الغائبة :
أيتها الصبايا ذوات الحناجر الخضراء، لا تغنوا أبدا بطلكم ، ولا تغنوا للمشتاق .
لست شرفكم ، ولا الأسد
الجسور، الأسد الأخضر
الذي يهدر بشرف
السنغال.
ليس رأسي من ذهب ، ولايكتسي بمصائر سامية
يداي من دون دمالج ثقيلة ها
هي ، يداي العاريتان !
لست القائد الموجه . لم
أخطر تلما واحدا، ولا عقيدة
مثل القائد المؤسس .
المدينة ذات الأبواب
الأربعة، ولم أنطق بأي كلمة
للنقش على الحجر.
أقول فقط أنني دبالي(1).
***
أيتها الصبايا ذوات الأعناق
الطويلة أعناق القصب ،
أقول غنين للغائبة
للأميرة في الممرات .
لا يقيم مجدي في النصب
، ولا في الحجر.
مجدي هو أن أغني فتنة
الغائبة
مجدي أن أفتن فتنة
الغائبة، مجدي أن أغني
زبد الرمل غبار الموج
وبطن النوارس ، الضوء
على الروابي .
كل اللأشياء غير النافعة
ثمن المنسف ، كل
الأشياء الباطلة في الريح
ورائحة ركام الجثث .
كل الأشياء الهزيلة في
ضوء الأسلحة، كل
الأشياء الأخاذة في روعة
الأسلحة .
مجدي هو أن أغني جمال
الغائبة .
***
الا انها كانت ليلة شتوية
حين نما الجليد في
الخارج ، وتآخى الجسدان .
صفير القطارات السريعة
اجتاز قلبي طويلا،
وتمزقات بطيئة بمد الماس
.
أيقظت محظياتي حوالي .
آه ! هذا النعاس الأصم
المزعج حين تصبح
كل خاصرة والظهر مثل جراح
المصلوب .
يرزح الصدر تحت ألغاز
جسيمة، وأموت
من كوني لا أموت ، وأموت من
كوني أحيا
بقلب غائب .
حدثتني بنعومة عن
الغائبة.
بنعومة غنت لي في الظل
نشيد الغائبة، مثلما
تهدهد المولود الجميل ،
مولود لحمها الأسمر.
على أن تعود ملكة سبأ، مع
تباشير العندم
الهندي .
من بعيد، على الروابي ،
الخبر السعيد، أعلنه
الجمالون فوق المحطات
الخمسة، في الممر
الطويل.
أوه ! كم هو مديد على قلبي غياب الغائبة .
***
أيتها الصبايا ذوات الصدور المنتصبة،
غنين النسغ أعلن عن الربيع .
لم تسقط نقطة ماء واحدة منذ ستة شهور،
ولا كلمة رقيقة ولا برعما للسرور.
خشونة الحرور فقط ، مثل أسنان الأفعى
المثلثة الرأس .
وفي أحسن الأحوال هيجان الرمل ،
إعصار من حبب الثمر ومن القش ومن
الطلقات ومن الأجنحة ومن الأغماد.
أشياء ميتة بفعل تآكل العقل .
لا شيء سوى الريح الشرقية في حلقنا،
وصهاريج في الصحراء فارغة.
ولكن هذه الضجة في سيقاننا، انبثاق
النسغ هذا.
الذي يخصب البراعم عند ثنية فخذ
الشبان ، توقظ
محار اللؤلؤ تحت الشورى . . . (2)
استمعن ، أيتها الصبايا، الى نشيد
النسغ الصاعد في حناجركن منتصبا.
الربيع أخضر وأخضر في جلاء نوار،
كم هو رقيق هذا الأخضر! كم هو
افتتان .
هو ليس إزهار "الأكاسيا" الأصفر،
والنجوم المذهلة
فوق أرض الظلمات ، وذكاء الشمس
ياأيها المخثون !
هو حنان الأخضر بذهب المفازات ،
أخضر وذهبي لونا الغائبة
انه اندفاق النسغ حتى الرقبة المنتصبة
الذي يثور.
***
تكهنوا بمجيئها حيث النقاشات
تحفر ساحات القرى، وحوانيت مدن
الصفائح ومشاغل المصانع .
أعرف ان الزوجات سبق أن غادرن
أمهاتهن ، والشبان ينتزعون نصيبهم
من المشاع ، والممتلكات العمومية مباعة
بالمزاد العلني ، والكبار ينظمون
زوجاتهم في تجمعات منتجي الفحم
– الصلب .
خيام قرمزية منصوبة عند تقاطعات
الطرق ، بشوارع مقطوعة ذات وجهة
واحدة.
ترف وصمت !. . تكهنوا بمجيئها حينما
يجتمع السنونو. وها هي تتبدد بخفق الجناح
سخونة جدالاتنا العقيمة .
طالما ان سيقاننا تخضر لرقصة الحصاد.
فأنا أعرف ان النبأ السعيدآت .
عند مدار حزيران ، كما في سنة الهزيمة
وفي سنة الأمل .
يسبقه سراب الجمال الطويل ، الوقور
بخواص جمالها.
هاهي الأثيوبية، متوحشة مثل الذهب
اليانع ونزيهة مثل الذهب .
نعومة الزيتون ، بشوشة في وجهها
الناعم بشوشة في أبهتها.
متوشحة باللأخضر والغيم .
***
تحية من المخلص الى البشوشة
ومديح صادق .
عازف القيثارة في بلاطها ومجنون
بجمالها !. . . مجدي لا يقيم في النصب .
ولن يتجمد صوتي على حجر، بل صوت
موقع من قبل ، صوت مضبوط .
ليظهر في ذاكرة الغائبة التي تسود على
آفاق نظري لينضج في ذاكرتكن ، أيتها
الصبايا، مثل الطحين الباطل لتغذية شعب
بأكمله .
سأسمي ، إذن ، اللأشياء الباطلة التي
ستزهر
في تسميتي – غير أن اسم الغائبة فائق
الوصف .
يداها ريح شافية من الحمى
أجفانها من فرو ومن بتلات الدفلي
أهدابها، رموشها الخبيئة والصافية مثل
حروف هيروغليفية شعرها المتوقد مثل
نار مندفعة في اللأدغال ليلا.
عيناك ! فمك ! سرك الصاعد إلى الرقبة . .
أشياء عديمة النفع . ليست المعرفة هي التي
تغذي شعبك .
بل اللأطباق التي توزعينها بأيدي عازف
القيثارة وبالصوت .
سلام اذن للبشوشة التي تمدني بنفسي ،
والتي تقطع نفسي والتي تسد.حنجرتي.
سلام للحاضرة التي تسحرني بنظرة
"الممبا" السوداء، المكوكبة بالذهب والأخضر.
وأنا حمامة – أفعى، ولدغتها تخدرني بلذة.
***
اليكونوا عدما الغافلون ذوو العيون البيضاء
اللؤلؤية لتكن عدما العيون والآذان ، الرأس
الذي لا يتجذر في الصدر، ولا في أسفل من
ذلك حتى جذر البطن .
فماذا تفيد القبضة من دون الشفرة
والزهرة من دون الثمرة؟
أما أنتن ، أيتها الصبايا، فغنين انتصار
الأسد في شمس حزيران الرطبة أقول
غنوا الماسة التي تولد من رماد الموت .
أوه .. غنوا الحافرة التي تغذي الشاعر من
حليب الحب الأسود.
انتن جميلات أيتها الصبايا، وحناجركن
الذهبية أوراق يانعة في صوت الشاعر.
تطير الكلمات وتندعك بأنفاس الريح
الشرقية، مثل صروح البشر تحت القنابل
النافخة .
الا ان القصيدة ثقيلة بالحليب وقلب الشاعر
يحترق نارا من دون غبار.
***
ليليات (مقاطع)
(…) احتفظت طويلا،
طويلا بين يديك ،
بوجه المحارب الأسود
المضيء بأنوار
الغسق الشاحبة .
