في هذا الحوار يبوح الشاعر محمد بنيس للشاعر الفرنسي جاك آنصي بالعلائق التي تربطه بالمكان واللغة والقصيدة، وكذلك بماضي الشعر العربي وأهميته التأسيسية ودور الحداثة وأهمية التجديد في الشعر خصوصا، ودور الروح المبدعة في الايمان بالحرية في كتابة مختلفة..
ج. آنصي : من أجل أن نتطرق لشعرك، لا بد من الحديث عن فاس. فاس أصل العالم، فاس الطفولة. ألا يمكن، بالنسبة إليك، أن تكون القصيدة في البدء مدينة ؟
م. بنيس : لا يُمكن للقصيدة أن تأتيَ إلا من الكلام الذي يخترق الجسد. والمكان، مهما كان، ينادي على الكلام، الذي يحوّله الشاعر إلى نشيد في القصيدة. بهذا المعنى، يبدو لي أنّني من بين الذين تركوا القصيدة تنصت إلى أصوات المدينة. وهي، بالنسبة إلي، فاس. إنها مدينة الميلاد. لكنها، قبل كل شيء، مدينة الأطياف. وهذه الأشباح تعود دائماً، في زيارات متتالية، صحبة كلماتها.
في المرحلة الأولى من شبابي، كان الزمن علامةً على الانتماء للعالم. وقد تعلّمت، وأنا مأخوذ بهذه الفكرة عن الزمن، أن أرى العالم الذي أنتسب إليه، من خلال الأزمنة الحديثة، التي لم تكن شيئاً آخر غير الزمن الغربي. فأن أكون حديثاً، في تلك المرحلة، التي تلت استقلال المغرب، وباعتبار حداثة سني، كان يعني أن أرتبط بالعالم الخارجي الذي كان ينقصنا. بلدي، الذي كان يعيش آنذاك في عصور وسطى، مظلمة ويحكمها الخراب، كان يطمح إلى زمن يأتي من الخارج، أروبا، ومن فرنسا تحديداً.
لكن للقصيدة أسرارَها. كان عليّ أن أتعلّم كيف أصبحُ في صلة مع الكلام الشعري. إنها قصة تعلّم طويل واجهتْه موانع. وهذا المسار العجيب، الذي ليس سحرياً ولا أسطورياً، دلّني على بُعد آخر للوجود. المكان. لقد وجّهتني القصيدة نحو مكان يشرط حياتنا (وموتنا). يتعلقُ الأمر، هنا، بالشعر العربي الجاهلي، وبمُعلّمنا امرئ القيْس (توفي نحو 525 ميلادية). مكان الغائبين (الحبيبة)، في هذا الشعر، هو مفتتح القصيدة. يبدأ امرؤ القيس معلقته باستدعاء المكان مباشرة بعد الغائب :
فقَا نبْكِ من ذكْرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقْط اللّوى بين الدَّخول فحوْملِ
نداء للوقوف في مكان ملموس، محدد، مكان الحبيبة، الغائبة. نداء (أو أمْر) موجّهٌ من المكان إلى الكلام. من هُناك تبدأ كلمة الشاعر. مكان واقعي لغائبة لا تشبه الآخرين. والأمر بالوقوف مسبوقٌ بالنداء على الدموع، التي تعلن عن حالة العيْن وهي مشرفة على العمَى. مع ذلك، فإن استدعاء المكان (أو الدموع) لا صلة له بالحنين. إنه، أولاً، إنصاتٌ بما هو تجلٍّ استعاري للجسد. ولذا يمكن لي أن أقول إن الزمان يجعلنا نرى والمكان يحيلنا على الإنصات. هو ذا إذن مسارٌ مرسومٌ لننصت إلى مدينة، هي فاس. وإذا كانت القصيدة مدينة، فهي إما أن تكون إنصاتاً أوْ لا تكون. على أن الإنصات إلى فاس تمرّسٌ على التقاط أصوات هذه المدينة، أقصد التقاط الإسرافِ في الأصوات التي تصطدم بها الأزمنة، زمناً بعد زمن. لقد كان الإنصات إلى أصوات فاس العتبةَ الأولى، التي تظل أولى على الدوام، لقصيدتي. وآخر ديوان لي تُرجم إلى الفرنسية، ورقة البهاء(1)، محاولة للمحافظة على حياة هذه الأصوات. إنها لا تفارقني إلا لكي تعود. لذلك أقول إن فاس، بالنسبة إلي، هي مكان المنسيّ، الممنوع، مكان الغياب، الفقدان، والفراغ. أليس الإنصات شطحاً أيضاً ؟
ج. آنصي : ثمة في جوابك شيئان بودي لو نطوّرهُما. علاقتك، في البداية، بالتقاليد الشعرية وبالحداثة. تتكلّم عن امرئ القيس والشعر العربي الجاهلي، في الأول، ثم أوروبا، وفرنسا تحديداً، في الثاني. هل يُمكن أن تكلمنا أكثر عن الشعر الجاهلي، نحن، الغربيين، الذين لا نعرف شيئاً في هذا الميدان، وبعد ذلك تكلمنا قليلا عن علاقتك بالحداثة الأوروبية، والفرنسية.
م. بنيس : الشعر العربي الجاهلي هو منبعُنا الشعري الأول، تراثنا المشترك. وهو يمثل للعرب ما يمثله الشعر اليوناني للغربيين، بل إن له مكانة أعلَى في ثقافتنا، لأنه شهادة على الجودة الشعرية. لقد جعل العرب من الشعر الجاهلي نشيدهم ومستودعَ علومهم في آن. لم يكن لدينا، في العصر الجاهلي، فلاسفة على غرار اليونان أو الآسيويين. كان لدينا هذا النشيد الذي كان يرافق الرُّحّلَ في رحلاتهم نحو أقاصي الصحراء. وبالتالي، كانت اللغة الشعرية تتمتع بوضعية الامتياز. لكنّ مظهرَها الجماعي لم يمنع الأنا، ضمير المتكلم المفرد، من الكلام. أناً تتغير أضلاعُها من شاعر لآخر. وقوة هذه اللغة الشعرية واستثنائيتها هما اللذان جعَلا معجزة نبي الإسلام هي القرآن، هذا الكتاب الذي جاء وحْياً منزّلا داخل اللغة، حتى يتحدّى الشعراء عن أن يأتوا بسورة واحدة تشبه سُوَره، وبرهن على استحالة تقليده.
من أغرب قراءات هذه الشعر في فرنسا أذكر قراءة الفيلسوف ألن باديو Alain Badiou في كتابه الموجز في علم اللاّجمال(2). أصف هذه الدراسة بالغرابة لا لأنها تخرق عادة نسيان الشعر الجاهلي من طرف الفرنسيين فقط، بل لأنها تجرؤ، إضافة إلى ذلك، على أن تضع مقارنة بين معلقة الشاعر الجاهلي لبيد بن أبي ربيعة (ولد نحو 560 ميلادية، وتوفي نحو 661 ميلادية) وقصيدة رمية نرد لملارمي. لنقرأ مقطعاً من الكتاب بهذا الشأن : « يجب، في نظري، أن نقترح على الفكر خطوة إلى الوراء، خطوة نحو ما يوجد من صلة بين ملارمي والمعلقة الجاهلية، أعني الصحراء، المحيط، الخلاء، الفراق، المرور عبر صورة الشيخ. لا الشيخ الشهيد ولا المبعوث(3).»
يكفي هذا الاستشهاد لنرى أن الشعر الجاهلي (والشعر العربي عامة) ليس مجرد مادة متحفية، يتم الاحتفاظ بها والانبهار أمامها، وإنما هو شعر ذو طاقة لا تنفد، ويعمل على التقريب بين الثقافات المتوسطية، الواحدة والأخرى. شعر يستحق أن نستكشفه كلما كنّا مستعدّين للانطلاق نحو الأقاصي.
أما عن علاقتي بالحداثة الغربية، الأوروبية (والفرنسية) أو الأمريكية، فأتوقف عند نقاط مرجعية. كنت أحلم منذ طفولتي بأن أذهب، مثل الأطفال الآخرين الغربيين، إلى المدرسة، والمسرح، والسنيما، والأوبرا، والمكتبات، والمتاحف، والملاعب الرياضية. وما كان يترجم هذا الحلم، في شبابي، هو تعطشي للثقافة الحديثة. لقد كنتُ على يقين بأن تعلّم هذه الثقافة سيقدم لي فرصةَ لتقاسُم الحياة مع «النفوس الحرة» (نيتشه). و انخرطتُ، دون تردّد، في الحداثة، في أدبها، وفي فكرها وفنها. لكن المُضيّ نحوَ هذه الحداثة لم يكنْ أمراً ميْسوراً. لقد كان، قبل كل شيء، صراعاً لا هوادةَ فيه ضد قيم الهيْمنة في مُجتمعي، وصراعاً ضد ما يمنعُه عنّي الغربُ في علاقتي المباشرة بالحداثة. صراعٌ مزدوج. تُجاه نفسي وتجاه الآخر المُهيْمن. ثم عثرت في الشعر على معنى الحرية الكامل. لهذا أظل وفياً للشعر.
كانت هذه الحداثة تعلمني ما هي الروح المبدعة، وكيف أنتقل من الخضوع إلى الحرية. هنا يكمن معنى الإبداعية. إبداعية تبطل الممنوعات وتنمّي الحسَّ النقدي. هكذا كنت أتقفّى، وأنا أختار الحداثة، خُطى الكتّاب العرب الكبار، الذين اختاروا ثقافة الحداثة والحرية. فهؤلاء الكُتاب، شعراء وروائيين ومؤلفين، نجحوا في تحديث اللغة العربية، وفي إعادة قراءة الثقافة العربية القديمة، كما نجحوا في نشر القيم التي تخيف المستبدّين المحلّيين.
