منذ الوهلة للأولى لعنوان «عودة للكتابة بقلم رصاص» قد تتشكل صورة ذهنية للقارئ، عبر استشفاف إمكانية الولوج إلى الاشتغال الكتابي، والعودة بهذا الاشتغال إلى تأصيل الكتابة، تأكيدا وعودة إلى الحرفة التي يمتهنها الشاعر محمد الحارثي عبر مجمل كتاباته.
بداياتها مع الشعر منذ أن جعل الكتابة منهج وطريقة حياة؛ إلى أن تفرعت به أغصانها إلى فنون أدبية أخرى؛ تفرّد في بعضها مبدعا ومنتجا ما لم ينتجه غيره بالحرفة ذاتها التي عرفناه بها في كتابه محكي الرحلة المسرود بالعين والجناح.
مجربا فن الرواية في تجربته الأولى» تنقيح المخطوطة»، هذه التي صدرت العام الماضي عن منشورات الجمل، جامعا بعض ما نشره من نصوص في كتاب لم يسمح له وعيه الثقافي العميق أن تلتبس عليه أجناسها الأدبية في «ورشة الماضي». معتكفا لسنوات طويلة في محاولة جادة وصادقة لإعادة انتشال البهلاني مما لاقاه من بني وطنه عبر دفن لسنوات طويلة، لم يقرأ العمانيون أثره الشعري وحياته كما قرأوها ومازالوا في كتاب» الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني» بتحقيق ووضع حواش وتقديم من الشاعر محمد الحارثي.
لعل عنوان عمله الشعري السادس» عودة للكتابة بقلم رصاص» يعلي من تأكيد العودة إلى كتابة النص الشعري الحديث بقلم الكتابة، إنه هنا ليس أي قلم، تظهره العتبة الأولى؛ محددة نوعه.
إن في هذا التحديد يمكننا أن نرى القلم في فكرة الكتابة و المحو. في فكرة الاشتغال، وفي حيرة بناء النص، عبر محاولة الوصول إلى الخلاص منه في صورته الأخيرة؛ بحثا عن لغة لا يمكن إدراك صورتها الأخيرة في النص، وفي تحويل المكان إلى ورشة وجراج للكتابة، لإصلاح ما يمكن إصلاحه؛ عبر اللغة، في تفكيك الجملة، وفي رسم الكلمة، في استبدال السطر الشعري المألوف لعين القارئ؛ لجعله نثريته الشعرية عرضية في قلب الصفحة، ليس في طولها المعتاد، كما في نصي «التيس» و«قفلة منحوتة»، وفي عدة مقاطع من بعض نصوص هذه الـ«عودة للكتابة بقلم رصاص».
هكذا يعود الشاعر محمد الحارثي بعد سبع سنوات من انقطاع عن نشر شعره، لا عن كتابته طبعا؛ يعود بعمل مختلف عن تجاربه الشعرية السابقة، يعود فاتحا حديثا مع الحياة بأربعة أقلام؛ هكذا قرأت أجزاء الكتاب، تطول قصائد هذه الأقلام وتقصر، فأول الأقلام وثالثها هما الأطول في عدد نصوص كتابه الشعري» عودة للكتابة بقلم رصاص».
في الأول خمسة عشر نصا تحاور ذات الشاعر؛ إنسانا منشغلا بالجملة منعكسة في «بحيرة الكلمات» هذا ما تسعى إليه النصوص، بل إن أكثر نصوص جزء القلم الأول تنفتح على نصوص أخرى؛ نصوص سبقت نصوصه، لتصير نصوص «عودة للكتابة بقلم رصاص» لاحقة؛ لأخرى سابقة، هكذا يمكن لنا قراءة أغلبها، خاصة وأن عتبة نصِّيةً مستقطعة من كتّاب عديدين قرأ لهم الحارثي كتبا، وظلت بعض نصوص تلك الكتب عالقة في متخيله الشعري قرأنها تحت عناوين أكثر النصوص تقريبا.
يبدو أن تخلص الحارثي من قراءاته؛ ومن تعلق نفسه بقطع أدبية/ نثرية أو شعرية/ رافقت قراءته محال وصعب، لذا راح يعتني بمحاورتها من خلال فتح نص شعري آخر مجاور ومحاور لها، هكذا هو الشعر في تجربة «عودة للكتابة بقلم رصاص».
انفتاح على النص، تنوع وثراء في ذاك الانفتاح، القديم العربي حاضر في جزء من تلك المحاورات، كذلك هو حال نص الغريب القادم عبر الترجمة محاور ومجاور؛ كل هذا عبر الكتابة، وتأكيد العودة إليها. إنها العودة إلى النص، والاشتغال عليه.
في الجزء الرابع من كتابه هذا – ثلاث نصوص شعرية مهداة إلى أصدقاء الكتابة «سماء عيسى/ صالح العامري/ زاهر الغافري» – تظهر العودة إلى النصوص في صورة العودة إلى الكتابة واضحة وجلية في آخر النصوص من خلال ملاحظتنا للفترة الزمنية، تلك التي جاء النص فيها بين ولادتين. ولادة النص وخروجه من رحم الدفقة الشعرية الأولى حتى ظهر في صورته النهائية التي وصلت إلينا من خلال قراءة الجزء الرابع في «عودة للكتابة بقلم رصاص».