من على الرابية رأيت
الشمس تغطس في
خلجان عينيك مثلما أرى
بلادي من جديد
وأفق وجهك المنبسط ؟
متى أجلس مرة ثانية إلى
طاولة ثديك المعتم ؟
سأرى سماوات أخرى وعيونا
أخرى
سأغرف ماء لعطشي من
شفاه ندية أكثرمن
الحامض سأنام ظليلا تحت
ضفائر جديدة،
بمنأى عن الزوابع .
إلا أنني ، في كل عام ،
حين يوقد شراب الربيع
ذاكرتي أفتقد موطن
ولادتي ومطر عيونك في
عطش المفازات.
***
صاحبتك حتى قرية
الاهراء ات ، عند بوابات
الليل ووقفت من دون كلام
أمام اللغز الذهبي
لا بتسامتك .
غسق مؤقت حل على وجهك ،
نزوة إلهية .
من أعلى الرابية، ملحبئ
الضوء، رأيت ألق
تنورتك ينطفىء .
وزينة خوذتك تغطس مثل
الشمس في ظلال
حقول الأرز حين اجتاحني
الغم والمخاوف
القديمة وهي أكثر غدرا من
النمور.
– والروح لا تقوى على
إزاحتها أبعد من
الآفاق النهارية.
أهو الليل إذن وفي صورة
دائمة! والرحيل
من دون وداع ؟
سأبكي في الظلمات ، في
جوف الأرض
الدموي سأنام في صمت
دموعي .
حتى تلامس جبهتي فجر
شفاهك الحليبي .
***
ولكن طرق الأرق هذه ، هذه
الطرق الهاجرية
وهذه الطرق الليلية
الطويلة !
متحضر منذ وقت بعيد لم
أتوصل بعد إلى
تهدئة الرب الأبيض
للنوم.
أتكلم لغته نفسها، الا ان
لكنتي متوحشة!
الظلمات سوداء، عقارب
الدرب من لون رمل
الليل وغيوم من خمود
تضغط على صدري .
ها أنت ، يا أختي النسمة،تزورينني اليوم
في
"جوال "(3)؛ في الساعة
التي تغني فيها
عصافير
غريبة، رسائل اللأسلاف
القديمة، تغني بنعومة
ندى المساء.
ذكرى وجهك مشدودة على
حنجرتي ، مثل
خيمة
مثل قبة تحيط بها غابة شعرك الزرقاء.
ابتسامتك تعبر السماء، سمائي ، من جهة الى
أخرى، مثل مجرة.
ونحل من ذهب يطن على وجنتيك ، وجنتي
الظل ، مثل النجوم وحليب الجنوب يلمح شررا
على طرف ذقنك(…)
سأنام طويلا في هدأة "جوال "
إلى أن يعيدني ملاك الفجرإلى ضوئك
إلى واقعك العنيف والقاسي ، أيتها الحضارة!
***
كنت جالسا على نثرمقعد في المساء
وكانت ساعات الحراسة تصطف أمامي
مثل رتابة اللأعمدة فوق أحد الطرق .
حين أحسست فوق وجنتي الفاترة بأشعة
وجهك السمراء الذهبية . (.. . .)
أي طراوة في نهاية النهار هذا؟ وها هو الصيف
في شوارع قلبي .
أشجار من ورق الذهب ، وأزهارها من
العندم الهندي – أهو الربيع اذن ؟
للنساء مشية السابحات الرشيقة على الشاطىء
والعضلات الطويلة ليسقانهن أوتار قيثارة
تحت بشراتهن البلاتينية.
خادمات بياقات ملكية يعبرن ويمضين
لسحب الماء من ينبوع الساعة السادسة .
وقناديل الغاز سعف نخل عالية، حيث تغني
الريح شكاويها والشوارع هادئة وبيضاء كما
في قيلولات الطفولة .
يا صديقتي ذ ات اللون الافريقي ، مددي
ساعات الحراسة هذه .
الجائعون وحدهم يحملون معهم كنوز
الفطنة هذه !
ابتسامتهم ناعمة! وهي ابتسامة موتانا
الذين يرقصون في القرية الزرقاء.