ومقابل ذلك، يتطلب اختيار الحداثة، أي قيمَ قصيدة ومُجتمع، تصعيد حدة اليقظة بدلا من تقليصهَا. أنْ نكون حديثين لا يعني، في جميع الأحوال، أن نصبحَ غربيّـين. على الحداثة، في رأيي، أن تكون اختراعاً غايتُها أن تبقى اختراعاً على الدوام. فليس بوُسعي أن أتنكّر لاختلافي وأختزلهُ إلى الصفر. يفترض الاختيار أن نشترك مع الآخرين في مسؤولية اختراع حداثة متعددة، حداثة متحركة. وبفضل ثقافتي ولغتي يمكن لهذه المشاركة في حداثة متحركة أن تصبح ممكنة. والمعنى الإبداعي لعبارة «العيش المشترك»، بقيم مُشتركة، يتمثلُ في حرية النقد، الذي تبقى الحداثة بدونه اسماً مرادفاً لإخضاع العالم لنزعة أوروـ لاتينية.
إن الحداثة الفرنسية (وفكرها تحديداً) ساعدتني على الوعي بالمخاطر التي يُواجهها شرقيٌّ مثلي. فالشعراء الفرنسيون الحديثون (ويمثل الشاعر بودلير أباهم الرمزي) مزدوجو اللغة. لقد أدخلوا، من خلال ازدواجية اللغة لديهم، قسطاً من لغة الآخر إلى النزعة الديكارتية، العقلانية، للغتهم الشخصية، على نحو ما كتب ملارمي فيCrise de vers (أزمة البيت الشعري) : «أن نستعملها [لغة الآخر] ككل ونهديها إلى اللغة أيضاً.»
إنه الدرس الذي أستخلصه بالدرجة الأولى من هذه الحداثة. فتحديث اللغة العربية هو أوّلُ ما يجب أن نبدأ به، من غير تنازل، في ثقافتي. لغتي العربية يتحكم فيها الواحدُ، الأحدُ، الواضحُ، الظاهرُ، الباطنُ، الأولُ والآخر. ومسؤوليتي تجاهها تتمثل في عمل يهدفُ إلى تحديثها عبر استقبال الغريب، بدلاً من هجرانها. فعندما أهجر لغتي، العربية، أفتح الطريق أمام الأصوليين الذين يُصادرونها ويحكمون عليها بالخضوع لعُنف الظلامية. إن عمل كل كاتب عربي حديث لانهائي تجاه اللغة، ما دامت الذاتية لانهائية. هكذا تحررتُ من الفرنكوفونية، ودافعتُ عن انفتاح الثقافة العربية على الثقافة الفرنسية. وتمثل الترجمات التي أنجزها، من الفرنسية إلى العربية، أحد مظاهر اشتغالي على تحديث العربية.
ج. آنصي : هل يمكن أن تذكر لنا أسماء شعراء وكتاب تحس بقربك منهم وساهموا في تحديث اللغة العربية وإعادة الاعتبار لهذه الثقافة القديمة ؟
م. بنيس : أنا سليل هؤلاء المجددين للغة العربية، شعراء، ومفكرين، وروائيين، ومترجمين، ونقاد أدب وصحفيين. عائلة رمزية تتكوّنُ من كُتّاب من الشرق الأوسط، وهم الممهدون، وإلى جانبهم كُتّاب من بلاد المغرب العربي، نجحوا لاحقاً في حفر أثرهم على لغتنا الحديثة. لن أكون منصفاً ولا أميناً إن أنا ذكرت بعضاً منهم. ولذا سأقتصر على ذكر الأشهر من بينهم : طه حسين، جبران خليل جبران، توفيق الحكيم، مصطفى لطفي المنفلوطي، أبو القاسم الشابي، نجيب محفوظ، محمود المسعدي، عبد المجيد بنجلون، بدر شاكر السياب، أدونيس، يوسف إدريس، الطيب صالح، إميل حبيبي، سعدي يوسف، محمود درويش، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم، محمد شكري، سعد الله ونوس، محمد زفزاف، واسيني الأعرج، سليم بركات، إلياس خوري، وقاسم حداد. شعراء وروائيون تربطني مع معظمهم علاقات ألفة. وهم يمثلون بلاداً وأجناساً أدبية مختلفة. بعض من أعمالهم مترجم إلى عدة لغات. وأنا سعيد بأني كنت معاصراً لبعض كبار الكتاب. فبفضل قراءة أعمال هؤلاء المؤلفين أو بفضل لحظات الحياة التي تقاسمتها مع معاصرين لي من بينهم، تمكنتُ أكثر من تأكيد اختيار أن أتبع طريق الحرية، بما هي حرية الحداثة بامتياز. ومن المؤسف أن أعمال بعض هؤلاء المؤلفين ليس دائماً معترفاً بها في العالم العربي، وهي بالتالي ملغاة من برامج التعليم كما من السياسات الثقافية.
ج. آنصي : تتكلّم عن الأصوليين والظلاميين الذين يترصدون اللغة العربية عندما نهجرها. كل لغة مهددة بمثل هذا الخطر، لكنها ربما كانت مهددة على نحو أكبر، في بلاد اللغة العربية، حيث الديني ضاغط بقوة. أليست الكتابة، من وجهة النظر هذه، فعْلاً سياسياً ؟
م. بنيس : إنها بالأحْرى التزام تجاه الحداثة. إنني أخْشَى أوصافاً تختزل الوقائع عندما يتعلق الأمر بمراحل انقلابات جذرية في تاريخ ثقافات وشعوب. يمكننا القول أيضاً إن الكتابة فعلُ مقاومة. فعلٌ يبلور سياسة الحداثة، التي يبْنيها الكتّاب بكل تُؤدة. إنه فعل مفتوحٌ لسببين : فهو، من جهة، يستقبل اللغات الأخرى والثقافات الأخرى في اللغة العربية. من هنا فإن الكاتب العربي مطالبٌ بأن يعيد الحياة إلى العربية حتى يستحق ميراث ثقافة قائمة على الحرية والمغامرة. على أن الميراث، من جهة أخرى، لن يكون له معنى إن هو لم يكن موجّهاً نحو المُستقبل، نحو الحوار مع اليومي، مع لغات أخرى وثقافات أخرى. إن هذا العمل الخلاّق لكتابنا الحديثين ليس شيئاً آخر غير ما كان يطالب به دانتي في أبياته الشهيرة في الكوميديا الإلهية :» هكذا من الغُصن المكسور كان يخرج معاً / كلماتٌ ودمٌ : وأنا تركت الغصن/ يسقط، وبقيتُ هناكَ، يتملّكُني الخوف(4).» أما الأصوليون، الذين يمنعون على العربية أن تكون حية، مرحة، وراقصة، فهم في الوقت نفسه ألدّ أعداء الثقافة العربية القديمة. من لا يتركُ لغة الحياة اليومية تتكلم في (وعلى) لسانه هو الذي يُنكر الماضي، يُصادره، حتى يتركه كسيحاً في وحَل الجهل. فالكلام عن سياسة الحداثة له إذن معنى أوسع من الكلام عن السياسة بالمعنى الضيق. إن سياسة الحداثة مقاربة نقدية للكلمات والقيم التي تتعارض مع حرية اختيار ذاتيةٍ واختيار مصير.
ج. آنصي : تتكلّم، في بعض نصوصك، عن حالة الاحتضار التي توجد فيها اللغة العربية حالياً في المغرب. ديوانك نهر بين جنازتين (المترجم قبل سنوات إلى الفرنسية) هو بحد ذاته، وفي معنى من المعاني، كتابة لمشهد هذه الوضعية التي تشغل بالك كثيراً.
م. بنيس : العربية لغة جسدي. لا أتعامل معها بما هي لغة تعبير ولا بما هي أداة إيديولوجية، مهما كانت هذه الإيديولوجيا. عندما أدخل إلى إدارة عمومية، مثل البريد، وأتحدث إلى الموظف بالعربية لأطلب منه طابعاً بريدياً ثم يجيبني بالفرنسية، أشعر باهتزاز يرجّ جسدي، بجَفاف في الحلق، وبضيْق في القفص الصدري. هنا تكون الكلمات، كلماتي، ممنوعة من الهواء، تختنق في تلك اللحظة. حبسة تشلّني. إن مكتب البريد فضاء عمومي من بين فضاءات أخرى. وهذا الهجران للعربية، الذي ورثناه عن الاستعمار وأصبح رسمياً، بعد الاستقلال، تبعاً لما يُسمّى الازدواجية اللغوية، يكذّبُ الخطابات الرسمية التي لا تتوقفُ عن الكذب وتجعلنا نعتقد أن العربية لغتنا. فوضعية كهذه، تمنع الجسد من نفسه، لا يمكن أن تتركني مُحايداً. إنها الوجهُ الآخر للأصولية التي تذكرنا على الدوام بالمظهر الديني للغة العربية. والإسلاميون، الذين نجد الناطقين باسمهم فرنكوفونيين، يعطون لأنفسهم حقَّ الكلام باسم العربية. لكنها العربية الميتة التي يتعلمونها. فهم لم يسبق لهم أن أبدعوا كلمة جديدة واحدة أو تعبيراً جديداً.
وباعتباري شاعراً، تمثل اللغة، بالنسبة إلي، النفَسَ الذي بدونه يتوقف الجسد عن الحياة. عملي موجّهٌ نحو ديمومة اللغة. إن الشعر منبعُ هذه اللغة الحية، نارُها وقوّتها. ومشهد حالة الاحتضار هذا في نهر بين جنازتين طريقة لكي أعيد التفكير، شعرياً، في الحياة والموت. كل منهما يلتصقُ بجلدي. أليسَ مأساوياً بالنسبة لمن يعمل على الانفتاح على لغات أخرى أن يكونَ ممنوعاً من لغته الشخصية ؟ مشهد حالة الاحتضار هذا يتأسس، من جهة أخرى، على نقد مزدوج (لنتذكّرْ مفهوم «النقد المزدوج» لعبد الكبير الخطيبي) ما دام يتوجه إلى الفرنكوفونية بقدر ما يتوجه إلى الإسلاموية. وحتى أكون واضحاً بهذا الشأن، أشيرُ إلى عبارة شخصية كتبتها من قبل، تفيد بأنه من المستعجل تحرير الفرنسية من الفرنكوفونية. ثم إن كتابة مشهد احتضار العربية لا يسيءُ لا إلى لغات أخرى ولا إلى شخص بعيْنه. إنه، بدءاً، علامةٌ على المقاومة. وأعلمُ أنها مقاومة لا تتخطّى عتبة القصيدة.
ج. آنصي : ما دمت تتكلم عن هذا الديوان الجميل نهر بين جنازتين، الذي عنوانه صريح ـ الحياة وسط الموت ـ بودي لو أقرأ مقطعاً يعلن، بالقوة الخاصة للغة الشعرية، ما قلته الآن : « أهبطُ // في الدم ذاته وفي الجنازة يفدُون لكلّ شاعر متاهةٌ كأن النهرَ لفظٌ شعْشعانيٌّ وهتفتُ اتّسعْ فما على غيْريَ ضاقَ ولا عليّ أحْسستُ حنجُرتي خلاءً كلَّ حرف من حروفي صلْصلةً مسقوفة بالدّمع وهذا النهرُ يتّسعُ في المجهول». كلمة «شعشعاني»، هذه الصورة، أجدها كما لو أن الماضي كله والمستقبلَ كله مشدودان هناك في شعشعة اللغة، لغة القصيدة التي تصنع الحاضر، تضعنا في الحاضر وتنفتح، هناك، على المجهول…
م. بنيس : كلما أقرأ قصيدة أساسية، بالعربية أو بلغات أخرى، أحسّ أن قوة اللغة الشعرية لا مثيل لها. إنها قوة غير ناتجة عن استعمال مفاهيم، مهما كانت. هي قوة تولدُ من مكان سابق على اللغات المختلفة، بما فيها اللغة الفلسفية أو العلمية، ولاحقة عليها. هذه القوة تُحيّرني. غالباً ما يحدث لي أن أشكّ في الشعر وفي وضعيته في إنتاج المعنى. عالمنا الراهن يُضاعف شكوك الشاعر، أعني الشكوك التي لا أخشى مواجهتهَا. شيء آخر غريب : لا تقودُنا القصيدةُ بدورها نحوَ جواب، بل نحو هذه القوة التي تتحققُ ثم تؤدّي بنا إلى أن نصبحَ، بها ومعها، مفقودين في هذه الصحراء التي لا حدود لها. أتساءل : هل نحن بحاجة إلى أجوبة، أو، بعبارة أخرى، إلى السكينة في الحياة؟ لضرورة كهذه طبيعة تربوية وتعليمية. فهي تبرر الأديان، التي يتوقف وجودها على الوعد بحياة ثانية بعد الموت؛ أو تبرر الإيديولوجيات التي تبشر بالسعادة حتى يؤمن الناس بطاقتها السحرية.
إن النهر، بما هو لفظٌ «شعشعاني» هو مكان القصيدة ـ المكان الذي يحمل القصيدة. والقصيدةُ تفتحه، توسّعه. كلٌّ منهما يتعلق في وجوده بالآخر. وكل منهما يحمل الآخر إلى حدوده، التي هي المجهول نفسه. لا يمكن أن أنتظر من القصيدة، سواء بالنسبة إلى نفسي أو إلى سواي، غير هذا الانفتاح، هذا الاتساع. ليكن واسعاً. هذا ما يمكن أن نطلبه من نهر يجْري في الحاضر ويعمل على أن يدوم الحاضر. يحتفظ للحاضر بزمان الحاضر. بهذه الشعشعة تظل القصيدة حديثة، دائماً حديثة. وهي، بهذا، تشهد على سياسة الحداثة.
ج. آنصي : لنتوقفْ قليلاً عند سياسة الحداثة التي تطرقنا للتوّ إليْها. كيف تنظر إلى السيرورات الثقافية والسياسة الحالية في العالم العربي ؟
م. بنيس : ثورة الشبان، التي نعرفها منذ انطلاقتها باسم «الثورة العربية» أو «الربيع العربي»، تعبير عن رفض قطعي لأنظمة مُستبدّة وقمعية. فهي تمثل، بالنسبة إلي، صرخة شبيبة لم تعد تقبل حالة الحقد والتهميش التي تسيطر على حياتها. شبيبة تطالب بالحق في الحرية. وهذا يدل على تعلقي بدولة أساسها الحق والقانون، وتعلّقي بالحداثة، التي تتكامل فيها الحرية والعدالة والديمقراطية. ويأتي خطاب هذه الشبيبة من طموح عميق للمجتمعات العربية. كما أنه يهدم، علاوة على ذلك، رؤية الغربِ السلبية التي يخص بها مجتمعاتنا.
لقد تمّ، مع الثورة، توقيع عقد (أو هو الآن قيد التوقيع) بين السلطة والشعب من خلال دساتير جديدة. وتحققت على أرض الواقع انتخابات حرة ونزيهة. لكن النتيجة أعطت الفوز بالسلطة للإسلاميين، الذين يمثلون الأغلبية في الشمال الإفريقي (بل وحتى في البلدان الأخرى للشرق الأوسط). وتبرهن هذه النتيجة على أن ثورة الشبان وُلدت في الساحات العمومية من قوة غير منظمة، فيما الانتخابات اختيار يمرّ عبر صناديق الاقتراع، ويتبع منطق المجموعات الاجتماعية المنظمة. فالإسلاميون، الذين كانوا ضحايا (أو الأقل حظوة) من طرف الأنظمة القائمة، أصبحوا يتحكمون في اللعبة. وقد صاروا كذلك لا بفضل القمع وحده بل أيضاً بفضل خبرتهم وتنظيمهم وسط الفئات المهمشة والفئات الوسطى في المدن. شخصياً، لم أفاجأ. أن كُلاًّ من الغرب والأنظمة العربية مسؤولون عن صعود الإسلاميين بقدر ما هو اليسار المحلي مسؤول. فهل هي سخرية التاريخ أن نشاهدَ هذه النهاية المأساوية التي آلت إليها ثورة الشبيبة العربية ؟ أم هي الصخرة التي تتحطم عليها الثورات كلُّها عبر التاريخ ؟
يبدو من الضروري، وقبل أن أتقدم في التحليل، أن أؤكد على وضعيتنا المعقدة للغاية. علينا أن نتجنب هذه الخطابات التي تحرص على الخلط بين المسلمين والإسلاميين، بين الإسلام والأصولية. أقصد من وراء هذا الخطابَ الاستشراقيَّ (خطابَ المختصين الغربيين) عن العقلية، عن الشخصية، عن الدين والثقافة الإسلامية. إن طبيعة المسلمين والعرب، حسب هذا الخطاب، متعارضة مع الديمقراطية. لقد كان المسلمون والعرب، حسب هذا الخطاب، مستسلمين للقدر، عبر جميع مراحل تاريخهم، ومحافظين. هذه الخطابات الاستشراقية، التحقيرية، التي تدين بدون تحفظ كل ما هو إسلامي (أو عربي)، تغذّي مُتخيّلاً غربياً مريضاَ بجهله ومريضاً بحقده أيضاً. إنه لذو دلالة أن يبقى أكبر شعرائنا، ومفكرينا وعلمائنا مجهولين في الغرب. إن أنا كنت سليلَ عائلة رمزية من الكتاب العرب الحديثين، مسلمين ومسيحيين بدون أي تمييز، فأنا أيضاً سليلُ هؤلاء المسلمين وهؤلاء العرب الذين استضافوا الفلسفة اليونانية وساهموا في تطويرها في وقت كانت الفلسفة ملعونة من طرف الغربيين. لقد اخترع المسلمون والعرب الجبر، وهم أساتذة في المنطق والتنجيم، أطباء، علماء، ومتصوفون كبار، والباعثون على الحداثة الشعرية، والأدبية والفنية في أوروبا.
عندما نفكر خارج الخطاب الاستشراقي، وبمعزل عن مناصريه في الخطابات السياسية والإعلامية، نكون قد خطونا نحو قراءة أكثر موضوعية للأحداث التي يعيشها العالم العربي اليوم. إن وصول الإسلاميين إلى الحكم هو نتيجة، في المقام الأول، لسياسة التعليم المتبعة منذ بداية الاستقلالات، لارتياب الأنظمة السياسية في الثقافة العربية الحديثة، لزمننا أو للأزمنة الأقدم. لقد جعلت أنظمتنا من التعليم والثقافة وسيلة لإعادة إنتاج الجهل والعبودية. أذكر أنظمتنا من غير أن أنسى دورَ الغرب، الذي كان يساند هذه الأنظمة دفاعاً عن مصالحه واستدامة هيمنته. وها هي نتيجة ما وصلنا إليه ! فاز الإسلاميون بالانتخابات التي مرت في أجواء من الحرية والشفافية. وهي نتيجة قد تصيب بالإحباط جميع الذين كانوا يحلمون بحياة في مستوى تضحيات أجيال عديدة. وهي تنبهنا على أن الديمقراطية لم تكتمل. تتطلب الديمقراطية طاقة جديدة من الفكر، حتى لا تسقط في فخّ اللعبة السياسية والإعلامية.