يفتتح نص «صافرة الملاك» نصوص كتاب «عودة للكتابة بقلم رصاص» بلحظتين زمنيتين تفصلان بين ميلاد جملتين، زمن الجملة الأولى تظهر الشاعر مستغرقا في تأمل ما صارت إليه الجملة، حتى تنبثق المخيلة الشعرية بالجملة الثانية، تنتظر الشاعر أن يأتي بها، أن يكتبها، لكنه غارق في تأمل ما انتهت إليه جملته الأولى؛ قبل أن «يفتح تمساح الكلمات فكيه لالتهام نجمة قد تتلألأ كما تلألأ تكرار اللام وألفها المهموزة».
هكذا يحاور الشاعر ذاته، يحاور قلمه وما يكتب، ما كتبه الإنسان قلما قابل للحذف أو للإضافة، قبل النشر مع من يقدِّر الكلمة المكتوبة، وبعده مع الحارثي في عمله هذا الضارب في عمق الحداثة، شكلا ومضمونا؛ هكذا تعامل الشاعر مع نصه «قوَّاد الخليقة «فأعاده إلينا مرتين متتاليتين بالعنوان ذاته، دون أن يفصل بينهما نص آخر، عدا التأكيد الذي جاء بكلمتي( صياغة ثانية ) تحت إعادة نشر النص في المرة اللاحقة، هنا معا نلاحظ ما جاء تحت بيتي «أبو نواس» اللذين من بعدهما يبدأ نص» «قوّاد الخليقة» في ولادته الأولى، وفي صياغته الثانية، فقبل تشكل بدايات النص في ولادته الأولى نطَّلع معا على ما جاء تحت عنوان» قوّاد الخليقة:
هذان البيتان- الفاتحَة – كانا قفلةً اختتمَ بهما الحسنُ بن هانئ قصيدة شبّبَ في أبياتها بغُلامٍ في قبلةٍ عابرة..
وتحت إعادة الصياغة نقرأ الفكرة ذاتها بصياغة ثانية:
البيتان أعلاه كانا قفلة اختتم بها أبو نواس واحدة من قصائده التي شبَّب فيها بغلام تمنَّعَ عليه في قُبلة عابرة…
ونحن نلاحظ الفرق سنجد أن عدد الكلمات قد زاد فيما جاء تحت النص في ولادته الأولى، مع وجود اختلافات بسيطة إلى حد ما في صياغة بناء الخطابين.
اسم الإشارة في الأول يستبدل بالمصدر المحدد للمكان في كلمة «أعلاه»، ويُسْقِط في الصياغة الثانية كلمة الفاتحة، التي بين العارضتين، مرة يعلن الحارثي اسم الشاعر، بينما نرى في الثانية اسم الشهرة للشاعر حاضرا في كنيته. هكذا تظهر اللغة حيرة الشاعر تجاه الكلمات، وانتقاء أفضلها؛ لمحاولة الوصول إلى الأجمل.
لم يكتف الشاعر بإعادة صياغة ما أتى به تحت بيتي الحسن بن هانئ في نصّه «قواد الخليقة» إنما كل بناء النص معادة صياغته، هكذا يحافظ الشاعر على الفكرة في النصين، ويبني نصه بلغة تظهر شيئا في الأول، وتخفي شيئا في الثاني. معا نقرأ ما ذهبت إليه:
يبدأ نص قواد الخليقة (1) هكذا:
لكنه بعد أن أثملته الرّاح؛ بعد أن أثملته التي واللُّتيا..
لم يلبث أن ملك الشاعر مهمة حلِّ تِكَّة سرواله المربوطة
بأكثر من عقدةٍ وعُقدةٍ تحت فصِّ سُرَّته
حتى صار الغلام بعد حمياها لا يدفع عن نفسه
بينما مفتتح نص قواد الخليقة 2 يبدأ بهذه الكلمات:
لكنّ الغلام؛ بعد أن أثملته خمرة الرافدين، لم يلبث أن أسلم
الحسن بن هانئ مهمة حل سرواله المعقود مرتين
حتى صار بعد حُميا الكأس لا يدفع عن نفسه
أخيرا؛ ونحن نعيد قراءة «عودة للكتابة بقلم رصاص» مرات عديدة سنلاحظ ما يمكن أن أشير إليه هنا وهو أن العنوان بفكرته نجده بين نص شعري وآخر في أجزاء هذا الكتاب، أي في توالد وتوالي فكرة الكتابة، في تحوِّل أداتها، وفي استبدالها؛ انتصارا للكتابة، ففي نص» قارب الكلمات يرسو..» يستعاض القلم الإلكتروني بفأرة ولوحة مفاتيح ومعالج كلمات عن قلم الرصاص، وهو أيضا قلم قابل لفكرة المحو، في هذه القصيدة لن يعلي الشاعر من قيمة القلم الإلكتروني مستبدلا إياه بآلة كاتبة، تلك التي استخدمها في زمن بعيد» راقنا قصائد عمودية كنت أقلِّد فيها الشعراء الجاهليين».
بهكذا صور يمكن قراءة صورة الشاعر فيما يكتب، وبما يكتب. آلة الكتابة حاضرة، ببدائيتها القديمة في الآلة، في القلم ولوحة المفاتيح، إنه اشتغال بالكتابة، عبر تجليات الزمن المتكفل بتغيير أداة الكتابة.
هذا ما فعله القلم بالشاعر، لكنه لم يعطه ما يريد؛ بل كتب ما أراد؛ عبر عودة إلى النص، كما أوضحت سابقا، إنها حيرة الكاتب أمام الصورة التي يسلِّم بها نصه، ليصل إلى يد القارئ بأدنى الخسائر.
أختم مقالي هذا مذكِّرا بما قاله العماد الأصفهاني» ت 682 «إني رأيتّ أنّه لا يكتب أحد كتابا في يومه إلا قال في غده:» لو غيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيْد هذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل» وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشرِ.