من اللغة ، وشعرنا اننا امام لغة اقل سلطوية وجبروتا. ولربما خطر لنا ان ضعف هذه اللغة يجعلنا حيالها اكثر حرية وتفردا. او خطر لنا ان في مثل هذه اللغة حيادا لابد منه لتعود للكلام قدرته على اتخاذ معان وسميات جديدة . لكن الخداع او الخيال يصل الى اقصده حين نتوهم ان هذه هي لغة المباشر والفوري، بل لغة اليومي. وعلا لما خطر لنا ان لغة الصحافة اليومية يومية فيما هي مترجمة في اكثرها ذلك خلط واضح فإذا استعرنا ا لمترجم للفوري واليومي، دل هذا على مبلغ سوء صلتنا بلغتنا وعلى مبلغ تخبطنا في اللغة ، وعلى لحل حال فان هذا يحصل مثيرا، فتبدو العبارة شبه ا لمترجمة اقدر على تمثيلنا من لغة لا نكاد نفعل سوى الخنوع لها وترجيعها.
والارجح ان شعراء الترجيع وهم مداح هذه اللغة لم يفعلوا شيئا سوى زيادة ومفاقمة سوء التفاهم المقيم بيننا وبين لفتنا، وبيننا وبين انفسنا، اذ حين تكون اللغة ويكون الاصل حجرا ثقيلا لا نعجب اذا رأينا من يرزحون تحته رموا بانفسهم في كل طريق .
عباس بيضون: شاعر وناقد من لبنان
عليك سلام الله قيس ابن عاصم***ورحمته ما شاء ان يترحمـا
تحية من ألبسته منك نعمة***إذا مر عن قرب بغيرك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد***ولكنه بنيان قــــوم تهدما
عبدة ابن الطيب