ثم إن الإسلاميين في تونس والمغرب، يستلهمون النموذج التركي. إنهم معتدلون، حسب التوصيف الذي يخصهم به الغرب، في الولايات المتحدة وأوروبا. وهو ما يعني أن مصالح الغرب (وقيمه الأساسية) لن تتعرض لسوء. ثمة احتمال كبير في أن يشهد الاقتصاد انتعاشاً (رغم أنه تابع للاقتصاد الأوروبي الذي يجتاز أزمة ليست ظرفية)، وأن تصبح العدالة الاجتماعية قريبة المنال. اندفاعة لن تعترض تأكيداً لا على العولمة ولا على الفرنكفونية، لا شيء ينبئ بخلاف ذلك.
ما يبدو لي واضحاً هو أن هؤلاء الفاعلين السياسيين الجدد لن يبوئوا المرأة المكانة التي تستحقها، لن يمكنوها من حق المساواة مع الرجل. كما أنهم لن يتنازلوا في المجال الثقافي، الذي لا يهم الغرب بالضرورة. إن مصطلح «الحداثة» أصبح عُرضة للهجوم. ومن الإشارات الدالة أنني لا يمكن أن أصمّ أذني عن سماع صرخة الاختناق التي أخذت تطلقها نساؤنا وثقافتنا. إن الإسلاميين خصوم عنيدون للحداثة. فهي، بالنسبة إليهم، تعني التغريب الذي يهدد العقيدة الإسلامية. وحشيٌّ هذا الاختناق، وكاذبة هذه المبررات.
لا شك أن الثقافة العربية لم تستقبلها الأنظمة السابقة. نظرت أنظمتنا نظرة ريبة وتوجس إلى الأعمال التي اختارت نقد القيم. أدبٌ بكامله يعتمد جمالية المعارضة، بعبارة يوري لوتمان، وجد نفسه مُبعَداً. وستُصبحُ الحداثة، من الآن فصاعداً، منفية أكثر فأكثر : كُتباً، مسرحاً، موسيقى، وفنوناً تشكيلية. سيكون مآل الثقافة العربية الحديثة أصعب مما كان عليه من قبل. هنا، تبدو اللغة العربية مجالاً واضحاً للصراعات. أحس جسدَها يبرد. ووجهَها يشْحُب. وأنفاسَها تتـقطع. ولست من الذي يعتقدون في إمكانية وجود مقاومة جماعية، منظمة. ما الذي بوسْعي أن أقول ؟ الصوتُ الذي أسمع هو صوت التداخلات الثقافية، صوت كتاب وفنانين، تعلّموا كيف ينجزون، فردياً، أعمالهم بكل هدوء وتواضع، على هامش أي مؤسسة. إن الهاوية التي تنتظرنا جميعاً، تنفتح أمامنا. هذا الإسلام الشعبوي، اللاتاريخي، الذي يزحف مظفراً، سيكون له مريدون أوفر عدداً. والكاتب العربي سيكون معرضاً لوحدة أكثر من السابق. خوف، نعم، خوف يكتسح معنى الكلمات ومعنى الحياة. لذلك، لا يمكن أن نكون دائماً على وفاق مع أكبر ناقد للاستشراق، إدوارد سعيد، عندما يكتب في مقدمة كتابه L’Islam dans les médias (الإسلام في وسائل الإعلام) (طبعة 1997) : « من غير المعقول ألاّ نبيّن أنه في الصراع الذي يتواجه فيه الإسلاميون مع الغالبية العظمى من المسلمين فإن الأولين هم الخاسرون إلى حد بعيد(5).»
ج. آنصي : لنعد إلى القصيدة. النقطة الثانية التي أجدها في جوابك هي علاقتك بالإنصات، الذي يظهر لي أساسياً. لا نتوقف عن أن نقول، منذ حوالي قرن، إن الشعر صورة، وبالتالي نظرة. «يجب أن نتحول إلى رائين» كما نردد مع رامبو ثم مع السرياليين من بعده، دون أن نفهمهم حقاَ. يبدو لي، من جهتي، أن الرؤية، في القصيدة، هي الإنصات. الإنصات يرى. وما يراه الإنصات، يراه في اللغة. لقد برهن ابن ميمون، الفيلسوف اليهودي، أن رؤى الأنبياء تولد من الإنصات إلى اللغة، وبتحديد أكثر، من الإنصات إلى الدَّوال. وغالباً ما أقول إن القصيدة، بالنسبة إلي، فضاء تأمل ــ فضاء أعمل فيه على الإفراغ (إفراغ الأنا وما يضغط عليها من أثقال)، من أجل شيء ما، صوت ومعه عالم، يمكن أن يتحقّقَ في هذا الفضاء الذي أصبح فارغاً. هذا نفس ما تقوله أنت الآخر بطريقتك الخاصة.
م. بنيس : ثقافتنا المتوسطية تتجاوب وتتكامل، دون أن تكون لدينا دائماً إمكانية للقبض على شساعة هذه التجاوبات أو هذا التكامل. لنترك جانباً، ولو لحين، هذا القسطَ المعتمَ الذي يتطلب مراجعة معنى ما تسمّيه أروبا بالحداثة. لقد كانت لنا، لك ولي، لحظات من الحوار من خلال قصائد، ومن خلال لقاءت وقراءات مشتركة مع أصدقائنا الأقرب منا، مثل برنار نويل، أنطونيو غامونيدا وهنري ميشونيك. وقد تبادلنا كتبنا، علماً أن ما تُرجمَ من كتبي إلى الفرنسية قليل. فالحوار الذي قمنا به، بحرية وانفتاح، يساعدنا على أن نفهم بعضنا بعضاً، ضمن الاحترام المتبادل للتقاليد الثقافية التي يحملها كل واحد منا.
تأمُّلك في الإنصات والنظر قريب مني. ويتطلّبُ، من طرفي، توضيحاً أكثر. إن تأثيرات الإنصات على رؤى الأنبياء، التي تكلم عنها ابن ميمون، تنسحب على الإسلام مثلما تنسحب على اليهودية والمسيحية أيضاً. إن ابن ميمون (1138 ـ 1204) أندلسي من قرطبة في عهدها الإسلامي. فهو عارف جيد بالإسلام وثقافته. لكني أتكلم عن الشعر الجاهلي، عن شاعر وعن تقليد شعري سابق على الإسلام. وهذا يعني أنني أستمدّ ثقافة الإنصات من هذا الشعر. ولم يقم الوحي الإسلامي إلاّ بإبدال ناقل الخطاب، الذي أصبح في الإسلام هو جبريل، فيما كان هو الجن لدى شعراء العرب الجاهليين. هذا هو مصدر الحيرة التي أصابت العرب وهم يسمعون القرآن. ودون أن يفهموا الفرق بين الملاك جبريل وبين الجن، اتهموا النبي محمداً بكونه شاعراً من بين الشعراء. اتهام خطير، من وجهة نظر دينية، لم يصمت عنه القرآن. لقد رد القرآن على هذه التهمة في عدة سور، منها : « وما علمناه الشعر وما ينبغي له» (يس، الآية 69)، «ويقولون أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون» (الصافات، الآية 36)، « إنه لقولُ رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون» (الحاقة، الآيتان 40 و 41).
ليس ابن ميمون شاعراً، والتقليد الشعري اليهودي لا يُسعفه في الاستشهاد بشعراء سابقين على الديانة اليهودية ومناهجهم، لأنهم غير موجودين (راجع كتاب(6) A big Jewich book). أما مع الثقافة العربية، فنحن في بُعد وثني. لقد انتشرت اللغة العربية قبل نزول القرآن. وهي موجودة مع الشعر الجاهلي. إنها لغة الشعراء قبل أن تكون لغة النبي محمد أو جاءت مع الدين الإسلامي. هذه الميزة تقرّبُ العرب من اليونانيين الذين غيّروا دينهم دون أن يغيّروا لغتهم. فاللغة مستودع اللامرئي. «من يغير لغته يغيّر لامرئيَّه»، كما كتب هيدجر في كتاب لا أتذكر عنوانه للأسف. وإذا لم يكن هناك فرق بين الإنصات والرؤية فإن الإنصات يخيف والرؤية تقدم المأساوي لنظرتنا. وأضيف إلى ذلك أن المتصوف المسلم يستقي (في شعره ونثره) من الشعر الجاهلي، مع الاحترام الكامل للعقيدة الإسلامية. وهو ما يبرهن عليه، تمثيلا لا حصْراً، شعرُ ابن عربي الأندلسي (1165 ـ 1240). فالكتابة، بالنسبة إلى المتصوف العربي، إملاءٌ يتسلمهُ، بجلاء، من الآخر، الأعلى. يطيع المتصوف الأمر بكتابة ما يُؤمَرُ بكتابته. ويرى خلال هذا الإملاء ما تعطيه إيّاه الكتابة أن يراه. أمّا صوتُ جسدي، فهو صوتٌ واحدٌ ومتعددٌ. صوتُ الإحساس والشعور، صوت العالم المحسوس، العالم الوحيد الموجود، بالنسبة إلي. يمتد الصوت في القصيدة. إنه صوتٌ يخيف. صوتٌ سديمي. تصبح فيه الأقوال صوراً (استعارات) للمحسوس. أنصت بأذني الثالثة وأرى بعيني الثالثة. ما لا يُسمع وما لا يُرى يلتقيان، جنباً إلى جنب، في ما تعجزُ القصيدة عن قوْله.
ج. آنصي : هذه الطريقة قريبة من الطريقة الصوفية التي تستدعيها كلمة «الشطح» التي أنت تستعملها. لكنها صوفية لا شأن لها بالديني ـ صوفية دون إله. وهو ما تذكره، من جهة أخرى، بإتقان عندما تقول إنك تنصتُ «إلى العالم المحسوس، العالم الوحيد الموجود، بالنسبة [لك]». قد تكون ثمة صلة بين التجربة الشعرية والتجربة الصوفية، وقد يعود الفرق بينهما إلى طبيعة التجربة قبل أن يعود إلى درجتها. ما رأيك ؟
م. بنيس : اختراق حدود الإنصات نحو الرؤية علامة على الدخول في الشطح. وهنا نصل إلى عجز اللغة، لحد أنها تتركنا وحيدين، ضائعين. لنكن منتبهين إلى الحدود التي لا يمكن تخطيها. يتقاطع الصوفي مع الشاعر، فتجربتهما ولغتهما تتشابهان. والصلة بينهما جلية. لكنّ كل واحد منهما يواصل مساره الخاص به. وما يجعل الإنصات يختلف عن الرؤية، وما يفصل بينهما، هو المعنى تحديداً. إن شطح المتصوف هو شطح الإثبات بيـنما الشطح الذي أعيشه مأخوذ بالمحو. اختلاف من حيث الطبيعة لا أتخلى عن مراقبته. هبة الفراغ، عنوان أحد دواويني المترجمة إلى الفرنسية، هو تجربة المحو، الذي يبدّد الواحد، الأحد. يحث المحو على استئناف الرحيل، في الرحيل الذي لا ينتهي. من هنا فإن صلتي بالتصوف إبداعية، في مغرب مسكون، عبر القرون، بكلام المتصوفة وموسيقاهم.
ج. آنصي : الإثبات والمحو هما، كما تقول، ما يفرق معنى مسار التصوف عن مسار الشاعر. لكن أليس أولُ عمل يقوم به المتصوف هو أن يمحو نفسه، أن يخرج من ذاته، من العالم ومن لغة العقيدة، بل أن يخرج من المعلوم تحديداً، مما يمكن أن يكون مثبتاً، للدخول في أرض المجهول، أرض ما لا يُسمّى التي يشع فيها ضوء الحب ؟ فعْلُ المتصوف، من وجهة النظر هذه، لا يختلف كثيراً عن فعل الشاعر…
م. بنيس : ثمة بالفعل نقاط متعددة يلتقي فيها الشاعر مع المتصوف، كما قلت قبل قليل. كل واحد منهما يعرف الغوايات والمخاطر التي يفرضها الآخر عليه. غير أن الفعلَ الأكبرَ الذي يقوم به الشاعر، بعد لقائه مع المتصوف (أو أثناء هذا اللقاء) هو اتباع طريقه الشخصي. وهو ما يتطلب يقظة دائمة، مُراقبةً للحدود (التي لا سبيل إلى إلغائها)، مراقبة انغلاقها وانفتاحها، حتى لا يفقد الكلام الشعري أرضيته الخاصة ويصبح ملغى. علينا أن نلاحظ هذا الاختلاف، مهما بدَا ضئيلاً، بين فعل «محا» و»محا نفسه». إن نحن تكلمنا عن الإسلام فسأقول إن نقطة انطلاق المتصوف هو إثبات وجود الله، ووحدانية الله، الدائم الحضور، والإيمان بسره. هذا الإثبات يقود المتصوف إلى محو نفسه، والفناء في العبودية الإرادية لله، وفي كلمته وأوامره. أقتصر على ذكر متصوفيْن إسلامييْن من المقام الأعلى : الحسين بن منصور الحلاج (ولد عام 857 وقتل عام 922) وابن عربي. أستشهد بقصيدة للحلاج، جاء فيها :
عجبتُ منكَ ومنّي
يا مُنيةَ المُتمنّي
أدْنيْتني منكَ حتّى
ظننتُ أنكَ أنّي
وغبتُ في الوجْد حتّى
أفْنيتني بك عنّي
يا نعْمتي في حياتي
وراحتي بعدَ دفْني
ما لي بغيْرك أنسٌ
إذْ كنتَ خوفي وأمْني
يا منْ رياضُ معانيـ
ـهِ قد حوتْ كلَّ فنِّ
وإنْ تمنّيْتُ شيْئاً
فأنتَ كلُّ التمنّي(7)
إن التقاربَ في الوجْد بين «الأنا» و»الأنت» علامة على محو «الأنا» التي لا تدركُ نفسها إلا في «الأنت». وبفعل المحو يُسمَحُ للمتصوف بالدخول إلى «الرياض» (بستان المعرفة، الطواسين، ص. 94.) يستعمل الحلاج هنا كلمة «رياض» (في الجمع) مضافة إلى «معانيه». والمقصود بها رياض المعاني الإلهية التي احتضن فيها الحلاج «كل فن» (المعارف). والدخول إلى رياض المعاني الإلهية عبور من المعلوم إلى المجهول. فيما احتضان «كل فن» يعني أن الحجاب والمعرفة متصلان، لدى الحلاج، بالتسمية الإلهية، وبها وحدها. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن معرفة المتصوف تأتي من الله وتذهب نحو الله.
ج. آنصي : كل شيء يأتي من الله وكل شيء يذهب نحو الله. نعم. لكن لدينا هنا إثبات الإلهي، وهو انفتاح. ألا يفترض هذا الانفتاح رفضاً للفقهي، المغلق ؟ أقرأ في شعر الحلاج :
كفرتُ بدين الله والكفرُ واجبٌ
لديّ وعندَ المُسلمين قبيحُ(8)
لقد أحرقْنا في أوروبا بأقل من هذا السبب!
م. بنيس : ترجمة هذا البيت من طرف سامي علي (إلى الفرنسية) أدق (وأكثر شعرية) من ترجمة ماسينيون. وما يهمّنا هنا هو تصوّر الديني لدى الحلاج، الذي نعثر عليه في هذه الأبيات الثلاثة :
تفكّرتُ في الأديان جداً مُحقّقاً
فألفيْتها أصْلاً لهُ شُعبٌ جمّا
فلا تطْلُبنّ للمرْءِ ديناً فإنهُ
يصدُّ عن الوصْلِ الوثيق وإنّما
يُطالبُهُ أصْلٌ يُعبّرُ عندهُ
جميعُ المعالي والمعاني فيفْهمَا(9)
كلمة croyances في ترجمة ماسينيون الحرفية أصلها في العربية هو الأديان. والحلاج، المتصوف العالم، وضع نظرية للدين، حتى يتحرر من انغلاق العقل الفقهي، في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، اليهودية، المسيحية والإسلام. في هذا الأفق، لا يؤمن الحلاج بالدين من أجل أن يفهم الإلهي بعد أن يفتحَ إثباته على الأساسي، إثبات وجود الله ووحدانيته. ويأخذ الله هنا معنى متعدداً. إنه «الأساس الذي يعبّر عن جميع المعاني العليا.» نعم ، التحرر من الدين. لكن من أجل بلوغ الإلهي في مخلوقاته كلها. لذلك، فإن التحرر من الدين ليس إنكاراً لوجود الله. الانفتاح، إذن، لا يتنافى مع إثبات انغلاق. «ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله فيه(10).» كما يقول الحلاج.
ج. آنصي : وماذا عن ابن عربي ؟
م. بنيس : يقدم لنا ابن عربي مبدأ الإثبات نفسه، وينص على أن أصله في القرآن : «فجميعُ ما نتكلم فيه في مَجالسي وتصانيفي إنما هُو من حضْرة القرآن وخزائنه(11).» إنه إثبات علوَ كلام الله والاختيار الإرادي للعبودية والامّحاء (الفناء) فيه «فما أحلّه اللهُ ورسوله أحْللناه، وما حرّمه اللهُ ورسوله حرّمناه.» الإثبات ومحو الذات شرطان أوليان لعقيدة يخضع لها الصوفي حتى يعْبُرَ من المعلوم إلى المجهول. لا يرى الصوفي إلا ما هو مسموح له برؤيته ولا ينصت إلا إلى ما هو مُطالبٌ برؤيته : «لا بد للعين، يعلق شودكيفيتش، من أجل أن تخضع للشرع، أن تتجنب النظر إلى الأشياء الممنوعة أو المكروهة وعليها أن تتجنب، بالإجمال، النظر إلى كل ما يفْـتنها»، و«على السمع أن يرفض الاستماع إلى النميمة، والكذب، والكفر، أو المحرم(12).» وهذا ما يفسر كون «القرآن لا يفتح خزائنه إلا لمن يطبقون الشرع الذي فرضه الله، فلا كشف بدون عبودية(13).» أما الشاعر فبعكس ذلك. إنه يرى ما تعطيه العينُ أن يراه ويسمع ما تعطيه الأذن أن يسمعه، دون أن يثبت ما وراءً أو أن يطبق قانوناً خارج قانون القصيدة. «لم يكنْ ليحدُثَ سوَى مكان الأنْ يحدثَ» كما كتب ملارمي في رمية نرد، أو جورج باطاي في صياغة ليست أقل هدماً، عندما يكتب : «لا يمكن للتجربة الباطنية أن يكون لها مبدأ لا في عقيدة (موقف أخلاقي) ولا في علم (لا يمكن للمعرفة أن تكون فيه غاية ولا سبباً) ولا في البحث عن حالة من الغنى (موقف جمالي، تجريبي)، لا يمكن أن يكون لها همٌّ ولا هدف آخر سوى ذاتها(14).» كلام الشاعر يقف في النفي. ينفي ما يشغله عن طريقه الشخصي، يمنعه من الذهاب نحو المجهول أو التوجه نحو ضوء آخر، من طبيعة ليست مختلفة فحسب، ما دامت هي أقصى اللغة ومستحيلها.
تبدو الحدود في منظور كهذا بين الشاعر والمتصوف مفتوحة ومغلقة في آن. ذلك ما يستدعي يقظة، خاصة وأن الفضاء المشترك بينهما للكتابة هو الكلام. تاريخ هذه اليقظة برمته تحقق من وجهة النظر هذه، طيلة الفترات الكبرى للثقافة العربية ـ الإسلامية. آنذاك كان ثمة اعتراف بالحدود ولا أحد كان يتعدّاها. لا يوجد صوفي ادّعى أنهُ شاعر، ولا شاعرٌ كان يطمح إلى أن يفارق أرضه الشخصية. وفي هذه اليقظة تقيمُ قصيدتي.
ج. آنصي : هذا المكان الذي تتكلم عنه، بخصوص الشعر الجاهلي، هو، كما تقول، مكان الغائبين. إنه، بالفعل، مكان. فراغ سأنظر إليه لا باعتباره مكاناً للفقدان وإنما باعتباره شرطٌاً لظهور هذا الكلام الذي هو في حالة ميلاد، أقصد مكان القصيدة. ثمة تفسير يستند إلى التحليل النفسي، اللاكاني، بالأخص، يلح أكثر من اللازم، تبعاً لذوقي، على مفهوم الفقدان لوصف تجربة صوفية وشعرية. لا شكّ أن التصوف ينطلقُ من غياب. لنأخذ « النشيد الروحي» الذي كتبه الإسباني جان دو لاكروا Jean de Lacroix. إن هو ابتدأ بغياب : («لكن أين أنت تختفي / تترك روحي تنوح يا صديقي»)، فإن هذا الغياب سرعان ما يتحوّل إلى نشيد للحضور. يعود العالم المرفوض، الممحوّ، بامتلائه المحسوس : «صديقي الجبال الأودية الصغيرة الظليلةُ المنعزلة / الجزائر العجيبة / الأنهار الضّاجّةُ / الصفير المليء بحبّ الهواء(15)» امتلاء العالم يتجلّى من خلال حضور الصديق الذي أسميه هنا «الرغبة». عندها تصبح القصيدة نشيداً للانهائية الرغبة. هنا يكمن الشعر، بالنسبة إلي: في هذا التجلي للفقدان الذي يتعايش، بطبيعة الحال، معنا. إنه تجلٍّ مليء أكثر من اللازم بالحياة. فهل تشاطرني الرأي ؟
م. بنيس : تتناول، في هذا التحليل، عالمين شعريين مختلفين تماماً : أحدهما يعود للشعر الجاهلي، الذي هو شعر المحسوس والحسي والمرئي، وثانيهما يعود إلى تجربة صوفية، متأثرة بالشعر الصوفي العربي ـ الإسلامي، والأندلسي بالدرجة الأولى. متصوفنا ابن عربي، متصوف الحب، استثمر الشعر الجاهلي في الرؤية الصوفية. فهو ينقل اللامُسمّى إلى المُسمَّى واللامرئي إلى المرئي. والدليل على ذلك ديوانه ترجمان الأشواق. ثمة قرابة، من ناحية، بين ديوان حياة جديدة Viata Nova لدانتي وهذا الديوان؛ ثم بين الديوان نفسه وشعر جان دولاكروا. لن أذهب بعيداً في تفسير هذه القرابة. سأنحصر، وأنا أميز بين مجالين وممارستين، في ما يبدو لي ضرورياً في القصيدة. لن أناقض ما تعْرضهُ عن الفقدان ولا نهائية الرغبة. وسأنبه، بعكس ذلك، على أن لكلمة «فراغ»، التي تستعملها، معنى يختلف في الثقافة الغربية، التي تنتسب إلى الثقافة اليونانية، عن المعنى الذي أعطيه إياها، انطلاقاً من نقد معناها في الثقافة العربية ـ الإسلامية. فالاشتغال على اللغة، وخرق قواعدها، ورجّ قيَمها، عملٌ أتابع به البحث في فكرة حديثة للقصيدة، من غير أن أنسى أن عملي ينحصر في أن أعيد الكلمات إلى صفائها. إنها منهجية شعرية تهدف إلى فتح مسالك مغلقة بعقلية فقهية تمنع كل ذاتية تستولي عليها وتتركها خارج اللغة. فلا يمكن أن نورطَ الذات في اللغة إلا إذا طالبنا باللانهائي كمُستقبَل وكصيرورة. ما أقصده، هنا، هو أن الفراغ ليس نقيض الامتلاء وليس نهايته. إنه شيء آخر، شيء يكتفي بذاته ولا يترك نفسه تنغلق في قوانين المنطق، الذي لا يمكن أن يفهم الفراغ إلا بما هو شيء يقابل الامتلاء. تخط القصيدة طريقها دون أن تلتفت إلى الوراء. لا سبب ولا نتيجة. هذا الفراغ يعمل عمله من تلقاء ذاته. يشق الطريق ويضيع فيها. لا يؤدي الفراغ، بهذا المعنى، إلى ما يعطينا رضًى أو اطمئناناً. إنه اسمُ صحراء تظل دائماً مفتوحة على الصحراء. في لا نهاية الرحيل نحو الصحارى اللانهائية. لا يمكن لتجربة كهذه للفقدان، للمتاه والهذيان، أن تكون تجربة متصوف، موعود بالسكينة. سكينة محفوظة، أكثر من ذلك، بكلام موجود سلفاً ومعناه رهن إشارة من يقبلون بالشرع الإلهي.
ج. آنصي : لن أكون، فيما يتعلق بالمتصوفة، حاسماً مثلك (وهنا لا أتكلم إلا عن المتصوفة المسيحيين الذين أعرفهم على نحو أفضل؛ وأخص بالذكر جان دولا كروا، أكثر الشعراء الغربيين شرقية): إن كانت تيريز دافيلا Thérèse d’Avila تتغيّا الغبطة، فإن شعر جان دولاكروا، كما قلت، نشيد لانهائية الرغبة. لانهائية ليس لها، إن شئنا الدقة، نهاية، وهي بالتالي مؤسسة لا على الإثبات وإنما هي مؤسسة على النفي. («من أجل أن أكون الكل / لا ترغب في أن تكون شيئاً في أي شيء»). من وجهة النظر هذه، فإن الكلام الذي يسمعه ليس بالنسبة إليه موجوداً من قبل: إنه الكلام الذي يأتي، كلام المجهول. مجهول يسميه «من يتكلّم» ولا يسميه الله إلا لاحقاً، خارج القصيدة. لهذا أعتبرُ جان دولاكروا أحدَ روّاد الشعر الغربي الحديث برمته، وهذا ما جعلني أقارنه برامبو. ثمة لديه نظرية لليل ـ تجربة الفراغ la nada التي لا تمت بصلة بالمنطق. ليس الليل عنده نقيض النهار، والفراغ ليس نقيض الامتلاء. لذلك فإن الليلَ ضخمٌ بضوء شاسع كفراغ يملأه حضور ما. نحن، هنا، خارج الثنائيات، نحن في حضرة استمرارية تقصي الثنائيات. عندما أتكلم عن الفراغ بما هو شرط لظهور كلام القصيدة، فإنني لا أجعله نقيض الامتلاء. ليس الفراغ هو اللاشيء: إذا كان فارغاً من الأشياء (من التمثلات، ألخ…) فهو ممتلئ بالطاقة. إنه قريب، بالضبط، مما تسميه «صحراء». وعلينا أن نقول، بتلقائية، إن الصحراء إحدى صور التصوف.
م. بنيس : عليّ أن أوضح كلامي عن الإثبات والنفي. يطرح خطابُ المتصوفة المسلمين الإثباتَ كشرط أخلاقي لكل تجربة صوفية. بمجرد ما يتم التشكيك فيها، يفقد مصطلح «التصوف» معناه. وحتى في الحالات القصوى، يبقى الإثبات هو الكلمة الأولى، التي تؤلف بين جميع المتصوفة المسلمين عند إثبات التوحيد. ومثال جان دولاكروا، يتطلب، بعكس ذلك، تأملاً خاصاً. اسْمحْ لي، إذا جازفت بالتهْويم، أن أقول كلمة بهذا الخصوص. نموذج جان دو لاكروا، دال عند النظر في الفروق بين التصوف المسيحي والتصوف الإسلامي. يكمن الفرق، تحديداً، في خصوصية اللغة العربية، التي حاولت إظهار خصائصها. لقد كتب جان دولا كروا بالإسبانية، التي ليست لغة الوحي، فضلا عن أنها لغة جديدة، مقارنة مع قدامة اللغة اللاتينية. أما المتصوفة المسلمون (الذين أشرت إليهم) فقد كتبوا باللغة العربية، لغة الشعر الجاهلي والقرآن. وهذا هو، مثلا، واقع حال متصوفة المغرب، المسلمين، عرباً وغير عرب، بمن فيهم متصوفون كبار أمازيغ. عندما نهمل فرقاً بهذا الحجم نفقد الضوابط الضرورية لتاريخانية، ليست محايدة في إنتاج المعنى.