***
(…) تدفع بي من دون استراحة عبر أدغال
الزمن .
تتبعني ، دمي الأسود، عبر الحشود حتى
الفرجة التي ينام فيها الليل الأبيض(…)
جسدها البرونزي ، يا ربي ، يا ربي ، ولكن
لماذا يتم نزع حواسي الوثنية الصارخة!
لا أقوى على غناء الموسيقى الدينية الرومانية
من دون " سوينغ " ( 4 ) ولا أن أرقصها .
أحيانا غيمة، فراشة، بضع نقاط من المطر
على زجاج نافذتي ، نافذة الضجر.
تدفع بي من دون استراحة عبر مساحات
الزمن الكبير.
تتبعني ، دمي الأسود، حتى قلب
الليل الوحيد .
***
(…) سأقطع صلات الدم ، سأدرب حراسأ
لحبي من أجل ليلة واحدة من دون نهاية. حميمي
صوتك أكثر من العش الفاتر.
وشفاهك ، شفاه الخبز، تهدىء صدرى
الضامر مثل أفعى سوداء.
سأقطع صلاتي الأوروبية كلها من أجل أن
أشد القصيدة الى أفخاذ من رمل .
ما همني هذا الاسم المنهد على بيت القربان ؟
سيكون الفردوس خاليا من أجلي ، وغيابك
عقوبة العاشق .
***
مرثية المختونين
ليلة طفولية، ليلة زرقا ء ، ليلة
شقراء يا قمر!
كم من المرات تضرعت اليك يا ليل ! باكيا عند
جنبات الطرق
عند حواف آلامي ، حواف العمر. عزلة!
وتلال الرمل تحيط بي .
غير أنها كانت ليلة طفولية مغالية وكثيفة
مثل القطران .
كان الخوف يحني ظهره لزئير الأسود،
وكان الصمت الماكر لهذه الليلة يلوي المشاتل
العالية .
نار الأغصان أنت نار الأمل ! ذاكرة صفراء
للشمس تطمئن براءتي.
أو تكاد –(…)
تذبل القصيدة تحت شمس الظهيرة، تغتذي
بندى المساء.
وتوقع الطام – طام ونبض النسغ في رائحة
الثمار الناضجة .
يالمجد عالمي الأسرار أنا في حاجة الى
معرفتك لاكتناه معادلة الأشياء.
ومعرفة مهامي كأب .
وقياس مجال مسؤولياتي بدقة، وتوزيع
الحصاد من دون نسيان أي عامل أو أي يتيم .
ليس النشيد سحرا وحلب ، يغذي الرؤوس
الصوفية لقطيعي .
القصيدة عصفور – أفعى، زواج العتمة
وضوء الفجر
طائر الفينيق يصعد، يغني ناشرا جناحيه
فوق ركام جثث الكلام .
***
ضباب
الضباب يخيفني !
وهذه المنارات – عيون مولولة لمرأى وحوش
منزلقة على الصمت .
هذه الأشباح التي تجاحف الجدار
وتمضي ، أهي ذكرياتي .
التي تنتظم في صف طويل صوب محجتها؟
ضباب المدينة الوسخ !
سخامه البارد
وسخ رئتي اللتين أفسدهما الخريف ،
ورهط أحشائي الجائعة يعوي
فيما تجيب على أصواتها
الشكوى الضعيفة لأحلامي المحتضرة
أنا وحيد
أنا وحيد في السهل
وفي الليل
بصحة الأشجار المتقلصة من البرد
والتي تشد كوعها إلى جسمها متلقة على
بعضها البعض
أنا وحيد في السهل
وفي الليل
بصحة حركات
الأشجار، حركات
يأسها المؤثر
والتي فارقتها
أوراقها الى جزر
مختارة
أنا وحيدة في السهل
وفي الليل
أنا عزلة الأعمدة
البرقية
على طول الطريق الجرداء
الهوامش:
(1) الشاعر الجوال في افريقيا الغربية
(2) شجرة منقعية ذات قشور طبية
(3) قرية الشاعر
(4) رقص مع عزف ايقاعي