أضيف عنصراً آخر إلى ما سلف. إن جان دولاكروا (1542 ـ 1591) إسباني، عاش في فضاء متأثر إلى حد بعيد بثقافة الحب (والسكر) في الأندلس، التي نعرف أن التصوف الإسلامي (وابن عربي هو رمزه) جزء منها. هذا لا يقلل من أصالة تجربته في الليل الغامض Noche oscura وكشوفاته. فالكتابة بالإسبانية والعيش في فضاء مسكون بثقافة عربية عن الحب وليلاته (في زمن الموريسكيين) يضيئان لنا حالات النشوة التي أدت به، ظاهرياً، إلى خرق الحدود، التي وضعها القانون المسيحي والسلطة الدينية للكنيسة، بإعطائه معنى شعرياً لكلمتي «ليل» و«فراغ». هذان العنصران يساعداني على أن أفهم أن جان دولاكروا شاعر. شاعر الشطح، أكثر الشعراء الغربيين شرقية. أي أن اللاشيْء الذي يتحدث عنه هو إمضاء شاعر منفتح على الديني، من خلال مظهره الصوفي. وهو، بهذا المعنى، يفجّر النص اللاهوتي لا النص المقدس، كما يقول خوسي أنخيل فالانتي(16).
عندما نصف نموذج جان دولاكروا بالدال فذلك لأنه يجد هنا مكانه الصحيح. لنتذكّرْ أيضاً أن بولس نويا رفض بعض أطروحات أسين بلاسيوس عن علاقات جان دولا كروا بالصوفي الأندلسي ابن عبّاد الرُّندي (الرندة 1333 ـ فاس 1390). وإن كان هذا الأخير يعتقد أن « العلاقة غير واردة» فهو يلاحظ أن ثمة بالأحرى تقارباً منفصلاً قبل أن يكون اقتباساً(17). لكن اكتشاف مخطوطات الخاميادوـ الموريسكية، منذ 1996، ومنها الشرح الصوفي لأسماء الله الحسنى، تدفعنا إلى الاعتقاد بأن جان دو لاكروا ربما اطلع على شرح ابن عبّاد لأسماء الله الحسنى، الذي يتضمن معنى تجربة الليل الغامض. لا يبعد هذا الموقف من شاعريته عما أفكر فيه، كما تفكر فيه أنت الآخر، أو خوسي أنخيل فالانتي وأندرياس سانشيس روباينا. هكذا تكتب بخصوص جان دولاكروا : « بُعْد تجربته شعريٌّ بكل نزاهة […] [في قصائده] ـ التجربة الصوفية والتجربة الشعرية غير منفصلتين18.» يبدو، بهذا المعنى، أن الفراغ لديه صورة شعرية كبرى، رغم أنني لست متأكداً من أنه قد يكون قبِلَ، باعتباره مسيحياً مؤمناً، أن يعيش تجربة الفقدان والمتاه. هذه التجربة التي عاشها الشاعر الحديث، في وقت أصبح يسهر على انفتاح الحدود وانغلاقها بين الشاعر والمتصوف. وهي الوضعية التي يعبر عنها جورج باطاي على النحو التالي: « إن كانت التجربة الإنسانية تجيب عن سؤال: ما الذي هناك ؟ بشيء آخر غير: أنا والليل، أي التساؤل اللانهائي، فهي تربط جوابها بالطبيعة. إنها، بعبارة أخرى، تفسر التجربة انطلاقاً من الطبيعة وتتخلّى من ثمّ عن الاستقلالية. إن تفسير الإنسان من منطلق معطى (بفعل رمية نرد ما تعوّض بآخر مَا) ضروري، لكنه فارغٌ في الحدود التي يجيب فيها عن التساؤل اللانهائي : أن تعطي شكلاً لهذا الفراغ هو في الوقت ذاته أن تحقق القوة المستقلة للتساؤل اللانهائي(19).» إن باطاي قارئ كتاب الرؤى لأنخيل دي فوليـنْيُو Angel de Foligno، كما أن رامبو، الشاعر المفضل لباطاي، يستلهم الثقافة الروحية للشرق. كشوفاتهما (جان دولاكروا ورامبو) تصدر عن تأويل مفتوح ومغلق في آن للتصوف. وهما يؤكدان أن الشاعر وحيد في عالمنا الحديث.
إذا كان الفكر والشعر غير قابلين للانفصال لدى شاعر غربي، فإن هذا الأمر لا يمكن أن ينسحب إلا على شعراء عرب محدودين، على غرار أبي العلاء المعري (973 ـ 1057) الذي يجعل من التفكير منهجاً لا ينفصل عن التجربة الشعرية. وبخلاف الشعراء، اخترع مُتصوفُونا في النثر نظامهم الخاص في الكتابة. وهذا النظام، المعقد إلى حد بعيد، يقود المتصوف إلى رؤى (ومشاهدات) شبَقية لم ينجح أي شاعر في كتابتها. تلك هي أيضاً حالة ابن عربي مع حروف الأبجدية. وفي المقابل، أدت حالات الشطح التي عرفها الحلاج إلى أن يرى نفسه واحداً مع الآخر (الحبيب، الله)، ويقول إن كلام الله وكلامه شيء واحد. لذلك جرؤ على قول «أنا الحق»، الذي لم يجرؤ أحد قبله على التصريح به في العلن، أمام الناس. وقد ساد اعتقاد بأن استعمال الحلاج كلمة «الحق» (وهي من أسماء الله الحسنى) تعبير عن رغبته في أن يكون الله. وقد حوكم وقتل من طرف الذين لم يقدروا على الاقتناع بأنه احتضن «كل فن»، وأنه لا يقول شيئاً يتعارض مع الشرع الإلهي، الذي كان مسلّماً به وخاضعاً له. لكن الحلاج، من جهة أخرى، كتب قصائد، بل له ديوان منشور. وابن عربي كتب هو الآخر الشعر وله بدوره دواوين منشورة. مع ذلك، لم يبلغ المتصوفان، الحلاج وابن عربي، منزلة الشاعر الكبير في اللغة العربية. لا يهدف المتصوف العربي إلى أن يكون شاعراً، لأنه يعرف أنه يستعمل الشعر كوسيلة لتبليغ آرائه، وأفكاره، وتجربته، وكشوفاته. إنه مقتنع بأن الكلام الذي يصدر عنه، قولا أو كتابة، يأتيه من الله. ولا يقول ولا يكتب، بالتالي، إلا ما أعطاه إياه (الحبيب، الله).
إن الفروقات الدقيقة بين التصوّفيْن الإسلامي والمسيحي لا تساعد على مهمة الشرح. وما أقترحه، كشرح، مجرد كلمة. كلمة تحاول أن تظهر بأن ما لا يقال في اللغة الصوفية ليس أقل مقاومة مما هو عليه الأمر في اللغة الشعرية، وأن تاريخانية اللغات تدعونا إلى التأني في حوار تأخر عن أن يتطوّرَ بين عالمين شعريين، عربي وغربي. بهذا المعنى، فإن تأويلك لطريقة جان دولاكروا لها مبررها، قبل كل شيء، من وجهة نظرك الشعرية في العالم، عالمنا، الذي لا شيء وراءه.
ج. آنصي : كل واحد يعلم أن القصيدة ترتبط ارتباطاً حميماً باللغة التي تظهر فيها وتغيرها من الداخل. وهي في هذا الارتباط فريدة ومتفردة. لكن لديها، في آن، نزعة كونية، نزعة عبور الحدود رغم الموانع الجلية التي تواجهها مثل هذه الهجرة. أسألك أنت، المترجم أيضاً، أي الذي يؤمن بأن الشعر ليس متمنعا عن الترجمة، كما يتردد في الغالب، بل قابل للنقل، هل يمكنك أن تحدثنا عن هذه التجربة القصوى التي مثلتها بالنسبة إليك ترجمة قصيدة ملارمي رمية نرد إلى العربية ؟
م. بنيس : تصبح الصلة الحميمة، التي تربط القصيدة باللغة، دالة عندما تصل القصيدة إلى خلق صدمة داخل لغتها، وإيجاد سرٍّ في حالة يدوم ولا يعثر أبداً على اكتماله. قصيدة ملارمي رمية نرد هي المظهر المثالي لطاقة الشعر الذي يترك السرَّ يتجدّد باستمرار. فهي قصيدة فريدة في تاريخ الشعر العالمي. تخترق حدود اللغة الفرنسية والأرض الأوروبية. قصيدة تحرر من كل ما يحُدّ من انتمائنا اللغوي أو الثقافي. إنها قصيدة النشوة بامتياز. وقد تهيأت مدة عشرين سنة لترجمتها. ثم سنحت الفرصة في إحدى ليلات مارس 2006، بمراكش، خلال حديث مع إيزابيلا كيكاييني والشاعر برنار نويل.
في النص الذي كتبته بعنوان «مذكرات ترجمة(20)،» وصفت مساراً وأضفت بناء. لا أبالغ إن قلت بأني واجهت أكبر المشاكل تعقيداً في ترجمة الشعر. كانت غايتي من ترجمة هذه القصيدة تتلخص في البحث عن لغة شعرية عربية، يمكنها أن تتلاءم مع تصور الكتاب لدى ملارمي وتطبيقه في القصيدة. هنا، يضيع السرّ في الثنيّات اللانهائية للكلام. كنت بحاجة إلى صبر، هو عبارة عن سلوك الناسك. قمت بقراءات، أبحاث، استشارات، حوارات … هذه القصيدة مبنية على كلمات مفاتيح، نعثر عليها في العربية بالدرجة الأولى. كُتبت هذه القصيدة مع ألف ليلة وليلة، و كتاب الواثق لبيكفورد Beckford والثقافة الأندلسية. فكلمة «الزهر» هي إحدى الكلمات الموجّهة للقصيدة. أتوقف عند هذه النقطة، بالتواضع الذي تعلمه اياي القصيدة، للتعبير عن عجزي عن فهم كيف أن هذه الثقافة العربية غائبة عن المقاربات الغربية المعاصرة، ابتداء من الدراسات العديدة بالفرنسية. عمل الترجمة الذي قمت به يؤدي بي إلى القول بأنه من شبه المستحيل الدخول إلى أقاصي رمية نرد دون معرفة بالثقافة العربية. هذا العمل ليس سوى مدخل إلى الدراسة، وأتمنى أن يكون بداية مغامرة، تقربنا من عناية ملارمي الكبرى بالثقافة العربية وحضورها الذي لا سبيل إلى التغاضي عنه في هذه القصيدة وفي فكرتها الشعرية.
إن العربية، في أدبها، شعرها ونثرها، أو في نحوها ونظام ضبط الحروف فيها بالشكل، ساعدتني إلى حد بعيد على إنجاز الترجمة، إضافة إلى عنايتي بتنبـيه ملارمي الدقيق، الذي وجّههُ إلى قراء مجلة كوسموبوليس، حيث نشرت قصيدة رمية نرد أول مرة، وجاء فيه : «في هذا العمل المتميز كلياً بالجدة، بذل الشاعر جهده الأقصى ليصنع الموسيقى بكلمات.» ثم إن قصدي لم يكن منحصراً في الدلالة، بل كانت الغاية هي الذهاب أيضاً نحو هذا الأساسي : « وفيما يخص ترتيب الكلمات في الصفحة، فهناك التأثير كله»، تبعاً لكلمة ملارمي إلى أندري جيد، جواباً عن رسالته الشهيرة من فلورنسا. أي أن المعرفة بكلية العمل لا مفر منها لترجمة وإخراج صفحات القصيدة. وقد كتب بول فاليري بهذا الشأن: «لا أعتقد أنه يجب اعتبار تركيب رمية نرد كما لو تم في عمليتين متتاليين : الواحدة تنصبّ على كتابة قصيدة بالطريقة الاعتيادية؛ والأخرى تعطى الوضعَ الملائم لهذا النص الذي تم [في الكتابة] بصفة نهائية. محاولة ملارمي […] تأخذ مكانها في وقت التصور، هي طريقة التصور(21).» وفي الأخير، أشير إلى أنني لم أتردّدْ في أن أترك ذاتيتي تخترق لغة ملارمي. فحاولت أن أخلق صدمة في لغتي العربية، وأعمل على أن يعْبُرها نفَسٌ حتى تحافظ لسرّ اللغة على ديمومته، الذي يبقى سرّاً قادماً على الدوام من المستقبل.
ج. آنصي : وأسألك، من أجل أن أختم هذا الحوار، كيف تعيش عبور قصائدك نحو لغات أخرى وإلى الفرنسية، تحديداً ؟
ك. بنيس : إذا انطلقت ممّا حاولت التطرق إليه، فسأقول بأن ترجمات شعري إلى الفرنسية تنجح، عموماً، في إعادة خلق هذه الصدمة وفي أن تحافظ على سرّه. أقصد ترجمات برنار نويل بالدرجة الأولى. في هذه الترجمات، كنت قريباً دائماً من برنار : إنه لا يعرف العربية، لكنه ينصت إليها بحساسية وانتباه. أهيئ له ترجمة أولى، خاماً، كلمة مقابل كلمة. وبالإنصات إلى موسيقية اللغة العربية في قصيدتي، يبدأ عمل الترجمة. شيء عجيب. كيف يمكن أن ننجح في نقل لغة غير ديكارتية إلى اللغة الفرنسية، التي ترفض كل خروج على البناء الديكارتي ؟ وكيف يمكن أن نعمل على انبثاق مرح لموسيقى العربية في الفرنسية؟ مسألتان شائكتان. من المفرح، جواباً عن الأولى، أن الشعر الفرنسي عاش مغامرته الكبرى لتخطي الحدود الديكارتية، منذ الرمزيين في القرن التاسع عشر. إنه يجسد الضيافة التي منحتها اللغة الفرنسية للغات الأخرى، ومنها العربية. فبالإصغاء إلى تلك اللغات، والانخراط في الحوار معها، تحررت الفرنسية من صرامتها. من هذا الجانب، أحسّ أن ترجمات برنار تبعث النشوة بطريقة مبتهجة في قراء فرنسيين، وأنا سعيد بذلك.
أما بالنسبة للنقطة الثانية، فإن برنار يعبّر كل مرة، تجاه الترجمة، عن نوع من اليأس. بداية تقديمه لترجمة ديواني هبة الفراغ شاهدة على ذلك : « كل شيء بدأ بالنغَمية، بانحناءاتها وتقاطيعها وحجمها. نغّمية كانت لها سلطة أن تثير الأذن بما يكفي، لكي تبعد بقية الرأس عن سؤال الفهم. ولكن هل الاستماع إلى الانحناءات الصوتية التي نعرف أن لها معنى محدداً يغني الموسيقى يمكن أن يكون كافياً إلى أمد طويل ؟ هنا يأس أن تكون الأجنبي، الذي هو الأصل في نقل هبة الفراغ إلى الفرنسية». يأس أن يكون على هامش أرض لا يمكن للفرنسية أن تبلغَها. لكن بفضل هذه الاستحالة يأخذ عمل الشاعر قوته كلها. ذلك أنه إذا كانت الترجمة لا تعيد إنتاج موسيقية اللغة (العربية)، فإنها لا تتوقف، في لغة شاعر مترجم في قامة برنار نويل، أن تخلق موسيقية أخرى أحسّها، أنا الغريب عن اللغة الفرنسية. يدلني هذا على أن استضافة لغات أخرى في لغتنا هي حوار ذاتيات لا تكتمل إلا في الحدود. كل ترجمة كبرى تمر عبر لغة شاعر، أقصد الشاعر الآخر، من خلال ذاتيته وكتابته. ترجمة مثل هذه كتابة ثانية. وهي تسجل الاختلاف الذي هو إمضاء كل كتابة. كما لو أنها تذكّرنا بأن ترجمة الشعر هي، بالنسبة للغة وسرّها، منبعٌ لا ينضب.
الهوامش
* نشرت المجلة الأدبية الفرنسية europe بباريس، هذا الحوار الذي أجراه جاك آنصي والذي افتتحت به ملفاً خاصاً عن «أدب المغرب»، في عددها المزدوج 1015ـ 1016، نوفمبر2013. وترجمه إلى العربية محمد بنيس.
1- Feuille de la splendeur, traduction de Mounir Serhani revue par Bernard Noël en collaboration avec
l’auteur, Cadastre8zéro, 2010.
2- Petit manuel d’inesthétique, Coll. L’ordre philosophique, Seuil, 1998.
3 – Op. cit., p.86.
4- L’enfer, XIII, V.V 43-45.
5- Traduction française, sindbad, Paris, 2011, p-p. 30-31.
6- Edited by Jerome Rothenberg with Harris Lenowitz and Charles Doria, Anchor books, Anchor Press/ Doubleday, Garden city, New York, 1978.
7- ديوان الحلاج، أعده وقدم له عبده وازن، دار الجديد، بيروت، 1998، ص94.
8- كتاب أخبار الحلاج، اعتنى بنشره وتصحيحه وتعليق الحواشي عليه ل. ماسنيون وب. كراوس، 1936، ص99.
9- كتاب أخبار الحلاج، م. س.، ص70.
10- كتاب أخبار الحلاج، م.س.، ص16.
11- الفتوحات المكية، الجزء الثالث، ص. 334ـ335.
12 – Michel Chodkiewicz, Un océan sans rivage
la librairie du XX° siècle, Seuil, 1992, p. 131.
13 – Op. cit., p. 129.
14- Georges Bataille, L’expérience intérieure, Tel
Gallimard, 1986, p.18.
15 – Nuit obscure, Cantique spirituel, préface de José Valente, introduction et traduction nouvelle de Jacques Ancet, Poésie/Gallimard, 1997, p.63.
16- Jean de la Croix, Nuit obscure, Cantique spirituel, Op. cit., p.8.
17- Paul Nwyia,S.J. Ibn Abbad de Ronda (1332-1390),
Im primerie catholique, Beyrouth,1961, p-p. 28-41 .
18- Jean de la Croix, Op. cit., p.22.
19- Georges Bataille, Le coupable, suivi de L’Alleluiah
Coll. L’imaginaire, Gallimard, 1998, p-p.201-202.
20- في صلة وصل مع القصيدة، مجلد منشور إلى جنب رمية نرد، دار إيبسيلون، باريس، 2007.
21- Œuvres complètes, t1, Pléiade, Gallimard, 1957, p.628.